إخوتي الأعزاء!

إن موانع كانت تحول دون إتمامِ مسائلِ رسالة «الثمرة». أحدُها البرد الشديد، والآخر: اندهاش الماسونيين من قوتها. ولكن بزوال تلك الموانع سيُباشَر بها بإذن الله. إنني أفكرجانب القدر الإلهي في هذه المصيبة التي حلت بنا، فأجد مصاعبي تتلاشى وتتحول إلى رحمة إلهية.

نعم، كما هو موضح في «رسالة القدر» أن في كل حادثة سببين اثنين:

الأول: سبب ظاهري، يحكم الناسُ على وفقه، وكثيرا ما يظلمون.

والآخر: سبب حقيقي، يقضي القدرُ الإلهي على وفقه، فيعدل -تحت ظلم البشر- في الحادثة نفسها.

مثال ذلك: يُلقى أحدُ الأشخاص في السجن بتهمة سرقة لم يرتكبها. ولكن يقضي القدرُ الإلهي عليه بسجنه لجناية له خفية، فيعدل من خلال ظلم البشر نفسه.

ففي قضيتنا هذه، والامتحانِ العسير الذي دخلنا فيه لأجل تمييز الألماس من قطع زجاجية تافهة، وفرزِ الصدّيقين الفدائيين من المترددين المرتابين، وتمحيصِ الخالصين المخلصين ممن لا يدَعون أنانيتهم ومصالحهم الشخصية.. هذا الامتحان العسير الذي دخلناه ينطوي على سببين:

الأول: خدمةُ الدين خدمة فائقة، من خلال تساندٍ وترابط وإخلاص قوي، حتى أثار حفيظةَ أهل الدنيا والسياسة، وقد نظر البشر إلى هذا السبب فظلَمَنا.

الثاني: لمّا لم يبيّن كلٌ منا إخلاصا تاما، ولا أظهر تساندا كاملا ولا أهلية تستحقها الخدمة المقدسة، نظر القدرُ الإلهي إلى هذا السبب، وعَدَل في حقنا.

فهذا القدر الإلهي هو رحمة إلهية بحقنا في عين العدالة نفسها. إذ جَمع في مجلس واحد إخوةً مشتاقٌ بعضهم إلى بعض، وبدّل المصاعبَ إلى عبادات، وحوّل الأموال الضائعة إلى صدقات، واستقطب الأنظار إلى الرسائل المستنسَخة. وأفهمنا أن أموال الدنيا وأولادَها، وراحةَ الإنسان فيها أمور مؤقتة زائلة، وأنه سيدَعها حتما تمضي إلى التراب، فلا داعي لأن يُفسد آخرتَه لأجلها، بل ليتعوّد على الصبر والتحمل، وأن يكون قدوة حسنة ورائدا بطلا، بل إماما لإخوانه في المستقبل.. وما شابهها من النواحي الأخرى التي كلُّها رحمةٌ إلهية محضة.

بيد أن هناك جهة واحدة فقط تشغل فكري وهي: أن القلب والروح سينشغلان بجروحِ ما ألمّ بنا من مصاعب ومضايقات في حياتنا التي دخلناها، والتي هي بحكم الضرورة، مثلما يترك العقلُ والقلب والعين وظائفها المهمة إذا ما جرح إصبع من الإنسان، فتنشغل تلك الجوارح بذلك الجرح.

حتى إن تلك الحالة ساقتني فكرا إلى مجلس الماسونيين مع أنه كان من الضروري نسيان الدنيا في ذلك الوقت. وأشغلت فكري بإنـزال صفعات التأديب بهم. وقد وجدت السلوانَ في احتمالِ أن يقبل سبحانه وتعالى هذه الحالة، حالة الغفلة، نوعا من جهاد فكري.

لقد تسلمت سلام الأخ «علي كول» شقيق «الحافظ محمد» المعلم القدير لرسائل النور.

وأنا بدوري أرسل ألف سلام ودعاء إليه وإلى جميع إخوته، وإلى جميع أهالي قرية «ساو» أحياءً وأمواتا.


إخوتي الأعزاء الأوفياء!

إن ثباتكم وصلابتكم تبطل جميع خطط الماسونيين والمنافقين وتجعلها بائرة عقيمة.

نعم يا إخوتي، لا داعي للإخفاء، إن أولئك الزنادقة قد قاسوا رسائل النور وطلابها بالطرق الصوفية ولا سيما بالطريقة النقشبندية، فقد شنوا هجومهم علينا بالخطط نفسها التي غلبوا بها أهل الطرق الصوفية أملا بأن يفرّقونا ويهوّنوا من شأننا. فقد استعملوا:

أولا: وسائل التنفير والتخويف وإبراز أعمال أسيء استعمالها في المسلك.

ثانيا: إشهار وإعلان نقائص وتقصيرات أركان ذلك المسلك ومنتسبيه.

ثالثا: إن الوسائل التي استعملوها تجاه الطريقة النقشبندية والطرق الأخرى، وهي إشاعة الفساد بالفلسفة المادية، ونشر سفاهة حضارتها الفتانة، وتذليل متعها المخدرة المسمومة لتحطيم عرى التساند وأواصر الأخوّة فيما بينهم مع الحط من شأن أستاذهم ومرشدهم بالإهانات، وتهوين شأن مسلكهم لديهم بإيراد دساتير العلم والفلسفة.. هذه الوسائل والأسلحة هي التي يستعملونها لدى هجومهم علينا أيضا.. إلّا أنهم انخدعوا، لأن مسلك رسائل النور قد أسس على الإخلاص التام، وتركِ الأنانية، واستشعار الرحمة الإلهية في زحمة الأعمال ومشقاتها، وتحرى اللذائذ الباقية وتذوقها في ثنايا الآلام العابرة، وإظهار الآلام المبرحة في لذائذ السفه نفسها، وبيان أن مدار اللذة الخالصة غير المتناهية في الدنيا أيضا هو في الإيمان. فضلا عن قيامها بتعليم الحقائق، وتفهيم المسائل التي تعجز الفلسفة أيا كانت أن تبلغها. لذا ستخيب آمالهم، وتبوء خططهم بالإخفاق بإذن الله، وسيجابهون بأن مسلك رسائل النور لا يقاس مع الطرق الصوفية. ويبهتون.

لطيفة

ناداني أحدهم صباحا من قاعة الجندرمة المجاورة لي، فصعدتُ الشباك.

فقال: إن باب قاعتنا قد انسد من تلقاء نفسه، ولا نقدر على فتحه مهما حاولنا..

قلت: هذه إشارة لكم بأن الذين تراقبونهم وتسدون عليهم الباب، فيهم أبرياءٌ أمثالكم. فلقد أهانوني بحجة لقاءٍ لدقيقة واحدة مع أحد إخوتي في الدين لم أره منذ عشر سنوات وسدّوا حتى الباب الخارجي الآخر بحجة أخرى، فانسد بابُكم عقابا لذاك.

سعيد النُّورْسِيّ


إخوتي الأعزاء!

كنت أَصرف منذ سنة من كيلو من الشعرية والرز، ولم تبق لي شبهة أن فيها بركة عظيمة. إلّا أنكم الآن لا تدَعوني لأطبخ بنفسي، لذا أقدّمها لكم هدية مباركة.

ولقد شاهدت مرةً بركةً خارقة من تلك الشعرية. فقد كنت أجفف حباتها بعد الطبخ. وشاهدتُ -أنا وآخرون- أن كلا من حباتها كانت تطول إلى عشرة أمثالها.


إخوتي الأعزاء!

كان الحراس وغيرُهم يسمعونني عندما كنت منشغلا هذه الليلة بقراءة الأوراد، فخطر للقلب: ألا يُنقص هذا الإظهارُ من الثواب؟ فقلقت واضطربت ولكن خطر بالبال قولُ حجة الإسلام الإمام الغزالي الذي يقول: «رُبّ إظهارٍ خيرٌ من إخفاء».

أي إن قراءة الأوراد علنا، فيها استفادةُ الآخرين أو تقليدُهم أو تنبيههم من الغفلة أو إظهارُ العزة الدينية بما يشبه من إعلانٍ للشعائر الإسلامية أمام الضال السادر في السفاهة، وغيرها من الفوائد.. ولاسيما في هذا الزمان. فلا يدخل الرياءُ في أعمال الذين تعلّموا دروسَ الإخلاص تعلُّما تاما، بل هو أفضل من الإخفاء بكثير، بشرط عدم تدخل التصنع. وهكذا وجدتُ السلوان من هذا الكلام.

وعندما استدعاني حاكم التحقيق قبل يومين كنت أفكر في كيفية الدفاع عن إخواني، وفتحت كتاب «الحزب المصون» للإمام الغزالي وإذا بالآيات الكريمة الآتية تلفت نظري:

﴿اِنَّ اللّٰهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذينَ اٰمَنُوا…﴾ (الحج:38)

﴿نُورُهُمْ يَسْعٰى بَيْنَ اَيْديهِمْ وَبِاَيْمَانِهِمْ…﴾ (التحريم:8)

﴿اللّٰهُ حَفيظٌ عَلَيْهِمْ…﴾ (الشورى:6)

﴿طُوبٰى لَهُمْ…﴾ (الرعد:29)

﴿رَبَّنَٓا اَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا…﴾ (التحريم:8)


إخوتي الأعزاء الصدّيقين!

إن الذين اجتازوا الامتحان الشديد في هاتين المدرستين اليوسفيتين -القديمة والجديدة- ولم يتزعزعوا، ولم يدَعُوا درسهم الإيماني، ولم يتخلوا عن صفة «الطالب» مهما كانت الظروف، ولم تنل من معنوياتهم هذه الكثرةُ الهائلة من الهجمات.. إن هؤلاء يرحب بهم الملائكة والروحانيون، كما سيرحب بهم أهلُ الحقيقة والجيلُ المقبل. فأنا مقتنع بهذا، ولكن الضيق المادي شديد لوجود المرضى والفقراء المساكين فيما بينكم. فتجاه هذا الأمر، ليكن كلٌ منكم مسليا لكلٍ من أولئك، وقدوة حسنة له في الصبر والأخلاق، وأخا شفيقا عليه في التساند واللطف، ومخاطبا ذكيا ومجيبا عن أسئلته في أثناء الدرس الإيماني، ومرآة صافية لانعكاس السجايا الفاضلة.. وعندئذٍ تجدون المضايقات قد ولّت واضمحل السأم وتلاشى الضجر. نعم، هكذا أتصور الأمر وأتسلى به يا إخوتي يا من أحبهم أكثر من روحي.

سأرسل لكم يوما جبة مولانا خالد قدس سره والتي عمرها مائة وعشرون سنة. فكما أنه قد ألبسنيها فأنا بدوري سأرسلها إليكم متى شئتم، ليلبسها كلًٌ منكم باسمه.

لقد أجرى الطبيب عليّ لقاح الجدري في بداية مجيئنا هنا. فتورّمت الذراع، وتسرب الورم إلى الأسفل حتى لا يَدَعُني أن أنام، ويزعجنى في أثناء الوضوء. تُرى هل أن جسمي لا يتحمل التطعيم بالجدرى أم هناك معنى آخر في الأمر؟ وقد أخذتُ التطعيم بالجدري قبل عشرين عاما في «أنقرة» ويلتهب موضع التطعيم إلى الآن بين حين وآخر، ويزعجني. فأخشى أن يكون هذا كذلك مثله، فكيف الأمر عندكم؟.

سعيد النُّورْسِيّ


إخوتي الأعزاء الأوفياء!

إن حكمة واحدة لعدالة القدر الإلهي في سَوقنا إلى المدرسة اليوسفية لـ«دنيزلي» هو حاجة المسجونين فيها وأهاليها وربما موظفيها ومأموري دائرة العدل، إلى رسائل النور وإلى طلابها أكثر من أي مكان آخر. وبناءً على هذا فقد دخلنا امتحانا عسيرا بوظيفة إيمانية وأخروية، إذ ما كان إلّا واحدٌ أو اثنان من كل عشرين أو ثلاثين مسجونا يؤدون صلاتهم ويوفون حقها من تعديل الأركان، ولكن ما إن دخل أربعون أو خمسون طالبا من طلاب النور وكلهم يؤدون صلاتهم أداءً تاما دون استثناء إلّا كان لهم درسا بليغا وإرشادا فعليا بلسان الحال، بحيث يزيل هذا الضيقَ والضجر والرهق بل قد يحببه. فمثلما يرشد طلاب النور إلى هذا الأمر بأفعالهم وأحوالهم، نأمل من رحمته تعالى أن يجعلهم -بما يحملون من إيمان تحقيقي في قلوبهم- قلعة حصينة، ينقذون بها أهل الإيمان من سهام شبهات أهل الضلال.

إنه لا ضير مما يفعله أهل الدنيا من منعنا عن مخاطبة الآخرين ولقائهم؛ إذ لسان الحال أفصح من لسان المقال وأكثر تأثيرا منه.

فما دام دخول السجن هو لأجل التربية، فإن كانوا يحبون الأمة حقا فليسمحوا بلقاء المسجونين مع طلاب النور كي يحصلوا في شهر واحد بل في يوم واحد على التربية المرجوة حصولها في أكثر من سنة، وليصبحَ أولئك المسجونون أفرادا نافعين للبلاد والعباد وينقذوا مستقبلهم وآخرتهم.

لو كان عندنا رسالة «مرشد الشباب» لكانت تنفع كثيرا. نسأل الله أن ييسر دخولها هنا.

سعيد النُّورْسِيّ


إخواني الأعزاء الصديقين!

تذكرت اليوم ما جرى من الحوار المعروف لديكم حول «الشيخ ضياء الدين» بيني وبين أخي الكبير المرحوم «الملا عبد الله». ثم فكرت فيكم. وقلت في قلبي: إن الذي يُظهر ثباتا إلى هذه الدرجة في هذا الزمان الذي قلما يثبت فيه أحد، هؤلاء الأتقياء المخلصون والمسلمون الجادون الذين لا يتزعزعون في دوامة هذه الأحوال المحرقة المؤلمة، أقول: لو رفع الحجاب (حجاب الغيب) وبدا لي كل منهم في درجة الأولياء الصالحين، بل حتى لو ظهر في مرتبة القطبية فلا يزيد شيء في نظري عنهم ولا أغير ما أُولِيهم من اهتمام وعلاقة ما أوليه في الوقت الحاضر إلّا قليلا، وكذلك لو بدوا لي أشخاصا اعتياديين من العوام، فلا أنقص أبدا مما أمنحهم في الوقت الحاضر من قيمة كريمة ومنـزلة رفيعة.

هكذا قررتُ، لأن خدمة إنقاذ الإيمان في مثل هذه الأحوال الصعبة والشروط القاسية هي فوق كل شيء. فالمقامات الشخصية والمزايا التي يضفيها حسن الظن على الأشخاص تتزلزل وتتصدع في مثل هذه الأحوال المضطربة المزعزعة فيقل حسن الظن وبالتالي المحبةُ. زد على ذلك أن صاحب الفضيلة والمزية يشعر بضرورة التصنع والتكلف والوقار المصطنع كي يحافظ على مكانته في نظرهم.

فشكرا لله بما لا يتناهى من الشكر، أننا لا نحتاج إلى مثل هذه التكلفات المصطنعة الباردة.

سعيد النُّورْسِيّ


إخوتي الأعزاء الأوفياء!

أبارك لكم الليالي العشر بكل روحي وقلبي وعقلي. ونسأله تعالى ونأمل من رحمته الواسعة أن تكسبنا مكاسب عظيمة جدا وفق ما بيننا من اشتراك معنوي.

لقد رأيت الليلة فيما يرى النائم أنني قد أتيتكم، وما إن بدأت أصلي بكم إماما حتى استيقظت. وفي الوقت الذي أتوقع تحقق رؤياي -حسب تجاربي- إذا بأخوين اثنين من إخواننا الميامين في قرية «ساو» و«حوما» قد أتيا، تعبيرا عن الرؤيا باسمكم جميعا. فسررت كثيرا وكأنني قد التقيتكم جميعا.

إخوتي! على الرغم من أن هذا الوضع (السجن) قد سبب نوعا من التوجس والخيفة إزاء رسائل النور لدى الموالين للحكومة ولدى قسم من الموظفين، إلّا أنه سبّب في المعارضين جميعا ولدى أهل الدين والموظفين ذوي العلاقة اهتماما واشتياقا نحوها.

لا تقلقوا يا إخوتي ستسطع تلك الأنوار. (حاشية) انتبه يا أخي! بينما كانت جميع أسباب العالم في سجن «دنيزلي» تستهدف الأستاذ ظاهرا فيساق إلى المحاكم ويقرر بحقه أحكام الإعدام، يقول الأستاذ: «لا تقلقوا يا أخوتي ستسطع تلك الأنوار». فانظر كيف تحقق هذا الكلام. (طلاب النور).