دفاع «مصطفى صونغور»

إلى محكمة «أفيون» للجنايات الكبرى:

طلب مقام الادعاء إيقاع العقوبة بي أيضا بتهمة انتسابي لجمعية النوريين وقيامي بتحريض الشعب ضد الحكومة.

أولا: لا توجد جمعية باسم جمعية النوريين، ولست منتسبا لأية جمعية من هذا القبيل. إنني منتسب إلى جمعية الإسلام المقدسة والعظيمة.. الجمعية الإلهية والنورانية التي تبشر الإنسانية جمعاء بالسعادة الأبدية وبالسلامة الأبدية والتي وضعها منذ أكثر من ألف وثلاثمائة وخمسين سنة فخرُ الكائنات محمد ﷺ والتي لها ثلاثمائة وخمسين مليون منتسب في كل عصر. وقد عقدتُ العزم -بحمد الله- بكل قوتي على إطاعة أوامره المقدسة.

أما رسائل النور التي اعتبر المدعي تتلمذي عليها ذنبا وجُرما، فقد علّمتني وظائفي الدينيةَ والإيمانية، وعلمتني أن الإسلام أسمى وأقدسُ دينٍ وأنه السبيل الوحيد لسعادة البشرية، وعلمتني أن القرآن هو الأمر الإلهي النازل من رب العالمين سبحانه وتعالى، الحاضرِ الناظر في كل مكان، وأن الوجود بأجمعه بدءاً من الذرات وانتهاءً بالنجوم وبالشموس هو تحت قدرته وتحت إدارته الأزلية، وعلمتني أن القرآن معجزة إلهية يحيط نظره بكل الحوادث منذ الأزل إلى الأبد، وأنه أسمى من جميع الكتب، وكتاب معجز من أربعين وجها، وكلام أزلي يبشر البشرية جمعاء بالسعادة الأبدية فيجعل المشتاقين إليه يشعرون بعظم المنة عليهم. وأن الرسول ﷺ المرسَل من قِبَل رب العالمين كان بكل أحواله أكملَ الناس جميعا وأصدقَهم وأسماهم في نواحي الكمال، وأنه قدم للناس جميعا -بنور الإسلام- أكبر بُشرى وأقدسَ سلوان، وأنه أدار بسلطنته المعنوية خُمس نوع البشر منذ أربعة عشر قرنا، ويُكتَب في دفتر حسناته جميعُ ما كسبتْه أمته من حسناتٍ منذ ألف وثلاثمائة ونيف من السنين، وأنه سببُ خلق الكائنات، وأنه حبيب الله. وعلمتني أن الآخرة والجنة وجهنم حق وحقيقة، وذلك ببراهينَ وحجج باهرة مستقاة من القرآن المعجز.

أما رسائل النور فإنها بكلماتها وجملها تشهد أنها فيض من نور القرآن الكريم ونور محمد ﷺ. وذلك بانتسابها للقرآن الكريم وكونِها تفسيرا خاصا له، وبهذا الاعتبار فهي سماوية وعرشية.

وهكذا فإن رسائل النور -المتهمة بأنها تحرّض الناس ضد الحكومة- بكل أجزائها كـ«الكلمات» و«المكتوبات» و«اللمعات» و«الشعاعات» إنما تعطي دروسا حول الحقائق الإلهية وحول الدساتير الإسلامية وحول الأسرار القرآنية. فكيف إذن يُعدّ جُرما أو ذنبا قراءةُ رسائل النور وهي مؤلفاتٌ تعد في الذروة من ناحيةِ تدريسها وتلقينها للأخلاق الفاضلة والحقائق الإيمانية؟ وهل يعد جُرما أو ذنبا القيامُ باستنساخ هذه الرسائل التي تهدي إلينا السعادة الأبدية أو جَعْلُ أخ مؤمن يستفيد منها من الناحية الإيمانية؟ أيعد هذا تحريضا للناس ضد الحكومة؟ وهل زيارة مؤلِّف مثل هذه الرسائل المباركة الذي بلغ الذروة في الإيمان وفي الأخلاق وفي الفضيلة، أو تكوينُ أخوّة في سبيل القرآن الكريم مع طلاب النور المجهّزين بالإيمان الراسخ وبالعقيدة التي لا تتزعزع والذين أخذوا على أنفسهم حفظَ شرف الإسلام وحقائقِ القرآن في هذا العصر والذين لا هدف لهم سوى اكتساب رضى الله.. أيُعدّ هذا تشكيلَ جمعية؟ أيّ ضمير نقي وأي ضمير عادل يستطيع إصدار عقوبة على هذا؟

أيها الحكام المحترمون!

إن رسائل النور بجميع أجزائها اعتبارا من «الكلمات» و«اللمعات» وانتهاءً بـ«الشعاعات» التي أقر بها كبار العلماء والتي تَهَب مرتبة إيمانية عالية وشوقا إسلاميا كبيرا لمن يقرؤها ليست إلا تفسيرا نورانيا للقرآن ذي البيان المعجز، وكل جزء من أجزائها شمس تزيل الأمراض المعنوية وتبدد الظلمات المعنوية. أما أستاذنا مؤلفُ رسائل النور فقد أمضى حياته كلها في سبيل الإيمان وفي سبيل القرآن وتحمَّلَ في هذا السبيل جميعَ أنواع الأذى والمصاعب، وحاول بنشره هذه الحقائق القرآنية في هذا العصر إنقاذَ أبناء هذا الوطن المبارك من الهجوم الشرس للشيوعية ولكل أنواع الإلحاد، وأن الصفحة البيضاء لحياته الخالية من أي نقص تشهد بأنه موظف ومؤهل للقيام حاليا بهذه المهمة المقدسة. فهو -حاشاه- لم يلقّنّا دروسا غير أخلاقية، ولا دروسا في فن التخريب، بل لقننا دروسا في إنقاذ الإيمان. وهذا ربما يشكل أكبر غاية وأهم هدف للبشرية على سطح الأرض. إن قيامه منذ ما يقرب من خمس وعشرين سنة بمحاولة إنقاذ إيمانِ مئاتِ الآلاف من الناس برسائل النور، ولاسيما من أمثالي من المساكين الذين لم نكن نعرف شيئا عن الإسلام، وإعطاءنا دروسا في الإيمان الذي هو السعادة القصوى والغاية من الحياة يعد دون شك فضلا إلهيا. ونحن نقول للذين يَقلبون الحقائق فينكرون قيامه بهذه الخدمة المقدسة ويرونه خطرا على الحياة الاجتماعية:

إنْ كان ذنبا وجُرما قيامُه بإنقاذ الناس من آفات رهيبة كالتردي الأخلاقي والإلحاد وعدم الإيمان، وإرشادُ الناس إلى الإيمان وإلى السير في الطريق الذي رسمه الله تعالى، والدعوة إلى إطاعة أوامر الدين وإسعاد الناس بالسعادة الدائمية للإسلام.. إن كان هذا ذنبا وجُرما فأنتم تستطيعون آنذاك القولَ بأنه ضار للحياة الاجتماعية. وإلّا فإن هذا الادعاء أكبر فرية وهو جريمة لا تغتفر.

إن رسائل النور لا تستهدف الدنيا، بل تستهدف السعادة الأخروية الدائمة وتستهدف نيل رضى الله الباقي الأزلي الرحيم ذي الجلال الذي لا يشكل الحسنُ والجمال في الدنيا إلا ظِلا خافتا لجماله ولا تشكّل لطائفُ الجنة جميعا إلا لمعةً من محبته سبحانه. فما دام مثلُ هذا الهدف الإلهي المقدس ومثل هذا الهدف السامي موجودا، فإنني أبرئ رسائل النور وأنزهها ألف مرة من الوقوع في أمور سفلية ومحرمة تؤدي إلى نتيجة كتحريض الناس ضد الحكومة. ونحن نلوذ بحمى الله تعالى من شرور هؤلاء الذين لا يريدون منا أن نتعلم أمور ديننا ولا أن نخدم إيماننا، فيفترون علينا مثل هذه الافتراءات لكي يقضوا علينا.

أيها الحكام المحترمون!

لا يمكن أبدا إطفاء نور رسائل النور. وأكبر دليل على هذا هو أنه رغم المحاولات التي جرت منذ خمس وعشرين سنة للقضاء عليها، فإنها -على العكس من ذلك- انتشرت وسطعت أكثر، ذلك لأن صاحبها ومولاها هو الله ذو الجلال الذي بيده مقاليد كل شيء منذ الأزل إلى الأبد، ولأن حقائقها هي الحقائق القرآنية التي تَكفل الله تعالى بحفظها والعنايةِ بها. وستَبقى أنوارُها تتشعشع على الدوام إن شاء الله.

أيها الحكام المحترمون!

إنْ كان جُرما قراءة رسائل النور واستنساخها التي تُعلّمنا الإيمانَ والإسلام بكل شوق وبكل حُب، والتي لا هدف لها سوى مرضاة الله تعالى والتي هي تفسير نوراني للقرآن المعجز البيان في هذا العصر، وإن كان إعطاء هذه الرسائل -المشتملة على الحقائق الإيمانية- إلى إخوة مؤمنين جُرما، وإن كانت الرابطة الدينية والأخوّة الإسلامية التي تجمع المؤمنين في سبيل مرضاة الله وفي طريق القرآن والإيمان والتي تعد من الأوامر القدسية للدين.. إن كانت هذه الرابطة في نظركم تعتبر تشكيل جمعية، فإن من دواعي سعادتي أن أكون منتسبا لمثل هذه الجمعية، وهي سعادة أكبر من جميع المكافآت ومن جميع الأوسمة، وإنني أحمد الله تعالى حمدا لا حد له لِمَا مَنّ على مسكين مثلي بفضله وبلطفه هذه السعادة الكبيرة عندما جعلني طالبا من طلبة رسائل النور. وليس لي في الختام سوى القول:

﴿حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَكيلُ﴾

﴿حَسْبِيَ اللّٰهُ لَٓا اِلٰهَ اِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظيمِ﴾

المعلم

مصطفى صونغور

* * *

لائحة دفاع «مصطفى صونغور» في محكمة التمييز

1– لقد عدّت محكمة الجنايات الكبرى قيامي بقراءة رسائل النور واستنساخها وإعطاءها إلى أحد الإخوة المؤمنين المحتاجين ليستفيد منها، ذنبا وجرما لأنني قمت -حسب الادعاء- بتحريض الشعب ضد الحكومة. علما بأنني سبق وأن قلتُ في دفاعي جوابا على هذا الاتهام:

إن رسائل النور التي تعدونها تحرّض الناس ضد الحكومة ليست في الواقع إلا تفسيرا حقيقيا للقرآن الكريم، فهي -بكل أجزائها- تعطي دروسا في الحقائق الإيمانية، وتَهَبُ لكل من يقرؤها أو يستنسخها سعادة كبرى. ولم يكن من هدفها أبدا أمور دنيوية سافلة وفانية كتحريض الناس ضد الحكومة والتي هي من أعمال أصحاب الفتن وأعمال الساقطين، بل هدفها هو نيل رضى الله وهو أسمى مرتبة للسعادة والحبور. وإنني أفتخر لكوني خادما عاجزا وطالبا من طلاب رسائل النور التي أكسبتني عند قراءتها واستنساخها أحلى نعمة وأكبر فضيلة وهي نعمة الإيمان وفضيلته. ومع أنني ذكرت أن تتلمذي على رسائل النور يعد أكبر فضل إلهي، وأنني أحمد الله تعالى وأشكره شكرا دائما إذ أحسن بي هذه النعمة التي أسبغها على شخص فقير ومسكين مثلي، ومع ذلك فقد تم إصدار حكم بعقوبتي لأنهم عدّوا ارتباطي بالإيمان وبالإسلام جُرما دون أن يستندوا إلى أي قانون وإلى أي دليل، فخالَفوا الحق والحقيقة مخالفة تامة وصريحة.

2– إنني أشهد أنه عندما كنت أدرُس في معهد «كول كوي» في «قسطموني» فإن بعض المعلمين كانوا يلقنوننا دروسا إلحادية ويقولون لنا: إن محمدا ﷺ -حاشاه- هو الذي كتب القرآن الكريم، وأن الإسلام في حكم المَلْغيّ، وأن المدنية تسير في طريق التقدم، لذا فإن من الخطأ الكبير ومن الرجعية اتباع القرآن الكريم، حتى إن أحد المعلمين قال لنا في أحد الأيام:

«إن المسلمين يقضون حياتهم في ألم وفي عذاب دائم لأنهم يصلون ويذكرون الآخرة. وأن جوا من الكآبة يسود جوامع الإسلام على الدوام، بينما يقضي النصارى حياتهم في نشوة دائمة وفي جو من الموسيقى واللهو».

لقد كانوا يحاولون أن يقطعوا كل ما يربط بين قلوبنا وبين الإيمان والإسلام من روابط، وأن يُحِلّوا فيها بدلا منهما الكفر والإلحاد. وهكذا فبينما كنت محقونا بمثل هذه الأفكار المسمومة ومعرَّضا لاغتيال إيماني بهذه الدروس الإلحادية الضارة إلى درجة أنني انسقتُ في تيار هذه الأفكار وبدأت أنشرها حوالي والعياذ بالله، إذا بي أقرأ بعض رسائل النور التي تَستمد نورَها من القرآن الكريم والتي تَعرِض حقائقَ الإيمان وحقائق الإسلام ببراهين ساطعة وأدلة خارقة، وتبرهن على أن الدين الإسلامي كان دائما وسيلةً لسعادة الإنسان ولسلامته، وأنه شمس معنوية لن تنطفئ ولا يمكن إطفاء نورها، وإذا بهذه الرسائل تطرد كل الأفكار المسمومة وتنشر في قلبي الإيمانَ، وفي ظل هذا الفرح الغامر والسعادة اللانهائية عرضتُ حالي على الأستاذ «بديع الزمان» مؤلفِ هذه الرسائل والشخصِ المشفق الوفي والرائد الحقيقي وكيف أنني نجوت من حياة الغفلة والضلالة ورسوت على شاطئ الإيمان والنور، وكيف أن رسائل النور التي تُكسبنا الإيمان الحقيقي تُعَدّ شمسَ الهداية لجميع الناس في هذا العصر ووسيلة سعادة لهم. وأنه بقيامه بتأليف هذه الرسائل ووضعِ نفسه في مثل هذه المهمة المقدسة إنما يقوم بخدمة إيمانية عظمى، وأنه بذلك يُعدّ نعمة إلهية كبيرة للبشرية جمعاء ولاسيما لأهل الإيمان، وأعلنت له عن أسفي الشديد وعن ألمي البالغ وعن نفوري الشديد لما تقدم به بعض العصابات الخفية من أتباع «الدجال السفياني» من اعتداءات شنيعة على القرآن وعلى الإسلام وكيف أنهم -كما ذكرت آنفا- يزيّنون الإلحاد لأبناء هذه الأمة الإسلامية البطلة ويحاولون هدم الأسس الإسلامية الإلهية المقدسة التي ترتبط بها الملايين من الناس، ويسعون إلى هدم سعادتهم الأبدية. وأبديت له أسفي البالغ ونفوري الشديد من هؤلاء المجانين الذين يصفقون لهؤلاء المفسدين ويهللون لتخريباتهم الظالمة والدنيئة. وخاطبت أصدقائي في الدراسة الذين دَاخَلَهم الشك قائلا: هلموا لنتخلص من أهواء النفس هذه، ولنركع أمام حقائق القرآن، ولنُسرع إلى مدرسة النور المرشدة في هذا العصر إلى طريق السعادة، ولنترك أكاذيب هؤلاء السفهاء الكذابين.. هذه الأكاذيب التي سمعناها أشهرا وسنين وصفقنا لها والتي قدموها لنا وكأنها هي الحقيقة نفسها، ولنجعل «بديع الزمان سعيد النُّورْسِيّ» أستاذا لنا ونتمسك بدروسه بكل قلوبنا لكي نخرج من الظلمات إلى النور.. أليس هذا الخطاب نابعا من الفرحة التي استمدها من إيمانه ومن حب القرآن والإسلام والتمسك والاعتصام بهما ومن الحب الكبير الذي يُكنّه لأمته ومن الرغبة في أن يكتسب كل شخص إيمانا حقيقيا لكي ينال السعادة اللانهائية؟.

فهل الانتساب إلى الله والنظر إلى الإسلام كأسمى دين وكمنبع للفضيلة وبشارة للسعادة وإعلانُ ذلك يُعدّ جُرما؟

في هذا الزمان بدأ هجوم هدَّام ومدمر على الإسلام وعلى القرآن من جميع الجهات وبدأت الافتراءات تُكال للقرآن وللنبي محمد ﷺ ومحاولة النيل من تلك الذات السامية الرفيعة، في حينِ تُسمح بالكتب التي تنفث سموم الإلحاد والانسلاخ من الدين والأخلاق، وتُكال المدح والثناء لشُقاة من أعداء للإسلام تافهين عصاةٍ لله وتُذْكَر أعمالهم غيرُ المشروعة المبتدعةُ بالإعجاب والتقدير، وتُهمَل سمو القرآن وعلوه ورفعةُ شأن الرسول الكريم ﷺ وأحقيتُهما، علما أن رسائل النور تبين وجود الله تعالى وتبين أن موجوداتِ هذا الكون بأجمعها تشهد على وحدانية خالقها، وأنه واجب الوجود، وأن الإنسان بما جهزه الله من عقل وفكر أفضلُ مرآةٍ لأسماء الله الحسنى، لذا يُعدّ سلطانا على سائر المخلوقات، ولو انتسب الإنسان إلى الله وصان نفسه من الضلالة ومن السفاهة ومن كبائر الآثام لاستحق مرتبةَ ضيفٍ كريم في أعلى عليين وتنعّم بنعيم الجنة الخالدة الأبدية، أما إن كَفَر بخالقه ووقع في الضلالة وفي الغفلة وأشرك به وعصاه فإنه يكون أضل من الحيوان ويستحق مرتبة أسفل سافلين في عذاب خالد في جهنم، وأن القرآن كلام الله الذي لا تتغير أحكامه ولا تتبدل أوامره، وأن الإسلام يأخذ بأيدينا إلى أفضل مدنية، وأن السعادة الحقيقية والدائمة لا يمكن أن تتحقق للبشرية إلّا باتباع أوامر القرآن والانتساب إليه.. هذه هي الأمور التي أوضحتْها رسائلُ النور وبرهنتْ عليها بشكل قاطع، ومن هنا تَستمِد رسائلُ النور مكانتَها السامية لأنها تقتبِس من معجزات القرآن ومن النور الإلهي.. فهل الإيمان بهذا ونشرُه والإعلانُ عنه يُعدّ جُرما؟

والغريب أن قراءة الروايات والأساطير التي تُكتب لإلهاب الشهوات الفانية غير المشروعة ونشرَ الكتب التي تضر بسلامة الأمة وسلامة الوطن، والتي تهاجم الإسلام، ومن ثم مدح هذه الكتب وتقريظها والثناء عليها.. كل هذا مسموح به ولا يعد ذنبا، ولكن قيامنا بقراءةِ واستنساخ رسائل النور التي تُعرِّفنا بشمس الإسلام -التي اهتدت بها مئاتُ الملايين من الناس ووجدتْ فيها السعادةَ الحقيقية- وتدعو إليها وتُعرّفنا بها وتبشر بالحقائق الإيمانية، ومدح هذه الرسائل والثناء عليها -مع أننا عاجزون عن إيفاء حقها من الثناء- يعدّ ذنبا وجُرما. فهل هناك إنسان يحمل في قلبه ذرة من الإيمان وذرة من الحرص على سلامة هذا البلد وهذه الأمةِ يستطيع أن يعد هذا ذنبا؟!

حكام الجزاء المحترمون!

إن هذه الدعوى المعروضة على مقامكم الرفيع هي في الحقيقة دعوى الإيمان والقرآن، ودعوى السعادة الأبدية والخلاص لملايين الناس. إن جميع الأنبياء والرسل عليهم السلام وعلى رأسهم رسولنا الأكرم ﷺ وجميع الأولياء وأهل الحقيقة وجميع أجدادنا المؤمنين الذين رحلوا إلى الدار الآخرة لهم علاقة من الناحية المعنوية بهذه الدعوى العظيمة. وأنتم اليوم تملكون في أيديكم فرصةَ اكتسابِ محبةِ أولئك الملايين من أهل الحقيقة ودعاءِهم وشفاعتهم. وأن الحقيقة السامية المسماة برسائل النور أمامكم. فهل المراتب والمقامات الدنيوية الفانية والسفلية هي غايتها؟ أم إن غايتها هي نيل رضى الله تعالى الذي هو السعادة العظمى والفرحة الكبرى والهناء التي ما بعدها هناء؟ أَوَ تحفز كلماتها الإنسان إلى الأخلاق الرديئة والهابطة أم تجهزهم بالإيمان وتجملّهم بالفضيلة وبالأخلاق السامية؟ أنتم تجدون رسائل النور أمامكم وهى منبثقة من الإعجاز المعنوي للقرآن المبين الذي هو نور إلهي. فما دام اكتسابُ الإيمان، والانتقال بهذا الإيمان في الدنيا إلى سعادة الدار الآخرة أهمّ غاية للإنسان، ومادامت رسائل النور تقدم -بفيض من القرآن- الحقائقَ الإيمانية وتقرّب مئاتِ الآلاف من قرائها ومستنسخيها إلى هذا الهدف، فلا مناص أمام عدالتكم السامية وحُبكم للحقيقة إلّا فهمُ الوجه القرآني، والوجهِ الحقيقي لرسائل النور وتقديرُ قيمتها الحقيقية، ومعرفةُ أن طلاب النور لا يَسْعون إلا لنيل رضى الله تعالى وأنه لا هدف لهم سواه.

حكام الجزاء المحترمون!

إن أستاذنا العزيز «بديع الزمان» الذي ارتقى إلى أعلى مرتبة للفضيلة وللأخلاق الكريمة يحاول بكل ما يملك من شفقة ورحمة وحنان إنقاذ الإنسان من الظلام الفكري الدامس ومن السجن الأبدي، وهو الذي تَحمّل جميعَ صنوف الألم والعذاب في سبيل المهمة الملقاة على عاتقه لنشر الحقائق القرآنية.. أستاذُنا هذا يُرمَى في السجون دون وجه حق وخلافا للعدالة مع كونه مريضا وشيخا كبيرا ووحيدا دون أهل، مع أن غايته تنحصر فقط في إنقاذ إيمان الناس بما يملكه من علم كبير وذكاء خارق وإيمان رفيع وعبودية كبيرة. وأن قلب الإنسان لَيتفطر ألما مما قاساه هذا الشيخ المبارك المحب لخير الإنسانية في سجن «أفيون» من البرد القارس ومن الآلام الكبيرة والمضايقات العديدة مع أنه في الخامسة والسبعين من العمر، لذا فإننا ننتظر من عدالتكم السامية المرتبطة بالحقائق ومن حُبكم وتعلقكم بحب الإنسانية تجليَ الشفقة والرحمة للعدالة.

مصطفى صونغور

* * *

دفاع «محمد فيضي»

إلى محكمة «أفيون» للجنايات الكبرى:

لقد عدَّ المدعي العام كوني سكرتيرا لأستاذي «سعيد النُّورْسِيّ» ومتعلقا تعلقا شديدا به وبرسائل النور وقيامي بخدمة كبيرة في هذا المجال.. لقد عدّ ذلك تهمة تستوجب مساءلتي. وأنا أقول إزاء هذا بأنني أَقبل هذه التهمة بكل ما أوتيت من قوة وأنني أفتخر بها، ذلك لأنني فُطرتُ على حب العلم والشوق إليه. والدليلُ على ذلك أنه عندما قاموا بتفتيش منـزلي في حادثة «دنيزلي» وجدوا فيه خمسمائة وثمانين من الكتب العلمية والعربية وسجلوها رسميا، ومع أنني شخص فقير وفي مقتبل العمر ومعرفتي باللغة العربية لا تزال ناقصة، فإن عشقي للعلم ورغبتي الشديدة في التعلم هي التي دفعتني إلى اقتناء هذه الكتب المتنوعة التي لا توجد عند واحد بالألف من الناس.

فطرتي العلميةُ هذه كانت تدفعني للبحث عن أستاذ وعن مرشد حقيقي وحمدا لله حمدا لانهاية له، إذ دلني على بُغيَتي عن قرب، فيما كنت أحسبه بعيدا. أجل إن حياة أستاذي «سعيد النُّورْسِيّ» تشهد أنَّ غايته الوحيدة هي الشوق العلمي واستحصال العلوم الإسلامية. وقد تأكدتُ من مشاهدتي ومن قراءتي لتاريخ حياته -وهو كتاب مطبوع- ومن المعلومات التي استقيتها من طلابه القدماء أن رغبتي الفطرية في العلم موجودة لدى أستاذي بشكل خارق للعادة إلى درجة أنه ما زال يحتفظ بصفة طالب العلم -خلافا لجميع العلماء المتخرجين من المدارس الإسلامية القديمة- مما جعله قادرا على تحمل جميع البلايا والمصائب. ولأن أهل السياسة لم يفهموا الأحوال العجيبة لأستاذي؛ فقد سعوا لربط هذه الأحوال بنوع من السياسة التي لا علاقة له بها، حتى إنهم ألقوه في غياهب السجون. ولكن الله تعالى جعل هذا العشق العلمي الموجود لديه مفتاحا للحقائق القرآنية، فظهرتْ رسائلُ النور التي أذهلت جميع العلماء والفلاسفة. في هذه الأثناء وجدتُ أستاذي في مدينة «قسطموني» بجانبي، أنا الذي كنت أبحث عنه طوال حياتي بما فُطرتُ عليه من حب العلم، وأنا أَعدُّ هذا إحسانا إلهيا سأظل أشكر الله تعالى عليه حتى آخر عمري.

ولكي يحتفظ أستاذي بعزة العلم ومكانته فإنه لا يَقبل -ولم يكن يقبل في السابق أيضا- الصدقاتِ والهدايا وما شابههما، ويمنع طلابه من ذلك أيضا. ولم يُحنِ رأسه لأحد. ومن أوضاعه غير الاعتيادية أنه لم يرض في الحرب وهو في الخط الأمامي من جبهة القتال الدخولَ إلى الخندق حفاظا على العزة العلمية، وأنه وقف أمام ثلاثة من القواد المرعبين موقف الأستاذ المحافظ على عزته العلمية دون أن يبالي بغضبهم، بل أسكتهم. ولما كنت أعلم أن أستاذي هذا حافظ على شرف هذه الأمة وهذا الوطنِ وعلى شرف علماء الأمة التركية وضحى في سبيل ذلك بكل شيء فقد قبلته أستاذا حقيقيا لي، ولو افترضنا فرضا محالا وقلنا إن له مائة نقيصة، لكان علينا أن ننظر نظرة التسامح إليها، وألا نعترض عليه.

ولقد قدّره الوطنيون -باسم الوطن وباسم الأمة- في عهد المشروطية وكذلك الحال في العهد الجمهوري. ومثال تقديرهم لخدمات الأستاذ الجليلة للعلم هو: قيام حكومةِ الاتحاد والترقي بتخصيص تسعة عشر ألف ليرة ذهبية لمدرسة أستاذي «مدرسة الزهراء» في مدينة «وان» والتي أرادها أن تكون نظيرة «الأزهر»، ومع أن أساسها أُرسي إلّا أنّ بدء الحرب العالمية الأولى أدى إلى تأجيل بنائها، وقبل أربع وعشرين سنة قامت الحكومة الجمهورية -بعد موافقةِ وتأييدِ مائة وستين نائبا- بتخصيص مائة وخمسين ألف ليرة لبناء دار فنون الأستاذ (مدرسة الزهراء). وقيامُ هذا الأستاذ الكريم وحده بمحاولة إنشاء جامعة كجامعة الأزهر التي تعاون في إنشائها آلاف العلماء، واقترابُه جدا من تحقيق هذا الهدف يحتم على جميع الوطنيين وعلى جميع محبي الأمة مع جميع علماء الدين تقدير هذا الأستاذ والثناء عليه، ولأننا قد ظفرنا بمثل هذا الأستاذ، فنحن مستعدون لتحمل جميع المشاق والمصاعب.

إنني أكنّ لعلّامة الزمان هذا أخلصَ آيات التقدير والاحترام لأنه استطاع بفيوضاته العلمية وبحقائق آثاره السامية التي تناهز المائة والثلاثين كتابا مساعدتي في المضي في طريق العلم والإيمان وسأظل أحمل له هذا التقدير إلى الأبد إن شاء الله.

ومع أن التحريات استمرت لمدة أشهر لإثبات التهمة الموجهة إليّ من قبل الادعاء العام حول «استغلال الدين والمشاعر الدينية لغرض إنشاء جمعية سرية مخلة بأمن الدولة» إلّا أن هذه التحقيقات لم تسفر عن شيء، ذلك لأن مثل هذه الجمعية لاوجود لها، ولا توجد لنا أية علاقة بأية جمعية. إن علاقتنا الوحيدة هي مع رسائل النور التي دخلت في امتحان صعب في مواجهة قوانين الحكومة الجمهورية، ولكنها حصلت على البراءة من قبل المحاكم ذات الصلاحية، وعلى الاحترام والتوقير من قبل الهيئات المتخصصة، وهذه العلاقة لا تعدّ خيانة للوطن وللأمة بل هي علاقة علمية نافعة للوطن وللأُمة. ولا يوجد أي هدف وأية نيَّة أخرى خارج هذا، وبناءً على ذلك ولكون موضوع براءتنا وإخلاصنا ظاهرا تماما فإننا نطالب محكمتكم العادلة السامية بإصدار قرار براءتنا مثلما فعلت محكمة «دنيزلي» فتَحقق بذلك تجلي العدالةِ.

محمد فيضي باموقجي

الموقوف في سجن أفيون

 من قسطموني  

* * *

دفاع «أحمد فيضي»

إلى محكمة «أفيون» للجنايات الكبرى:

أيها الحكام المحترمون! أ ليس من حق المؤمن ومن واجبه الالتقاءُ بعالم ديني وقراءةُ كتبه المتعلقة بحقائق الدين واستنساخُ هذه الكتب والإسراعُ إلى نجدة إخوانه في الدين في سبيل خدمة دينه وقرآنه ورسوله ﷺ؟ وهل هناك أية مادة قانونية تمنعنا من أداء هذه الخدمة الدينية؟ وهل يُعَدُّ ذنبا قيام بعض الجهات بنقد التيارات الكافرة والتيارات غير الأخلاقية؟ نحن طبقة متدينة من الشعب لا شائبة فيها ولا علاقة لها مع السياسة ولا مع إدارة الدولة.

إنّ حمل حُسنِ ظنٍ تجاهَ شخص ما وتقديره يُعدّ قناعة شخصية، ونحن نعتقد بأن «بديع الزمان» أكبر عالم ديني في زماننا هذا، ونراه رجل حق وحقيقة قام بإيضاح حقائق الدين دون أي نفاق أو تملق لأحد. أما إطلاقنا عليه صفة «المجاهد» فنابع من خدماته الدينية ودفاعه ضد التيارات الهدامة للإيمان وللإخفاق التي تهدد بلدنا مستندا في ذلك إلى الحقائق القرآنية الراسخة. وليس بمقدورِ أحدٍ أن يؤاخذنا على قناعاتنا الوجدانية. ونحن في بلد يسمح بحرية العقيدة، لذا فنحن غير مضطرين إلى إعطاء الحساب لأحد.

أما بخصوص موضوع الأشخاص الذين سيظهرون في آخر الزمان حسب ما ورد في الحديث النبوي فأقول:

إننا لم نخترع هذه المواضيع من عندنا، ذلك لأنها موجودة في الدين؛ فالرسول ﷺ يقول في بعض أحاديثه بأن عمر الأمة المحمدية لن تزيد كثيرا عن الألف وخمسمائة سنة. وهذه الأحاديث تصف كثيرا من الحوادث التاريخية المهمة في حياة الأمة المحمدية وفي حياة الدنيا بأسرها، وذلك تحت عنوان: «علامات القيامة». وهي تنبه الأمة المحمدية وتحذرها من شرورها، وتقول بأن الذين يقعون في هذه الشرور عن غفلة أو عن جهل سيقعون في الشقاوة وفي الهلاك الأبدي، وهناك أدلة دينية لا حد لها حول هذه الأمور. نحن أناس آمنا بالله وبرسوله وبالقرآن. إذن فاستنادا إلى هذا الإيمان واستنادا إلى صدق الرسول ﷺ أفلا نعمل على خلاص أنفسنا من الهلاك الأبدي؟ أفلا نبصر ما يجري حوالينا؟ ألا نشرح هذا استنادا إلى الحقائق الدينية ونتساءل: «هل جاء هذا الزمان الخطر؟ أنحن هذا الجيلُ المشرفُ على هذه المهالك والمخاطر؟ أنتجاهل البراهين الساطعة الموجودة أمامنا ونتجاهل الحقائق الثابتة والحقائق العلمية التي تُثبت لنا الوجود الإلهي ونترك ديننا وننساق وراء التيار الذي يَعد الإلحاد من أكبر أركان المدنية الأوروبية؟.. وإنْ فعلنا ذلك فمن ينقذنا من الهلاك الأبدي؟ أنتجاهل هذا ولا نفكر فيه؟ أيمكن لمن يعتقد بأنه لا يوجد شيء فوق القرآن وفوق الحقائق القرآنية أن يرمي بنفسه إلى الهلاك الأبدي خوفا من عقوبات فانية؟ وهل يمكن أن يهتم ببعض القيم الفانية؟ وهل يتخلى عن وظيفته في إيفاء الخدمة لله ولرسوله ولدينه؟.. هذه هي في الحقيقة العواملُ الحقيقية التي تربطنا بـ«بديع الزمان»، فهل هناك منبع ديني آخر نُزيل به عطشَ أرواحنا إلى حاجتها الأزلية؟».

يوصينا المدعي العام المحترم بقراءة الكتب العربية والعلمية التي تزخر بها المكتبات والتي لا تتماشى مع روح عصرنا الحالي. وقد لا يعجب المدعي العام المحترم -ومن يفكرون مثله- بالخزينة العلمية المتمثلة بمجموعة رسائل النور وبالحقائق العالية والسامية التي تحويها هذه الرسائل. قد لا تعجبه هذه الرسائل وقد ينتقدها. وهذا شيء راجع إليه وهو حُرٌّ في ذلك، ولكنه لا يستطيع التدخل في حُبنا أو تفضيلنا لهذا الكتاب أو ذاك، فنحن نحب رسائل النور ونرى أنها كتاب دين حقيقي لا نفاق فيه وأنها تفسير للقرآن الكريم. إن مقاييس التفضيل والترجيح مسألة تقدير وجداني وقلبي لا يستطيع أحد أن يتدخل فيه.

أجل، إننا نعتقد بأن مؤلف رسائل النور يعطي درس الحقيقة نفسها، وأن إنكار المدعي العام لهذا وعدم قبوله لا يُضعف اعتقادنا هذا ولا يهزه، ونحن لا نتقبل رسائل النور من أجل كرامتها الكونية بل من أجل ظهور الكرامة العلمية الكاملة التي تتحدى الأوساط العلمية في دروس النور. ومع أن تحصيل مؤلفها العلمي لم يتجاوز ثلاثة أشهر. فإنه يفيض علما وينشر هذا العلم، وهو يستخدم في خوارق علمه وفي أكثر المسائل العلمية تعقيدا منطقا عاليا حيَّر أكبر المفكرين وأذهلهم، ويستخدم أسلوبا جذابا رائعا ومشوقا فياضا بالحرارة نابضا بالعشق وبالعواطف الجياشة وذلك بلغةٍ تَعلّمها بعد منتصف عمره، حتى لتبدو كتاباته وكأنها بحر إيمان وخزينة توحيد ومحيط حكمة، فهل تستطيعون أن تَدلّونا على بديع زمان ثانٍ؟ أنتم تستكثرون علينا أن نَعد تمثالَ الفضيلة هذا أستاذا لنا وهو الذي لم يلتفت إلى بريقِ جميع الظواهر الفانية ولم يسمح لنفسه التنـزلَ إلى أية منافع مهما كبرت ولا إلى الأمور التي تُلوث الإنسان مهما كانت نداءاتُ هذه الأمور قوية، ولم ينتظر أو يتوسل من أحد شيئا ولم يقبل ما عُرض عليه، وأعطى أفضلَ مثال للعفة وللنـزاهة، وصبر على جميع أنواع المكاره والمضايقات، ونذر نفسه لإظهار الحقيقة وإظهار الأنوار القرآنية والمعارف المحمدية.

أما أمام آلام البلد والأمة فقد كان قلبه الرحيم يبكي ألما وشفقة. وعلى الرغم من كل أنواع الغدر والإهانة التي تَعرّض لها فإنه لم يتخل عن إيفاء وظيفته لإسعاد مَنْ حواليه؛ فعلى الرغم من شيخوخته ومن بؤسه فإنه بذل جهودا مضنية وناضل بكل قوة في سبيل الله تعالى لإنقاذ الناس من غيابة الجهل ومن لجة الإلحاد. وفي هذا الوقت الذي ضاعت فيه المقاييس الأخلاقية فإننا نراه -بجانب كرامته العلمية المذكورة أعلاه- مثالا للتضحية والإيثار ومثالا للاستقامة وللنـزاهة وأنموذجا يحتذى للكمال ومحرابا للفضيلة. أَتَرون هذا إفراطا منا؟

إذن فإن هذه هي نظرتنا نحو «بديع الزمان» ونحو مؤلفاته، فهل ارتباطنا به الناشيءُ عن إيماننا، وهل اشتراكُنا مع آيات القرآن الكريم ومع الأحاديث النبوية الشريفة في تقبيح الكفر والانحدار الأخلاقي يجعلنا ملوثين بأوضار السياسة الفانية؟ وهل يمكن إطلاق صفة الإفساد على أعمالِ إصلاحِ نفوسٍ بريئة لِقِسْم من أبناء هذا البلد الذين لم تتيسر لهم منذ خمسة وعشرين عاما تعلمُ حقائق الدين؟ وهل إنقاذهم من الهلاك الأبدي وإبلاغهم عن الله وعن رسوله ﷺ وعن القرآن إفساد لهم؟

أيها الحكام المحترمون!

نحن لسنا أرباب السياسة أبدا، لأننا نرى أن السياسة تَحمِل آلاف البلايا والمخاطر والمسؤوليات لأمثالنا ممن هم خارج مسلك السياسة. ونحن أصلا لا نُعير أيّ اهتمام بالمظاهر الفانية، لأننا لا ننظر إلى الدنيا إلّا من وجهها الخيّر المؤدي إلى رضى الله، لذا فإننا نعترض بشدة على اتهامنا بالجري وراء السياسة ومعارضة الدولة. ولو كان هذا هو قصدنا وهدفنا إذن لكانت هناك أقل ظاهرة وعلامة على هذا في ظرف هذه السنوات البالغة خمسا وعشرين سنة. أجل، نحن نحمل صفة معارضة، ولكنها معارضة ضد السقوط الأخلاقي وضد الإلحاد، وهذه المعارضة ناشئة عن اشتراكنا -بالضرورة- مع القرآن الكريم في شدة توبيخه وصرامة بيانه في هذه المواضيع. فإذا لم يكن بياننا للأسباب الموجبة التي شرحناها والنابعة عن الإخلاص وعن النية الصافية وعن الحقيقة كافيا لإقناعكم فأصدروا أيّ عقاب ترغبون فيه بحقنا، ولكن لا تنسوا أبدا أن سيدنا عيسى عليه السلام الذي ينتسب إليه الآن ستمائة مليون نصراني قد حُكم عليه من قِبَل رجال الحُكم في ذلك العهد بالإعدام كأي لص عادي مع أن قلبه كان يخفق لسعادة الإنسانية ولتبليغ الأمانة الملقاة على عاتقه.

إن كلامنا الحر هذا يدفعكم لإصدار عقوبة ضدنا ولكننا سنستقبل هذه العقوبةَ وهذا الحُكمَ بكل فخر، وكل ما سنفعله هو أن نرفع يد الضراعة إلى قاضي الحاجات هاتفين: ﴿حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَكيلُ﴾.

أحمد فيضي قول

من ناحية أُورْتَاقْلَارْ

الموقوف في سجن أفيون