النكتة الثالثة

تشير إلى النور الثالث من الأنوار الستة للاسم الأعظم: الحكَم

﴿اُدْعُ اِلٰى سَبيل رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ (النحل:125)

لقد تراءت لي نكتةٌ من النكات الدقيقة لهذه الآية الكريمة، ونور من أنوار تجليات اسم الله «الحَكَم» الذي هو اسم الله الأعظم، أو أحد أنواره. في شهر رمضان المبارك. فكُتبت هذه النكتة المشتملة على خمس نقاط على عجلٍ، فأثبتُّها على حالها في المسودة دون تنقيح أو تغيير.

النقطة الأولى:

مثلما ذكرنا في «الكلمة العاشرة» أن التجلي الأعظم لاسم «الحَكَم» جعل هذا الكون بمثابة كتاب عظيم كُتبتْ في كل صحيفة من صحائفه مئاتُ الكتب، وأُدرجت في كل سطر منه مئاتُ الصفحات، وخُطَّتْ في كل كلمة منه مئاتُ الأسطر، وتُقرأ تحت كل حرف فيه مئاتُ الكلمات، وحُفِظَ في كل نقطة من نقاطه فهرسٌ مختصر صغير يلخص محتويات الكتاب كله.. فهذا الكتاب بصفحاته وأسطره بل بنقاطه يدل دلالة واضحة ساطعة -بمئات الأوجه- على مصوِّرِه وكاتبه، حتى إن مشاهدة الكتاب الكوني العظيم هذا وحدَها كافيةٌ للدلالة على وجود كاتبه، بل تسوقنا إلى معرفة وجوده ووحدانيته بما يفوق دلالة الكتاب على نفسه أضعافاً مضاعفة. إذ بينما يدل الحرفُ الواحد على وجوده ويعبّر عن نفسه بمقدار حرف فإنه يعبّر عن أوصاف كاتبه بمقدار سطر..

نعم، إنَّ سطح الأرض «صحيفة» من هذا الكتاب الكبير، هذه الصحيفة تضم كتباً بعدد طوائف النباتات والحيوانات، وهي تُكتب أمام أنظارنا في موسم الربيع في غاية الكمال والإتقان من دون خطأٍ، كتابةً متداخلة، جنباً إلى جنب، في آن واحد.

والبستان «سطر» من هذه الصحيفة، نشاهد فيه قصائد منظومة وهي تُكتب أمام أعيننا بعدد الأزهار والأشجار والنباتات، كتابةً متداخلة، جنباً إلى جنب، من دون خطأ.

والشجرة النامية الزاهية أوراقُها، المفتحة أزهارُها، وقد أوشكت أن تخرج أثمارُها من أكمامها، هذه الشجرة «كلمةٌ» من ذلك السطر، فهذه الكلمة تمثل فقرةً كاملة ذات مغزى تعبّر تعبيراً بليغاً عن ثنائها وحمدها ودلالتها على «الحكم» ذي الجمال، بعدد أوراقها المنتظمة وأزهارها المزينة وأثمارها الموزونة، حتى لكأن تلك الشجرة المفتحة الأزهار قصيدةٌ عصماء تتغنى بالمدح والثناء على آلاء بارئها المصور الجليل.

وكأن «الحكيم» ذا الجلال يريد أن ينظر عبادُه إلى ما عَرَضه من بدائع آثاره وعجائبِ مخلوقاته في معرض الأرض البديع بألوف من العيون. وكأن تلك الهدايا الثمينة والأوسمة الغالية والشارات اللطيفة التي منحها الله تعالى لتلك الشجرة قد أعطتها من الشكل الجميل المزيَّن، والهيأة الموزونة المنتظمة، والإبانة الحكيمة البليغة ما يهيؤها للعرض أمام أنظار الملِك العظيم في يوم عيده البهيج وعرضه العام للمخلوقات.. في الربيع الزاهي.. فتنطق بالشهادة على وجود البارئ المصور، والدلالة على أسمائه الحسنى ألسنةٌ عديدة ووجوهٌ كثيرة متداخلة؛ من كل زهرة من أزهار الشجرة، ومن كل ثمرة من ثمارها.

فمثلاً: إنَّ كل ما في الزهرة والثمرة موزونٌ بميزان دقيق، وذلك الميزان مقدَّر وفق تناسق بديع، وذلك التناسق يسير منسجماً مع تنظيمٍ وموازنةٍ يتجددان، وذلك التنظيم والموازنة يجريان في ثنايا زينة فاخرة وصنعة متقنة، وتلك الزينة والإتقان يظهران بروائح ذات مغزى وبمذاقات ذات حكمة.. وهكذا تشير كل زهرة إلى الحكم ذي الجلال إشارات، وتدل عليه دلالات، بعدد أزهار تلك الشجرة. والشجرة التي هي بمثابة كلمة، وثمارُها التي هي بحكم حروف تلك الكلمة، وبذور الثمر كأنها نقاط تلك الحروف التي تضم فهرس الشجرة كاملاً وتحمل خطة أعمالها. هذه الشجرة إذا أخذناها مثالاً وقسنا عليها كتاب الكون الكبير، نرى سطورَه وصحائفه قد صارت بتجلى أنوار اسم «الحكيم الحَكَم» معجزة باهرة، بل غدت كل صحيفة منه، وكل سطر منه، وكل كلمة، وكل حرف، وكل نقطة معجزةٌ تبلغ من العظمة ما لو اجتمعت الأسبابُ المادية كلها على أن تأتي بمثل تلك النقطة -أي البذرة- أو بنظيرها لا تأتي بمثلها. بل تعجز الأسباب جميعُها عجزاً مطلقاً عن معارضتها.

نعم، إن كل آية كونية من آيات قرآن الكون العظيم المنظور تَعرِض للأنظار معجزاتٍ نيّرات هي بعدد نقاطها وحروفها، فلا جرم أن المصادفة العشواء والقوة العمياء، والطبيعة الصماء البلهاء التي لا هدف لها ولا ميزان، لا يمكنها أن تتدخل -في أية جهة كانت- في هذا الميزان المتقن الخاص، وفي هذا الانتظام الدقيق البديع المتّسمين بالحكمة والبصيرة. فلو افتُرض تدخلها -جدلاً- لظهر أثر التدخل، بينما لا يشاهَد في أي مكان تفاوتاً ولا خللاً قط.

النقطة الثانية:

وهي مسألتان:

المسألة الأولى: مثلما وُضّح في «الكلمة العاشرة» أنه من القواعد الأساسية الرصينة: أن الجمال الذي هو في منتهى الكمال لابد أن يَشهَد ويُشهِدَ جمالَه. وأن الكمال الذي هو في منتهى الجمال لابد أن يَشهَد ويُشهِد كمالَه. فبناء على هذا الدستور العام فإن البارئ المصور سبحانه الذي أبدع كتاب الكون العظيم هذا يعرِّف جمالَ كمالِه وكمالَ جمالِه ويحبّبه بألسنةِ مخلوقاته -ابتداء من أصغر جزئي إلى أكبر كلي- فيعرِّف سبحانه ذاتَه المقدَّسة، ويفهّم كمالَه السامي، ويُظهر جمالَه البديع: بهذا الكون الرائع، وبكل صحيفة فيه، وبكل سطر فيه، وبكل كلمة فيه، بل حتى بكل حرف وبكل نقطة من كتابه العظيم هذا.

فيا أيها الغافل! إن هذا «الحكيم الحَكمَ الحاكم» ذا الجلال والجمال، إذ يعرّف نفسَه لك ويحبّبها إليك بكل مخلوقٍ من مخلوقاته، وبهذه الصورة الرائعة وبهذه الكثرة الكاثرة من الوسائل البديعة، إن لم تقابِل تعريفَه هذا بالإيمان به ولم تعرِفه، وإن لم تقابِل تحبيبه هذا بالعبادة له ولم تحبّب نفسَك إليه، فما أعظمَ جهلَك إذن، وما أفدح خسارتك!. احذر!. انتبه!.. وأفِق من غفلتك!.

المسألة الثانية: إنه لا مكان للشرك قط في هذا الكون الشاسع العظيم الذي أبدعه الصانع القدير الحكيم بقدرته وحكمته؛ لأن وجود منتهى النظام في كل شيء لن يسمح بالشرك أبداً، فلو تدخلت أيدٍ متعددة في خلق شيءٍ ما لبان التفاوتُ والاختلال في ذلك الشيء، مثلما تختلط الأمور إذا ما وجد سلطانان في بلد، ومسؤولان في مدينة، ومديران في قصبة، ومثلما يرفض أبسط موظف تدخل أحد في شأن من شؤونه التي تخص وظيفته..

كل ذلك دلالة على أن الخاصة الأساسية للحاكمية إنما هي: «الاستقلال» و«الانفراد» فالانتظام يقتضي الوحدة كما أن الحاكمية تقتضي الانفراد. فإذا كان ظلٌ باهت زائل للحاكمية لدى هذا الإنسان العاجز الفقير يردّ المداخلة بقوة، فكيف بالحاكمية الحقيقية التي هي في مرتبة الربوبية المطلقة لدى القدير المطلق سبحانه؟ ألا تردّ الشرك وترفضه رفضاً باتاً؟.

فلو أُفترض التدخل -ولو بمقدار ذرة- لاختلط الانتظام والتناسق واختلّ النظام والميزان!. مع العلم أن هذا الكون قد أُبدع إبداعاً رائعاً إلى حد يلزم لِخَلْق بذرة واحدة قدرةٌ قادرة على خلق شجرة كاملة، ويلزم لخلق شجرة واحدة قدرة قادرة لإبداع الكون كله. وإذا ما افتُرض وجود شريك في الكون كله وَجَب أن يظهر نصيبهُ في التدخل لخلقِ أصغر بذرة مثلاً -إذ البذرة نموذج الكائنات- وعندئذ يلزم استقرار ربوبيتين -لا يسَعهما الكونُ العظيم- في بذرة صغيرة، بل في ذرة!! وهذا من أسخف المحالات والخيالات الباطلة وأبعدِها عن المنطق والعقل.

فاعلم من هذا، ما أتفهَ الشرك والكفر من خرافة! وما أكذبَهما من كلمة! وما أفظعهما من افتراء! إذ يقتضيان عجز القدير المطلق الذي يمسك السماوات والأرض أن تزولا، والذي بيده مقاليد السماوات والأرض يديرهما بميزان عدله ونظام حكمته.. يقتضيان عجزَه سبحانه حتى في بذرة صغيرة!! واعلم! ما أصوبَ التوحيد من حق وحقيقة! وما أعدلَه من صدق وصواب! أدرك هذا وذاك وقل: الحمد لله على الإيمان.

النقطة الثالثة:

إنَّ الصانع القدير باسمه «الحَكَم والحكيم» قد أدرج في هذا العالم ألوفَ العوالم المنتظمة البديعة، وبوّأ الإنسان -الذي هو أكثرُ من يمثل الحِكَم المقصودة في الكون وأفضل مَن يظهرها- موقعَ الصدارة، وجعله بمثابة مركز تلك العوالم ومحورِها؛ إذ يتطلع ما فيها من حِكَم ومصالح إلى الإنسان. وجعل الرزق بمثابة المركز في دائرة حياة الإنسان؛ فتجد أن معظمَ الحِكَم والغايات وأغلبَ المصالح والفوائد -ضمن عالم الإنسان- تتوجه إلى ذلك الرزق وتتضح به؛ لذا فإن تجليات اسم «الحكيم» تبدو واضحةً بأبهر صورها وأسطعها من خلال مشاعر الإنسان، ومن تضاعيف مذاقات الرزق، حتى غدا كل علم -من مئات العلوم التي توصّل الإنسان إلى كشفها بما يملك من شعور- يُعرِّف تجلياً واحداً من تجليات اسم «الحَكَم» في نوع من الأنواع.

فمثلا: لو سُئل علم الطب: ما هذه الكائنات؟. لأجاب: بأنها صيدلية كبرى أُحضرت فيها بإتقان جميعُ الأدوية وادُّخرَت.

وإذا ما سُئل علم الكيمياء: ما هذه الكرة الأرضية؟. لأجاب: بأنها مختبر كيمياء منتظم بديع كامل.

على حين يجيب علم المكائن: بأنها معمل منسَّق كاملٌ لا ترى فيه نقصاً.

كما يجيب علم الزراعة: بأنها حديقة غنَّاء ومزرعة معطاء، تُستنبت فيها أنواعُ المحاصيل، كلٌّ في أوانه.

ولأجاب علم التجارة: بأنها معرض تجاري فخم، وسوق في غاية الروعة والنظام، ومحل تجاري يحوي أنفس البضائع المصنوعة وأجودَها.

ولأجاب علم الإعاشة: بأنها مستودع ضخم يضم الأرزاق كلها بأنواعها وأصنافها.

ولأجاب علم التغذية: إنها مطبخٌ رباني تُطبخ فيه مئات الألوف من الأطعمة الشهيَّة اللذيذة جنباً إلى جنب بنظام في غاية الإتقان والكمال.

ولو سئل علم العسكرية عن الأرض!. لأجاب: بأنها معسكر مهيب يُساق إليه في كل ربيع جنودٌ مسلحون جُدد يؤلّفون أمماً مختلفة من النباتات والحيوانات يبلغ تعدادها أكثرَ من أربعمائة ألف أمة، فتُنصَب خِيَمُهم في أرجاء سطح الأرض. وعلى الرغم من أن أرزاقَ كلِّ أمَّة تختلف عن الأخرى، وملابسَها متغايرةٌ وأسلحتَها متباينةٌ، وتعليماتِها مختلفةٌ، ورُخَصها متفاوتة، إلّا أن أمورَ الجميع تسير بانتظام رائع، ولوازمَ الجميع تُهيّأ دون نسيان ولا التباس، وذلك بأمر من الله تعالى وبفضل رحمته السابغة صادراً من خزينته الواسعة.

وإذا ما سئل علم الكهرباء! لأجاب: بأن سقف قصر الكون البديع هذا قد زُيِّن بمصابيح متلألئة لا حدَّ لكثرتها ولا منتهى لروعتها وتناسقها، حتى إن النظام البديع والتناسق الرائع الذي فيه يحولان دون انفجار تلك المصابيح السماوية المتوهجة دوماً -وهي تكبر الأرضَ ألف مرة وفي مقدمتها الشمس- ودون انتقاص توازنها أو نشوب حريق فيما بينها..

تُرى من أي مصدرٍ تُغذّى تلك المصابيح التي لا يحد ولا ينفد استهلاكُها؟. ولِمَ لا يختل توازن الاحتراق؟ علماً أن مصباحاً زيتياً صغيراً إن لم يُراعَ ويُعتنَ به باستمرار ينطفئ نورُه ويخبُ.. فسبحانه من قدير حكيم ذي جلال كيف أوقد الشمس التي هي أضخم من الأرض بمليون مرة ومضى على عمرها أكثر من مليون سنة -حسب ما توصل إليه علم الفلك- دون أن تنطفئ ومن دون وقود أو زيت.. (حاشية) إذا ما حُسب ما يلزم مدفأة قصر الكون ومصباحه وهو الشمس كم تحتاج يومياً من الوقود ومن الزيت للإضاءة، نرى أنها بحساب الفلكيين بحاجة إلى مليون ضعف حجم الكرة الأرضية من الوقود و ألوف الأضعاف من حجم البحار من الزيوت. فتأمل في عظمة الخالق القدير ذي الجلال الذي يوقد تلك المدفأة ويشعل ذلك السراج الوهاج من دون وقود ولا زيت، ويشعلها بلا انقطاع. تدبّر في سعة حكمته وطلاقة قدرته، وقل: سبحان الله.. ما شاء الله.. تبارك الله.. بعدد ذرات الشمس. تأمل في هذا وسبّح باسم ربك العظيم وقل: «ما شاء الله، تبارك الله، لا إله إلّا الله».. قُلها بعدد الثواني التي مرت على عمر الشمس.. فلا شك أن نظاماً بديعاً صارماً هو الذي يهيمن على هذه المصابيح السماوية المتلألئة ولابد أن رعايتها، ومراقبتَها دقيقة، حتى كأن مصدرَ الحرارة -والمرجل البخاري- لتلك الكتل النارية التي هي في منتهى الضخامة وفي غاية الكثرة، إنما هي جهنمُ لا تنفد حرارتُها وترسلها إلى الكل مظلمة قاتمة بلا نور. وكأن ماكنة تلك المصابيح المنورة والقناديل المضيئة التي لا تعد ولا تحصى هي جنةٌ دائمة يرسل إليها النور والضياء فيستمر اشتعالها المنتظم بالتجلي الأعظم لاسم «الحكم والحكيم».

وهكذا قياساً على هذه الأمثلة، فإن كل علمٍ من مئات العلوم يشهد قطعاً: أن هذا الكون قد زُيِّن بحِكَمٍ ومصالحَ شتى ضمن انتظام كامل لا نقص فيه، وأن تلك الأنظمة البديعة والحِكَم السامية النابعة من تلك الحكمة المعجزة المحيطة بالكون قد أُدرجت بمقياس أصغر، حتى في أصغر كائن حي وفي أصغر بذرة..

ومن المعلوم بداهة أن تتبعَ الغاياتِ وإردافَ الحِكَم والفوائد بانتظام لا يحصل إلّا بالإرادة والاختيار والقصد والمشيئة، وإلّا فلا. فكما أن هذا العمل البديع ليس هو من شأن الأسباب والطبيعة -اللتين لا تملكان إرادةً ولا اختياراً ولا قصداً ولا شعوراً- فلن يكون لهما تدخلٌ فيه كذلك؛ لذا فما أجهلَ مَن لا يعرف أو لا يؤمن بالفاعل المختار وبالصانع الحكيم الذي تدل عليه هذه الأنظمةُ البديعة والحِكَم الرفيعة التي لا حدَّ لها وهي مبثوثة في موجودات الكون قاطبة.

نعم، إنْ كان هناك شيء يُستَغرب منه ويُثير عند الإنسان العَجب في هذه الدنيا فإنما هو: إنكارُ وجوده سبحانه؛ لأن الانتظام بأنواعه البديعة التي لا تعد والحِكَم بأشكالها السامية التي لا تحصى والمندرجة في كل موجود في الكون شواهدُ صادقة على وجوب وجوده سبحانه وعلى وحدانيته.. فبُعداً لعمىً ما بعده عمى! وسُحقاً لجهلٍ ما بعده جهل لمن لا يرى هذا الرب الحكيم سبحانه! حتى يمكنني القول: إن السوفسطائيين الذين يُعَدّون حمقى لإنكارهم وجود الكون، هم أعقلُ أهلِ الكفر؛ لأن الاعتقاد بوجود الكون ومن بعده إنكارُ خالقه -وهو الله سبحانه- غير ممكن قطعاً، ولا يُقبل أصلاً، لذا بدأوا بإنكار الكون وأنكروا وجودهم أيضاً، وقالوا: لا شيء موجود على الإطلاق. فأبطلوا عقولهم، وأنقذوا أنفسهم باقترابهم شيئاً إلى العقل من متاهة الحماقة غير المتناهية للمنكرين الجاحدين الحمقى المتسترين تحت ستار العقل!

النقطة الرابعة:

مثلما أُشير في «الكلمة العاشرة» إلى أنه: إذا ما شيَّد معماريٌ بارع حكيم قصراً منيفاً، وأودع في كل حجر من أحجاره مئات الحِكَم والمصالح والفوائد، فلا يتصور مَن له شعور أن لا يبني له سقفاً يحفظه من البلى والفساد؛ لأن هذا يعني تعريض البناء للعدم والتلف وضياع تلك الفوائد والحكم التي كان يرعاها ويتولاها، وهذا ما لا يرضى به ذو شعور. أو أن حكيماً مطلقاً يُنشئ من درهم من البذور مئات الأطنان من الفوائد والحكم والغايات، ويتعقبها ويديرها، لا يمكن أن يَتَصور مَن له عقل صدور العبث والإسراف المنافيين كلياً للحكمة المطلقة من ذلك الحكيم المطلق فيقلّد الشجرة الضخمة فائدة جزئية، وغاية تافهة وثمرة قليلة، علماً أنه ينفق لإنشائها وإثمارها الكثير!..

نعم، فكما لا يمكن أن يتصور هذا أو ذاك عاقلٌ قط، كذلك لا يمكن أن يتصور مَن له مسكةُ عقل أن يصدُر من الصانع الحكيم العبثُ والإسراف بعدم إتيان الآخرة وبعدم إقامته الحشر والقيامة بعد أن قلَّد كل موجود في قصر الكون هذا مئاتٍ من الحكم والمصالح وجهّزه بمئاتِ الوظائف -حتى إنه قلَّد كل شجرة حِكماً بعدد ثمارها ووظائفَ بعدد أزهارها- فلا يمكن أن يتوارد على خاطر عاقل أن يضيّع هذا الحكيمُ الجليل جميعَ هذه الحِكم والمقاصد وجميعَ هذه الوظائف بعدم إقامته القيامة والآخرة. إذ يعني هذا إسنادَ العجز التام إلى قدرة القدير المطلق، وتنسيبَ العبث والضياع إلى الحكمة البالغة للحكيم المطلق، وإرجاعَ القبح المطلق إلى جمال رحمة الرحيم المطلق، وإسنادَ الظلم المطلق إلى العدالة التامة للعادل المطلق، أي إنكارَ كل من الحكمة والرحمة والعدالة الظاهرة المشاهدة، إنكارَها كلياً من الوجود! وهذا من أعجب المحالات وأشدها سخفاً وأكثرها بطلاناً!.

فليأتِ أهل الضلالة، ولينظروا إلى ضلالتهم كيف أنها مظلمةٌ مليئة بالعقارب والحيات كقبورهم التي سيصيرون إليها! وليدركوا أن طريق الإيمان بالآخرة منوَّرٌ جميل كالجنة فليسلكوه ولينعَموا بالإيمان.

النقطة الخامسة:

وهي مسألتان:

المسألة الأولى: إنَّ تعقبَ الصانع الجليل – بمقتضى اسم «الحكيم» لألطف صورة في كل شيء وأقصر طريق، وأسهل طراز، وأنفع شكل.. يدل دلالة واضحة على أن الفطرة لا إسراف فيها قط ولا عبث، فما من شيء إلّا وفيه نفعَه وجدواه، وإن الإسراف مثلما ينافي اسم «الحكيم» فالاقتصاد لازمُه ومقتضاه ودستوره الأساس.

فيا أيها المسرف المبذّر! اعلم مدى مجانبتك الحقيقةَ بقعودك عن تطبيق أعظم دستور للكون المبني على الاقتصاد. وتدبّر الآية الكريمة: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا (الأعراف:31) لتعلم مدى رسوخ الدستور الواسع الشامل الذي ترشد إليه.

المسألة الثانية: يصح أن يقال: إنَّ اسم الله «الحكم والحكيم» يقتضيان بداهة نبوة محمد ﷺ ورسالته، ويدلان عليها ويستلزمانها.

نعم، مادام الكتابُ البليغ بمعانيه ومراميه، يقتضي بالضرورة معلماً بارعاً لتدريسه.. والجمالُ الفائق يقتضي مرآةً يتراءى فيها، ويُري بها جمالَه وحُسنه.. والصنعةُ البديعة تستدعي منادياً داعياً إليها.. فلابد أن يوجد بين بني البشر الذي هو موضع خطاب كتاب الكون الكبير المتضمن مئات المعاني البليغة والحِكَم الدقيقة في كل حرف من حروفه، أقول: لابد أن يوجد رائدٌ أكمل، ومعلمٌ أكبر، ليرشدَ الناس إلى ما في ذلك الكتاب الكبير من حِكم مقدّسة حقيقية.. وليعلّمَ وجود الحِكَم المبثوثة في أرجائه ويدل عليها.. وليكون مبعث ظهور المقاصد الربانية في خلق الكون، بل السبب في حصولها.. وليرشدَ إلى ما يريد الخالق إظهارَه من كمال صنعته البديعة، وجمال أسمائه الحسنى، فيكون كالمرآة الصافية لذلك الكمال البديع والجمال الفائق.. ولينهضَ بعبودية واسعة -باسم المخلوقات قاطبة- تجاه مظاهر الربوبية الواسعة، مثيراً الشوقَ وناثراً الوجدَ في الآفاق براً وبحراً ملفتاً أنظار الجميع إلى الصانع الجليل بدعوةٍ ودعاء، وتهليل وتسبيح وتقديس، ترنّ به أرجاء السماوات والأرض.. وليقرع أسماعَ جميع أرباب العقول بما يلقّنه من دروس مقدسة سامية وإرشادات حكيمة من القرآن الحكيم.. وليبيّن بأجمل صورة وأجلاها بالقرآن العظيم المقاصد الإلهية لذلك الصانع الحكم الحكيم.. وليستقبل بأكمل مقابلة وأتمّها مظاهرَ الحكمة البالغة والجمال والجلال المتجلية في الآفاق. فإنسانٌ هذه مهمتُه، إنسان ضروري وجودُه، بل يستلزمه هذا الكون، كضرورة الشمس ولزومها له.

فالذي يؤدي هذه المهمات، وينجز هذه الوظائف على أتم صورة ليس إلّا الرسول الأكرم ﷺ كما هو مشاهَد؛ لذا فكما تستلزم الشمسُ الضوءَ، ويستلزم الضوءُ النهارَ، فالحِكَم المبثوثة في آفاق الكون وجنباته تستلزم نبوةَ محمد ﷺ ورسالته.

نعم، مثلما يقتضي التجلي الأعظم لاسم «الحَكم والحكيم» -في أوسع مداه- الرسالة الأحمدية، فإن أغلب الأسماء الحسنى؛ «الله، الرحمن، الرحيم، الودود، المنعم، الكريم، الجميل، الرب» وأمثالَها، تستلزم الرسالة الأحمدية في أعظم تجلياتها وإحاطتها بالكون كله، استلزاماً قاطعاً لا ريب فيه.

فمثلاً: إنَّ الرحمة الواسعة التي هي تجلي اسم «الرحمن» تظهر بوضوح بمَن هو رحمة للعالمين.. وإن التحبب الإلهي، والتعرف الرباني -اللذين هما من تجليات اسم «الودود»- يفضيان إلى نتيجتهما ويجدان المقابلة بحبيب رب العالمين.. وإن جميع أنواع الجمال: من جمال الذات إلى جمال الأسماء، وجمال الصنعة والإتقان، وجمال المصنوعات والمخلوقات، كل أنواع الجمال -التي هي تجلٍ من تجليات اسم الجميل- تشاهَد في تلك المرآة الأحمدية، وتُشهد بها.. بل حتى تجليات عظمة الربوبية، وهيمنة سلطنة الألوهية إنما تُعرف برسالة هذا الداعية العظيم إلى سلطان الربوبية وتتبين بها، وتُفهم عنها، وتُصدّق بها.. وهكذا فأغلب الأسماء الحسنى إنما هي برهان باهر على الرسالة الأحمدية كما مر آنفاً..

نحصل مما سبق: أنه ما دام الكون موجوداً بالفعل ولا يمكن إنكاره، فلا يمكن أن يُنكَر كذلك ما هو بمثابة ألوانِه وزينته، وضيائه وإتقانه، وأنواع حياته، وأشكال روابطه من الحقائق المشهودة، كالحكمة، والعناية، والرحمة، والجمال، والنظام، والميزان، والزينة، وأمثالها من الحقائق.. فمادام لا يمكن إنكار هذه الصفات والأفعال، فلا يمكن إنكار موصوف تلك الصفات، ولا يمكن إنكار فاعل تلك الأفعال وشمس تلك الأضواء، أعني ذات الله الأقدس جلّ جلالُه الواجب الوجود، الذي هو «الحكيم، الرحيم، الجميل، الحكم، العدل».. وكذا لا يمكن إنكارُ مَن هو مدارٌ لظهور تلك الصفات والأفعال، بل مَن هو مدارٌ لعرض كمالاتها، بل تحقق تجلياتها، ذلكم الرسول الكريم محمد ﷺ، الرائد الأكبر، والمعلم الأكمل، والداعية الأعظم، وكشاف طلسم الكائنات، والمرآة الصمدانية، وحبيب الرحمن.. فلا يمكن إنكار رسالته قطعاً، لأنها أسطع نور في هذا الكون كسطوع ضياء عالم الحقيقة ونور حقيقة الكائنات.

عليه وعلى آله وصحبه الصلاة والسلام بعدد عاشرات الأيام وذرات الأنام.

 ﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ