باسمه سبحانه

تتمة الاعتراض المقدم إلى محكمة «أفيون»

إن مخاطبي في هذا الاعتراض ليس محكمةَ «أفيون» ولا مدّعيها العام، بل أولئك الموظفين العاملين هنا وفى دائرة التحقيقات ممن تساورهم الشكوكُ والأوهامُ والأغراض الشخصية فيتخذون مواضعَ ضدّنا مستندين إلى تحقيقات ناقصة وإخباريات مختلقة استند إليها مدّعون عامون ومخبرون ومتحرون في أماكن أخرى.

أولا: إن إطلاق اسم «الجمعية» -التي لا تخطر على البال ولا أصل لها أساسا- على طلاب رسائل النور الأبرياء الذين ليس لهم أيةُ علاقة بالسياسة، ومن ثم عَدُّ أولئك المساكين الداخلين في تلك الدائرة ممن ليس لهم غايةٌ غيرُ الإيمان والآخرة، أنهم ناشرو تلك الجمعية وأعضاؤها الفعالون ومن منتسبيها، أو جعلُ الذين قرؤوا رسائل النور أو استقرؤوها أو استنسخوها مذنبين ودفعُهم إلى المحكمة.. كل هذه الأمور بعيدةٌ بُعدا واضحا عن العدالة.

والحجة القاطعة عليها هي: أنَّ الذين يقرؤون مؤلفاتٍ ضارةً كالسم الزعاف والتي تهاجم القرآن، كمؤلفات «الدكتور دوزي» وأمثاله من الزنادقة، لا يُعدّون مذنبين حسب دستورِ حرية الفكر والحرية العلمية، بينما تُعدّ ذنبا قراءةُ وكتابةُ رسائل النور التي تبين الحقائق القرآنية والإيمانية وتعلّمها المحتاجين إليها حاجة ماسة والمشتاقين إليها وتوضّحها لهم وضوحَ الشمس الساطعة!

ثم إنهم اتهمونا على بضع جُمل فحسب وردت في رسائل اتخذناها رسائل سرية -لئلا تُفسّر تفسيرا خاطئا وذلك قبل الإعلان عنها في المحاكم- علما أن تلك الرسائل قد دققتها محكمة «أسكي شهر» -سوى واحدةٍ منها- واتخذت ما يستوجب الأمر لها، ولم تعترض إلّا على مسألة أو مسألتين من رسالة «الحجاب» وقد أجبتُ عنها في عريضتي وفي اعتراضي بأجوبة قاطعة. وقلنا: «إن ما في أيدينا نورٌ ولا نملك صولجان السياسة». وأثبتنا ذلك في محكمة «أسكي شهر» بعشرين وجها.

وإن محكمة «دنيزلي» قد دققت جميعَ الرسائل دون استثناء، ولم تعترض على أية رسالة منها.. ولكن أولئك المدَّعين غير المنصفين قد عمموا حكمَ تلك الجمَل المعترَض عليها التي لا تتجاوز جملتين أو ثلاثا على جميع الرسائل حتى صادروا مجموعة «ذو الفقار» البالغة أربعمائة صفحة لأجل صفحات منها فقط. وجعلوا قارئي الرسائل ومستنسخيها مذنبين، واتهموني بأنني أُعارض الحكومة وأتحدّاها. إنني أُشهد أصدقائي القريبين منى والذين يقابلونني أُشهدهم مُقسِما بالله: إنني منذ أكثر من عشر سنوات لا أعرف سوى رئيسين للجمهورية ونائبا واحدا في البرلمان ووالي «قسطموني». فلا أعرف معرفة حقيقية أحدا غيرهم من أركان الحكومة ووزرائها وقوادها وموظفيها ونوابها، وليس لي الفضول لمعرفتهم. إلّا أن شخصا أو شخصين أظهرا قبل سنة علاقة نحوي فعرفتُ عن طريقهما خمسةً أو ستة من أركان الحكومة.

فهل من الممكن لمن يريد مبارزة الحكومة أن لا يعرف من يبارز، ولا يتحرك فيه الفضول لمعرفتهم، ولا يهتم بمن يواجههم، أ هُم أعداءٌ أم أصدقاء؟

يُفهم من هذه الأحوال أنهم يختلقون معاذيرَ لا أصل لها قطعا. فمادام الأمر هكذا: فإنني أقول لأولئك الظلمة غير المنصفين ولا أخاطب هذه المحكمة:

إنني لا أعير أقلَّ اهتمام بما تعتزمون إنزالَه بي من عقاب، مهما بلغت درجتُه من الشدة والقسوة. لأنني على عتبة باب القبر، وفى السن الخامسة والسبعين من عمري، فهل هناك سعادةٌ أعظمُ من استبدال مرتبة الشهادة بسنة أو سنتين من حياة بريئة ومظلومة كهذه؟

ثم إنني موقنٌ كلَ اليقين ولا يخالجني أدنى شك في أن الموت بالنسبة لنا تسريح وتأشيرةُ دخول إلى عالم الطمأنينة والسعادة. ولنا آلاف البراهين من رسائل النور على ذلك، وحتى إنْ كان الموتُ إعداما ظاهريا لنا فإن مشقةَ ساعة من الزمان تتحول بالنسبة لنا إلى سعادة ومفتاح للرحمة وفرصة عظيمة للانتقال إلى عالم البقاء والخلود.

أما أنتم يا أعداءنا المتسترين ويا أولئك الذين يضللون العدالة في سبيل إرضاء الزندقة ويتسببون في خلق الأوهام الزائفة في أذهان المسؤولين في الدولة لينشغلوا بنا دون داعٍ أو سببٍ.. اعلموا قطعا -ولترتَعد فرائصُكم- أنكم تحكمون على أنفسكم بالإعدام الأبدي وبالسجن الانفرادي الدائم. وأن الانتقام لنا يؤخذ منكم أضعافا مضاعفة، فها نحن أولاء نرى ذلك ونشفق عليكم. ولا شك أنَّ حقيقة الموت التي ظلّت تُفرغ هذه المدنية مائة مرة إلى المقابر، لابد أن تكون لها غايةٌ ومطلبٌ فوق غاية العيش والحياة. وإن محاولة الخلاص من براثن ذلك الإعدام الأبدي هي قضية في مقدمة القضايا الإنسانية، بل هي من أهم الضروريات البشرية وأشدها إلحاحا.

فما دامت هذه هي الحقيقة، أفَليس من دواعي العجَب والغرابة أن يَتهم نفرٌ من الناس طلابَ رسائل النور -الذين اهتدوا إلى ذلك السر وعثروا على تلك الحقيقة-، ويلصقوا اتهامات باطلة برسائل النور التي أَثبتت تلك الحقيقةَ نفسها بآلاف الحجج والبراهين؟ إن كل مَن له مسكة من عقل -بل حتى لو كان مجنونا- يدرك تمام الإدراك بأن أولئك النفر باتهاماتهم تلك إنما يضعون أنفسهم موضع الاتهام أمام الحقيقة والعدالة.

إن هناك ثلاث مواد توهم بوجود جمعية سياسية لا علاقة لنا بها أصلا، هي التي خدعت هؤلاء الظلمة.

أولاها: العلاقة الوطيدة التي تربط طلابي منذ السابق، قد أوحت لهم وجودَ جمعية.

الثانية: أنَّ بعضا من طلاب رسائل النور يعملون بأسلوب جماعي كما هو لدى الجماعات الإسلامية الموجودة في كل مكان والتي تسمح بها قوانين الجمهورية ولا تتعرض لها؛ لذا ظنَّ البعضُ فيهم أنهم جمعية، والحال أنَّ نيَّة أولئك الأفراد القليلين ليس تشكيل جمعية أو ما شابهها، بل هي أخوّة خالصة وترابُط وثيق أخروي بحت.

الثالثة: أنَّ أولئك الظلمة يعرفون هم أنفسهم أنهم قد غرقوا في عبادة الدنيا وضلوا ضلالا بعيدا ووَجدوا بعضَ قوانين الحكومة منسجمة معهم، لذا يقولون ما يدور في ذهنهم: إن سعيدا ورفقاءه معارضون لنا ولقوانين الحكومة التي تساير أهواءنا، فهم إذن جمعية سياسية.

وأنا أقول: أيها الشقاة! لو كانت الدنيا أبديةً خالدة، ولو كان الإنسان يظل فيها خالدا، ولو كانت وظائفُه منحصرةً في السياسة وحدها، ربما يكون لفريتكم هذه معنى. ولكن اعلموا أنني لو دخلت العمل من باب السياسة لكنتم ترون ألفَ جملةٍ وجملة صيغت بأسلوب التحدي السياسي، لا عشرَ جمل في رسالة. ولنفرض فرضا محالا أننا نعمل -كما تقولون- ما وَسِعَنا لمقاصد دنيوية وكسبِ مُتَعها الرخيصة والحصولِ على سياستها -ذلك الفرض الذي لم يحاول الشيطان أن يقنع به أحدا- فما دامت جميعُ وقائعنا طوال عشرين سنة لا تُبرز شيئا لملاحقتنا، إذ الحكومة تنظر إلى كسب الشخص لا إلى قلبه، والمعارضون موجودون في كل حكومة بشكل قوي، فلا شك أنكم لا تستطيعون أن تجعلونا في موضع التهمة بقوانين العدالة.

كلمتي الأخيرة:

﴿حَسْبِيَ اللّٰهُ لَٓا اِلٰهَ اِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظيمِ﴾

سعيد النُّورْسِيّ


«حادثة غير قانونية»

بعد براءتنا من محكمة «دنيزلي» ورغم اعتزالي الناسَ وانسحابي إلى الاعتكاف طوال ثلاث سنوات تاركا السياسة كليا، فإن هذه الحادثة الجديدة التي أفضت بنا إلى سجنِ «أفيون» لا تمتّ إلى القانون بشيء بل غير قانونية بعشرة وجوه:

الأول

إن رسائل النور قد مرّت بثلاث محاكم وثلاث هيئات للخبراء ومن سبع مراجع مسؤولة في «أنقرة» وعند كثير من مدققي العدلية في ظرف سنتين.. فاتفقوا كلهم من دون استثناء على براءة جميع الرسائل وبراءةِ «سعيد» ومن معه من أصدقائه البالغ عددهم خمسة وسبعين شخصا. ولم يعاقَبوا حتى بجزاء يوم واحد. وعلى الرغم من هذا فإن تجاوزهم على تلك الرسائل وكأنها أوراق مخلّة بأمن البلد، يَجعل كل من يملك مسكة من الإنصاف أن يدركَ مدى خروج الأمر عن القانون.

الثاني

إن الذي ظَلَّ في الانـزواء والاعتكاف في «أميرداغ» طوال ثلاث سنوات بعد البراءة، وعاش غريبا، حتى إن بابَه كان يُغلَق من الداخل والخارج معا ولا يَقبل أحدا من الناس لمقابلته إلّا للضرورة القصوى، والذي تخلَّى حتى عن التأليف الذي كان مستمرا عليه طوال عشرين سنة، يأتي المتحرّون ويكسرون قفلَ الباب ويداهمون غرفته إجراءً لسياسة دنيوية!

الثالث

إنه كما قال في المحكمة: أنَّ من لم يهتم بأخبار الحرب العالمية -بشهادة سبعين شاهدا- ولم يستفسر عنها، ومازال مستمرا على حاله ولم يقرأ أية صحيفة كانت منذ خمس وعشرين سنة ولم يستمع إليها والذي قال: «أعوذ بالله من الشيطان والسياسة» منذ ثلاثين سنة، ونفَرَ من السياسة بكل ما لديه من قوة، وقاسى ما قاسى من العذاب طوال اثنين وعشرين عاما.. ولم يراجِع ولو لمرة واحدة الدوائرَ الحكومية -لضمان راحته- دفعا لجلب الأنظار إليه حيث إنه لا يتدخل بالأمور السياسية.. فعلى الرغم من كل هذا أيوافقُ القانونَ مداهمةُ منـزله ومعتكَفه وكأنه يدير المؤامرات السياسية، وشدُّ الخناق عليه بما لم يُرَ مثله؟.. إن مَنْ يملك وجدانا ولو بمثقال ذرة يتألم على هذا الوضع.

الرابع

بعد تدقيق دام ستة أشهر في محكمة «أسكي شهر» تمت تبرئة رسائل النور من تُهمِ محاولةِ تشكيل جمعية سياسية أو تأسيس طريقة صوفية. ومع أن الرئيس الكبير حرض بعض أفراد وزارة العدل وموظفيها مدفوعا إلى ذلك بأوهامه وبحقده الشخصي، إلا أن رسائل النور بُرئت من تهمة تشكيل أية جمعية وأية طريقة صوفية، هذا ماعدا رسالة «الحجاب» (التي تُعدّ جزءا صغيرا فقط من رسائل النور) حيث جعلوها تكأة وحُجة -ليست قانونية بل بقناعة شخصية ووجدانية- مما أدّى هذا الأمر إلى الحكم بالسجن لمدة ستة أشهر لعدد من طلاب النور لا يتجاوز عددُهم عشرةَ طلاب من بين مائة منهم. ولما كان هؤلاء موقوفين منذ أربعة أشهر ونصف حتى موعد فحص الرسائل وتدقيقها فإنهم لم يُسجَنوا سوى شهر ونصف الشهر.

وبعد عشر سنوات قامت محكمة «دنيزلي» أيضا بتدقيقِ وتمحيصِ جميع ما كُتب من مكاتيب ورسائل ومؤلفات في عشرين سنة تدقيقا جيدا دام تسعة أشهر – على إثر اتهام هذه المؤلّفات بالتحريض على تأسيس جمعية أو طريقة صوفية، وأُرسلت إلى محكمة الجزاء الكبرى في «أنقرة» خمسة صناديق من هذه الكتب حيث دققت تلك الرسائل والكتب سنتين اثنتين من قبل محكمة الجزاء الكبرى في «أنقرة» ومحكمة «دنيزلي». واتفقت المحكمتان بالإجماع على تبرئة هذه الرسائل والكتب من التُهم الموجهة إليها كتشكيل جمعية أو طريقة صوفية وما شابهها من التُهم (حاشية) إن أساس رسائل النور وهدفها هو إظهار الحقيقة القرآنية والعملُ من أجل «الإيمان التحقيقي»؛ لذا فقد حصلت على قرار بالتبرئة عن تهمةِ تشكيلِ طريقة صوفية من ثلاث محاكم. ثم إنه ما من شخص ادعى خلال عشرين سنة أن «سعيدا أعطاني إذنا بالدخول والانتساب إلى طريقة صوفية». ثم إنه لا يجوز أن يكون انتسابُ أكثريةِ أجدادِ هذه الأمة منذ ألف عام إلى مسلك معين سببا في اتهامه أو تحميله مسؤولية ما. ثم إن المنافقين المتسترين يُلصقون اسم «الطريقة» على حقيقة الإسلام. فلا يُتهم كل من يتصدى للدفاع عن دين هذه الأمة بأنه صاحب «طريقة». أما تهمة الجمعية، فالذي عندنا هو أخوة إسلامية هدفها أخوة أخروية، وليست جمعية سياسية، لذا فقد أصدرت محاكم ثلاث قراراتِها بالتبرئة أيضا من هذه التهمة. (المؤلف). وإعادَتها إلى أصحابها كما برّأت سعيدا وأصدقاءه. إذن كم يكون خروجا على القانون اتهامُ «سعيد» باعتباره «رجلا سياسيا يسعى لتشكيل جمعية» أو «رجل مؤامرات» أو ما شابه ذلك، وتحريضُ موظفي العدالة ضدَّه باعتباره «رجل طريقة». يَعلم ذلك كلُّ من لم يمُت شعورُه.

الخامس

لما كانت «الشفقة» دستورَ حياتي منذ ثلاثين سنة، وأساسَ مسلكي ومسلك رسائل النور، فإنني لا أتجنّب التعرض للمجرمين الذين ظلموني وحدَهم بل لا أستطيع حتى مقابلتَهم بالدعاء عليهم، وذلك لكي لا أتسبب في إلحاق الضرر بأي شخص بريء. بل إن هذه الشفقة هي التي منَعتني من أن أتعرض أو حتى أن أدعُو على بعض الفساق بل الظالمين اللادينيين الذين اندفعوا بحقد شديد في ظلمي، ذلك لكي لا أتسبّبَ في ضرر مادي يَلحق بالشيوخ والعجائز المساكين من أمثال والد ذلك الظالم أو والدته، أو في الإضرار بأنفُس بريئة مثلِ أولاده. لذا فمن أجل أربع أو خمس من الأنفس البريئة لا أستطيع التعرّض لذلك الظالم الغدّار، بل أعفو عنهم أحيانا.

وهكذا فبسرّ هذه الشفقة لا أكتفي قطعا بعدم التعرض للحكومة وللأمن فقط، بل أوصي جميع أصدقائي بذلك إلى درجةِ أن بعض رجال الأمن المنصفين في ولايات ثلاث قد اعترفوا أن «طلاب رسائل النور» هم رجال أمن معنويون، لأنهم يحافظون على الأمن وعلى النظام. وهذه حقيقة يشهد عليها آلافُ الشهود، ويصدّقها فترةُ حياةٍ تمتد عشرين سنة ومع طلاب يبلغ عددُهم الآلاف، لم يسجِّل رجالُ الأمن أيةَ حادثة منهم تمس الأمن. ومع وجودِ كل هذه البراهين فقد اقتحموا بيت هذا الضعيف وكأنه رجلُ ثورة ورجل مؤامرة وعاملوه دون إنصاف من قِبَل هؤلاء الأشخاص الغلاظ وكأنه سفّاح ارتكب مائة جريمة (مع أنهم لم يجدوا شيئا في منـزله)، وقاموا بمصادرة نسخة نادرة من القرآن المعجز واللوحات الموجودة فوق رأسه وكأنها أوراق ضارة.

تُرى أي قانون يجيز مثل هذه التصرفات ضد آلاف الأشخاص المتدينين الذين حافظوا على الأمن بحُسن خُلقهم؟ وأيةُ مصلحة في تحريض هؤلاء ودفعِهم بالقوة للوقوف ضد الأمن والنظام؟

السادس

بفضل من الله تعالى إنني رجل عَرف من فيض القرآن منذ ثلاثين سنة كيف أن الشهرة الموقتة والفانية للدنيا وجاهها المتسم بالأنانية والأثرة، وعبادة الشهرة والصيت فيها، أمرٌ لا فائدة ولا خير منه ولا معنى له، فألفُ حمد وشكر لله. لذا فقد حاول منذ ذلك الحين وبكل جهده الصراع مع نفسه الأمّارة. ومع أن أصدقاءه والذين خدموه يعلمون علم اليقين ويشهدون بأنه قام بكل ما في وسعه لكسر شوكةِ نفسه والتخلّص من أنانيته وتجنب النفاق والتصنع، وقد حاول منذ عشرين سنة معارضة كل الذين أثنَوا عليه ومدحوه وتوجهوا نحو شخصه مدفوعين بحُسن الظن الذي تهشّ له نفسُ كل إنسان، وخالف كلَّ الذين رأوه أهلا لمقامات معنوية، بل فرّ منهم بكل ما يملك من قوة، وردّ حُسن الظن المفرط الذي يحمله أصدقاؤه القريبون إليه وخلّانه الخاصون إلى درجةِ أنه آلمهم وجرح شعورَهم، وفي رسائله الجوابية لم يقبل أبدا مديحَهم وحُسن ظنهم الزائد عن الحد في حقه، إذ نَسب كلَّ الفضيلة إلى رسائل النور التي هي عبارة عن تفسير للقرآن الكريم ولم يَنسبها لنفسه بل حرّمها من الفضائل ووجّه «طلاب رسائل النور» للتعلق بالشخصية المعنوية لرسائل النور وعدّ نفسَه مجرد خادم عادي للقرآن الكريم، وهذا يُثبت إثباتا قاطعا بأنه لم يسعَ أبدا لإبراز شخصه وتحبيب نفسه بل ردَّ ذلك.

ومع ذلك فهل هناك قانون يسمح بتحميل أية مسؤولية عليه، ويسمح بالهجوم على دار هذا الشخص الغريب والمريض والمنـزوي في غرفته والمتقدم جدا بالعمر والذي لا حول له ولا قوة، والقيامِ بكسر قفل داره ودخول موظفي التفتيش إلى غرفته وكأنه مجرم عتيد، وذلك لمجرد أن بعض أصدقائه البعيدين عنه مدحوه خلافا لرغبته وأَثنَوا عليه ثناءً يزيد عن حقه ورأوه أهلا لمقام معنوي لما يحملونه من حُسن ظنٍّ مفرط، ثم لقيام واعظ لا يعرفه في مدينة «كوتاهية» بالتفوه ببعض الكلمات في حقه؟!

ومع أنني لم أُرسِل أيةَ رسالة إلى تلك المدينة، إلّا أنه تمتْ كتابةُ رسالةٍ وُضع عليها توقيع مزوّر لي، مما دعا إلى توهّم مسؤوليتي عنها، وكذلك وجود كتاب مؤثر لا يُعرف كاتبه في مدينة «باليكسر».. أهذه الأمور تسمح لهم باقتحام الدار والتفتيش فيها؟.. مع أنهم لم يجدوا في الدار سوى الأوراد وسوى اللوحات.. أيُّ قانون في الدنيا وأية سياسة فيها تسمح بمثل هذا الهجوم؟

السابع

في مثل هذا الوقت الذي تُوجد فيه كل هذه التيارات الحزبية الفوارة في الداخل وفي الخارج، أي في الوقت الذي تهيأت له فرصةُ الاستفادة، أي فرَص كسب سياسيين عديدين إلى جانبه بدلا من أفراد معدودين من أصدقائه، فإنه كَتب إلى جميع أصدقائه قائلا لهم: «إياكم والانجراف في التيارات أو الدخول إلى معترك السياسة وإياكم والإخلال بالأمن» وذلك لتجنب التدخل كليا في السياسة والإضرار بإخلاصه وتجنّب جلب أنظار الحكومة عليه والابتعاد عن الانشغال بالدنيا.

وقد قام التيار السابق نتيجةً لأوهامه بمدّ يد السوء والضرر إليه جراء تجنّبه هذا. أما التيار الجديد فلادعائه: «أنه لا يساعدنا ولا يتعاون معنا». وقد سببا له ضيقا وكربا شديدين ولكنه مع هذا لم يتدخل أبدا في دنيا أهل الدنيا، بل انشغل بأمور آخرته إلى درجة أنه لم يرسل إلى أخيه الموجود في قرية «نُورْس» رسالة واحدة طوال اثنتين وعشرين سنة ولم يرسل لأصدقائه في تلك المحافظات عشر رسائل طوال عشرين عاما.. فأي قانون يسمح إذن بالتعرض لهذا الشخص الضعيف المنشغل بآخرته مثلَ هذا التعرض؟

وفي الوقت الذي لا يتعرض أحد ضد انتشار كتب الملاحدة، وهي كتب ضارة جدا للبلاد وللأمة وللأخلاق، ولا لمطبوعات الشيوعيين، وذلك باسم قانون الحرية، فإنه تتم مصادرة أجزاء رسائل النور وكأنها أوراق ضارة وتُقدّم إلى المحكمة. هذا مع أن ثلاث محاكم لم تجد في هذه الرسائل أي أمر مضر، فهي تدعو منذ عشرين سنة إلى خير الحياة الاجتماعية لهذه البلاد ولهذه الأمة وتقوية أخلاقها وترسيخ أمنها، وإلى تقوية الأخوة الإسلامية مع العالم الإسلامي، هذه الأخوة التي تُعدّ ركنَ استنادٍ وقوة حقيقية، وإلى إعادة صداقة هذا العالم الإسلامي لهذه الأمة وتقويتها بصورة مؤثرة. وقد أَمر وزير الداخلية علماءَ رئاسة الشؤون الدينية بتدقيق رسائل النور بُغية نقدها، وبعد ثلاثة أشهر من التدقيق لم تقم بنقدها، بل أدركت قيمتَها حق الإدراك وذكرت بأنها «مؤلَّف ذو قيمة كبيرة» ووَضعت رسائلَ أمثال «ذو الفقار» و«عصا موسى» في مكتبتها. كما شاهد الحُجاج مجموعة رسائل «عصا موسى» في الروضة الشريفة للرسول الكريم ﷺ.

فهل هناك قانون أو ضمير أو إنصاف يسمح بمصادرة رسائل النور وجمعها وتقديمها إلى المحكمة؟

الثامن

بعد اثنتين وعشرين سنة من النفي غير المبرر والمتسم بالضنك، وبعد أن أُعيدت له الحرية فإنه لم يشأ الذهاب إلى بلده الذي ولد فيه حيث يوجد الآلاف من أهله وأحبائه، بل اختار حياة الغربة والعزلة لكي لا يقرب من الدنيا ومن معترك الحياة الاجتماعية والسياسية، وتَرَك الصلاة في الجامع -مع وجود ثواب كبير في صلاة الجماعة- واختار الصلاة المنفردة في غرفته.. أي إنه شخص يميل إلى تجنّبِ ما يبديه الناسُ نحوه من احترام. كما أن عشرين سنة من عمره تشهد ويشهد معها آلافٌ من الشخصيات التركية الموقرة بأنه يفضّل تركيّاً واحدا ذا دين وتقوى على العديد من الأكراد غير الملتزمين، كما أثبت في المحكمة أنَّ أخاً تركيّا واحدا قويَّ الإيمان مثل «الحافظ علي» يُرجَّح على مائة كردي.

أي إن شخصا يتجنب لقاء الناس إلّا لضرورة ماسة لكي يتجنب مظاهر توقيرهم واحترامهم له، ولا يذهب حتى إلى الجامع، وعَمِلَ بكل جهده وعَبْر جميع مؤلفاته -منذ أربعين سنة- على ترسيخ الأخوة الإسلامية وعلى تنمية روح المحبة بين المسلمين، وعدَّ الأمة التركية حاملةً لراية القرآن ونائلة لثناء القرآن، وأحبَّ هذه الأمة حبَّا جما لهذا السبب، وصَرَف حياته من أجلها.. أيجوز أن يقول والٍ سابق في كتاب رسمي غادر حاول منه نشر دعاية معينة قصَد منها إخافة أصدقائه: «إنه كردي وأنتم أتراك، وهو شافعي وأنتم حنفيون» بغية محاولة إلقاء الرعب في قلوب الجميع وجعلهم يحذرون منه ويتجنبونه؟

ثم إنني أتسائل: أهناك قانون أو مصلحة في محاولةِ إجبار شخص منـزوٍ وإكراهِه على لبس القبعة مع أنه لم يجبره أحد على تغيير قيافته طوال عشرين عاما وخلال محكمتين اثنتين؟ هذا علما بأن القبعة رفعت عن رؤوس نصف العساكر.

التاسع

وهنا نقطة مهمة جدا وقوية (حاشية) إن وجود النصارى واليهود في الحكومات الإسلامية، وكذلك وجود المسلمين في الحكومات النصرانية والمجوسية يدل على أنه لا يمكن من الناحية القانونية التعرض لأي شخص معارض لم يتعرض بسوء إلى إدارة الدولة أو إلى أمنها بشكل فعلي لأن الاحتمالات والإمكانات لا يمكن أن تكون مدار مسؤولية، وإلا استلزم تقديم الجميع للمحاكم على أساس احتمال قيامهم باقتراف الجرائم. (المؤلف). ولكني أسكت عنها لأنها تتعلق بالسياسة.

العاشر

وهذا أيضا لا يسمح به أي قانون، ولا توجد فيه أية مصلحة، وإنما هو عبارة عن أوهام لا معنى لها وعن مبالغات تجعل من الحَبَّة قُبَّة، وهو تعرّضٌ وتهجّم لا يُقرّه أي قانون، وهنا أيضا نسكت لئلا نمسّ السياسة التي يحظر النظر إليها حسب مسلكنا..

وهكذا فإننا نقول ونحن أمام أوجه عشرة من أوجه المعاملات غير القانونية:

﴿حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَكيلُ﴾

سعيد النُّورْسِيّ