«رسالة الحجاب»

كانت هذه هي المسألة الثانية والثالثة من «المذكرة الخامسة عشرة» إلّا أن أهميتها جعلتها «اللمعة الرابعة والعشرين».

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ (الأحزاب:59)

هذه الآية الكريمة تأمر بالحجاب، بينما تذهب المدنية الزائفة إلى خلاف هذا الحُكم الرباني، فلا ترى الحجاب أمراً فطرياً للنساء، بل تعدّه أسراً وقيداً لهن. (حاشية) هذه فقرة من اللائحة المرفوعة إلى محكمة التمييز، ألقيت أمام المحكمة، فأسكتتها، وأصبحت حاشية لهذا المقام: «وأنا أقول لمحكمة العدل!:

إن إدانة من يفسر أقدس دستور إلهي وهو الحق بعينه، ويحتكم إليه ثلاث مائة وخمسون مليوناً من المسلمين في كل عصر في حياتهم الاجتماعية، خلال ألف وثلاث مائة وخمسين عاماً. هذا المفسر استند في تفسيره إلى ما اتفق عليه وصدق به ثلاث مائة وخمسون ألف مفسر، واقتدى بالعقائد التي دان بها أجدادنا السابقون في ألف وثلاث مائة وخمسين سنة.. أقول: إن إدانة هذا المفسر، قرار ظالم، لابد أن ترفضه العدالة، إن كانت هناك عدالة على وجه الأرض، ولابد أن ترد ذلك الحكم الصادر بحقه وتنقضه». وسنبين جواباً أربعاً من الحِكم فقط من بين حِكم غزيرة دالة على كون هذا الحُكم القرآني تقتضيه فطرةُ النساء وخلافه غيرُ فطري.

الحكمة الأولى:

إنَّ الحجاب أمر فطري للنساء، تقتضيه فطرتُهن، لأنَّ النساء جُبلْن على الرقة والضعف، فيجدن في أنفسهن حاجةً إلى رجل يقوم بحمايتهن وحماية أولادهن الذين يؤثرنهم على أنفسهن، فهن مسوقات فطرياً نحو تحبيب أنفسهن لأزواجهن وعدم جلب نفرتهم وتجنّب جفائهم واستثقالهم.

ثم، إنَّ ما يقرب من سبعة أعشار النساء: إما متقدمات في العمر، أو دميمات لا يرغبن في إظهار شيبهن أو دمامتهن، أو أنهن يحملن غيرةً شديدة في ذواتهن يخشين أن تفضل عليهن ذوات الحُسن والجمال، أو أنهن يتوجّسن خيفةً من التجاوز عليهن وتعرّضهن للتهم.. فهؤلاء النساء يرغبن فطرة في الحجاب حذراً من التعرض والتجاوز عليهن وتجنباً من أن يكنّ موضعَ تهمة في نظر أزواجهن، بل نجد أن المُسِنّات أحرص على الحجاب من غيرهن.

وربما لا يتجاوز الاثنتين أو الثلاث من كل عشر من النساء هن: شاباتٌ وحسناوات لا يتضايقن من إبداء مفاتنهن! إذ من المعلوم أنَّ الإنسان يتضايق من نظرات من لا يحبه. وحتى لو فرضنا أن حسناء جميلة ترغب في أن يراها اثنان أو ثلاثة من غير المحارم فهي حتماً تستثقل وتنزعج من نظرات سبعة أو ثمانية منهم، بل تنفر منها.

فالمرأة لكونها رقيقةَ الطبع سريعة التأثر تنفر حتماً -ما لم تفسد أخلاقُها وتتبذّل- من نظرات خبيثة تُصوَّب إليها والتي لها تأثير مادي كالسمّ -كما هو مجرب- حتى إننا نسمع: أن كثيراً من نساء أوروبا وهي موطن التكشف والتبرج، يشكين إلى الشرطة من ملاحقة النظرات إليهن قائلات: إن هؤلاء السفلة يزجّوننا في سجن نظراتهم!

نخلص مما تقدم:

أنَّ رفعَ المدنية السفيهة الحجابَ وإفساحها المجال للتبرج يناقض الفطرةَ الإنسانية. وأن أمر القرآن الكريم بالحجاب -فضلاً عن كونه فطرياً- يصون النساء من المهانة والسقوط، ومن الذلة والأسر المعنوي ومن الرذيلة والسفالة، وهن معدن الرأفة والشفقة والرفيقات العزيزات لأزواجهن في الأبد.

والنساءُ -فضلاً عما ذكرناه- يحملن في فطرتهن تخوّفاً من الرجال الأجانب، وهذا التخوف يقتضي فطرةً التحجب وعدم التكشف، حيث تتنغص لذةٌ غير مشروعة لتسع دقائق بتحمل أذى حمل جنين لتسعة أشهر، ومن بعده القيام بتربية ولدٍ لا حامي له زهاء تسع سنين! ولوقوع مثل هذه الاحتمالات بكثرة تتخوف النساءُ فطرةً خوفاً حقيقياً من غير المحارم. وتتجنّبهم جِبلّة، فتنبهها خلقتُها الضعيفة تنبيهاً جاداً، إلى التحفظ وتدفعها إلى التستر، ليحول دون إثارة شهوة غير المحارم، وليمنع التجاوز عليها، وتدلها فطرتُها على أن حجابَها هو قلعتها الحصينة وخندقها الأمين.

ولقد طرق سمعَنا: أنَّ صباغ أحذية قد تعرض لزوجة رجل ذي منصب دنيوي كبير، كانت مكشوفة المفاتن، وراودها نهاراً جهاراً في قلب العاصمة «أنقرة»! أليس هذا الفعل الشنيع صفعةً قوية على وجوه أولئك الذين لا يعرفون معنى الحياء من أعداء العفة والحجاب؟

الحكمة الثانية:

إنَّ العلاقة الوثيقة والحُب العميق بين الرجل والمرأة ليسا ناشئين عما تتطلبه الحياةُ الدنيا من الحاجات فحسب، فالمرأة ليست صاحبة زوجها في حياة دنيوية وحدَها، بل هي رفيقتُه أيضاً في حياة أبدية خالدة.

فما دامت هي صاحبتُه في حياة باقية فلا ينبغي لها أن تلفت نظر غير رفيقها الأبدي وصديقها الخالد إلى مفاتنها، ولا تزعجه، ولا تحمله على الغضب والغيرة.

وحيث إنَّ زوجَها المؤمن، بحُكم إيمانه لا يحصر محبته لها في حياة دنيوية فقط ولا يوليها محبةً حيوانية قاصرة على وقت جمالها وزمن حُسنها، وإنما يكنّ لها حباً واحتراماً خالصَين دائمين لا يقتصران على وقت شبابها وجمالها بل يدومان إلى وقت شيخوختها وزوال حسنها، لأنها رفيقتُه في حياة أبدية خالدة.. فإزاء هذا لابد للمرأة أيضاً أن تخص زوجَها وحده بجمالها ومفاتنها وتقصر محبتها به، كما هو مقتضى الإنسانية، وإلّا ستفقد الكثير ولا تكسب إلّا القليل.

ثم إنَّ ما هو مطلوب شرعاً: أن يكون الزوج كفواً للمرأة، وهذا يعني ملاءمة الواحد للآخر ومماثلتهما، وأهم ما في الكفاءة هذه هي كفاءة الدين كما هو معلوم.

فما أسعد ذلك الزوج الذي يلاحظ تديّن زوجته ويقوم بتقليدها، ويصبح ذا دين، لئلا يفقد صاحبته الوفية في حياة أبدية خالدة!

وكم هي محظوظة تلك المرأة التي تلاحظ تديّن زوجها وتخشى أن تفرط برفيق حياتها الأمين في حياة خالدة، فتتمسك بالإيمان والتقوى.

والويل ثم الويل لذلك الرجل الذي ينغمس في سفاهة تفقده زوجتَه الطيبة الصالحة.

ويا لتعاسة تلك المرأة التي لا تقلد زوجَها التقي الورع، فتخسر رفيقها الكريم الأبدي السعيد.

والويل والثبور لذينك الزوجين الشقيين اللذين يقلدان بعضُهما البعض الآخر في الفسوق والفحشاء، فيتسابقان في دفع أحدهما الآخر في النار.

الحكمة الثالثة:

إنَّ سعادة العائلة في الحياة واستمرارها إنما هي بالثقة المتبادلة بين الزوجين، والاحترام اللائق والودّ الصادق بينهما، إلاّ أن التبرج والتكشف يخلّ بتلك الثقة ويفسد ذلك الاحترام والمحبة المتبادلة. حيث تلاقي تسعةٌ من عشرة متبرجات أمامَهن رجالاً يفوقون أزواجهن جمالاً، بينما لا ترى غيرَ واحدة منهن مَن هو أقل جمالاً من زوجها ولا تحبب نفسها إليه. والأمر كذلك في الرجال فلا يرى إلّا واحدٌ من كل عشرين منهم مَن هي أقل جمالاً من زوجته، بينما الباقون يرون أمامهم من يفقن زوجاتهن حسناً وجمالاً. فهذه الحالة قد تؤدي إلى انبعاث إحساسٍ دنيء وشعور سافل قبيح في النفس فضلاً عمّا تسببه من زوال ذلك الحُب الخالص وفقدان ذلك الاحترام، وذلك:

إنَّ الإنسان لا يمكنه أن يحمل فطرةً شعوراً دنيئاً حيوانياً تجاه المحارم -كالأخت- لأن سيماء المحارم تُشعِر بالرأفة والمحبة المشروعة النابعين من صلة القربى. فهذا الشعور النبيل يحدّ من ميول النفس الشهوية، إلّا أن كشف ما لا يجوز كشفُه كالساق، قد يثير لدى النفوس الدنيئة حساً سافلاً خبيثاً لزوال الشعور بالحرمة، حيث إن ملامح المحارم تُشعِر بصلة القرابة، وكونها محرماً وتتميز عن غيرهم، لذا فكشفُ تلك المواضع من الجسد يتساوى فيه المحرم وغيره، لعدم وجود تلك العلامات الفارقة التي تستوجب الامتناع عن النظر المحرّم، ولربما يهيّج لدى بعض المحارم السافلين هوى النظرة الحيوانية! فمثل هذه النظرة سقوط مريع للإنسانية تقشعر من بشاعتها الجلود.

الحكمة الرابعة:

من المعلوم أن كثرة النسل مرغوب فيها لدى الجميع، فليس هناك أمة ولا دولة لا تدعو إلى كثرة النسل، وقد قال الرسول الكريم ﷺ: (تناكحوا تكثروا فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة). بيد أن رفع الحجاب وإفساح المجال أمام التبرج والتكشف يحدُّ من الزواج، بل يقلل من التكاثر كثيراً، لأنَّ الشاب مهما بلغ فسوقُه وتحلله، فإنه يرغب في أن تكون صاحبتُه في الحياة مصونةً عفيفة، ولا يريدها أن تكون مبتذلة متكشفة مثله، لذا تجده يفضل العزوبة على الزواج. وربما ينساق إلى الفساد. أما المرأة فهي ليست كالرجل حيث لا تتمكن من أن تحدد اختيار زوجها.

والمرأة من حيث كونها مدبّرةً لشؤون البيت الداخلية، ومأمورةً بالحفاظ على أولاد زوجها وأمواله وكل ما يخصه، فإن أعظم خصالها هي: الوفاء والثقة. إلّا أن تبرجها وتكشّفها يفسد هذا الوفاءَ ويزعزع ثقةَ الزوج بها، فتجرّع الزوج آلاماً معنوية وعذاباً وجدانياً.

حتى إن الشجاعة والسخاء وهما خصلتان محمودتان لدى الرجال إذا ما وجدتا في النساء عدتا من الأخلاق المذمومة، لإخلالهما بتلك الثقة والوفاء، إذ تفضيان إلى الوقاحة والإسراف. وحيث إن وظيفة الزوج غير قاصرة على الائتمان على أموالها، وعلى الارتباط بها بل تشمل حمايتها والرحمة بها والاحترام لها فلا يلزمه ما يلزم الزوجة، أي لا يقيد اختياره بزوجةٍ واحدة، ويمكنه أن ينكح غيرها من النساء.

إنَّ بلادنا لا تقاس ببلدان أوروبا، فهناك وسائل صارمة للحفاظ -إلى حد ما- على الشرف والعفاف في وسط متبرج متكشف، منها المبارزة وأمثالها، فالذي ينظر بخبث إلى زوجة أحد الشرفاء عليه أن يعلق كفنَه في عنقه مقدماً. هذا فضلاً عن أن طبائع الأوروبيين باردةٌ جامدة كمناخهم. أما هنا في بلاد العالم الإسلامي خاصة فهي من البلدان الحارة قياساً إلى أوروبا، ومعلوم مدى تأثير البيئة في أخلاق الإنسان. ففي تلك الأصقاع الباردة، ولدى أناس باردين قد لا يؤدي التبرج الذي يثير الهوى الحيواني ويهيج الرغبات الشهوانية إلى تجاوز الحدود مثلما يؤدي إلى الإفراط والإسراف في أناس حساسين يثارون بسرعة في المناطق الحارة.

فالتبرج وعدم الحجاب الذي يثير هوى النفس، ويطلق الشهواتِ من عقالها يؤدي حتماً إلى الإفراط وتجاوز الحدود وإلى ضعف النسل وانهيار القوى. حيث إن الرجل الذي يمكنه أن يقضي وطره الفطري في شهر أو في عشرين يوماً يظن نفسه مضطراً إلى دفعه كل بضعة أيام. وحيث إن هناك عوارض فطرية -كالحيض- تجنّبه عن أهله وقد تطول خمسة عشر يوماً، تراه ينساق إلى الفحش إن كان مغلوباً لنفسه.

ثم إن أهل المدن لا ينبغي لهم أن يقلّدوا أهلَ القرى والأرياف في حياتهم الاجتماعية ويرفعوا الحجاب فيما بينهم، لأن أهل القرى يشغلهم شاغلُ العيش وهم مضطرون إلى صرف جهود بدنية قوية لكسب معيشتهم، وكثيراً ما تشترك النساءُ في أشغال متعبة، لذا لا يهيج ما قد ينكشف من أجزاء أجسامهن الخشنة شهوات حيوانية لدى الآخرين، فضلاً عن أنه لا يوجد في القرى سفهاء عاطلون بقدر ما هو موجود في المدن. فلا تبلغ مفاسدُها إلى عُشر ما في المدينة، لهذا لا تقاس المدن على القرى والأرياف.


حوار مع المؤمنات، أخواتي في الآخرة

بِاسْمِهِ سُبْحانَهُ

حينما كنت أُشاهد في عدد من الولايات اهتمام النساء برسائل النور اهتماماً حاراً خالصاً وعلمت اعتمادهن على دروسي التي تخص النور بما يفوق حدي بكثير، جئت مرةً ثالثة إلى مدرسة الزهراء المعنوية، هذه المدينة المباركة «اسبارطة»، فسمعت أن أولئك النساء الطيبات المباركات، أخواتي في الآخرة، ينتظرن مني أن أُلقي عليهن درساً، على غرار ما يُلقى في المساجد من دروس الوعظ والإرشاد. بيد أني أعاني أمراضاً عدة، مع ضعف وإنهاك شديدين حتى لا أستطيع الكلام ولا التفكر. ومع ذلك فقد سنحت بقلبي هذه الليلة خاطرةٌ قوية، هي:

أنك قد كتبت قبل خمس عشرة سنة رسالة «مرشد الشباب» بطلبٍ من الشباب أنفسهم، وقد استفاد منها الكثيرون، بينما النساءُ هن أحوجُ إلى مثل هذا «المرشد» في هذا الزمان.

فإزاء هذه الخاطرة وعلى الرغم مما أعانيه من اضطراب ومن عجز وضعف كتبتُ في غاية الاختصار لأخواتي المباركات ولبناتي المعنويات الشابات بعض ما يلزمهن من مسائل، ضمن نكات ثلاث.

النكتة الأولى:

لما كان أهم أساس من أسس رسائل النور هو «الشفقة» وإن النساء هن رائدات الشفقة وبطلات الحنان، فقد أصبحن أكثر ارتباطاً برسائل النور فطرةً. فهذه العلاقة الفطرية تُحس بها في كثير من الأماكن ولله الحمد والمنة.

ولقد غدت التضحية التي تنطوي عليها الشفقة والحنان ذات أهمية عظمى في زماننا هذا، إذ إنها تعبر عن إخلاص حقيقي وفداءٍ دون عوَضٍ ومقابل.

نعم، إنَّ فداء الأم بروحها إنقاذاً لولدها من الهلاك من دون انتظار لأجر، وتضحيتَها بنفسها بإخلاص حقيقي لأولادها باعتبار وظيفتها الفطرية، تدلان على وجود بطولة سامية رفيعة في النساء، بحيث يستطعن أن ينقذن حياتهن الدنيوية والأخروية بانكشاف هذه البطولة وانجلائها في أنفسهن، إلّا أن تياراتٍ فاسدة تحول دون ظهور تلك السجية القيمة القويمة وتمنع انكشافها، أو تصرف تلك التيارات هذه السجية الطيبة إلى غير محالها فتسيء استعمالها.

نورد هنا مثالاً واحداً من مئات أمثلتها:

إنَّ الوالدة الحنون تضع نصبَ عينها كل فداء وتضحية لتمنع عن ولدها المصائب والهلاك، لتجعله سليماً معافىً في الدنيا. فتربي ولدَها على هذا الأساس، فتنفق جميع أموالها ليكون ابنها عظيماً وسيداً آمراً. فتراها تأخذ ولدَها من المدارس العلمية الدينية وترسله إلى أوروبا، من دون أن تفكر في حياة ولدها الأبدية التي تصبح مهددة بالخطر. فهي إذ تسعى لتنقذه من سجن دنيوي، لا تهتم بوقوعه في سجن جهنم الأبدي، فتتصرف تصرفاً مخالفاً لفطرتها مخالفةً كلية، إذ بدلاً من أن تجعل ولدها البريء شفيعاً لها يوم القيامة تجعله مُدَّعياً عليها، إذ سيشكو ذلك الولد هناك قائلا لها: «لِمَ لم تقوي إيماني حتى سببتِ في هلاكي هذا؟!». وحيث إنه لم يأخذ قسطاً وافراً من التربية الإسلامية، فلا يبالي بشفقة والدته الخارقة، بل قد يقصر في حقها كثيراً.

ولكن إذا ما سعت تلك الوالدةُ إلى إنقاذ ولدها الضعيف من السجن الأبدي الذي هو جهنم، ومن الإعدام الأبدي الذي هو الموتُ في الضلالة، بشفقتها الحقيقية الموهوبة دون الإساءة في استعمالها، فإن ولدَها سيوصل الأنوارَ دوماً إلى روحها بعد وفاتها، إذ يسجل في صحيفة أعمالها مثلُ جميع الحسنات التي يعملها الولد. كما سيكون لها ولداً طيباً مباركاً ينعمان معاً في حياة خالدة، شفيعاً لها عند الله ما وسعته الشفاعة، لا شاكياً منها ولا مُدَّعياً عليها.

نعم، إنَّ أول أستاذ للإنسان وأكثر من يؤثر فيه تعليماً، إنما هو والدتُه.

سأبين بهذه المناسبة هذا المعنى الذي أتحسسه دائماً إحساساً قاطعاً في شخصي، وهو:

أُقسم بالله أن أرسخَ درس أخذته، وكأنه يتجدد عليّ، إنما هو تلقينات والدتي رحمها الله ودروسها المعنوية، حتى استقرت في أعماق فطرتي وأصبحت كالبذور في جسدي، في غضون عمري الذي يناهز الثمانين رغم أنى قد أخذت دروساً من ثمانين ألف شخص (حاشية) اعلم! أن السائق لهذا القول، أنى رأيت نفسي مغرورة بمحاسنها. فقلتُ: لا تملكين شيئاً!. فقالت: فإذن لا أهتم بما ليس لي من البدن.. فقلت: لابد أن لا تكوني أقل من الذباب.. فإن شئتِ شاهداً فانظري إلى هذا الذباب، كيفَ ينظِّفُ جناحَيهِ برجليهِ ويمسحُ عينيه ورأسه بيديه! سبحان من ألهَمَه هذا، وصيّره أستاذاً لي وأفحمَ به نفسي!. (المثنوي العربي النوري – ذيل القطرة). بل أرى يقينا أن سائر الدروس إنما تبنى على تلك البذور.

بمعنى أنى أشاهد درس والدتي -رحمها الله- وتلقيناتها لفطرتي وروحي وأنا في السنة الأولى من عمري، بذورَ أساس ضمن الحقائق العظيمة التي أراها الآن وأنا في الثمانين من عمري.

مثال ذلك: أن «الشفقة» التي هي أهم أساس من الأسس الأربعة في مسلكي ومشربي في الحياة.. وإن «الرأفة والرحمة» التي هي حقيقة عظمى أيضاً من حقائق رسائل النور، أشاهدهما يقيناً بأنهما نابعتان من أفعال تلك الوالدة الرؤوف ومن أحوالها الشفيقة ومن دروسها المعنوية.

نعم، إنَّ الشفقة والحنان الكامنين في الأمومة والتي تحملها بإخلاص حقيقي وتضحية وفداء قد أُسيءَ استعمالها في الوقت الحاضر، إذ لا تفكر الأم بما سينال ولدُها في الآخرة من كنوز هي أثمن من الألماس، بل تصرف وجهه إلى هذه الدنيا التي لا تعدل قِطعاً زجاجية فانية، ثم تشفق على ولدها وتحنو عليه في هذا الجانب من الحياة. وما هذا إلّا إساءةٌ في استعمال تلك الشفقة.

إنَّ مما تثبت بطولةَ النساء في تضحيتهن العظيمة دون انتظار لأجر ولا عوض، من دون فائدة يجنينها لأنفسهن ومن دون رياء وإظهارٍ لأنفسهن، هي استعدادهن للفداء بأرواحهن لأجل الولد، أقول إنَّ مما يثبت ذلك هو ما نراه في الدجاجة التي تحمل مثالاً مصغراً من تلك الشفقة، شفقة الأمومة وحنانها، فهي تهاجم الأسد، وتفدي بروحها، حفاظاً على فراخها الصغار.

وفي الوقت الحاضر، إنَّ ألزم شيء وأهم أساس في التربية الإسلامية وأعمال الآخرة، إنما هو «الإخلاص» فمثل هذه البطولة الفائقة في الشفقة تضم بين جوانحها الإخلاص الحقيقي.

فإذا ما بدت هاتان النقطتان في تلك الطائفة المباركة، طائفة النساء، فإنهما سيكونان مدار سعادة عظمى في المحيط الإسلامي.

أما تضحية الآباء فلا تكون دون عوض قطعاً، وإنما تطلب الأجر والمقابل من جهات كثيرة تبلغ المائة، وفي الأقل تطلب الفخر والسمعة. ولكن مع الأسف فإن النساء المباركات يدخلن الرياء والتملق بطراز آخر وبنوع آخر نتيجة ضعفهن وعجزهن، وذلك خلاصاً من شر أزواجهن الظلمة وتسلطهم عليهن.