الرمز الرابع:

لقد بُيّنت في الخاصة الثامنة والعشرين من الحياة:

أنَّ الحياة تثبت أركان الأيمان الستة وتنـظر إليها وتتوجه نحـوها، وتشير إلى تحقيقها.

نعم، فما دامت «الحياة» هي حكمة خلق الكائنات، وأهمُ نتيجتها وخميرتها، فلا تنحصر تلك الحقيقة السامية في هذه الحياة الدنيا الفانية القصيرة الناقصة المؤلمة، بل إنَّ غاية شجرة الحياة ونتيجتَها وثمرتها -والتي فُهِم عظمتُها وماهيتها بالخواص التسع والعشرين- ما هي إلّا الحياة الأبدية والآخرة والحياة الحية بحجرها وترابها وشجرها في دار السعادة الخالدة. وإلّا يلزم أن تظل شجرةُ الحياة المجَهّزة بهذه الأجهزة الغزيرة المتنوعة في ذوي الشعور -ولاسيما الإنسان- دون ثمر ولا فائدة، ولا حقيقة. ولظل الإنسانُ تعساً وشقياً وذليلاً وأحطّ من العصفور بعشرين درجة -بالنسبة لسعادة الحياة- مع أنه أسمى مخلوق، وأكرمُ ذوي الحياة وأرفع من العصفور بعشرين درجة، من حيث الأجهزة ورأس مال الحياة.

بل يصبح العقل الذي هو أثمنُ نعمةٍ بلاءً ومصيبة على الإنسان بتفكره في أحزان الزمان الغابر ومخاوف المستقبل فيعذّب قلبَ الإنسان دائماً معكراً صفو لذةٍ واحدة بتسعة آلام!. ولا شك أن هذا باطل مائة في المائة. فهذه الحياة الدنيا إذن تثبت ركن الإيمان بالآخرة إثباتاً قاطعاً بما تظهر لنا في كل ربيع أكثرَ من ثلاثمائة ألف نموذج من نماذج الحشر.

فيا ترى هل يمكن لربٍّ قدير، يهيئ ما يلزم حياتَك من الحاجات المتعلقة بها جميعاً ويوفّر لك أجهزتَها كلها سواءً في جسمك أو في حديقتك، أو في بلدك، ويرسله في وقته المناسب بحكمة وعناية ورحمة، حتى إنه يعلم رغبةَ معدتك فيما يكفُل لك العيش والبقاء، ويسمع ما تهتف به من الدعاء الخاص الجزئي للرزق مُبدياً قبولَه لذلك الدعاء بما بثّ من الأطعمة اللذيذة غير المحدودة ليُطمئِن تلك المعدة! فهل يمكن لهذا المتصرف القدير أنْ لا يعرفك؟ ولا يراك؟ ولا يهيئ الأسبابَ الضرورية لأعظم غاية للإنسان وهي الحياة الأبدية؟؟ ولا يستجيبَ لأعظمِ دعاءٍ وأهمِّه وأعمّه، وهو دعاءُ البقاء والخلود؟ ولا يقبلَه بعدم إنشائه الحياة الآخرة وإيجاد الجنة؟ ولا يسمعَ دعاء هذا الإنسان -وهو أسمى مخلوق في الكون بل هو سلطان الأرض ونتيجتُها- ذلك الدعاء العام القوي الصادر من الأعماق، والذي يهزّ العرش والفرش! فهل يمكن أن لا يهتم به اهتمامَه بدعاء المعدة الصغيرة ولا يُرضي هذا الإنسان؟ ويعرّض حكمتَه الكاملة ورحمته المطلقة للإنكار؟؟ كلا.. ثم كلا ألف ألف مرة كلا.

وهل يعقل أن يسمع أخفتَ صوتٍ لأدنى جزءٍ من الحياة فيستمع لشكواه ويسعفه، ويحلم عليه ويربيه بعناية كاملة ورعاية تامة وباهتمام بالغ مسخِّراً له أكبر مخلوقاته في الكون، ثم لا يسمع صوتاً عالياً كهزيم الرعد لأعظم حياة واسماها وألطفها وأدومها؟ وهل يعقل: ألّا يهتم بدعائه المهم جداً -وهو دعاء البقاء- وألّا ينظر إلى تضرعه ورجائه وتوسله؟ ويكون كَمَن يجـهّز -بعنـاية كاملة- جندياً واحداً بالعتاد، ولا يرعى الجيش الجرار الموالي له!! وكمَن يـرى الذرة ولا يرى الشمس! أو كمن يسمع طنين البعوضة ولا يسمع رعود السماء! حاشَ لله مائة ألف مرة حاشَ لله.

وهل يقبل العقل -بوجه من الأوجه- أنَّ القدير الحكيم ذا الرحمة الواسعة وذا المحبة الفائقة وذا الرأفة الشاملة والذي يحب صنعتَه كثيراً، ويحبّب نفسَه بها إلى مخلوقاته وهو أشدّ حباً لمن يحبونه، فهل يعقل أن يُفْني حياة مَن هو أكثرُ حباً له، وهو المحبوب، وأهلٌ للحب، والذي يعبد خالقَه فِطرةً؟ ويُفني كذلك لبَّ الحياة وجوهرها وهو الروح، بالموت الأبدي!! ويسبب جفوةً بينه وبين محبِّه ومحبوبه ويؤلمه أشدَّ الإيلام! فيجعل سر رحمته ونور محبته معرّضاً للإنكار! حاشَ لله ألف مرة حاشَ لله…

فالجمالُ المطلق الذي زيّن بتجلّيه هذا الكون وجمّله، والرحمةُ المطلقة التي أبهجت المخلوقاتِ قاطبةً وزيّنتها، لابد أنهما منزّهتان ومقدستان بلا نهاية ولا حدّ، عن هذه القساوة وعن هذا القبح المطلق والظلم المطلق.

النتيجة: مادامت في الدنيا حياةٌ، فلابد أن الذين يفهمون سر الحياة من البشر، ولا يسيؤون استعمال حياتهم، يكونون أهلاً لحياة باقية، في دار باقية وفي جنة باقية.. آمنا.

ثم، إن تلألؤَ المواد اللماعة على سطح الأرض بانعكاسات ضوء الشمس، وتلمّعَ الفقاعات والحَباب والزَبَد على سطح البحر، ثم انطفاء ذلك التلألؤ والبريق بزوالها ولمعان الفقاعات التي تعقبها -كأنها مرايا لشُمَيساتٍ خيالية- يُظهر لنا بداهة أن تلك اللمعات ما هي إلّا تجلي انعكاس شمسٍ واحدة عالية. وتذكُر بمختلف الألسنة وجود الشمس، وتشير إليها بأصابع من نور… وكذلك الأمر في تلألؤ ذوي الحياة على سطح الأرض، وفي البحر، بالقدرة الإلهية وبالتجلي الأعظم لاسم «المحيي» للحي القيوم جلّ جلاله، واختفائها وراء ستار الغيب لفسح المجال للذي يخلفها -بعد أن ردّدت يا حي- ما هي إلّا شهاداتٌ وإشارات للحياة السرمدية ولوجوب وجود «الحي القيوم» سبحانه وتعالى.

وكذا، فإن جميعَ الدلائل التي تشهد على العلم الإلهي الذي تُشاهَد آثارُه من تنظيم الموجودات، وجميعَ البراهين التي تثبت القدرة المصرّفة في الكون، وجميعَ الحجج التي تثبت الإرادة والمشيئة المهيمنة على إدارة الكون وتنظيمه، وجميعَ العلامات والمعجزات التي تثبت الرسالات التي هي مدار الكلام الرباني والوحي الإلهي.. وهكذا جميعُ الدلائل التي تشهد وتدلّ على الصفات الإلهية السبع الجليلة، تدل -وتشهد أيضاً- بالاتفاق على حياة «الحي القيوم» سبحانه، لأنه: لو وُجدت الرؤيةُ في شيء فلابد أن له حياة أيضاً، ولو كان له سمعٌ فذلك علامة الحياة، ولو وجد الكلامُ فهو إشارة على وجود الحياة، ولو كان هناك الاختيار والإرادة فتلك مظاهرُ الحياة، كذلك فإن جميعَ دلائل الصفات الجليلة التي تشاهَد آثارُها ويُعلَم بداهة وجودُها الحقيقي، أمثال القدرة المطلقة، والإرادة الشاملة، والعلم المحيط، تدل على حياة «الحي القيوم» ووجوب وجوده، وتشهد على حياته السرمدية التي نوّرَتْ -بشعاعٍ منها- جميعَ الكون وأحيَت -بتجلٍ منها- الدار الآخرة كلها بذراتها معاً.

* * *

والحياة كذلك تنظر إلى الركن الإيماني «الإيمان بالملائكة» وتدل عليه وتثبته رمزاً. لأن: الحياة ما دامت هي أهمُّ نتيجةٍ للكون، وأن ذوي الحياة -لنفاستهم- هم أكثر انتشاراً وتكاثراً، وهم الذين يتتابعون إلى دار ضيافة الأرض قافلةً إثر قافلة، فتعمَّر بهم وتبتهج.. وما دامت الكرة الأرضية هي محط هذا السيل من أنواع ذوي الحياة، فتُملأ وتُخلى بحكمة التجديد والتكاثر باستمرار، ويُخلق في أخس الأشياء والعفونات ذوو حياةٍ بغزارة، حتى أصبحت الكرة الأرضية معرضاً عاماً للأحياء.. وما دام يُخلق بكثرة هائلة على الأرض أصفى خلاصة لترشح الحياة وهو الشعور والعقل والروح اللطيفة ذات الجوهر الثابت، فكأن الأرض تحيا وتتجمل بالحياة والعقل والشعور والأرواح.. فلا يمكن أن تكون الأجرام السماوية التي هي أكثر لطافةً وأكثر نوراً وأعظمُ أهميةً من الأرض جامدةً ودون حياة وبلا شعور.

إذن فالذين سيعمِّرون السماوات ويبهجون الشموس والنجوم، ويهبون لها الحيوية، ويمثلون نتيجة خلق السماوات وثمرتها، والذين سيتشرفون بالخطابات السبحانية، هم ذوو شعورٍ وذوو حياة من سكان السماوات وأهاليها المتلائمين معها حيث يوجدون هناك بسرّ الحياة.. وهم الملائكة.

* * *

وكذلك ينظر سرُّ ماهية الحياة ويتوجه إلى «الإيمان بالرسل» ويثبته رمزاً.

نعم، فما دام الكون قد خُلق لأجل الحياة وأن الحياة هي أعظمُ تجلٍ وأكمل نقش وأجمل صنعة للحي القيوم جلّ جلاله، وما دامت حياتُه السرمدية الخالدة تظهر وتكشف عن نفسها بإرسال الرسل وإنزال الكتب. إذ لو لم يكن هناك رسل ولا كتب لما عُرفت تلك الحياة الأزلية، فكما أن تكلّم الفرد يبين حيويته وحياته كذلك الأنبياء والرسل عليهم السلام والكتب المنـزَلة عليهم، يبيّنون ويدلّون على ذلك المتكلم «الحي» الذي يأمر وينهى بكلماته وخطـاباته من وراء الغيب المحجوب وراء ستار الكون. فلابد أن الحياة التي في الكون كما أنها تدل -بصورة قاطعة- على «الحي» الأزلي سبحانه وتعالى وعلى وجوب وجوده، تدل كذلك على أركان الإيمان مثل «إرسال الرسل» و«إنزال الكتب» الذان هما شعاعات تلك الحياة الأزلية وتجلياتها وارتباطاتها وعلاقاتها وتثبتهما رمزاً، ولاسيما الرسالة المحمدية و الوحي القرآني. إذ يصح القول، أنهما ثابتان قاطعان كقطعية ثبوت تلك الحياة، حيث إنهما بمثابة روح
الحياة وعقلها.

نعم، كما أن الحياة هي خلاصة مترشحة من هذا الكون، والشعور والحس مترشحان من الحياة، فهما خلاصتها، والعقل مترشح من الشعور والحس، فهو خلاصة الشعور، والروح هي الجوهر الخالص الصافي للحياة، فهي ذاتُها الثابتة المستقلة.. كذلك الحياة المحمدية -المادية والمعنوية- مترشحةٌ من الحياة ومن روح الكون فهي خلاصة زبدتها، والرسالة المحمدية كذلك مترشحة من حسّ الكون وشعورِه وعقله، فهي أصفى خلاصته، بل إن حياة محمد ﷺ -المادية والمعنوية- بشهادة آثارها حياةٌ لحياة الكون، والرسالة المحمدية شعور لشعور الكون ونور له. والوحي القرآني -بشهادة حقائقه الحيوية- روح لحياة الكون وعقل لشعوره.. أجل.. أجل.. أجل.

فإذا ما فارق نورُ الرسالة المحمدية الكونَ وغادره مات الكون وتوفيت الكائنات، وإذا ما غاب القرآن وفارق الكون، جَنّ جنونه وفَقَدت الكرة الأرضية صوابَها، وزال عقلُها، وظلت دون شعور، واصطدمت بإحدى سيارات الفضاء، وقامت القيامة.

* * *

والحياة -كذلك- تنظر إلى الركن الإيماني «القدر» وتدل عليه وتثبتُه رمزاً، إذ ما دامت الحياةُ ضياءً لعالم الشهادة وقد استولت عليه وأحاطت به، وهي نتيجةُ الوجود وغايته، وأوسعُ مرآةٍ لتجليات خالق الكون، وأتمُّ فهرسٍ ونموذج للفعالية الربانية حتى كأنها بمثابة نوعٍ من خطتها ومنهجها -إذا جاز التشبيه- فلابد أن سر الحياة يقتضي أن يكون عالم الغيب أيضاً -وهو بمعنى الماضي والمستقبل- أي المخلوقات الماضية والقابلة، في حياة معنوية، أي في نظام وانتظام، وأن يكون معلوماً ومشهوداً ومتعيّناً ومتهيأً لامتثال الأوامر التكوينية. مَثَلُها كمثل تلك البذرة الأصلية للشجرة وأصولها، والنوى والأثمار التي في منتهاها، التي تتميز بمزايا نوعٍ من الحياة كالشجرة نفسها، بل قد تحمل تلك البذور قوانينَ حياتية أدق من قوانين حياة الشجرة.

وكما أن البذور والأصول التي خلفها الخريفُ الماضي، وما سيخلفه هذا الربيع -بعد إدباره- من البذور والأصول، تحمل نور الحياة، وتسير وفق قوانين حياتية، مثل ما يحمله هذا الربيع من الحياة، فكذلك شجرة الكائنات، وكلُّ غصن منها وكلُّ فرعٍ، له ماضيه ومستقبله، وله سلسلة مؤلفة من الأطوار والأوضاع، القابلة والماضية، ولكل نوعٍ ولكلّ جزء منه وجودٌ متعدد بأطوار مختلفة في العلم الإلهي، مشكّلاً بذلك سلسلة وجود علمي. والوجود العلمي هذا، الشبيه بالوجود الخارجي هو مظهرٌ لتجلٍ معنوي للحياة العامة، حيث تُؤخذُ المقدَّرات الحياتية من تلك الألواح القَدَرية الحية ذات المغزى العظيم.

نعم، إن امتلاء عالم الأرواح -الذي هو نوع من عالم الغيب- بالأرواح التي هي عينُ الحياة، ومادتها، وجوهرها، وذواتها، يستلزم أن يكون الماضي والمستقبل -اللذان هما نوع من عالم الغيب وقسم ثان منه- متجلية فيهما الحياة. وكذا فإن الانتظام التام والتناسق الكامل في الوجود العلمي الإلهي لأوضاع ذات معانٍ لطيفة لشيء ما ونتائجَه وأطوارَه الحيوية ليبين أن له أهلية لنوع من الحياة المعنوية.

نعم، إن مثل هذا التجلي -تجلي الحياة- الذي هو ضياء شمس الحياة الأزلية لن ينحصر في عالم الشهادة هذا فقط، ولا في هذا الزمان الحاضر، وفي هذا الوجود الخارجي، بل لابد أن لكلِّ عالَمٍ من العوالم مظهراً من مظاهر تجلّي ذلك الضياء حسب قابليته.

فالكونُ إذن -بجميع عوالمه- حيٌ ومشعٌ مضيئ بذلك التجلي وإلّا لأصبح كلٌّ من العوالم -كما تراه عينُ الضلالة- جنازةً هائلة مخيفة تحت هذه الحياة الموقتة الظاهرة، وعالَماً خرباً مظلماً.

وهكذا يُفهم وجهٌ واسع من أوجه الإيمان بالقضاء والقدر من سر الحياة ويثبت به ويتضح. أي كما تَظهر حيويةُ عالمٍ الشهادة والموجودات الحاضرة بانتظامها وبنتائجها، كذلك المخلوقات الماضية والآتية التي تعدّ من عالم الغيب لها وجودٌ معنوي، ذو حياة معنىً، ولها ثبوتٌ علمي ذو روح، بحيث يظهر -باسم المقدرات- أثر تلك الحياة المعنوية بوساطة لوح القضاء والقدر.

الرمز الخامس:

لقد ذُكر في الخاصية السادسة عشرة من خصائص الحياة أنه ما إن تنفذ الحياةُ في شيء حتى تصيّره عالَماً بحدّ ذاته؛ إذ تمنحه من الجامعية ما يجعله كلاًّ إن كان جزءاً، وما يجعله كلياً إنْ كان جزئياً؛ فالحياة لها من الجامعية بحيث تعرض في نفسها أغلبَ الأسماء الحسنى المتجلية على الكائنات كلها، وكأنها مرآة جامعة تعكس تجليات الأحدية. فحالما تدخل الحياةُ في جسم تعمل على تحويله إلى عالم مصغّر، لكأنها تحيله بمثابة بذرة حاملة لفهرس شجرة الكائنات، وكما لا يمكن أن تكون البذرةُ إلّا أثر قدرةِ خالقِ شجرتها، كذلك الذي خلق أصغرَ كائن حي لابد أنه هو خالق الكون كله.

فهذه الحياة بجامعيتها هذه تُظهر في نفسها أخفى أسرار الأحدية وأدقّها. أي كما أن الشمس العظيمة توجد بضيائها وألوانها السبعة وانعكاساتها في ما يقابلها من قطرة ماء أو قطعة زجاج، كذلك الأمر في كل ذي حياة الذي تتجلى فيه جميعُ تجليات الأسماء الحسنى وأنوارُ الصفات الإلهية المحيطة بالكون. فالحياة -من هذه الزاوية- تجعل الكون من حيث الربوبية والإيجاد بحكم الكلّ الذي لا يقبل الانقسام والتجزئة، وتجعله بحكم الكلّي الذي تمتنع عليه التجزئة والاشتراك.

نعم، إن الختم الذي وَضَعه الخالقُ سبحانه على وجهك يدل بالبداهة على أن الذي خلقك هو خالقُ بني جنسك كلهم؛ ذلك لأن الماهية الإنسانية واحدة، فانقسامها غير ممكن. وكذلك الأمر في أجزاء الكائنات! إذ تتحول بوساطة الحياة كأنها أفراد الكائنات، والكائنات كأنها نوع لتلك الأفراد.

فكما تُظهر الحياةُ ختمَ الأحدية على مجموع الكون فإنها تردّ الشرك والاشتراك وترفضه رفضاً باتاً بإظهارها ختم الأحدية نفسِه وختم الصمدية على كل جزء من أجزاء الكون.

ثم إن في الحياة من خوارق الصنعة الربانية ومعجزات الإبداع الباهر بحيث إنه مَن لم يكن قادراً على خلق الكون يعجز كلياً عن خلق أصغر كائن حي فيه.

نعم، إن القلم الذي كتب فهرس شجرة الصنوبر الضخمة ومقدّراتها في بذرتها الصغيرة -ككتابة القرآن مثلاً على حبة حمص- هو ذلك القلم نفسُه الذي رصّع صفحات السماء بلآلئ النجوم. وأن الذي أدرج في رأس النحل الصغير استعداداً يمكّنها من معرفة أزهار حدائق العالم كله، وتقدِر على الارتباط مع أغلبها بوشائج، ويجعلها قادرة على تقديم ألذّ هدية من هدايا الرحمة الإلهية -وهي العسل- ويدفعها إلى معرفة شرائط حياتها منذ أول قدومها إلى الحياة لا شك أنه هو خالق الكون كله وهو الذي أودع هذا الاستعداد الواسع والقابلية العظيمة والأجهزة الدقيقة فيها .

الخلاصة: إنَّ الحياة آيةُ توحيد ساطعة تسطع على وجه الكائنات، وأن كل ذي روح -من جهة حياته- آية للأحدية، وإن الصنعة المتقنة الموجودة على كل فرد من الأحياء ختمٌ للصمدية، وبهذا فجميعُ ذوي الحياة يصدّقون ببصمات حياتهم رسالةَ الكون هذه ويعلنون أنها من «الحي القيوم الواحد الأحد».. فكل منها ختمٌ للوحدانية في تلك الرسالة فضلاً عن أنها ختمٌ للأحدية وعلامة الصمدية. فكما أن الأمر هكذا في الحياة، فكل كائن حي أيضاً ختم للوحدانية في كتاب الكون؛ كما قد وُضع على وجهه وسيماه ختمَ الأحدية.

نعم، إن الحياة بعدد جزئياتها وبعدد أفرادها الحية أختامٌ وبصماتٌ حية تشهد على وحدانية «الحي القيوم» مثلما أن فعل البعث -الإحياء- أيضاً يختم بأختام التصديق على التوحيد بعدد الأفراد من الأحياء. فإحياءُ الأرض الذي هو مثال واحد على البعث هو شاهدُ صدقٍ ساطع على التوحيد كالشمس، لأن بعث الأرض في الربيع وإحياءها يعني بعث أفراد لا تعد ولا تحصى لأنواع الأحياء التي تربو على ثلاثمائة ألف نوع، فتُبعث جميعاً معاً من دون نقص ولا قصور بعثاً متداخلاً متكاملاً منتظماً. فالذي يفعل بهذا الفعل أفعالاً منتظمة لا حدود لها فإنه هو خالق المخلوقات جميعها، وأنه «الحي القيوم» الذي يحيي ذوي الحياة قاطبة، وأنه الواحد الأحد الذي لا شريك له في ربوبيته قط.

اكتفينا بهذا القدر القليل المختصر من بسط خواص الحياة محيلين بيان الخواص الأخرى وتفصيلاتها إلى أجزاء «رسائل النور» وفي وقت آخر.

الخاتمة

إن الاسم الأعظم ليس واحداً لكل أحد، بل يختلف ويتباين، فمثلاً: لدى الإمام علي رضي الله عنه هو ستة أسماء حسنى هي: «فردٌ، حيٌ، قيومٌ، حكمٌ، عدلٌ، قدوسٌ».. ولدى أبي حنيفة النعمان رضي الله عنه اسمان هما: «حَكَمٌ عدلٌ».. ولدى الشيخ الكيلاني قُدس سره هو اسم واحد: «يا حيّ».. ولدى الإمام الرباني (احمد الفاروقي السرهندي) رضي الله عنه هو: «القيومُ».. وهكذا، فلدى الكثيرين من العظماء الأفذاذ أسماء أخرى هي الاسم الأعظم عندهم.

ولما كانت هذه النكتة الخامسة تخص اسم الله «الحي» وقد أظهر الرسول الأعظم ﷺ في مناجاته الرفيعة المسماة بـ«الجوشن الكبير» معرفَته الجامعة السامية لله إظهاراً يليق به وحده؛ لذا نذكر من تلك المناجاة شاهداً ودليلاً وحجةً وتبركاً ودعاء مقبولاً وخاتمة حسنةً لهذه الرسالة، فنذهب خيالاً إلى ذلك الزمان ونقول: آمين.. آمين على ما يقوله الرسول الكريم ﷺ، فنردد المناجاة نفسها على أصداء ذلك القول النبوي الكريم:

يَا حَيُّ قَبْلَ كُلِّ حَيّ * يَا حَيُّ بَعدَ كُلِّ حَيّ

يَا حَيُّ الَذي لا يُشْبِهُهُ شَيءٌ * يَا حَيُّ الَذي لَيسَ كَمِثلِهِ حَيٌّ

يَا حَيُّ الَذي لا يُشَارِكُهُ حَيٌّ * يَا حَيُّ الَذي لا يَحتَاجُ إلى حَيٍّ

يَا حَيُّ الَذي يمُيتُ كُلَّ حَيٍّ * يَا حَيُّ الَذي يَرْزُقُ كُلَّ حَيٍّ

يَا حَيُّ الَذِي يُحْيي المَوتَى * يَا حَيُّ الَذي لا يمَوتُ

سُبْحَانَكَ يَا لَا إلهَ إلّا أنْتَ الأمَانَ الأمَانَ نَجِّنَا مِنَ النَّارِ.. آمين.

 ﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ