فيا خالق كلَ شيء!

إن جميع مخلوقات الأرض تُدار مسخَّرةً في ملكك أنت، وفي أرضك أنت وبحولك وقوتك أنت، وبقدرتك وإرادتك أنت، وبعلمك وحكمتك أنت.

وإن ربوبيةً تشاهَد فعاليتُها على وجه الأرض لَتبدي إحاطة وشمولا، لأن إدارتها وتدبيرها وتربيتها هي من الحساسيّة في غاية الكمال.. وإن إجراءاتها المنتشرة في كل جهة هي في وحدة ومعيّة ومشابهة.. بحيث تُعلم أنها ربوبيةٌ كليّة وتصرّفٌ كليٌّ لا تقبل تجزئة قط. وهي في حكم كليٍّ لا يمكن انقسامه قط. فتسبّح الأرضُ بجميع ساكنيها وتقدس خالقَها بألسنة غير محدودة فصيحةٍ أبينَ من لسان المقال، فتحمدُ رزاقها الجليل وتثني عليه بألسنةِ أحوالٍ بعدد نِعمه التي لا تعد ولا تُحصى.

سبحانك يا مَن اختفى بشدة الظّهور.. سبحانك يا من احتجب بعظمة الكبرياء..

إني أُقدِّسُكَ وأُسبّحُكَ بِجميع تقديسات الأرض وتسبيحاتها من القصور والعجز والشريك، وإني أحمدك وأُثني عليك بجميع تحميدات الأرض وأثنيَتها عليك.

يا ربَ البَرِّ والبحر..!

لقد تعلمت بدرس القرآن وبتعليم الرَسُولِ الأكرم ﷺ أنه: مثلما السماواتُ والفضاء والأرض تشهد على وحدانيتك وعلى وجودك، فالبحار والأنهار والجداول والعيون أيضا تشهد شهادة -بدرجة البداهة- على وجوب وجودِك وعلى وحدتك.

نعم، فما من موجود بل ما من قطرة ماء في بحار دنيانا هذه وهي منبع العجائب -كأنها مراجل بخار- إلّا تُعرّف خالقَها؛ بوجودها وبانتظامها وبمنافعها وبحالها.

وما من مخلوق من المخلوقات الغريبة التي تُرسَل إليها أرزاقُها إرسالا كاملا في رملٍ بسيطٍ وماءٍ بسيطٍ، ولا حيوان من الحيوانات البحرية التي هي في غاية كمال الخلقة وبخاصة الأسماك التي تجمّل البحار بما تقذف إحداها مليونا من البويضات.. إلّا ويشير إلى خالقه، ويشهد على رزاقه؛ بخلقته وبوظائفه وبإدارته وبإعاشته وبتدبير أموره وبتربيته.

وكذا ليس في البحر من جوهرة من تلك الجواهر القيّمة واللآلئ المزيَّنة الثمينة ذات الخواص النفيسة لا تعرفك ولا تُعرّفك؛ بخلقتها الجميلة وبفطرتها الجذابة وبخاصيتها النافعة.

نعم، فكما تشهد كلُ جوهرة فردة، فإن تلك الجواهر بمجموعها معا تشهد بوحدتك كذلك؛ بما فيها من الاتفاق والتداخل والاختلاط ووحدة سكة الخِلقة وغاية السهولة في الإيجاد وغاية الكثرة في الأفراد.

وإن جعْلَ البحار المحيطة بالأرض معلقةً في السماء مع بَرّها الشاسع، وهي سابحةٌ حول الشمس دون أن تنسكب انسكابا، ودون أن تتشتت فائضة، ودون أن تستولي على اليابسة.. وخلْقَ حيواناتها المتنوعة وجواهرها المنتظمة من رملها البسيط ومائها البسيط.. وإدارةَ أرزاق تلك المخلوقات وسائرِ أمورها إدارة كلية تامة.. والقيامَ بتدبيرها وتطهير سطحها من جنائزَ غير محدودة لابد منها.. تشهد بإشارات بعدد موجوداتها على أنك موجود وواجب الوجود.

وكما أنها تدلُّ دلالة ظاهرة جلية على جلال سلطنة ربوبيتك، وعلى عظمة قدرتك المحيطة بكل شيء، فهي تدل كذلك على السعة المطلقة لرحمتك ولحاكميتك اللتين تهيمنان على كل شيء، وتسعفان كل شيء، ابتداءً من النجوم الضخمة والمنتظمة في أعالي السماوات إلى الأسماك الصغيرة المنتظمة الإعاشة في أعماق البحار، وتشير إلى علمك المحيط بكل شيء وإلى حكمتك الشاملة لكل شيء؛ بانتظامها وبفوائدها وبحِكمها وبميزانها وبموزونيتها.

وإن إيجادَ حياضِ رحمةٍ كهذه للإنسان القادم ضيفا إلى مضيف الدنيا هذه، وتسخيرها لسَيره وسياحته ولسفينتهِ ولمنافعهِ، يشير إلى أن الذي يُكرِم ضيوفَه في ليلة واحدةٍ، في دارِ استراحةٍ شيّدها لهم على طريق سفرهم، بهذا الكَرَم العظيم من هدايا البحار وعطاياها، لابد أنه قد أحضر في مقر سلطنته الأبدية بحارَ رحمة أبدية واسعة بحيث إن المشهودةَ منها هنا ليست إلّا نماذج فانية وصغيرة أمام تلك الأبدية.

وهكذا فإن وجُودَ البحار بهذا الطّراز الخارق وبوضعها العجيب في أطراف الأرض وإدارةَ مخلوقاتها والقيامَ بتربيتها في غاية الانتظام، يُظهر -بداهةً- أن جميعها مسخرةٌ في ملكك أنت، وبأمرك وبقوتك وبقدرتك وبإدارتك وبتدبيرك وحدك، فهي تقدّس خالقَها بألسنة حالها هاتفةً الله أكبر!

يا قَادرُ يا ذا الجَلالِ! يا من جعل الجبال أوتادا ذاتَ خزائن لسفينة الأرض!

لقد علمتُ بتعليم الرسولِ الأكرم ﷺ وبدرس قرآنك الحكيم أنه: مثلما البحارُ تَعرفك وتُعرّفك بعجائبها وغرائبها، كذلك الجبالُ تَعرفك وتُعرّفك؛ بخدماتها وبحِكَمها؛ بتأمين سكون الأرض من تأثير الزلازل ودمارها، وبتهدئةِ الأرض من غوائل الانقلابات الجارية في جوفها، وبإنقاذ الأرض من فيضان البحار وطغيان عوارمها، وبتصفية الهواء من الغازات المضرة، وبمحافظتها المياه وضمان ادّخارها، وبخَزْنها المعادنَ المستلزمةَ لحاجات الأحياء.

نعم، فما من نوع من أنواع الصخورِ التي في الجبال، ولا قسم من أقسام المواد التي هي علاجات لمختلف الأمراض والعاهات، ولا جنسٍ من أجناس المعادن المتنوِّعة جدا والتي تَلزم الأحياءَ ولاسيما الإنسان، ولا صنفٍ من أصناف النباتات المزيِّنة بأزهارها الجبالَ وبأثمارها القفارَ.. إلّا وتشهد -بداهةً- على وجوبِ وجود صانعٍ ذي قدرة غير متناهية وحكمةٍ غير متناهية ورحمةٍ غير متناهية وكرم غير متناهٍ؛ بما فيها من الحِكَم والانتظام وحُسن الخلقة والفوائد، مما لا يمكن نسبتها إلى المصادفة.. وبما فيها من الاختلاف الشديد في المذاقات، رغم التشابه الظاهري -وبخاصة في المعدنيات كالملح وملح الليمون والسُلفات والشب- ولاسيما النباتات، بأنواعها المتباينة العديدة الناشئة من تراب بسيط، وبأزهارها وأثمارها المتنوّعة. فضلا عن أنها تشهد على وحدة الصانع وعلى أحديته؛ بما في هيئتها العامة من وحدة الإدارة ووحدة التدبير ووحدة المنشأ والمسكن والخلق، والتساوي في الإتقان، مع الرُّخْص واليسر والوفرة والسرعة في الخلقة.

وكذا فإن خلق كُلِّ نوع من أنواع المصنوعات الموجودة على سطح الجبال وفي جوفها، المنتشرة في كل جهة من جهات الأرض، وإيجادَها في آن واحد وبنمط واحد بلا خطأ وبلا اختلاط، رغم التداخل ضمن سائر الأنواع، في غاية الكمال والسُرعة ومن دون أن يُشغلك فعل عن فعلٍ.. يدل على هيبة ربوبيتك وعلى عظمة قدرتك التي لا يعجزها شيء.

وكذا فإن مَلء سطوح الجبال بالأشجار والنباتات، وبطونِها بالمعادن المنتظمة وتسخيرَها تلبية لحاجات الأحياء كافة تسخيرا يضمن حتى أمراضها المتنوّعة بل أذواقها المختلفة، ويشبع شهياتها المتباينة، يدل على السعة المُطلقة لرحمتك وعلى الوسعة غير المُتناهية لحاكميتك.

وكذا إحضار كل ما هو خفي ومختلط، وفي ظلمة طبقات التراب، إحضارا منتظما بعلم وببصيرة ودونَ حيرة وحسب الحاجة.. يدل على إحاطة علمك المتعلق بكلِ شيء، وعلى حكمتك المنظمة لكل شيء، وشمولها جميع الأشياء.

وكذا إحضار الأدوية وادّخار المواد المعدنية يشير بوضوح ويدل بجلاء على محاسن تدابير ربوبيتك الرحيمة والكريمة وعلى لطائف مُدخرات عنايتك.

وكذا جعل الجبال الشّوامخ مخازنَ احتياطية منتظمة ومستودعات مكملة لكنوزٍ ضرورية لحياة الضيوف القادمين إلى مَضيف الأرض ولسدِّ حاجاتهم في المُستقبل.. يشير ويدل بل ويشهد على أن صانعا له هذا الكرم الواسع ومكرما وحكيما رؤوفا، وقديرا ومربيا.. لابد له خزائن أبدية لآلائه الأبدية في عالم أبدي لأولئك المُسافرين الضيوف المحبوبين عنده.. فتقوم النجوم هناك بمهمة ما تقوم الجبال بها هاهنا.

يا قَادِرُ على كلِ شيء!

إن الجبال وما فيهَا من المخلوقات مسخّراتٌ ومدخراتٌ في ملكك أنت، وبقوتك وقدرتك أنت وبعلمك وحكمتك أنت. إنها تسبّحُ وتقدّس لفاطرها الذي وظّفها وسخَّرها على هذه الصورة.

يا خالِقُ ويا رحمنُ! ويا رب ويا رحيمُ!

لقد علمتُ بتعليم الرسول الأكرم ﷺ وبدرس القرآن الحكِيم أنه: مثلما السماء والفضاء والأرض والبحر والجبل تَعرفك وتُعَرِّفك بما فيها وبمخلوقاتها، كذلك جميع الأشجار والنباتات في الأرض تعرفك وتعرِّفك -بدرجة البداهة- بأوراقها وأزهارها وأثمارها.. فكل ورقة من أوراق الأشجار والنباتات المهتزّة بجذبات الذّكر وشوقه.. وكلُ زهرة من الأزهار الواصفة والمُعَرِّفة بزينتها لأسماء صانعها.. وكلُ ثمرة من الأثمار المُتبسِمة من لطافتها بتجلي الرَّحمة فيها.. تشهد كلُّها؛ بالنظام الذي في صنعتها الخارقة، وبالميزان الذي في النظام، وبالزّينة التي في الميزان، وبالنقوش الموجودة في الزينة، وبالعبق الطيب المتنَوع المَمزوج بالنقوش، وبالطعوم المُختلفة في العبق الفوّاح للأثمار.. شهادة بدرجة البداهة لا يمكن نسبتُها إلى المصادفة على وجوبِ وجودِ صانع لا نهاية لرحمته ولا نهاية لكرمه.

فكما أن الأمر هكذا في كل فرد، فكل الأشجار والنباتات معا تشهد كذلك بالبداهة على وحدة ذلك الصانع الواجبِ وجودُه وعلى أحديته؛ بوحدتها واتفاقها ومعيّتها على سطح الأرض كافة وبتشابهها على سكة الخلقة وبارتباطها في التدبير والإدارة وبتوافقها فيما يتعلق بها من أفعال الإيجاد والأسماء الربانية وبإدارة الأفراد غيرِ المحدودة لمائة ألف نوع مع تداخلها إدارةً مباشرة دون حيرة ولا خطأ.

وكذا مثلما يشهد أولئك على وجوبِ وجودِك وعلى وحدتكَ، فإن إعاشةَ وإدارةَ أفراد غير محدودة لجحفل الأحياء من الجيش الهائل المتشكل من أربعمائة ألف من الأمم على وجه الأرض إدارةً بكمال الإتقان وبمئات الآلافِ من أنماط الإعاشة والإدارة التي تتم بكمال الانتظام دون سهو ولا خلط.. تدل على جلال ربوبيتك وهيبتها في وحدانيتك، وعلى عظمة قدرتك التي تخلق الربيع بيُسرِ إيجادِ زهرة وتعلّقِها بكل شيء، وتدل قطعا على سعة رحمتك المطلقة التي تهيئ أقسامَ الأطعمة المتنوعة المختلفة وغير المحدودة وتحضرها لحيوانات غير محدودة وللإنسان في كل جهةٍ من جهات هذه الأرض الضخمة.

وإن جريان تلك الأمور والإنعامات وأشكال الإدارة وأنواع الإعاشة والإجراءات غير المحدودة، بكمال الانتظام، وانقيادَ كل شيء وخضوعه حتى الذرات لتلك الأوامر والإجراءات.. تدل دلالة قاطعة على السعة المطلقة لحاكميتك.

وإن عمل كل شيء لكل ورقة وزهرة وثمرة، ولكل جذر وغصن وفرع، من تلك الأشجار والنباتات، عملا بعلم وبصيرة وفق ما تقتضيه الفوائد والمصالح والحِكَم.. يدل على إحاطة علمك بكل شيء وشمول حكمتك لكل شيء دلالةً ظاهرة جلية، وتشير إليهما بأصابعها التي لا تحد. وإنها تحمد وتُثني بألسنتها غير المحدودة على جمال صنعتك وهي في منتهى الكمال، وعلى كمال نعمتك وهي في منتهى الجمال.

وكذا فإن هذه الإحسانات الثمينة والنّعم القيمة العميمة، وهذه المصارف والإكرامات التي تفوق الحد، تصلنا بأيادي الأشجار والنباتات في هذه الدار المؤقتة والمَضيف الفاني، وفي زمن قصير وعمر قليل، تشير بل تشهد على أن الرحيم ذا القدرة والكرم الذي ساق هنا لضيوفه كل هذه الرحمة.. لابد أنه قد أعد أشجارا مثمرة ونباتات مزهرة خالدة بما يليق بالجنة الخالدة في عالم خالد في مملكة خالدة لعباده الذين سيخلدهم أبد الآبدين.. لكي يَحُول دون انقلابِ نتائجِ مصاريفه وآلائه التي صرفها للتودّد والتعرف إلى ضدّها -أي لئلا تقول جميع الخلائق: لقد أذاقَنا تلك النعمَ وأعدَمَنا قبل أن نتناولها- ولكي يحُول دون إسقاطِ هيبة ألوهيته، ودون إنكار سعة رحمته، ودون تحوُّلِ جميع أحبته المشتاقين إليه أعداءً بحرمانهم.. أجل، لقد أحضَرها من خزائن الرحمة الخالدة وفي جناته الخالدة. وما التي ها هنا إلّا نماذجُ عرضٍ للزبائن فحسب.

وكما أن الأشجار والنباتات كافة تقدّسك وتسبحك وتحمدك بكلمات أوراقها وأزهارها وأثمارها، كذلك كل كلمة من تلك الكلمات بحدّ ذاتها تقدّسك أيضا، وبخاصةٍ خلقُ الأثمار خلقا بديعا ولبابها المتنوّعة، وصنعتها العجيبة وبذورها الخارقة، وإيداع صحاف الطعام تلك إلى أيدي الأشجار ووضعها على رؤوس النباتات وإرسالها هكذا إلى ضيوفه الأحياء مما يجعل تسبيحات ألسنة حالاتها ظاهرة وجلية تبلغ درجة لسان المقال.

فجميع أولئك مسخرات في مُلكك أنت، وبقوتك وقدرتك أنت، وبإرادتك وإحساناتك أنت، وبرحمتك وحكمتك أنت، وإنها منقادة مطيعة لكل أمر صادر منك.

فيا من اختفى بشدة الظهور! ويا من احتجب بعظمة الكبرياء! يا صانعُ، يا حكِيمُ! يا خَالِقُ يا رحِيمُ! إني أحمدك وأُثني عليك مُقدِّسا إياك من القصور والعجز والشريك، بألسنة جميع الأشجار والنباتات وجميع الأوراق والأزهار والأثمار وبعددها.