إخوتي الأعزاء!

إنني أخال أن الرسالة الصغيرة التي أثمرها سجن «دنيزلي» ستكون دفاعنا الحقيقي والأخير، لأن الخطط المنصوبة للقضاء علينا سابقا والناشئة من أوهامٍ وشكوك أثيرت ضدنا منذ سنة، قد صممت على نطاق واسع، وهي «العمل لطريقة صوفية.. إنهم منظمة سرية.. وأداة لتيارات خارجية.. إثارة المشاعر الدينية واستغلالها في سبيل السياسة، والسعي لهدم الجمهورية والتعرض للدولة والإخلال بأمن البلاد» وأشباهها من الحجج التي لا أساس لها من الصحة. لذا شنوا هجومهم علينا.

فللّه الحمد والمنة بما لا يتناهى من الحمد والشكر، أصبحتْ خططهم بائرة وباءت بالإخفاق، إذ لم يجدوا في هذا الميدان الواسع وبين مئات من الطلاب ومئات من الرسائل والكتب طوال ثماني عشرة سنة سوى أبحاث في حقيقة الإيمان والقرآن وتحقق الآخرة والسعي للسعادة الأبدية، لذا بدؤوا يتحرون عن حجج تافهة جدا ليستروا بها خططهم.

ولكن إزاء احتمال الهجوم علينا باستغفال بعض أركان الحكومة والتغرير بهم وإثارتهم علينا من قبل منظمة ملحدة رهيبة متسترة تعمل حاليا عملا مباشرا في سبيل الكفر المطلق، فإن رسالة «الثمرة» الواضحة كالشمس والمزيلة للشبهات والأوهام، والراسخة رسوخ الشم العوالي، تكون أقوى دفاع لنا تجاههم، وسوف تسكتهم بإذن الله. وأحسب أنها كُتّبت لنا لأجل هذا.

سعيد النُّورْسِيّ


إخوتي!

على الرغم من ضيق مكانكم ضيقا شديدا، فإن قلوبكم أوسعُ من ذلك الضيق، فضلا عن أن لكم حرية أكثر مما عندنا.

اعلموا يا إخوتي! إن أهم أساس لقوتنا ونقطة استنادنا هي: التساند. وإياكم النظر إلى تقصيرات بعضكم البعض، مما يولّده الانفعال في الأعصاب من جراء هذه المصائب. فالشكاوى هي بمثابة الاعتراض على القدر الإلهي، فلا يقولنّ أحدُكم: لو لم يكن كذا لمَا حدث هكذا. ولا يغضب بعضكم على البعض الآخر. فلقد علمتُ أنه لا نجاة ولا حيلة لنا من هجوم هؤلاء. فكانوا يهجمون علينا مهما كنا نعمل. وما علينا إلّا أن نقابلهم بالصبر والشكر والرضى بالقضاء الإلهي والتسليم بقدَره، لتمدّنا العناية الإلهية.

فينبغي لنا أن نسعى لكسب الثواب العظيم والحسنات الكثيرة في زمن قليل وبعمل قليل. دعواتنا الخالصة بسلامة إخواننا هناك.


إخواني الأوفياء الصادقين!

إن لقاء الأصدقاء ومجالسة الإخوان منبعٌ ثرٌ للسلوان لما يعاني منه الإنسان من سرعة تبدل هذه الحياة الدنيا، ومن زوالها وفسادها، ومن فنائها وفناء متعها التي لا تجدي شيئا، ومن صفعات الفراق والافتراق التي تنـزلها بالإنسان..

نعم، قد يقطع إنسان مسافة عشرين يوما ويصرف مائة ليرة لأجل لقاء أخيه لساعات معدودة. ففي هذا الزمان العجيب الذي قلما يوجد فيه صديق صدوق، لا تعد هذه المشقات والمصاعب التي نزلت بنا مع ضياع الأموال ذات أهمية تذكر إزاء رؤية أربعين أو خمسين من الأصدقاء الصادقين والإخوة المخلصين دفعة واحدة طوال شهرين من الزمان، ومجالستهم ومحاورتهم في سبيل الله، والتسلي بهم وتسليتهم تسلية حقيقية. فأنا شخصيا كنت أرضى بهذه المصاعب والمشقات رجاء رؤية واحد من إخوتي هنا فحسب بعد فراقي عنهم عشر سنوات.

اعلموا أن الشكوى اعتراض على القدر والشكر تسليم له.

ثقوا يا إخواني؛ أنه لو حضر الأجلُ الآن، وتوفيتُ، لاستقبلته براحة قلب وانشراح صدر، لأنني على قناعة تامة من أن فيكم «سعيدِين» كثيرين شبانا أقوياء ثابتين سيتولون القيام بمهمة رسائل النور والدفاع عنها وحمايتها ووراثتها، أفضل بكثير من هذا «السعيد» الضعيف العجوز العاجز المريض.


إخواني الأوفياء الصادقين الأعزاء!

لِمَا أنكم قد ارتبطتم برسائل النور رغبة بثواب الآخرة، وأداءً لنوع من العبادة، فلا شك أن كل ساعة من ساعاتكم -تحت هذه الشروط والأحوال الصعبة- تصبح في حكم عبادة عشرين ساعة، والعشرين ساعة من العمل في خدمة القرآن والإيمان -لما فيها من جهاد معنوي- تكسب أهمية مائة ساعة، والمائة ساعة التي تمضي في لقاء مجاهدين حقيقيين من إخوة طيبين -كل منهم يعادل في الأهمية مائة شخص- وعقد أواصر الأخوة معهم، وإمدادهم -بالقوة المعنوية- والاستمداد منهم، وتسليتهم والتسلي بهم، والاستمرار معهم في خدمة الإيمان السامية بترابط حقيقي وثبات تام، والانتفاع بسجاياهم الكريمة، وكسب أهلية الطالب في مدرسة الزهراء بالدخول في مجلس الامتحان هذا، في هذه المدرسة اليوسفية، وأخذ كل طالب قسمته المقسومة له قَدَرا، وتناوله رزقه المقدّر له فيها، نوالا للثواب.. تستوجب الشكر على مجيئكم إلى هنا، والتجمل بالصبر وتحمل جميع المشقات والمضايقات مع التفكر في الفوائد المذكورة.

سعيد النُّورْسِيّ


إخوتي!

إنني أَرغب -قلبا- في أن يظهر هنا من «قسطموني» وما جاورها، كما ظهر من «إسبارطة» وحواليها أبطالٌ ميامين ثابتون ثبات الحديد والفولاذ (أمثال «خسرو» و«الحافظ علي»). فللّه الحمد والمنة بما لا يتناهى من الحمد الشكر فقد حققتْ ولايةُ «قسطموني» أمنيتي تحقيقا تاما، فأمدتنا بعديدٍ من الأبطال.

تحياتي إلى الإخوة جميعا الذين يدورون دوما في خيالي فردا فردا ممن لم أكتب أسماءهم، وأدعو لهم بالسلامة والأمان.


إخوتي الأعزاء الصادقين الأوفياء الثابتين!

أبيّن حالة من أحوالي لكم لا لأجعلكم تتألمون عليّ ولا لتحاولوا أخذ التدابير المادية اللازمة، بل لأستفيد من إكثار دعواتكم حسب قاعدة توحيد المساعي المعنوية، وللاستزادة من ضبط النفس وأخذ الحذر والتحلي بالصبر والتحمل والحفاظ على ترابطكم الوثيق.

إن ما أقاسيه هنا من عذاب وعنت في يوم واحد، ما كنت أقاسيه في شهر في سجن «أسكي شهر». لقد سلط الماسونيون الرهيبون عليّ ماسونيا ظالما، كي يجدوا مبررا من قولي: «كفى إلى هذا الحد» النابعِ من حدّتي وشدة غضبي إزاء تعذيبهم إياي، فيستغلوا هذا القول ويجعلوه سببا لتعدياتهم الجائرة ويستروا تحته أكاذيبهم.

إنني أصبر شاكرا، وأعدّه أثرا خارقا من آثار إحسانٍ إلهيّ، وقررت الاستمرار على الصبر والشكر. فما دمنا مستسلمين للقدر الإلهي، وهذه المضايقات التي نشعر بها تعدّ وسيلة لكسب ثواب أكثر ونوال أجر أكبر، وذلك بمضمون القاعدة: «خير الأمور أحمزها» لذا نعتبرها من هذه الناحية نعمة معنوية.

ثم إن المصائب الدنيوية الزائلة تنتهي بالأفراح والخيرات على الأكثر. ونحن مقتنعون قناعة تامة بحق اليقين أننا قد نذرنا حياتنا لحقيقة جليلة أسطع من الشمس، وجميلة كجمال الجنة، وحلوة لذيذة كلذة السعادة الأبدية. ولذلك ما ينبغي أن يصدر منا الشكوى قط بل تدفعنا هذه الأحوال الصعبة إلى أن نقول: نحن في جهاد معنوي نعتز به ونشكر ربنا الكريم لا بد أن تفضل به علينا.

إخوتي الأعزاء!

إن أول ما نوصيه وآخرَه: الحفاظُ على الرابطة فيما بينكم، والحذر من الأنانية والغرور والمزاحمة، مع أخذ الحذر وضبط النفس.

سعيد النُّورْسِيّ


إخوتي الأعزاء الأوفياء!

لقد فُهِم من الادعاء الذي قدّمه المدعي العام، أن خطط الزنادقة المتسترين الذين يغررون ببعض أركان الحكومة ويستغفلونهم قد باءت بالفشل وظهر زيفُها وأكاذيبُها. إلّا أنهم يتشبثون الآن بحجج واهية، كإسنادِ تأسيسِ جمعية وتشكيل منظمة سرية. محاوِلين به الستر على أكاذيبهم. وقد ظهر أَثر عملهم هذا في منع الناس -أيا كانوا- من اللقاء معي، وكأنه إذا ما حدث اللقاء سينضم الشخص إلينا فورا. بل حتى الموظفون الكبار يتوجسون خيفة أو يحببون أنفسهم لآمريهم بتشديد خناق المضايقة عليّ.

ولقد كنت عازما على قول هذه الفقرة الآتية ختام الاعتراض الذي قدمناه إليهم، إلا أن حادثة حدثت وحالت دون ذلك. والفقرة هي:

أجل، نحن جمعية، تلك الجمعية التي لها ثلاثمائة وخمسون مليونا من الأعضاء في كل عصر. وهم يؤكدون كمال احترامهم وصادق ارتباطهم وتعلقهم بمبادئ تلك الجمعية المقدسة -بإقامة الصلاة- خمس مرات يوميا، ويتسابقون في مدّ يد العون والمساعدة بعضهم إلى بعض، سواء بدعواتهم الشخصية عن ظهر الغيب، أو بمكاسبهم المعنوية الوفيرة وفق الدستور الإلهي: ﴿اِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ اِخْوَةٌ ﴾ (الحجرات:10).

وهكذا فنحن أعضاء في تلك الجمعية المقدسة العظمى إذَن، أما وظيفتنا ضمن نطاق هذه الجمعية فهي: تبليغ الحقائق الإيمانية التي يتضمنها القرآن الكريم إلى طلاب الحق والإيمان على أصح وجه وأنزهه، إنقاذا لأنفسنا وإياهم من الإعدام الأبدي وبرزخ السجن الانفرادي السرمدي.

أما الجمعيات الدنيوية المؤسسة على الدسائس والأحابيل السياسية فلا علاقة لنا بها من قريب أو بعيد بل نترفع عنها.


إخوتي الأعزاء الأوفياء!

لقد شعرت بألم تام تجاه كلٍ منكم فجر هذا اليوم، ولكن خطرت بالبال فجأة «رسالةُ المرضى» فأورثت السلوان.

نعم، إن هذه المصيبة شبيهة بنوع من مرض اجتماعي، وإن أكثر الأدوية الإيمانية المذكورة في تلك الرسالة تعمل عملها في هذا المرض أيضا، ولاسيما الآلام التي تورثها المصيبة، فقد ولّت قبل هذه الساعة بينما ثبت أجرُها وخيراتُها وفوائدها الدنيوية والأخروية والإيمانية والقرآنية، مثلما ذكرتُه للمريض الميمون من «أرضروم». بمعنى أن تلك المصيبة الواحدة العابرة قد انقلبت إلى نِعمٍ متعددة دائمة. أما الزمان القابل فلأنه غير موجود الآن، فلا ألمَ حاليا لما ستدوم فيه من مصيبة. لذا فإيراث الألم من العدم بالتوهم هو عدمُ ثقة برحمة الله وقدره سبحانه وتعالى.

ثانيا: إن أغلب البشر على سطح الأرض مبتلَون بمصائب مادية ومعنوية قلبا وروحا وفكرا. وإن مصيبتنا بالنسبة إليهم خفيفةُ الوطء جدا ومُربحة، فضلا عن أنها تورث مكاسب وفوائد مادية ومعنوية للقلب والروح والإيمان والصحة والسلامة.

ثالثا: لو لم نكن ندخل إلى هنا (السجن) في خضم هذه الأعاصير الهُوج، لكانت وطأة هذه المصيبة الخفيفة ثقيلةً جدا لدى لقاء الموظفين الذين تُساوِر قلوبَهم الشكوكُ والأوهام، ولكان ينـزل بنا بلاءُ التصنع والتزلف لهم.

رابعا: إن رؤية أحباء حقيقيين رحماء -أرحم على الإنسان من شقيقه- في هذا الشتاء المادي والمعنوي المضاعف الذي تعطلت فيه الأعمال وفي هذه المدرسة اليوسفية التي هي مدرسة واحدة من مدارس الزهراء، واللقاءَ بإخوة الآخرة، وهم بمثابة مرشدين ناصحين، وزيارتَهم والاستفادة من مزاياهم الخاصة والتـزودَ من حسناتهم التي تسري سريان النور والنوراني في المواد الشفافة، وحصولَ ذلك بمنتهى الرخص وبتكاليف قليلة، فضلا عن الاستمداد من معاونتهم المعنوية ومن مسرّاتهم وسلوانهم.. كل ذلك يجعل هذه المصيبة تُبدل شكلَها وتتحول إلى نوع من مشهدِ عناية ربانية معنوية.

نعم، إن ظرافة لطيفة لهذه العناية الخفية هي أنهم يطلقون على جميع طلاب النور القادمين إلى هنا لقب: «العلماء». فترى على لسان الجميع ذكرهم باحترام وإجلال بكلمة «علماء.. علماء..».

فضمن هذه الظرافة إشارة لطيفة، وهي أن السجن قد تحول إلى مدرسة علمية وأصبح طلاب النور مدرسين ومعلمين فيها، وستصبح بإذن الله سائر السجون بمثابة مدارس بفضل هؤلاء العلماء.


إخوتي!

لو تُقرأ أحيانا أمثال هذه الرسائل الصغيرة المسلية، علاوة على مطالعة رسالة «الثمرة» ولاسيما المسائل الأخيرة منها، وتَداول الإخوة فيما بينهم تداولا فكريا المسائل التي تخطر على البال من رسائل النور، لكسب المرء بإذن الله شرف طالب العلوم الشرعية. ولقد أولى علماء أفذاذٌ الأهميةَ لطلبة العلوم الشرعية حتى قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: «نوم طالب العلم عبادة».

لذا لو حدثت مائة ألف ضيق وضيق من جراء التتلمذ، هذا الشرف الرفيع، في مثل هذه المواضع المؤلمة الشاقة، وبخاصة في مثل هذا الزمان الذي انعدمت فيه المدارس الشرعية. ينبغي عدم الاهتمام بتلك المضايقات، بل التبسم بفرح وسرور في وجه تلك المصاعب قائلين: «خير الأمور أحمزها».

أما من حيث تكاليف العيش لعوائل الإخوة الفقراء، فحيث إن النظر يكون في المصيبة إلى الأكثر مصيبة وفي النعم إلى الأقل نعمة. وذلك بناء على قاعدة قرآنية إيمانية ونورية؛ لذا فهم في راحة تامة أكثر من ثمانين بالمائة من الناس. فليس لهم حق الشكوى، بل عليهم حق الشكر بثمانين درجة، شكر فوق شكر.

ثم إن حصولنا على ما قسم الله لنا هنا من رزق قد عينه القدرُ الإلهي، وجمعَتنا عدالةُ الرحمة الإلهية مودعةً الأهل والأطفال إلى رزّاقهم الحقيقي ومسرّحةً لهم من وظيفة الإشراف على رزقهم موقتا كما سيعزله يوما ما عزلا تاما. فما دامت الحقيقة هي هذه فعلينا أن نقول: ﴿حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَكيلُ﴾ (آل عمران:173) مسلّمين أمرَنا إليه تعالى شاكرين له أجزل شكر.


إخوتي الأعزاء الصادقين!

إنني محظوظ وشاكر لله بوجودي قريبا منكم وفي بناية واحدة (من السجن)، رغم أنني لا أقابلكم وجها لوجه. وأحيانا يخطر إلى قلبي أخذ تدابير لازمة دون اختيارٍ مني. فمثلا:

لقد أرسل الماسونيون إلى الزنزانة المجاورة لنا سجينا جاسوسا وكذابا. ولما كان التخريب سهلا -ولا سيما في مثل هؤلاء الشباب الطائشين- علمت أن الزنادقة يسعون لبثّ الفساد وهدم الأخلاق إزاء قيامكم بالإرشاد والإصلاح، لما لمستُ من هذا المدعو أذى مؤلما وإفسادا لأولئك الشباب.

فيا إخوتي!

يلزم -بل في غاية الضرورة- أخذُ الحذر الشديد تجاه هذا الوضع، وعدمُ إبداء مشاعر الاستياء من المسجونين السابقين قدر الإمكان، وعدمُ فسح المجال ليستاءوا منكم، والحيلولةُ دون حدوث التفرقة والثنائية، مع التحلي بضبط النفس والتجمل بالصبر.

ويلزم على إخواننا المحافظةُ على قوة التساند والأخوّة وذلك بإبداء التضحية وترك الأنانية والتواضع قدر الإمكان.

إن الانشغال بأمور الدنيا يؤلمني، فأعتمد على فطنتكم لأنني لا أستطيع التوجه إليها من غير اضطرار.

سعيد النُّورْسِيّ