الرجاء العاشر

بعدما رجعت من الأسر، سيطرت الغفلةُ عليّ مرة أخرى طوال سنتين من حياتي في إستانبول، حيث الأجواءُ السياسية وتياراتها صرفت نظري عن التأمل في نفسي، وأحدثت تشتتاً في ذهني وفكري.

فحينما كنت جالساً ذات يوم في مقبرة أبى أيوب الأنصاري رضي الله عنه وعلى مرتفع مطلّ على وادٍ سحيق، مستغرقاً في تأمل الآفاق المحيطة باستانبول، إذا بي أرى كأن دنيايَ الخاصة أوشكت على الوفاة، حتى شعرت -خيالاً- كأنَّ الروحَ تنسل منها انسلالاً من بعض نواحيّ. فقلت: تُرى هل الكتابات الموجودة على شواهد هذه القبور هي التي دعَتني إلى هذا الخيال؟.

أشحتُ نظري عن الخارج وأنعمت النظر في المقبرة دون الآفاق البعيدة فألقى في روعي: «أنَّ هذه المقبرة المحيطة بك تضم مائة إستانبول! حيث إن إستانبول قد أفرغت فيها مائة مرة، فلن تُستثنى أنت وحدَك من حُكم الحاكم القدير الذي أفرغ جميعَ أهالي إستانبول هنا، فأنت راحلٌ مثلهم لا محالة..!».

غادرت المقبرة وأنا أحمل هذا الخيال المخيف، ودخلت الغرفة الصغيرة في محفل جامع أبى أيوب الأنصاري رضي الله عنه والتي كنت أدخلها مراراً في السابق فاستغرقتُ في التفكير في نفسي: إنما أنا ضيف! وضيف من ثلاثة أَوجه؛ إذ كما أنني ضيفٌ في هذه الغرفة الصغيرة، فأنا ضيفٌ كذلك في إستانبول، بل أنا ضيف في الدنيا وراحل عنها كذلك، وعلى المسافر أن يفكر في سبيله ودربه.

نعم، كما أنني سوف أخرج من هذه الغرفة وأُغادرها، فسوف أترك إستانبول ذات يوم وأُغادرها، وسوف أخرج من الدنيا كذلك.

وهكذا جثمتْ على قلبي وفكري وأنا في هذه الحالة، حالة أليمة محزنة مكدّرة. فلا غرو أنني لا أترك أحباباً قليلين وحدَهم، بل سأفارق أيضاً آلاف الأحبة في استانبول، بل سأغادر إستانبول الحبيبة نفسَها وسأفترق عن مئات الآلاف من الأحبة كما افترق عن الدنيا الجميلة التي أُبتلينا بها.

ذهبتُ إلى المكان المرتفع نفسه في المقبرة مرة أخرى، فبدا لي أهالي استانبول، جنائزَ يمشون قائمين مثلما يظهر الذين ماتوا شخوصاً متحركة في الأفلام السينمائية، فقد كنت أتردد إليها أحياناً للعبرة! فقال لي خيالي: ما دام قسمٌ من الراقدين في هذه المقبرة يمكن أن يظهروا متحركين كالشخوص السينمائية، ففكِّر في هؤلاء الناس كذلك أنهم سيدخلون هذه المقبرة حتماً، واعتبرهم داخلين فيها من الآن، فإنهم جنائز أيضًا يتحركون.

وبينما كنت أتقلب في تلك الحالة المحزنة المؤلمة إذا بنور من القرآن الحكيم وبإرشاد من الشيخ الكيلاني (قُدس سرّه) يقلب تلك الحالة المحزنة ويحوّلها إلى حالة مفرحة مبهجة، ذات نشوة ولذة، حيث ذكّرني النورُ القادم من القرآن الكريم ونبهني إلى ما يأتي:

كان لك صديق أو صديقان من الضباط الأسرى عند أسرك في «قوصترما» في شمال شرقي روسيا، وكنتَ تعلم حتماً أنهما سيرجعان إلى إستانبول. ولو خَيّرك أحدُهما قائلاً: أتذهب إلى استانبول أم تريد أن تبقى هنا؟. فلا جرم أنك كنت تختار الذهاب إلى إستانبول لو كان لك مِسكة من عقل، بفرح وسرور حيث إن تسعمائة وتسعة وتسعين من ألف حبيب وحبيب لك هم الآن في إستانبول، وليس لك هنا إلّا واحد أو اثنان، وهم بدورهم سيرحلون إلى هناك. فالذهاب إلى إستانبول بالنسبة لك إذن ليس بفراق حزين، ولا بافتراق أليم.. وها أنتذا قد أتيت إليها، ألم تصبح راضياً شاكراً؟ فلقد نجوتَ من بلد الأعداء، من لياليها الطوال السوداء، ومن شتائها القارس العاصف، وقدِمت إستانبول الزاهية الجميلة، كأنها جنة الدنيا!. وهكذا الأمر حيث إن تسعاً وتسعين من مائة شخص ممن تحبهم منذ صغرك حتى الآن، قد ارتحلوا إلى المقبرة. تلك التي تبدو لك موحشة مدهشة، ولم يظل منهم في هذه الدنيا إلّا واحد أو اثنان، وهم في طريقهم إليها كذلك. فوفاتُك في الدنيا إذن ليست بفراق، ولا بافتراق، وإنما هي وصال ولقاء مع أولئك الأحبة الأعزاء.

نعم إنَّ أولئك -أي الأرواح الباقية- قد تركوا مأواهم وعشهم المندرس تحت الأرض، فيسرح قسم منهم بين النجوم، وقسم آخر بين طبقات عالم البرزخ.

وهكذا ذكّرني ذلك النور القرآني.. ولقد أثبت هذه الحقيقة إثباتاً قاطعاً كلٌّ من القرآن الكريم، والإيمان، بحيث مَن لم يفقد قلبَه وروحه، أو لم تغرقه الضلالةُ لابد أن يصدق بها كأنه يراها؛ ذلك لأن الذي زيّن هذه الدنيا بأنواع ألطافِه التي لا تحد وبأشكال آلائه التي لا تُعد مُظهراً بها ربوبيته الكريمة الرَّؤوف، حفيظاً حتى على الأشياء الصغيرة الجزئية جداً -كالبذور مثلاً- ذلك الصانع الكريم الرحيم، لابد -بل بالبداهة- لا يُفني هذا الإنسان الذي هو أكملُ مخلوقاته وأكرمُها وأجمعها وأهمّها وأحبها إليه، ولا يمحوه بالفناء والإعدام النهائي، بلا رحمة وبلا عاقبة -كما يبدو ظاهراً- ولا يضيّعه أبداً.. بل يضع الخالقُ الرحيم ذلك المخلوق المحبوب تحت التراب الذي هو باب الرحمة موقتاً، كي يعطي ثمارَه في حياة أخرى، كما يبذر الفلاح البذور على الأرض. (حاشية) لقد أثبتت هذه الحقيقة بصورة قاطعة كقطعية (اثنين في اثنين يساوي أربعاً) في سائر الرسائل ولاسيما «الكلمة العاشرة» و«الكلمة التاسعة والعشرون».

وبعد أن تلقيت هذا التنبيه القرآني، باتت تلك المقبرةُ عندي مؤنسةً أكثر من إستانبول نفسها، وأصبحت الخلوة والعزلة عندي أكثر لطافة من المعاشرة والمؤانسة، مما حدا بي أن أجد مكاناً للعزلة في «صارى ير» على البسفور. وأصبح الشيخ الكيلاني رضي الله عنه أستاذاً لي وطبيباً ومرشداً بكتابه «فتوح الغيب»، وصار الإمام الرباني رضي الله عنه كذلك بمثابة أستاذ أنيس ورؤوف شفيق بكتابه «مكتوبات» فأصبحتُ راضياً كلياً وممتنّاً من دخولي المشيب، ومن عزوفي عن مظاهر الحضارة البراقة ومُتعها الزائفة، ومن انسلالي من الحياة الاجتماعية وانسحابي منها، فشكرتُ الله على ذلك كثيراً.

فيا من يدلف إلى المشيب مثلي.. ويا من يتذكر الموت بنذير الشيب..! إنَّ علينا أن نرضى بالشيخوخة وبالموت وبالمرض، ونراها لطيفةً بنور الإيمان الذي أتى به القرآنُ الكريم، بل علينا أن نحبها -من جهة- فما دمنا نملك إيماناً وهو النعمة الكبرى، فالشيخوخةُ إذن طيبة والمرض طيب، والموت طيب أيضاً.. وليس هناك شيء قبيحٌ محض في حقيقة الأمر إلّا الإثم والسفه والبدع والضلالة.

الرجاء الحادي عشر

عندما رجعت من الأسر، كنت أسكن مع ابن أخي «عبد الرحمن» في قصر على قمة «چاملجة» في إستانبول. ويمكن أن تُعد هذه الحياة التي كنت أحياها حياةً مثالية من الناحية الدنيوية بالنسبة لأمثالنا؛ ذلك لأنني قد نجوت من الأسر، وكانت وسائلُ النشر مفتوحةً أمامي في«دار الحكمة الإسلامية» وبما يناسب مهنتي العلمية، وأن الشهرة والصيت والإقبال عليّ تحفّ بي بدرجة لا أستحقها، وأنا ساكن في أجمل بقعة من استانبول «چاملجة»، وكلُّ شيء بالنسبة لي على ما يرام، حيث إن ابن أخي «عبد الرحمن» -رحمه الله- معي، وهو في منتهى الذكاء والفطنة، فهو تلميذ ومضحٍّ وخادم وكاتب معاً، حتى كنت أعدّه ابناً معنوياً لي.

وبينما كنت أحس بأني أسعد إنسان في العالم، نظرتُ إلى المرآة، ورأيت شعيرات بيضاء في رأسي وفي لحيتي، وإذا بتلك الصحوة الروحية التي أحسست بها في الأسر في جامع «قوصترما» تبدأ بالظهور. فأخذتُ أنعم النظر وأفكر مدققاً في تلك الحالات التي كنت ارتبط بها قلبياً، وكنت أظنها أنها هي مدار السعادة الدنيوية. فما من حالة أو سبب دققت النظر فيه، إلّا رأيت أنه سبب تافه وخادع، لا يستحق التعلق به، ولا الارتباط معه. فضلاً عن ذلك وجدت في تلك الأثناء عدم الوفاء وفقدان الصداقة من صديق حميم، يُعدّ من أوفى الأصدقاء لي، وبشكل غير متوقع وبصورة لا تخطر على بال.. كل ذلك أدى إلى النفرة والامتعاض من الحياة الدنيا، فقلت لقلبي:

– يا تُرى هل أنا منخدع كلياً؛ فأرى الكثيرين ينظرون إلى حياتنا التي يُرثى لها من زاوية الحقيقة نظرَ الغبطة؟ فهل جُنَّ جنون جميع هؤلاء الناس؟ أم أنا في طريقي إلى الجنون، لرؤيتي هؤلاء المفتونين بالدنيا مجانينَ بُلهاء؟! وعلى كل حال.. فالصحوة الشديدة التي صحوتها برؤية الشيب جعلتني أرى أولاً: فناء ما أرتبط به من الأشياء المعرّضة للفناء والزوال!!

ثم التفتّ إلى نفسي، فوجدتُها في منتهى العجز!.. عندها صرختْ روحي وهي التي تنشد البقاء دون الفناء وتتشبث بالأشياء الفانية متوهمةً فيها البقاء، صرخت من أعماقها: «مادمتُ فانيةً جسماً فأي فائدة أرجوها من هذه الفانيات؟ وما دمتُ عاجزةً فماذا انتظر من العاجزين؟.. فليس لدائي دواءٌ إلّا عند الباقي السرمدي، عند القدير الأزلي» فبدأت أبحث وأستقصي.. راجعت أولَ ما راجعت، تلك العلوم التي اكتسبتها سابقاً، أبحث فيها السلوة والرجاء. ولكن كنت -ويا للاسف- إلى ذلك الوقت مغترفاً من العلوم الإسلامية مع العلوم الفلسفية ظناً مني -ظناً خطأً جداً- أن تلك العلوم الفلسفية هي مصدرُ الرُّقي والتكامل ومحور الثقافة وتنوّر الفكر، بينما تلك المسائل الفلسفية هي التي لوثَت روحي كثيراً، بل أصبحت عائقةً أمام سموي المعنوي.

نعم، بينما كنت في هذه الحالة، إذا بحكمة القرآن المقدسة تسعفني، رحمةً من العلي القدير، وفضلاً وكرماً من عنده سبحانه. فغسلتْ أدرانَ تلك المسائل الفلسفية، وطهّرتْ روحي منها -كما هو مبيّن في كثير من الرسائل- إذ كان الظلام الروحي المنبثق من العلوم الفلسفية، يُغرق روحي ويطمسها في الكائنات، فأينما كنت أتوجّه بنظري في تلك المسائل فلا أرى نوراً ولا أجد قبساً، ولم أتمكن من التنفس والانشراح، حتى جاء نورُ التوحيد الساطع النابع من القرآن الكريم الذي يلقّن «لا اله إلّا هو» فمزّق ذلك الظلام وبدّده. فانشرح صدري وتنفس بكل راحة واطمئنان.. ولكن النفس والشيطان، شنّا هجوماً عنيفاً على العقل والقلب وذلك بما أخذاه من تعليمات وتلقّياه من دروس من أهل الضلالة والفلسفة. فبدأت المناظرةُ النفسية في هذا الهجوم حتى اختتمت -ولله الحمد والمنّة- بانتصار القلب وفوزه.

ولما كان قسم من تلك المناظرات قد ورد في أغلب الرسائل، فنحن نكتفي به، إلّا أننا نبين هنا برهاناً واحداً فقط من بين آلاف البراهين، لنبين انتصار القلب وفوزه على النفس والشيطان، وليقوم ذلك البرهان بتطهير أرواح أولئك الشيوخ الذين لوّثوا أرواحهم، وأسقموا قلوبَهم، وأطغوا أنفسهم، حتى تجاوزت حدودَها، تارة بالضلالة، وتارة بما لا يعنيهم من أمور تتستر تحت ستار العلوم الأجنبية والفنون الحضارية، ولينجوا -بإذن الله- في حق التوحيد، من شرور النفس والشيطان. والمناظرة هي كالآتي:

قالت نفسي مستفسرةً باسم العلوم الفلسفية المادية: «إن الأشياء الموجودة في الكون، بطبيعتها تتدخل في الموجودات، فكل شيء متوجّهٌ إلى سبب وصادر منه، فالثمرةُ تؤخذ من الشجرة، والحبوبُ تُطلب من التراب، فماذا يعني التضرع إلى الله وطلب أصغر شيء وأكثره جزئية منه سبحانه؟!».

انكشف حالاً سرُّ التوحيد بنور القرآن الكريم بالصورة الآتية:

أجاب قلبي لنفسي المتفلسفة: إن أصغرَ شيء وأكثرَه جزئية إنما هو كأكبرِ شيء وأعظمِه، فهو يصدر من قدرة خالق الكائنات مباشرة، ويأتي من خزينته سبحانه.. فليس هناك صورة أخرى قط، وما الأسباب إلّا ستائر؛ ذلك لأنَّ أصغر المخلوقات وأتفهَها -حسب ظننا- قد يكون أعظمَ من أكبر المخلوقات وأضخمها، من حيث الخلقة والصنعة والإتقان. فالذباب مثلاً، إن لم يكن أدقَّ وأرقى من حيث الصنعة من الدجاج فليس هو بقاصر عنها، لهذا لا يمكن التمييزُ بين الصغير والكبير من حيث الخلقة والصنعة فإما أن يُنسَب خلقُ الجميع -صغيرُه وكبيرُه- إلى الأسباب المادية، وإما أن يُسنَد الخلق جميعاً إلى الواحد الأحد. ومثلما أن الشق الأول محالٌ في محال، فإن الشق الثاني واجب الاعتقاد به وضروري. لأنه:

ما دام علمُ الله سبحانه وتعالى يحيط بكل شيءٍ، والذي هو ثابت وجودُه بشكل قاطع بانتظام جميع الموجودات والحِكَم التي فيها.. وما دام كل شيء يتعيّن مقدارُه في علمه سبحانه.. وما دامت المصنوعات والمخلوقات وهي في منتهى الروعة والإتقان تأتي بمنتهى السهولة إلى الوجود من العدم كل حين كما هو مشاهَد.. ومادام ذلك القدير العليم يملك قدرة مطلقة يمكنه أن يوجِد كلَّ شيء بأمر «كن فيكون» وفي لمح البصر.. كما بيّنا ذلك في كثير من الرسائل بدلائل قاطعة ولاسيما في «المكتوب العشرين» وختام «اللمعة الثالثة والعشرين». فلابد أن السهولة المطلقة المشاهَدة، والخارقة للعادة، ما هي إلّا من تلك الإحاطة العلمية ومن عظمة تلك القدرة المطلقة.

مثلاً: كما أنه إذا أمررتَ مادة كيمياوية معينة على كتاب كُتب بحبر كيمياوي لا يُرى، فإن ذلك الكتاب الضخم يظهر عياناً حتى يستقرئ كلَّ ناظر اليه، كذلك يتعين مقدارُ كل شيء وصورتُه الخاصة به في العلم المحيط للقدير الأزلي، فيمرر القديرُ المطلق قوته -التي هي تجلٍ من قدرته- بكل سهولة ويسر، كإمرار تلك المادة في المثال، على تلك الماهية العلمية، يمرره بأمر «كنْ فيكون»، وبقدرته المطلقة تلك، وبإرادته النافذة.. فيعطي سبحانه ذلك الشيء وجوداً خارجياً، مُظهراً إياه أمام الأشهاد، مما يجعلهم يقرؤون ما فيه من نقوش حكمته..

ولكن إنْ لم يُسند خلقُ جميع الأشياء دفعةً واحدة إلى العليم المطلق وإلى القدير الأزلي، فإن خلق أصغر شيء عندئذ -كالذباب مثلاً- يستلزم جمعَ جميع ما له علاقة بالذباب من أكثر أنواع العالم، جمعَه بميزان خاص ودقيق جداً، أي جمع كل ذلك في جسم الذباب، بل ينبغي أن تكون كلُّ ذرةٍ عاملةٍ في جسم الذباب عالمةً تمام العلم بسرّ خلق الذباب وحكمة وجوده، بل ينبغي أن تكون متقنةً لروعة الصنعة التي فيها بدقائقها وتفاصيلها كافة.

ولما كانت الأسبابُ المادية أو الطبيعية لا يمكنها أن تخلق شيئاً من العدم مطلقاً كما هو بدهي ومتفق عليه عند أرباب العقول؛ لذا فإن تلك الأسباب حتى لو تمكّنت من الإيجاد فإنها لا تتمكن من ذلك إلّا بالجمع. فما دامت ستقوم بالجمع، وإن الكائن الحي -أياً كان- ينطوي على أغلب نماذج ما في العالم من عناصر وأنواع، وكأنه خلاصةُ الكائنات أو بذرتُها، فلابد إذن من جمع ذرات البذرة من شجرة كاملة، وجمع عناصر الكائن الحي وذراته من أرجاء العالم أجمع، وذلك بعد تصفيتها وتنظيمها وتقديرها بدقة وإتقان حسب موازينَ خاصة ووفق مصافٍ حساسة ودقيقة جداً.. ولكون الأسباب المادية الطبيعية جاهلةً وجامدةً، فلا علم لها مطلقاً كي تقدّر خطة، وتنظّم منهاجاً، وتنسق فهرساً، وكي تتعامل مع الذرات وفق قوالب معنوية، مصهرة إياها في تلك القوالب لتمنعها من التفرق والتشتت واختلال النظام. بينما يمكن أن يكون شكلُ كلِّ شيء وهيئته ضمن أنماط لا تُحد.. لذا فإن إعطاء شكل معين واحد من بين تلك الأشكال غير المحدودة، وتنظيم ذلك الشيء بمقدار معين ضمن تلك المقادير غير المعدودة، دون أن تتبعثر ذراتُ العناصر الجارية كالسيل وبانتظام كامل. ثم بناؤها وعمارتها بعضها فوق بعض بلا قوالب خاصة وبلا تعيين المقادير، ثم إعطاء الكائن الحي وجوداً منتظماً منسقاً.. كل هذا أمرٌ واضح أنه خارجٌ عن حدود الإمكان، بل خارج عن حدود العقل والاحتمال! فالذي لم يفقد بصيرته يرى ذلك بجلاء! نعم، وتوضيحاً لهذه الحقيقة فقد جاء في القرآن الكريم: ﴿اِنَّ الَّذينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّٰهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ (الحج:73). أي إذا اجتمعت الأسبابُ المادية كافة لا يمكنها أن تجمع وتنسق جسم ذبابة واحدة وأجهزتها وفق موازين دقيقة خاصة حتى لو أوتيت تلك الأسباب إرادةً واختياراً، بل حتى لو تمكنت من تكوين جسم ذباب وجمعه فإنها لا تستطيع إبقاءه وإدامته على مقداره المعين له، بل حتى لو تمكنت من إبقائه بالمقدار المعين فلن تستطيع أن تحرك بانتظام تلك الذرات التي تتجدد دوماً وترد إلى ذلك الوجود لتسعى فيه؛ لذا فمن البداهة أنَّ الأسباب لن تكون مالكةً لهذه الأشياء ولن تكون صاحبتَها مطلقاً. إنما صاحبُها الحقيقي هو غيرُ الأسباب.. نعم، إنَّ لها مالكاً وصاحباً حقيقياً بحيث إن إحياء ما على الأرض من كائنات سهلٌ عليه ويسير، كإحياء ذبابة واحدة. وإيجادُ الربيع عنده سهلٌ وهينٌ كسهولة إيجاد زهرة واحدة.. كما تبينه الآية الكريمة: ﴿مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ اِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ(لقمان:28) ذلك لأنه غير محتاج إلى الجمع، حيث إنه مالك لأمر ﴿كُنْ فَيَكُونُ .. ولأنه يخلق من العدم في كل ربيع أحوالَ موجودات الربيع وصفاتِها وأشكالَها، مما سوى عناصرها.. ولأن خطة كل شيء ونموذجَه وفهرسه ومخططه متعينٌ في علمه سبحانه.. ولأنَّ جميع الذرات لا تتحرك إلّا ضمن دائرة علمه وقدرته؛ لذا فإنه يخلق كل شيء ويوجِده إيجاداً بلمح البصر وفي منتهى اليُسر، ولن يحيد شيءٌ عمّا أُنيط به في حركته ولو بمقدار ذرة. فتغدو الكواكب السيارة جيشاً منظماً طائعاً له، وتصبح الذرات جنوداً مطيعين لأمره، وحيث إن الجميع يسيرون على وفق تلك القدرة الأزلية ويتحركون وفق دساتير ذلك العلم الأزلي؛ لذا فإن هذه الآثار تأتي إلى الوجود حسب تلك القدرة، فلا تصغُر تلك الآثار بنظر الاستصغار، ولا تكون مهملة بعدم الاهتمام بها؛ إذ الذبابةُ المنتسبة إلى تلك القدرة تهلك نمروداً، والنملة تُدمِّرُ قصر فرعون، وبذرةُ الصنوبر المتناهية في الصغر تحمل على أكتافها ثقلَ شجرة الصنوبر الضخمة كالجبل. فكما أننا أثبتنا هذه الحقيقة في رسائل كثيرة فإننا نقول هنا كذلك: إنَّ الجندي المنتسب إلى السلطان بالجندية يمكنه أن يقوم بأعمال تفوق طاقته ألف مرة، كأنْ يأسر مثلاً قائداً عظيماً للعدو بانتسابه، كذلك فإن كل شيء بانتسابه إلى تلك القدرة الأزلية يكون مصدراً لمعجزات الصنعة والإتقان بما تفوق تلك الأسبابَ الطبيعية بمائة ألف مرة.

الخلاصة: إنَّ الصنعة المتقنة البديعة لكل شيء، والسهولة المطلقة في إيجاده، تظهران معاً أن ذلك الشيء من آثار القدير الأزلي ذي العلم المحيط، وإلّا فهو محال في مائة محال ورود ذلك الشيء إلى الوجود، بل يكون -عندئذٍ- خارجاً عن دائرة الإمكان وداخلاً في دائرة الامتناع، بل خارجاً من صورة الممكن إلى صورة الممتنع وماهية الممتنع، بل لا يمكن أن يرد -عندئذ- شيء مهما كان إلى الوجود مطلقاً.

وهكذا فإن هذا البرهان وهو في منتهى القوة والدقة، ومنتهى العمق والوضوح قد أسكت نفسي التي أصبحت تلميذةً مؤقتة للشيطان، ووكيلة لأهل الضلالة والفلسفة، حتى آمنت -ولله الحمد- إيماناً راسخاً، وقالت:

نعم، إنه ينبغي أن يكون لي ربٌ خالق يعلم ويسمع أدقّ خواطر قلبي وأخفى رجائي ودعائي. ويكون ذا قدرة مطلقة فيسعف أخفى حاجات روحي ويستبدل كذلك بهذه الدنيا الضخمة دنيا أخرى غيرها ليسعدني سعادة أبدية فيقيم الآخرة بعدما يرفع هذه الدنيا، وكما أنه يخلق الذباب فإنه يوجِد السماوات إيجاداً أيضاً. وكما أنه يرصّع وجه السماء بعين الشمس فإنه يجعل من الذرة ترصيعاً في بؤبؤ عيني. وإلّا فإن الذي لا يستطيع أن يخلق ذباباً لا يمكنه أن يتدخل في خواطر قلبي، ولن يسمع تضرع روحي. وإن الذي لا يستطيع أن يخلق السماوات لا يمكنه أن يهبني السعادة الأبدية؛ لذا فإن ربي إنما هو الذي يسمع -بل يصلح- خواطر قلبي، فمثلما أنه يملأ جو السماء بالغيوم ويفرغها منه خلال ساعة فإنه سيبدّل الآخرة بهذه الدنيا ويعمّر الجنة ويفتح أبوابها لي قائلاً: هيا أدخل!

فيا إخوتي الشيوخ، ويا مَن صرفتم جزءاً من عمركم بسوء حظ النفس وشقائها -مثل نفسي- في مغالطات العلوم الأجنبية والفلسفة المظلمة.. اعلموا أن الذي يردده القرآن دوماً من «لا إله إلّا هو» ذلك الأمر القدسي، ركن إيماني لا يتزلزل ولا يتصدع ولا يتغير أبداً!! فما أقواه وما أصوبَه! حيث يبدد جميع الظلمات ويضمد الجراحات المعنوية.

هذا وإن درج هذه الحادثة المطولة ضمن أبواب الرجاء والأمل لشيخوختي، لم يكن باختياري، بل لم أكن أرغب درجها هنا، تحاشياً من الملل، إلّا أنني أستطيع أن أقول قد كُتّبتها وأُملِيَتْ عليَّ.. وعلى كل.. لنرجع إلى الموضوع الذي نحن بصدده:

نعم، هكذا جاءني النفور من تلك الحياة الدنيوية البهيجة في استانبول التي ظاهرها اللذة، من ذلك التأمل والنظر في شعيرات بيضاء لرأسي ولحيتي، ومن عدم الوفاء الذي بدر من الصديق الوفي المخلص.. حتى بدأت النفسُ بالبحث والتحري عن أذواق معنوية بدلاً عما افتتنتْ به من أذواق، فطلبت نوراً وسلواناً في هذه الشيخوخة التي تبدو ثقيلة ومزعجة ومَقِيتةً في نظر الغافلين. فلله الحمد والمنّة وألف شكر وشكر له سبحانه أن وفقني لوجدان تلك الأذواق الإيمانية الحقيقية الدائمة في «لا إله إلّا هو» وفي نور التوحيد بدلاً من تلك الأذواق الدنيوية التي لا حقيقة لها ولا لذة فيها، بل لا خير في عقباها. وله الحمد أن وفقني كذلك لأجد الشيخوخة خفيفة الظل أتنعم بدفئها ونورها بخلاف ما يراه أهلُ الغفلة من ثقل وبرودة.

نعم يا إخوتي! فما دمتم تملكون الإيمان، وما دامت لديكم الصلوات والدعاء اللذان ينوران الإيمان، بل ينميانه ويصقلانه.. فإنكم تستطيعون إذن أن تنظروا إلى شيخوختكم كأنها شباب دائم، بما تكسبون بها شباباً في دار الخلود، حيث إن الشيخوخة الباردة حقاً، والثقيلةَ جداً، والقبيحة، بل المظلمة والمؤلمة تماماً ليست إلّا شيخوخةَ أهل الضلالة، بل ربما عهد شبابهم كذلك.. فليبكوا.. ولينتحبوا.. وليقولوا: وا أسفاه.. وا حسرتاه!!

أما أنتم أيها الشيوخ المؤمنون الموقرون فعليكم أن تشكروا ربكم بكل فرح وسرور قائلين: «الحمد لله على كل حال!».