«رسالة الشيوخ»

«هذه اللمعة عبارة عن ستة وعشرين نورَ رجاءٍ وضياءَ تسلٍ»

تنبيه

إنَّ السبب الذي دعاني إلى تسجيل ما كنت أُعانيه من آلامٍ معنوية في مستهل كل رجاء بأسلوب مؤثر جداً إلى حدٍّ يثير فيكم الألمَ أيضاً، إنما هو لبيان مدى قوة مفعول العلاج الوارد من القرآن الحكيم وشدة تأثيره الخارق.

بيد أن هذه «اللمعة» التي تخصّ الشيوخ لم تحافظ على حسن البيان، وجمال الإفادة لعدة أسباب:

أولها: لأنها تخص أحداث حياتي الشخصية ووقائعَها، فالذهاب عبرَ الخيال إلى تلك الأزمنة، ومعايشة أحداثها، ومن ثم تناولها بالكتابة بتلك الحالة، سبّب عدم المحافظة على الانتظام في البيان والتعبير.

ثانيها: اعترى البيانَ شيء من الاضطراب، لأنَّ الكتابة كانت بعد صلاة الفجر، حيث كنت أَشعر حينها بتعبٍ وإنهاكٍ شديدين، فضلاً عن الاضطرار إلى الإسراع في الكتابة.

ثالثها: لم يكن لدينا متسع من الوقت للقيام بالتصحيح الكامل؛ فالكاتب الذي كان مرهقاً بشؤون «رسائل النور» وكثيراً ما كان يعتذر عن الحضور مما أفقد المضمونَ التناسق المطلوب.

رابعها: لم نستطع إلّا الاكتفاء بالتصحيحات والتعديلات العابرة دون التوغل في أعماق المعاني؛ لما كنا نحسّ به من تعبٍ ونصبٍ عقب التأليف، فلا جرم أنْ رافق الموضوع شيءٌ من التقصير في التعبير والأداء.

لذا نهيب بالشيوخ الكرام أن ينظروا بعين الصفح والسماح إلى قصوري في الأداء، وأن يجعلوني ضمن دعواتهم عندما يرفعون أكّفهم متضرعين إلى الله الرحيم الذي لا يردّ دعوات الشيوخ الطيبين…

 

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿كٓهٰيٰعٓصٓ * ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * اِذْ نَادٰى رَبَّهُ نِدَٓاءً خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ اِنّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ اَكُنْ بِدُعَٓائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (مريم:1-4).

(هذه اللمعة عبارة عن ستة وعشرين رجاء)

الرجاء الأول

يا من بلغتم سنّ الكمال، أيها الأخوة الشيوخ الأعزاء، ويا أيتها الأخوات العجائز المحترمات! إنني مثلُكم شيخ كبير، سأكتب لكم بعضَ ما مرّ عليّ من أحوال، وما وجدته بين حين وآخر من أبواب الأمل، وبوارق الرجاء في عهد الشيخوخة، لعلكم تشاركونني في أنوار السلوة المشعة من تلكم الرجايا والآمال. إنَّ ما رأيته من الضياء، وما فتحه الله عليّ من أبواب النور والرجاء، إنما شاهدتُه حسب استعدادي الناقص وقابلياتي المشوشة، وستجعل استعداداتكم الخالصة الصافية -بإذن الله- ذلك الضياء أسطعَ وأبهر مما رأيته، وذلكم الرجاء أقوى وأمتن مما وجدته.

ولا ريب أنّ منبع ما سنذكره من الأضواء ومصدر ما سنورده من الرجايا ما هو إلّا «الإيمان».

الرجاء الثاني

حينما شارفت على الشيخوخة، وفي أحد أيام الخريف، وفي وقت العصر، نظرت إلى الدنيا من فوق ذروة جبل، فشعرت فجأة حالة في غاية الرقة والحزن مع ظلام يكتنفها، تدب في أعماقي.. رأيت نفسي: أنني بلغت من العمر عتياً، والنهارُ قد غدا شيخاً، والسنةُ قد اكتهلت، والدنيا قد هرمت.. فهزّني هذا الهرم الذي يغشى كل شيء حولي هزّاً عنيفاً. فلقد دنا أوانُ فراق الدنيا، وأوشك أوان فراق الأحباب أن يحلّ.. وبينما أتململ يائساً حزيناً إذا بالرحمة الإلهية تنكشف أمامي انكشافاً حوّل ذلك الحزنَ المؤلم إلى فرحة قلبية مشرقة، وبدّل ذلك الفراق المؤلم للأحباب إلى عزاء يضيء جنبات النفس كلها.

نعم يا أمثالي من الشيوخ! إنَّ الله سبحانه وتعالى الذي يقدّم ذاته الجليلة إلينا، ويعرّفها لنا في أكثر من مائة موضع في القرآن الكريم، بصفة «الرحمن الرحيم».. والذي يرسل رحمته بما يسبغ على وجه الأرض دوماً من النِّعَم، مدداً وعوناً لمن استرحمه من ذوي الحياة، والذي يبعث بهداياه من عالم الغيب فيغمر الربيع كل سنة بنِعَم لا تعد ولا تحصى، يبعثها إلينا نحن المحتاجين إلى الرزق، مُظهِراً بها بجلاء تجليات رحمته العميمة، وفق مراتب الضعف ودرجات العجز الكامنة فينا. فرحمة خالقنا الرحيم هذه أعظم رجاءً، وأكبر أملاً في عهد شيخوختنا هذه، بل هي أسطع نوراً لنا.

إنَّ إدراك تلك الرحمة والظفر بها، إنما يكون بالانتساب إلى ذلك «الرحمن» بالإيمان، وبالطاعة له سبحانه بأداء الفرائض والواجبات.

الرجاء الثالث

حينما أفقتُ على صبح المشيب، من نوم ليل الشباب، نظرت إلى نفسي متأملاً فيها، فوجدتها كأنها تنحدر نزولاً من علٍ إلى سواء القبر، مثلما وصفها نيازي المصري:

بناء العمر يذوي حجراً إثر حجر    غافلاً يغط الروح وبناؤه قد اندثر

فجسمي الذي هو مأوى روحي، بدأ يتداعى ويتساقط حجراً إثر حجر على مرّ الأيام.. وآمالي التي كانت تشدّني بقوة إلى الدنيا، بدأت أوثاقُها تنفصم وتنقطع. فدبّ فيّ شعور بدنو وقت مفارقة من لا يحصى من الأحبة والأصدقاء، فأخذتُ أبحثُ عن ضماد لهذا الجرح المعنوي الغائر، الذي لا يُرجى له دواء ناجع كما يبدو!. لم أستطع أن أعثر له على علاج، فقلت أيضاً كما قال نيازي المصري:

حكمة الإله تقضى فناء الجسد                والقـلب تواق إلى الأبد

لهف نفسي من بلاء وكمـد                  حار لقمان في إيجاد الضمد

وبينما كنت في هذه الحالة إذا بنور الرسول الكريم ﷺ الذي هو رحمة الله على العالمين، ومثالُها الذي يعبّر عنها، والداعي إليها، والناطق بها، وإذا بشفاعته، وبما أتاه من هدية الهداية إلى البشرية، يصبح بلسماً شافياً، ودواءً ناجعاً لذلك الداء الوخيم الذي ظننته بلا دواء، ويبدل ذلك اليأس القاتم الذي أحاطني إلى نور الرجاء الساطع.

أجل، أيها الشيوخ وأيتها العجائز الموقرون، ويا من تشعرون كلكم بالشيخوخة مثلي!. إننا راحلون ولا مناص من ذلك.. ولن يُسمح لنا بالمكوث هنا بمخادعة النفس وإغماض العين، فنحن مساقون إلى المصير المحتوم. ولكن عالم البرزخ، ليس هو كما يتراءى لنا بظلمات الأوهام الناشئة من الغفلة، وبما قد يصوّره أهل الضلالة، فليس هو بعالم الفراق، ولا بعالم مظلم، بل هو مجمع الأحباب، وعالم اللقاء مع الأحبة والأخلّاء، وفي طليعتهم حبيبُ رب العالمين وشفيعنا عنده يوم القيامة عليه أفضل الصلاة والسلام.

نعم، إنَّ مَن هو سلطان ثلاثمائة وخمسين مليوناً من الناس في كل عصر، عبر ألف وثلاثمائة وخمسين سنة وهو مربّي أرواحهم، ومرشدُ عقولهم، ومحبوب قلوبهم، والذي يُرفع إلى صحيفة حسناته يومياً أمثال ما قدمت أمته من حسنات، إذ «السبب كالفاعل» والذي هو مدار المقاصد الربانية، ومحور الغايات الإلهية السامية في الكون، والذي هو السبب لرقي قيمة الموجودات وسمّوها، ذلك الرسول الأكرم ﷺ، فكما أنه قال في الدقائق الأولى التي تشرّف العالم به «أمتي.. أمتي..» كما ورد في الروايات الصحيحة والكشفيات الصادقة، فإنه ﷺ يقول في المحشر أيضاً: «أمتي.. أمتي..» ويسعى بشفاعته إلى إمداد أمته وإغاثتها بأعظم رحمة وأسماها وأقدسها وأعلاها، في الوقت الذي يقول كلّ فرد من الجموع العظيمة: «نفسي.. نفسي». فنحن إذن ذاهبون إلى العالم الذي ارتحل إليه هذا النبي الكريم، راحلون إلى العالم الذي استنار بنور ذلك السراج المنير وبمن حوله من نجوم الأصفياء والأولياء الذين لا يحصرهم العد.

نعم، إنَّ اتباع السُّنة الشريفة لهذا النبي الكريم ﷺ هو الذي يقود إلى الانضواء تحت لواء شفاعته والاقتباس من أنواره، والنجاة من ظلمات البرزخ.

الرجاء الرابع

حينما وطأت قدمايَ عتبةَ الشيخوخة، كانت صحتي الجسدية التي ترخي عنان الغفلة وتمدّها قد اعتلّت أيضاً فاتفقت الشيخوخةُ والمرض معاً على شن الهجوم عليّ، وما زالا يكيلان على رأسي الضربات تلو الضربات حتى أذهبا نوم الغفلة عنّي. ولم يكن لي ثمة ما يربطني بالدنيا من مال وبنين وما شابههما، فوجدتُ أنَّ عصارة عمري الذي أضعته بغفلة الشباب، إنما هي آثام وذنوب، فاستغثتُ صائحاً مثلما صاح نيازي المصري:

ذهب العُمر هباءً، لم أفز فيه بشيء

ولقد جئت أسير الدرب، لكنْ

رحل الرّكبُ بعيداً

وبقيتْ

ذلك النائي الغريب

وبكيتْ

همتُ وحدي تائهاً أطوي الطريق

وبعينيّ ينابيع الدموع

وبصدري حرقة الشوق

حار عقلي..!

كنت حينها في غربة مضنية، فشعرت بحزن يائس، وأسف نادم، وحسرة ملتاعة على ما فات من العمر. صرخت من أعماقي أَطلب إمداد العون، وضياء الرجاء.. وإذا بالقرآن الحكيم المعجز البيان يمدّني، ويسعفني، ويفتح أمامي بابَ رجاء عظيم، ويمنحني نوراً ساطعاً من الأمل والرجاء يستطيع أن يزيل أضعاف أضعاف يأسي، ويمكنه أن يبدد تلك الظلمات القاتمة من حولي.

نعم، أيها الشيوخ وأيتها العجائز المحترمون، يا مَن بدأت أوثاق صلتهم بالانفصام عن الدنيا مثلي! إنَّ الصانع ذا الجلال الذي خلق هذه الدنيا أكملَ مدينة وأنظمها، حتى كأنها قصرٌ منيف، هل يمكن لهذا الخالق الكريم ألّا يتكلم مع أحبّائه وأكرم ضيوفه في هذه المدينة أو في هذا القصر؟ وهل يمكن ألّا يقابلهم؟!!

فما دام قد خلق هذا القصر الشامخ بعلم، ونظّمه بإرادة، وزيّنه باختيار، فلابد أنه يتكلم؛ إذ كما أنَّ الباني يعلم، فالعالم يتكلم. وما دام قد جعل هذا القصر دار ضيافة جميلة بهيجة، وهذه المدينة متجراً رائعاً، فلابد أنْ يكون له كتبٌ وصحفٌ يبيّن فيها ما يريده منا، ويوضح علاقاته معنا.

ولا شك أنَّ أكمل كتاب من تلك الكتب المقدسة التي أنـزلها، إنما هو القرآن الحكيم المعجز، الذي ثبت إعجازُه بأربعين وجهاً من وجوه الإعجاز، والذي يُتلى في كل دقيقة بألسنة مائة مليون شخص في الأقل، والذي ينشر النور ويهدي السبيل. والذي في كل حرفٍ من حروفه عشر حسنات، وعشر مثوبات في الأقل، وأحياناً عشرة آلاف حسنة، بل ثلاثين ألف حسنة، كما في ليلة القدر. وهكذا يمنح من ثمار الجنة ونور البرزخ ما شاء الله أن يمنح. فهل في الكون أجمع كتاب يناظره في هذا المقام، وهل يمكن أن يدّعي ذلك أحد قط؟

فما دام هذا القرآن الكريم الذي بين أيدينا هو كلام رب العالمين، وهو أمره المبلّغ إلينا، وهو منبع رحمته التي وسعت كل شيء، وهو صادر من خالق السماوات والأرض ذي الجلال، من جهة ربوبيته المطلقة، ومن جهة عظمة ألوهيته، ومن جانب رحمته المحيطة الواسعة، فاستمسك به واعتصم، ففيه دواءٌ لكل داء، ونورٌ لكلِّ ظلام، ورجاء لكل يأس.. وما مفتاح هذه الخزينة الأبدية إلّا الإيمان والتسليم، والاستماع إليه، والانقياد له، والاستمتاع بتلاوته.