ثمرة من ثمار سجن دنيزلي

هذه الرسالة: دفاع الإيمان ترفعه رسائل النور لصدّ الزندقة والكفر المطلق، فليس لنا دفاعٌ حقيقي عن قضيتنا -في سجننا هذا- إلّا هذا الدفاع، فنحن لا نسعى إلّا للإيمان.

وهي خاطرةُ ثمرة أثمرها سجنُ «دنيزلي» في يومين من أيام الجُمَع المباركة.

سعيد النُّورْسِيّ


رسالة الثمرة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنينَ﴾ (يوسف:42)

نفهم من أسرار هذه الآية الكريمة أن يوسف عليه السلام هو قدوة المسجونين ورائدُهم. فيصبح السجن إذن نوعا من «مدرسة يوسفية». وحيث إن عددا غفيرا من طلاب النور قد دخلوا هذه المدرسة مرتين، لذا ينبغي لهم أن يتدارسوا ويدرّسوا قسما من خلاصة المسائل الإيمانية التي أثبتتها رسائل النور ولها مساس بالسجن، للاسترشاد بها ولتقويم الأخلاق والسلوك في هذه المدرسة المفتوحة لتلقي التربية.وها نحن أُولاء نبيّن بضعا من تلك الخلاصات.

سعيد النُّورْسِيّ


 المسألة الأولى

يمكن تلخيص هذه المسألة التي تم إيضاحُها في «الكلمة الرابعة» كما يأتي:

إن رأس مال حياتنا هو هذه الساعات الأربع والعشرون التي يحملها إلينا اليومُ نعمةً خالصة من نِعَم خالقنا الكريم جل جلاله، لنكسب بكل ساعة من هذه الساعات ما يلزمنا، وما هو ضروري في حياتَينا كلتيهما الدنيوية والأخروية.

وما لم نصرِف ساعةً واحدة -وهي كافية لأداء الصلوات المفروضة- لحياتنا الأخروية الخالدة، بينما نصرف ثلاثا وعشرين ساعة في سبيل هذه الحياة الدنيا القصيرة، نكون قد ارتكبنا خطأً جسيما لا يستصوبُه عقلٌ سليم. فلا جرم أننا نعاني نتيجةَ هذا الخطأ الفادح غلظةَ القلب وقسوته، وانقباضَ الروح وظلمتها، المؤدية بمجموعها إلى تعكير صفو الأخلاق، وتلّوث نقاوة الروح.. وفوق هذا تمضي حياتُنا رتيبة مملّة يائسة خاوية المعنى. فيصيبنا الضجَرُ، فلا نكاد نفيد من دروس هذه المدرسة اليوسفية، ومن محنة الامتحان والابتلاء ما يربينا ويرقى بنا، فنخسر بهذا خسرانا مبينا.

أما إذا صرفنا ساعةً واحدة في أداء الصلوات الخمس، فكل ساعة من ساعات الابتلاء وأوقات المحن تتحول إلى يوم من العبادة، فكأن الساعات الفانية قد اكتسبت -ببركة هذه الساعة- صفةَ الخلود، وأصبحت في حكم ساعات أبدية باقية.. فتنـزاح عن القلب سحُبُ اليأس ويتبدد عن الروح ظلامُ القنوط.. وتصبح هذه الساعة من العبادة كفّارةً لبعض ما ارتُكب من أخطاء وذنوب، ربما كانت السببَ في الدخول إلى السجن.. وبذلك نكتشف حكمةَ ابتلائنا بالسجن ويغدو السجنُ مدرسةً نتلقى فيها الدروس النافعة.. ونجد فيه مع إخوتنا في المصيبة والبلاء العزاءَ والسلوان.

وقد ذُكر في «الكلمة الرابعة» أيضا مثالٌ يبين فداحةَ الخسارة التي تصيب مَن يلهث وراء حظه من الدنيا ويعزف عن الآخرة وهو:

هناك من يدفع خمسا أو عشرا من أربع وعشرين ليرة يملكها في شراء بطاقة قمار اليانصيب -ربما يكون احتمال الفوز بها واحدا من ألف لوجود ألف من المشتركين معه- بينما لا يصرف واحدا من أربع وعشرين ساعة يملكها في شراء بطاقة تربّحه كنـزا خالدا أخرويا. علما أنَّ احتمال الفوز بها -للمؤمنين الذين خُتمت أعمالُهم بالحسنى- هو بيقينِ تسعٍ وتسعين وتسعمائة من ألف. كما أكد ذلك جميعُ الأنبياء والرسل الكرام عليهم السلام، وصدّقهم -كشفاً وتحقيقا- الأولياءُ والأصفياء الذين لا يحصرهم العد.

فهذا الدرس البليغ من رسائل النور ينبغي أن يرتاح إليه مسؤولو السجن وكلُّ مَن يعنيه أمر البلاد وشؤونها. لأنه قد ثبت بالتجربة: أن إدارة ألفٍ من المؤمنين المشفقين من عذابِ سجنِ جهنم والمستجيرين بالله منها، هي أسهل بكثير من إدارة عشرة من تاركي الصلاة، ومن فاسدي العقيدة والأخلاق، الذين لا يرتدعون إلّا بعقاب الدنيا وسجنها ولا يميزون الحلال عن الحرام.


خلاصة المسألة الثانية

مثلما بينَت رسالةُ «مرشد الشباب» ووضّحتْها إيضاحا جميلا من أن الموت لا مفرّ منه أبدا، بل إن مجيئه أيقنُ من مجيء الليل لهذا النهار، ومن تعاقب الشتاء لهذا الخريف. وكما أن هذا السجن مضيفٌ مؤقت لا يكاد يفرغ حتى يُملأ من جديد، فالدنيا كذلك كالفندق، وكمنـزل حِلٍّ وترحال مُقام على طريق القوافل المسرعة.

فالموت الذي يفرغ كلَ مدينة من سكانها مائةَ مرة، ويدفع بهم إلى المقابر لابد أنه يطلب شيئا أكثرَ من هذه الحياة الفانية وأعظمَ رفعة منها.

ولقد حلّت رسائل النور لغز هذه الحقيقة المدهشة، وكشفَتها، وخلاصتها هي:

مادام الموت لا يُقتل، وبابُ القبر لا يُغلق، فإن أعظم ما سيشغل بال الإنسان ويشكّل أكبرَ معضلة له هو النجاة من يد جلاد الموت هذا والخلاص من سجن القبر المنفرد.

ولقد أثبتت رسائل النور إثباتا جازما -بفيض من نور القرآن الكريم- أنَّ لهذه المعضلة علاجا، وخلاصته هي: أن الموت إما هو إعدام أبدي، وفناءٌ تام يصيب المرءَ وأحبته، وذوي قرباه جميعا؛ أو هو تسريح من العمل للذهاب إلى عالم آخر أفضل، وجواز سفر للدخول إلى قصور السعادة بشهادة الإيمان ووثيقته.. أما القبر فهو إما سجن انفرادي مُظلم وبئر سحيقة، أو هو باب إلى روضات خالدة ومَضيف منوّر بعد السراح من سجن الدنيا.

وقد أثبتت رسالة «مرشد الشباب» هذه الحقيقةَ بمثال وهو: أنه نُصبت في فناء هذا السجن أعوادُ مشانقَ تستند على جدار، خلفه دائرةٌ عظيمة تمنح جوائز سخية يشترك فيها الناس كلُهم. ونحن المساجين الخمسمائة ننتظر دورَنا، لنُدعى إلى ذلك الميدان، فسنُدعى إليه فردا فردا شئنا أم أبينا، فلا نجاة! فإما إنه سيُقال لكل منّا: «تعال تسلّم أمر اعدامك واصعد المشنقة». أو: «تسلّم أمر السجن الانفرادي الأبدي وادخله من هذا الباب المفتوح». أو يُقال: «بشراك! فقد فزت ببطاقة تربّحك ملايين الليرات الذهبية، هيا خذها».

فها نحن أولاء نشاهد إعلانات هذه الدعوة منتشرة هنا وهناك ونرى أناسا يصعدون المشانق بالتعاقب ومنهم مَن يتدلى، ومنهم مَن يتخذها دَرَجا وسلّما للبلوغ إلى دائرة الجوائز الواقعة خلفَها، وقد أصبحنا على يقين جازم بما يدور في تلك الدائرة -كأننا نراه رأيَ العين- استنادا إلى ما يرويه كبارُ موظفي تلك الدائرة من روايات صادقة لا تقبل الشك.

دخلتْ سجنَنا -في هذه الأثناء- طائفتان، تحمل إحداهما آلات الطرب وقناني الخمر مع حلويات، ظاهرها العسل وباطنها السموم، دسّتها شياطينُ الإنس، وهم يقدمونها إلينا ويرغّبوننا في تناولها. أما الجماعة الثانية ففي أيديهم كتب تربوية ومنشورات أخلاقية مع مأكولات طيبة ومشروبات مباركة، يقدمونها هدايا لنا، ويذكرون لنا بالاتفاق والاطمئنان الكامل واليقين التام:

أنَّ ما تقدمه الطائفةُ الأولى لكم من مأكولات ما هي إلّا للامتحان والاختبار، فإذا ما قبلتموها ورضيتم بها فسيكون مصيرُكم كما هو ماثل أمامكم في المشانق. أما إذا رضيتم بهدايانا -التي نقدّمها إليكم باسم حاكم هذه البلاد وبأمره- وتلوتُم ما في تلك الكتب من تعليمات وأذكار فستنجون من الإعدام وتستلمون بطاقة الجائزة من تلك الدائرة، لتفوزوا بالربح العظيم، هدية من السلطان وكرما منه وفضلا. صدِّقوا بما نقوله لكم واعتقِدوا به اعتقادا راسخا كأنكم ترونه في وضح النهار.. ولكن حذار من تلك الحلوى المعسّلة -المحرّمة أو المُريبة- فلو أكلتم منها تلوّت بطونُكم بمغصٍ شديدٍ من أثر السموم، فتقاسون منها الآلام لحين صعودكم المشانق.

وهكذا على غرار هذا المثال، سيَهب القدرُ الإلهي للمؤمنين الذين قضوا حياتهم بالطاعة، وختمت أعمالُهم بالحسنى خزائنَ أبدية لا تنضُب بعد أن ينتهي أجلُهم في الدنيا. أما أولئك المتمادون في الضلالة والفسق من دون أن يثوبوا إلى ربهم فسيُعدَمون إعداما نهائيا (لمن لا يؤمن بالآخرة) أو يزجّون في سجن انفرادي مظلم أبدي (لمن يتمادى في غيّه وسفهه مع إيمانه ببقاء الروح). فهؤلاء يتسلمون قرار شقائهم الأبدي بيقين يبلغ تسعا وتسعين بالمائة. نعم، يخبر بهذا الخبر الصادق مائةٌ وأربعة وعشرون ألفا من الأنبياء عليهم السلام، وبين أيديهم معجزات تصدقهم، ويخبر أكثر من مائة وأربعة وعشرين مليونا من الأولياء قدس الله أسرارهم المقتفين آثار الأنبياء والمصدّقين بما أُخبروا به كشفا وذوقا، ويُخبر به كذلك مَن لا يحصيهم العدّ من العلماء المحققين (حاشية) إن أحد أولئك العلماء المحققين هو: رسائل النور التي ألجمت أعتى الفلاسفة الماديين، وأفحمت أشد الزنادقة تمردا، طوال العشرين سنة التي خلت، وما تزال قائمة على قدم وساق في ميدان التحدي والمبارزة، وهي في متناول الجميع، فبوسع أي واحد قراءتها دون تفنيدها. والمجتهدين والصديقين الذين أثبتوا دعواهم وتصديقهم عقلا وفكرا بالبراهين الدامغة والحجج القاطعة، فأخبروا يقينا ما أخبر به أولئك الأفذاذُ من تلكما الطائفتين. فهؤلاء الطوائف الثلاث العظيمة والجماعات الغفيرة من أهل الحق والحقيقة -وهم روّاد الإنسانية وشموسُ البشرية وأقمارها- يخبرون جميعا بتلك الحقيقة إجماعا وتواترا.. فيا خسارة من لا يهتم بأوامرهم، ولا يسلك الصراط السوي المؤدي إلى السعادة الأبدية بإرشاداتهم، ولا يكترث بمصيره المؤلم -وهو بيقين يبلغ تسعا وتسعين بالمائة- في حين أنه لا يسلك طريقا فيه احتمال واحد من الخطورة واستنادا على قول مخبر واحد، بل يستبدل به طريقا آخر ولو كان أطول.

فهؤلاء أشبه بسكِّيرٍ أو معتوهٍ شقي يلتهي بلَسع الذباب عن انقضاض وحوش كاسرة عليه، إذ قد فَقَد عقلَه وأضاع قلبه وأفسد روحه ودمّر إنسانيته؛ لأنه رغم التبليغات الصادقة الصادرة من أولئك المخبرين الذين لا يحصرهم العدّ فقد ترك الطريق الأقصر والأسهل المؤدي إلى الفوز المحقق بالجنة والسعادة الأبدية، واختار طريقا أطول منه وأوعر وأضيق، والذي يؤدي به إلى سجنِ جهنم والشقاء الأبدي حتما.

بينما الإنسان -كما قلنا- لا يلِج طريقا قصيرا في الدنيا فيه احتمال واحد بالمائة من الخطورة، أو فيه سجن شهر واحد وبناءً على كلام مُخبر واحد، وقد يكون كاذبا. بل يفضِّل عليه طريقا آخر ولو كان طويلا، أو من دون نفع، وذلك لمجرد خلوه من الضرر.

فما دامت حقيقة الأمر هذه، فينبغي لنا نحن معاشر المبتلين بالسجن أن نَقبل بكل رضى وسرور هدايا الطائفة الثانية لنثأر لأنفسنا من مصيبة السجن؛ إذ كما أن لذةَ دقيقة في الانتقام، ومتعةَ بضع دقائق أو ساعات في السفاهة قد زَجّت بنا إلى السجن، فيقضي فيه بعضُنا خمس عشرة سنة، والبعض الآخر عشر سنوات، وآخرون خمس سنوات، أو سنة أو سنتين أو ثلاثا من الأحكام.. فعلينا إذن -وأنفُ السجن راغم- أن نحوّل بقبولنا هدايا القافلة الثانية، هذه الساعاتِ القليلةَ إلى أيام من العبادة مثلها، ونحوّل سنتين أو ثلاثا من عقابنا إلى عشرين وثلاثين سنة من العمر الخالد. ونبدل بعشرين سنة أو ثلاثين سنة من مكوثنا في السجن ملايين السنوات الخالدة. فتكون الأحكام الصادرة علينا وسيلةَ نجاة من سجن جهنم. وحينها تبتسم حياتنا الأخرى وتُسَرّ إزاء بكاء دنيانا وحزنها. ونكون بذلك قد ثأرنا لأنفسنا من تلك المحنة وأظهرنا حقا أن السجن مدرسة تربوية لتقويم الأخلاق.

فليشاهد مسؤولو السجن ومن يتولون أمره، أن من ظنّوهم مجرمين قتلَة، وحسبوهم سفهاء مخلّين بالنظام، قد أصبحوا طلابَ مدرسة تربوية مباركة يتعلمون فيها الأدب الجميل والخلق القويم، وغدوا أعضاء نافعين للبلاد والعباد.. فليشكروا ربهم أجزل شكر.