المسألة الثانية:

هذا المقام يقتضي الإشارة إلى قسم من فوائد الأشياء وحِكَمها المرتبطة بسر القيومية:

إن حكمة وجود كل شيء، وغايةَ فطرته، وفائدةَ خلقه، ونتيجة حياته -كلاً منها- إنما هي على أنواع ثلاثة.

النوع الأول: وهو المتوجه إلى نفسه وإلى الإنسان ومصالحه.

النوع الثاني: (وهو الأهم من الأول): هو أن كل شيء في الوجود بمثابة آيةٍ جليلة، ومكتوبٍ رباني، وكتاب بليغ، وقصيدة رائعة، يستطيع كلُّ ذي شعور أن يطالعَها ويتعرّف من خلالها على تجلّى أسماء الفاطر الجليل. أي إن كل شيء يعبّر عن معانيه الغزيرة لقرائه الذين لا يحصيهم العد.

أما النوع الثالث: فهو يخص الصانع الجليل، وهو المتوجه إليه سبحانه، فلو كانت فائدةُ خلقِ الشيء في نفسه واحدةً فالتي يتطلع منها إلى الباري الجليل هي مئات من الفوائد، حيث إنه سبحانه يجعله موضعَ نظره إلى بدائع صنعه، ومحطّ مشاهدة تجلي أسمائه الحسنى فيه. فضمن هذا النوع الثالث العظيم من حكمة الوجود يكفي العيشُ لثانية واحدة. هذا وسيوضَّح في الشعاع الثالث سرٌّ من أسرار القيومية الذي يقتضي وجود كل شيء.

تأملتُ ذات يوم في فوائد الموجودات وحِكَمها من زاوية انكشاف طلسم الكائنات ولغز الخلق، فقلت في نفسي: لماذا يا تُرى، تَعرضُ هذه الأشياء نَفسَها وتُظهِرُها ثم لا تلبث أن تختفي وترحل مسرعةً؟.. انظر إلى أجسامها وشخوصها فإذا كل منها منظّم منسق قد أُلبس وجوداً على قدِّه وقدره بحكمةٍ واضحة وزُيّن بأجمل زينة وألطفها، وأُرسل بشخصية ذات حكمة وجسم منسق ليُعرَض أمام المشاهدين في هذا المعرض الواسع.. ولكن ما أن تمر بضعة أيام -أو بضع دقائق- إلّا وتراه يتلاشى ويختفي من دون أن يترك فائدة أو نفعاً.!! فقلت:

تُرى ما الحكمة من وراء هذا الظهور لنا لفترة قصيرة كهذه؟..كنت في لهفة شديدة للوصول إلى معرفة السر.. فأدركني لطفُ الرب الجليل سبحانه.. فوجدت -في ذلك الوقت- حكمةً مهمة من حِكَم مجيء الموجودات -ولاسيما الأحياء- إلى مدرسة الأرض، والحكمة هي: أن كل شيء -ولاسيما الأحياء- إنما هي كلمة إلهية ورسالة ربانية وقصيدةٌ عصماء، وإعلانٌ صريح في منتهى البلاغة والحكمة. فبعد أن يصبح ذلك الشيء موضعَ مطالعة جميع ذوي الشعور، ويفي بجميع معانيه لهم ويستنفد أغراضَه، تتلاشى صورتُه الجسدية وتختفي مادتُه تلك التي هي: بحكم لفظ الكلمة وحروفها، تاركة معانيها في الوجود. لقد كفتني معرفة هذه الحكمة طوال سنة.. ولكن بعد مضيها انكشفت أمامي المعجزاتُ الدقيقة في المصنوعات والإتقان البديع فيها ولاسيما الأحياء. فتبيّن لي: أنَّ هذا الإتقان البديع جداً والدقيق جداً في جميع المصنوعات ليس لمجرد إفادة المعنى أمام أنظار ذوي الشعور؛ إذ رغم أن ما لا يحد من ذوي الشعور يطالعون كلَّ موجود إلّا أن مطالعتهم -مهما كانت- فهي محدودة، فضلاً عن أنه لا يستطيع كلُّ ذي شعور أن ينفذ إلى دقائق الصنعة وإبداعها في الكائن الحي ولا يقدر على اكتناه جميع أسرارها.

فأهمُّ نتيجة إذن في خلق الأحياء وأعظمُ غاية لفطرتها إنما هي: عرضُ بدائع صنع القيوم الأزلي أمامَ نظره سبحانه، وإبرازُ هدايا رحمته وآلائه العميمة التي وهبها للأحياء، أمام شهوده جل وعلا.. لقد منحتني هذه الغاية اطمئناناً كافياً وقناعة تامة لزمن مديد. وأدركتُ منها: أن وجود دقائق الصنع وبدائع الخلق في كل موجود -ولاسيما الأحياء- بما يفوق الحد، إنما هو لعرضها أمام القيوم الأزلي. أي أن حكمة الخلق هي: مشاهدةُ القيوم الأزلي لبدائع خلقه بنفسه.. وهذه المشاهدة تستحق هذا البذل العميم وهذه الوفرة الهائلة في المخلوقات.

ولكن بعد مضي مدة.. رأيت أن دقائق الصنع والإتقان البديع في شخوص الموجودات وفي صورتها الظاهرة لا تدوم ولا تبقى، بل تتجدد بسرعة مذهلة، وتتبدل آنا بعد آن، وتتحول ضمن خلق مستمر متجدد وفعالية مطلقة.. فأخذتُ أوغل في التفكير مدة من الزمن. وقلت: لابد أن حكمة هذه الخلاقية والفعالية عظيمةٌ عظمَ تلك الفعالية نفسها.. وعندها بدت الحكمتان السابقتان ناقصتين وقاصرتين عن الإيفاء بالغرض. وبدأت أتحرّى حكمةً أخرى بلهفة عارمة، وأبحث عنها باهتمام بالغ..

وبعد مدة -ولله الحمد والمنة- تراءت لي حكمةٌ عظيمة لا حد لعظمتها وغاية جليلة لا منتهى لجلالها، تراءت لي من خلال فيض نور القرآن الكريم ونبعت من سر القيومية.. فأدركت بها سراً إلهياً عظيماً في الخلق، ذلك الذي يطلق عليه طلسم الكائنات و لغز المخلوقات!

سنذكر في الشعاع الثالث هنا بضعَ نقاط من هذا السر ذكراً مجملاً حيث إنه قد فصل تفصيلاً كافياً في «المكتوب الرابع والعشرين» من «المكتوبات».

نعم، انظروا إلى تجلي سر القيومية من هذه الزاوية وهي : أن الله أخرج الموجوداتِ من ظلمات العدم ووهب لها الوجودَ، ومنحها القيام والبقاء في هذا الفضاء الواسع، وبوّأ الموجودات موقعاً لائقاً لتنال تجلياً من تجليات سر القيومية كما بينته الآيةُ الكريمة:
﴿اَللّٰهُ الَّذي رَفَعَ السَّمٰوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا (الرعد:2). فلولا هذه الركيزة العظيمة وهذا المستند الرصين للموجودات، فلا بقاء لشيء بل لتدحرج كلُّ شيء في خضم فراغ لا حدّ له، ولهوى إلى العدم.

وكما تستند جميعُ الموجودات إلى القيوم الأزلي ذي الجلال في وجودها وفي قيامها وبقائها، وأن قيام كل شيء به سبحانه.. كذلك جميعُ أحوال الموجودات قاطبة وأوضاعها كافة وكيفياتها المتسلسلة كلها مرتبطةٌ بداياتُها ارتباطاً مباشراً بسر القيومية، كما توضحها الآية الكريمة ﴿وَاِلَيْهِ يُرْجَعُ الْاَمْرُ كُلُّهُ(هود:123) إذ لولا استنادُ كل شيء إلى تلك النقطة النورانية، لنتج ما هو محال لدى أرباب العقل من ألوف الدور والتسلسل، بل بعدد الموجودات. ولنوضح ذلك بمثال:

إن الحفظ، أو النور، أو الوجود، أو الرزق أو ما شابهه من أي شيء كان، إنما يستند -من جهة- إلى شيء آخر، وهذا يستند إلى آخر، وهذا إلى آخر وهكذا.. فلابد من نهاية له، إذ لا يعقل ألّا ينتهي بشيء. فمنتهى أمثال هذه السلاسل كلها إنما هو في سر القيومية. وبعد إدراك هذا السر سر القيومية لا يبقى معنىً لاستناد أفراد تلك السلاسل الموهومة بعضها بالبعض الآخر، بل تُرفع نهائياً وتُزال. فيكون كل شيء متوجهاً توجهاً مباشراً إلى سر القيومية.

الشعاع الثالث:

سنشير في مقدمة أو مقدمتين إلى طرفٍ من انكشاف سر القيومية الذي تتضمنه الخلاقية الإلهية والفعالية الربانية كما تشير إليها أمثال هذه الآيات الكريمة:

﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ(الرحمن:29) ﴿فَعَّالٌ لِمَا يُريدُ(البروج:16) ﴿يَخْلُقُ مَا يَشَٓاءُ(الروم:54) ﴿بِيَدِه مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ(يس:83) ﴿فَانْظُرْ اِلٰٓى اٰثَارِ رَحْمَتِ اللّٰهِ كَيْفَ يُحْيِ الْاَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا(الروم:50).

حينما ننظر إلى الكائنات بعين التأمل، نرى: أن المخلوقات تضطرب في خضم سيل الزمان وتتعاقب قافلةً إثر قافلة. فقسمٌ منها لا يلبث ثانية ثم يغيب، وطائفةٌ منها تأتي لدقيقة واحدة ثم تمضي إلى شأنها. ونوع منها يمر إلى عالم الشهادة مرّ الكرام ثم يلج في عالم الغيب بعد ساعة. وقسم منها يحط رحلَه في يومٍ ثم يغادر، وقسم منها يمكث سنة ثم يمضي، وقسم يمضي عصراً ثم يرحل، وآخر يقضي عصوراً ثم يترك هذا العالم.. وهكذا فكلٌّ يأتي ثم يغادر بعد أداء مهمته الموكولة إليه. فهذه السياحة المذهلة للعقول، وذلك السيل الجاري للموجودات والسفر الدائب للمخلوقات، إنما تتم بنظام متقن وميزان دقيق وحكمة تامة، والذي يقود هذه الرحلة المستمرة ويمسك بزمامها، يقودها ببصيرة ويسيّرها بحكمة، ويسوقها بتدبير بحيث لو اتحدت جميع العقول وأصبحت عقلاً واحداً لما بلغ معرفةَ كنه هذه الرحلة ولا يصل إلى إدراك حكمتها، ناهيك عن أن يجد فيها نقصاً أو قصوراً.

وهكذا ضمن هذه الخلاقية الربانية يسوق الخالقُ تلك المصنوعات اللطيفة المحبوبة إليه -ولاسيما الأحياء- إلى عالم الغيب دون أن يمهلها لتتفسح في هذا العالم. ويعفيها من مهماتها في حياتها الدنيوية دون أن يدعها تنشرح وتنبسط، فيملأ دار ضيافته هذه بالضيوف ويخلّيها منهم باستمرار دون رضاهم، جاعلاً من الكرة الأرضية ما يشبه لوحة كتابة -كالسبورة- يكتب فيها باستمرار قلم القضاء والقدر كتاباته ويجددها، ويبدلها، بتجليات مَن ﴿يُحْي وَيُميتُ (البقرة:258).

وهكذا، فإن سراً من أسرار هذه الفعالية الربانية وهذه الخلّاقية الإلهية، ومقتضياً أساساً من مقتضياتها وسبباً من الأسباب الداعية لها إنما هو حكمةٌ عظيمة لا حدّ لها ولانهاية، هذه الحكمة تتشعب إلى ثلاث شعب مهمة:

فالشعبة الأولى من تلك الحكمة:

هي أن كلَّ نوع من أنواع الفعالية -جزئياً كان أم كلياً- يورث لذةً، بل إنَّ في كل فعالية لذةً، بل الفعالية نفسها هي عينُ اللذة، بل الفعالية هي تظاهر الوجود الذي هو عينُ اللذة، وهو انتفاضةٌ بالتباعد عن العدم الذي هو عينُ الألم.

وحيث إنَّ صاحبَ كلِّ قابلية يرقُب بلهفة ولذة ما ينكشف عن قابلياته بفعالية ما، وإن تظاهر كل استعداد بفعالية إنما هو ناشئٌ من لذةٍ مثلما يولّد لذةً، وإن صاحب كل كمال أيضاً يتابع بلهفة ولذةٍ تظاهرَ كمالاته بالفعالية، فإذا كان في كل فعالية لذةٌ كامنة مطلوبةٌ كهذه وكمالٌ محبوب كهذا، والفعالية نفسُها كمال، وتشاهَد في عالم الأحياء تجلياتُ أزليةٍ لرحمةٍ واسعة ومحبة لا نهاية لها نابعة من حياة سرمدية.. فلا شك أن تلك التجليات تدل على: أن الذي يحبّب نفسَه إلى مخلوقاته، ويحبّهم ويرحمهم بإسباغ نِعَمه وألطافه عليهم على هذه الصورة المطلقة، تقتضي حياتُه السرمدية عشقاً مطلقاً لاهوتياً (إذا جاز التعبير) ومحبةً مقدسة مطلقة، ولذةً -منه- منـزّهة سامية.. وأمثالها من الشؤون الإلهية المقدسة اللائقة بقدسيته والمناسبة لوجوب وجوده. فتلك الشؤون الإلهية بمثل هذه الفعالية التي لا حد لها، وبمثل هذه الخلاقية التي لا نهاية لها، تجدِّد العالَم وتبدِّله وتخضّه خضاً.

الشعبة الثانية من حكمة الفعالية الإلهية المطلقة المتوجهة إلى سر القيومية:

هذه الحكمة تطل على الأسماء الإلهية الحسنى.

من المعلوم أن صاحب كلِّ جمال يرغب أن يرى جمالَه ويُريَه الآخرين، ويودّ صاحبُ المهارة أن يلفت الأنظار إليه بعرض مهاراته وإعلانه عنها. فالحقيقة الجميلة الكامنة، والمعنى الجميل المخبوء يتطلعان إذن إلى الانطلاق واستقطاب الأنظار.

ولما كانت هذه القواعد الرصينة ساريةٌ في كل شيء، كلٍّ حسب درجته. فلابد أن كل مرتبة من مراتب كل اسم من ألف اسم واسم من الأسماء الحسنى للجميل المطلق وللقيوم ذي الجلال، ينطوي على حُسنٍ حقيقي، وكمالٍ حقيقي، وجمال حقيقي، وحقيقة جميلة باهرة بشهادة الكائنات كلها، وتجليات تلك الأسماء الظاهرة عليها، وإشارات نقوشها البديعة فيها، بل إن كلَّ مرتبة من مراتب كل اسم من الأسماء الحسنى فيها من الحسن والجمال والحقائق الجميلة ما لا يحصره حدّ.

وحيث إن هذه الموجودات وهذه الكائنات هي مرايا عاكسة لتجليات جمال هذه الأسماء المقدسة.. وهي لوحاتٌ بديعة تُعرَض فيها نقوشُ تلك الأسماء الجميلة.. وهي صحائفُها التي تعبّر عن حقائقها الجميلة. فلابد أن تلك الأسماء الدائمة الخالدة ستَعرض تجلياتِها غير المحدودة، وتبرز نقوشَها الحكيمة غير المعدودة، وتُشهر صحائفَ كتُبها أمامَ نظر مسمّاها الحق وهو «القيوم» ذو الجلال، فضلاً عن عرضها أمامَ أنظار ما لا يعد من ذوي الأرواح وذوي الشعور لمطالعتها والتأمل فيها. ولا بد أنها تجدّد الكائنات عامة وعلى الدوام بتجلياتها وتُبدِّلُها استناداً إلى ذلك العشق الإلهي المقدس، وبناءً على سر القيومية الإلهية، وذلك لأجل إبراز لوحاتٍ لا نهاية لها من شيء محدود، وعرض شخوصٍ لا حدّ لها من شخص واحد، وإظهار حقائق كثيرة جداً من حقيقة واحدة.

الشعاع الرابع:

الشعبة الثالثة من حكمة الفعالية الدائمة المحيّرة في الكون:

هي أن كلَّ ذي رحمة يُسرُّ بإرضاء الآخرين، وكل ذي رأفة ينشرح إذا ما أدخل السرورَ إلى قلوب الآخرين، وهكذا يبتهج ذو المحبة بإبهاج مخلوقاته الجديرة بالبهجة، كما يسعد كلُّ ذي همة عالية وصاحب غيرة وشهامة بإسعاده الآخرين، ومثلما يفرح كلُّ عادل بجعل أصحاب الحقوق ينالون حقَّهم ويشكرونه لوضع الحق في نصابه وإنزال العقاب على المقصّرين، يزهو كلُّ صنّاع ماهر ويفتخر بعرض صنعته وإشهار مهارته لدى قيام مصنوعاته بإنتاج ما كان يتوقعه على أتم وجه يتصوره.

فكلٌّ من هذه الدساتير المذكورة آنفاً، قاعدةٌ أساسية عميقة راسخة جارية في الكون كله مثلما تجري في عالم الإنسان.

ولقد وضّحنا في «الموقف الثاني من الكلمة الثانية والثلاثين» أمثلة ثلاثة تبين جريان هذه القواعد الأساسية في تجليات الأسماء الحسنى، نرى من المناسب اختصارها هنا فنقول:

إنَّ الذي يملك رحمة فائقة وهمة عالية مع منتهى الكرم والسخاء، يسعده جداً أن يغدق على فقراء مدقعين ومحاويج مضطرين ويتفضل عليهم بكرمه وجوده، فيُعدّ لهم موائدَ ولائم فاخرة ومأكولات نفيسة على متن سفينة عامرة تجري بهم في بحار الأرض ليُدخل البهجةَ والسرور في قلوبهم ضمن سياحة جميلة ونزهة لطيفة.. فهذا الشخص يستمتع من مظاهر الشكر المنبعثة من أولئك الفقراء، وينشرح صدرُه انشراحاً عظيماً وهو يشاهد تمتعهم بمباهج النعم والآلاء، ويفتخر بسرورهم ويزهو بفرحهم.. كل ذلك بمقتضى ما أودع الله في فطرته من سجايا سامية وصفات رفيعة.

فإذا كان الإنسان الذي هو بمثابة أمينٍ على ودائع الخالق الكريم وموظفٍ للتوزيع ليس إلّا ، إذا كان يستمتع وينشرح ويتلذذ إلى هذا القدر لدى إكرامه الآخرين في ضيافة جزئية، فكيف إذن يا ترى بـ«الحي القيوم» –﴿وَلِلّٰهِ الْمَثَلُ الْاَعْلٰى– الذي تنطلق إليه آياتُ الحمد والشكر وتُرفع إليه أكفُّ الثناء والرضى بالدعاء والتضرع من مخلوقاتٍ لا حدّ لهم من الأحياء إلى الإنسان والملائكة والجن والأرواح، الذين حملهم في سفينة الرحمن -الأرض- وأسبغ عليهم نِعَمه ظاهرةً وباطنة بأنواع مطعوماته المنسجمة تماماً مع ما غرز فيهم من أذواق وأرزاق، وتفضَّل عليهم بهذه السياحة الربانية في أرجاء الكون. فضلاً عن جعله كلَّ جنةٍ من جنانه في دار الخلود، دار ضيافة دائمة مُعدَّة فيها كل ما تشتهيه الأنفسُ وتلذ الأعين… فجميعُ آيات الشكر والحمد والرضى المنطلقة من جميع المخلوقات قاطبة والمنبعثة من سرورهم وفرحهم وابتهاجهم بالنعم والآلاء العميمة عليهم والمتوجهة كلها إلى «الحي القيوم» تولَّد من الشؤون الإلهية، المقدسة التي تقتضي هذه الفعالية الدائمة والخلاقية المستمرة، تلك الشؤون التي يَعجز التعبيرُ عنها ولم يؤذَن لنا بالإفصاح عنها، بل ربما يُشار إليها بأسماء: الرضى المقدس والافتخار المقدس و اللذة المقدسة وما شابهها من الأسماء التي نُعبّر بها -نحن البشر- عن معاني الربوبية المنـزّهة.

ومثال آخر:

إذا قام صنّاع ماهر، بصنع حاكٍ -بلا اسطوانة- يعبّر عما يريده منه ويعمل على أفضل صورة يرغبها هو، كم يكون ذلك الصناع مفتخراً، وكم يكون متلذذاً من رؤية صنعته على هذه الصورة وكم يكون مسروراً حتى يردد في نفسه: «ما شاء الله»..

فإذا كانت صنعةٌ صغيرة صورية -من دون إيجاد حقيقي- تثير في روح صانعِها إلى هذه الدرجة من مشاعر الافتخار والرضى. فكيف بالصانع الحكيم الذي أوجد هذه الموجودات كلَّها وجعلها موسيقى إلهية تعبّر عن شكرها وتسبيحها وتقديسها بأنواعٍ من النغمات وأنواع من الكلام، كما جعلها مصنعاً عجيباً فضلاً عما أسبغ على كل نوع من أنواع الكائنات، وكلِّ عالَم من عوالم الكون من صنعةٍ متقنة بديعة متباينة معجزة بخوارقها، أضف إلى ذلك المكائن الكثيرة التي أودعها في رؤوس ذوي الحياة الشبيهة بالحاكي وآلات التصوير وأجهزة البث والاستقبال، بل أودع أعجب من هذه الأجهزة المعجزة حتى في رأس أصغر حيوان! بل لم يودع في رأس الإنسان مجرد حاكٍ بلا اسطوانة، ولا آلة تصوير بلا عدسة، ولا هاتفاً بلا سلك بل مكائن أعجب بكثير وخوارق أعظم وأعظم مما ذكر بكثير.

فما يُنشئه عمل هذه المكائن العاملة وفق إرادته والمودَعة في رأس الإنسان المخلوق في أحسن تقويم من معاني الافتخار المقدس والرضى المقدس، وأمثالها من المعاني الجليلة والشؤون المقدسة للربوبية -التي هي من هذا النوع- يستلزم حتماً هذه الفعالية الدائمة المشاهدة.

ومثلاً: إن الحاكم العادل يجد لذةً ومتعة ورضىً عندما يأخذ حقَّ المظلوم من الظالم ويجعل الحق يأخذ نصابَه، ويفتخر لدى صيانته الضعفاءَ من شرور الأقوياء، ويسرّ لدى منحه كل فرد ما يستحقه من حقوق.. كل ذلك من مقتضيات الحاكمية والعدالة وقواعدهما الأساس. فلابد أن الحاكم الحكيم العادل الذي هو «الحي القيوم» بمنحِه شرائطَ الحياة في صورة حقوق الحياة للمخلوقات كافة ولاسيما الأحياء.. وبإحسانه إليهم بأجهزة تحافظ على حياتهم.. وبحمايته الضعفاء من شرور الأقوياء بكل رحمة ورأفة.. وبتوليه إظهار سر العدالة في الكون بإعطاء كلِّ ذي حق من الأحياء حقَّه كاملاً.. وبإنزال شيء من العقوبة بالظالمين -في هذه الدنيا- وبخاصة ما يحصل من التجلي الكامل للعدالة العظمى في المحكمة الكبرى ليوم الحشر الأعظم.. يحصل من كل هذا ما نعجز عن التعبير عنه من شؤون ربانية ومعانٍ قدسية جليلة هي التي تقتضي هذه الفعالية الدائمة في الكون.

وهكذا في ضوء هذه الأمثلة الثلاثة:

فإن الأسماء الإلهية عامة، وكلَّ اسم منها خاصة، يقتضي هذه الخلّاقية الدائمة، حيث يكون محوراً لقسم من هذه الشؤون الإلهية المقدسة وأمثالها ضمن هذه الفعالية الدائمة.

وحيث إن كل قابليةٍ وكل استعداد يورث فرحاً وانشراحاً ولذةً، بمنحها الثمارُ والفوائد لدى انبساطها وانكشافها.. وإن كل موظف يشعر -عند إتمام الوظيفة وإنهائها على الوجه المطلوب- براحة وأيّ راحة.. وإن جني ثمرات كثيرة من بذرة واحدة، واغتنامَ ربحِ مئات الدراهم من درهم واحد، هي حالات مفرحة جداً لأصحابها وتعدّ تجارة رابحة لهم..

فلابد أن يفهم مدى أهمية المعاني المقدسة وشؤون الربوبية الإلهية الناشئة من الفعالية الدائمة والخلاقية الربانية التي تكشف عن جميع الاستعدادات التي لا تحد، وجميع القابليات التي لا تعد، لجميع المخلوقات غير المحدودة.. والتي تُنهي وظيفةَ جميع المخلوقات بعد أن تستخدمها في وظائف جسيمة وترقّيها بهذا التسريح إلى مراتب أسمى وأعلى -كَأَنْ ترقى العناصرَ إلى مرتبة المعادن، والمعادنِ إلى حياة النباتات، والنباتات إلى درجة حياة الحيوانات بما تمدّها من رزق، والحيوانات إلى مرتبة الإنسان الشاعرة والعالية بالشكر والحمد- والتي تجعل كل كائن يخلُف أنواعاً من الوجود كروحه وماهيته وهويته وصورته بعد زوال ظاهر وجوده لتؤدي المهمة نفسها كما وضح في «المكتوب الرابع والعشرين».