نقاط أخرى أودّ أن أعرضها على إدارة مدينة «أفيون» ومحكمتها وشرطتها

الأولى: أن ظهور أكثر الأنبياء في الشرق وفي آسيا وظهور أغلب الحكماء في الغرب وفي أوروبا إشارة قدرية منذ الأزل على أن الدين هو السائد وهو الحاكم في آسيا، وتأتي الفلسفة في الدرجة الثانية. وبناءً على هذا الرمز القدري، فإن الحاكم في آسيا إن لم يكن متدينا فعليه -في الأقل- ألّا يتعرض للعاملين في سبيل الدين، بل عليه أن يشجعهم.

الثانية: أن القرآن الحكيم بمثابة عقل الأرض وفكرها الثاقب، فلو خرج القرآن -والعياذ بالله- من هذه الأرض لجنت الأرض، وليس ببعيد أن تنطح رأسها الذي أصبح خاليا من العقل بإحدى السيارات وتتسبب في حدوث قيامة.

أجل، إن القرآن هو العروة الوثقى وحبل الله المتين يربط ما بين العرش والفرش، وهو يقوم بحفظ الأرض أكثر مما تقوم به قوة الجاذبية، ورسائل النور هي التفسير الحقيقي والتفسير القوي لهذا القرآن العظيم، وهذه الرسائل التي أظهرت تأثيرها منذ عشرين سنة في هذا العصر وفي هذا الوطن لهذه الأمة تعد نعمة إلهية كبرى ومعجزةً قرآنية لا تنطفئ، لذا فليس على الحكومة التعرض لها وترويع طلابها منها ليبتعدوا عنها، بل عليها حماية هذه الرسائل والتشجيع على قراءتها.

الثالثة: بناءً على قيام أهل الإيمان الآتين بتقديم حسناتهم إلى أرواح الذين سبقوهم مع دعواتهم بالمغفرة لهم فقد قلت في محكمة «دنيزلي»:

لو سألكم أهل الإيمان -الذين يعدون بالمليارات- في يوم المحكمة الكبرى وسألوا الذين يضيقون على طلاب رسائل النور الذين يعملون في سبيل إظهار حقائق القرآن ويحكمون عليهم بالسجن، وقالوا: «إنكم كنتم في غاية التسامح مع كتب الملاحدة والشيوعيين ومنشوراتهم باسم قانون الحرية وتسامحتم مع الجمعيات التي ربّت وغذّت الفوضى، ولم تتعرضوا لهم أبدا، ولكنكم أردتم أن تقضوا على رسائل النور وعلى طلابها بالسجن وبشتى وسائل التضييق، مع أنهم كانوا يحاولون إنقاذ الوطن والأمة من الإلحاد ومن الفساد وإنقاذ مواطنيهم من الإعدام الأبدي».. لو سألوكم هذا فماذا سيكون جوابكم؟ ونحن أيضا نوجه هذا السؤال إليكم..

لقد قلت هذا لهم، وعند ذلك قام أولئك الذوات المحترمون الذين كانوا من أهل الإنصاف والعدالة بإصدار قرار بتبرئتنا وأظهروا عدالة جهاز العدالة.

الرابعة: كنت أنتظر أن تستدعيني «أنقرة» أو «أفيون» إلى لجنة الشورى وتعاطي الأسئلة والأجوبة حول المسائل الكبيرة التي أخذت رسائلُ النور على عاتقها القيامَ بها.

أجل، إن رسائل النور هي أقوى وسيلة وأنجع دواء لهذه الأمة في هذا البلد في سبيل إعادة الأخوّة الإسلامية السابقة والمحبة السابقة وحسن الظن والتعاون المعنوي بين ثلاثمائة وخمسين مليون مسلم، وفي سبيل البحث عن وسائل هذا التعاون.

ونذكر أدناه أمارة واضحة على ذلك:

لقد قام في هذه السنة في مكة المكرمة عالم كبير بترجمة أجزاء كبيرة من رسائل النور إلى اللغة الهندية وإلى اللغة العربية وأرسل هذه التراجم إلى الهند وإلى الحجاز قائلا:

«إن رسائل النور تحاول تحقيق وحدتنا وأخوّتنا الإسلامية التي هي أقوى سند نستند إليها، وهي بذلك ترينا أن الأمة التركية هي دائما في المقدمة من ناحية الدين والإيمان».

كما كنت أتوقع أن تثار أسئلة في مسائل كبيرة كالجبال الشوامخ أمثال: «ما درجة خدمة رسائل النور وطلابها ضد الشيوعية التي تحولت إلى حركة فوضوية في وطننا؟ وكيف يمكن صيانة هذا الوطن المبارك وحفظه من هذا السيل الجارف المخيف؟»… كنت أنتظر وأتوقع هذا، فإذا بي أُفاجأ بمسائل تافهة لا تزن جناح ذبابة، ولا تتجاوز مسائل جزئية لا تستلزم مسؤولية، نابعة من أحقاد شخصية وافتراءات مقصودة تجعل من الحبة قبة… وهكذا قاسيت من هذه الشروط والظروف القاسية آلاما لم أتجرعها حتى الآن. وقد وجهت إلينا الأسئلة نفسها حول المسائل التي وجهت إلينا في ثلاث محاكم سابقة والتي برأتنا منها هذه المحاكم مع إضافة مسألة أو مسألتين شخصيتين تافهتين وأسئلة لا معنى لها.

الخامسة: لا يمكن الوقوف أمام رسائل النور ومبارزتُها، لأنها لا تُغلب؛ فهي قد أسكتت منذ عشرين سنة أكثرَ الفلاسفة عنادا وتعلن حقائق الإيمان كالشمس في رابعة النهار. لذا فعلى الذين يحكمون هذا البلد الاستفادة من قوتها.

السادسة: إن التهوين من شأني بأخطائي الشخصية التي لا أهمية لها وإسقاطي في نظر عامة الناس بإنزال الإهانات بي، لا يضرّ رسائل النور، بل يمدّها -من جهة- إذ لو سكت لساني الفاني فإن ألسنة مئات الآلاف من نسخ رسائل النور لن تكفّ عن النطق، ولن تسكت عن الكلام والتبليغ، كما أن الألوف من طلبتها الأوفياء الذين مُنحوا قوةَ النطق ووضوح الحجة سيديمون تلك الوظيفة النورية القدسية الكلية إن شاء الله إلى يوم القيامة، كما كان شأنهم إلى الآن.

السابعة: كما ذكرنا في دفاعاتنا أمام المحاكم السابقة والتي سردنا فيها حججنا، فإن أعداءنا السريين ومعارضينا الرسميين وغير الرسميين الذين خدعوا الحكومة واستغفلوها واستغلوا الأوهام والمخاوف المتسلطة على بعض أركانها ووجهوا جهاز العدالة ضدنا، إما أنهم من المخدوعين بشكل سيئ جدا أو من المنخدعين أو هم يعملون لصالح الفوضويين من الذين يحاولون قلب نظام الحكم بشكل غادر، أو هم من أعداء الإسلام ومن المرتدين الذين يحاربون الحقيقة القرآنية ومن الملاحدة الزنادقة.. فهؤلاء لم يترددوا أبدا عندما حاربونا من إطلاق صفة النظام على الردة التامة، ومن إطلاق صفة «المدنية» على السفاهة والتسيب الأخلاقي الرهيب، ومن إطلاق صفة «القانون» على نظام الكفر القهري المنفلت والمرتبط بالأهواء. وهكذا استطاعوا أن يضيقوا علينا تضييقا شديدا، واستغفلوا الحكومة وخدعوها ووجهوا جهاز العدالة للانشغال بنا دون أي داعٍ، لذا فإننا نحيل هؤلاء إلى قهر القهار ذي الجلال ونلتجئ إلى حصنِ ﴿حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَكيلُ﴾  ليحفظنا من شرور هؤلاء.

الثامنة: قامت روسيا في السنة الماضية بإرسال العديد من الحجاج إلى حج بيت الله الحرام من أجل الدعاية وإظهار الروس بمظهرِ من يحترمون القرآن أكثر من الأمم الأخرى، ولتأليب العالم الإسلامي من الناحية الدينية ضد هذه الأمة المتدينة في هذا الوطن. ثم إنه نظرا للانتشار الجزئي لأجزاء كبيرة من رسائل النور في مكة المكرمة وفي المدينة المنورة وفي دمشق وحلب وفي مصر، وحيازتها على تقدير العلماء وقيامها بكسر الدعاية الشيوعية، فإنها أظهرت للعالم الإسلامي بأن الأمة التركية وإخوتهم لا يزالون متمسكين بدينهم وبقرآنهم، وأنها بمثابة الأخ الكبير للعالم الإسلامي وبمثابة قائد مقدام في سبيل خدمة القرآن. أي إن رسائل النور بينت هذه الحقيقة في تلك المراكز والمدن الإسلامية وأظهرتها. فإذا كانت الخدمات الجليلة لرسائل النور تقابل بهذه الأنواع من التضييق والآلام ألا ترون من الممكن أن تحتد الكرة الأرضية وتغضب؟

التاسعة: أُورِدُ هنا تلخيصا لإثبات مسألة معينة أوردتها في مرافعتي أمام محكمة «دنيزلي»:

ولو فرضنا أن قائدا رهيبا وعبقريا استطاع بذكائه أن ينسب لنفسه جميع حسنات الجيش، وأن ينسب سيئاته وسلبياته الشخصية للجيش، فإنه يكون بذلك قد قلل عدد الحسنات التي هي بعدد أفراد الجيش إلى حسنة شخص واحد، وعندما نسب سيئاته وأخطاؤه إلى الجيش يكون قد كثّر هذه السيئات بعدد أفراد الجيش، وهذا ظلم مخيف ومجانب للحقيقة، لذا فقد قلت للمدعي العام في إحدى محاكماتي السابقة عندما هاجمني لكوني وجهت صفعة تأديب لذلك الشخص عندما قمت قبل أربعين سنة بشرح حديث نبوي، قلت للمدعى العام: حقا إنني أقلل من شأنه بإيراد أخبار من الأحاديث النبوية، إلّا أنني أقوم في الوقت نفسه بصيانة شرف الجيش وحفظه من الأخطاء الكبيرة، وأما أنت فتقوم بتلويث شرف الجيش الذي يعد حامل لواء القرآن، وقائدا مقداما للعالم الإسلامي، وتلغي حسناته لأجل صديق واحد لك. فخضع ذلك المدعى العام للإنصاف، بإذن الله، ونجا من الخطأ.

العاشرة: لما كان من المفروض أن يقوم جهاز العدالة بحفظ حقيقة العدالة وحفظ حقوق جميع المراجعين له دون أي تمييز، والعملِ في سبيل الحق وباسمه وحده، فإننا نرى أن الإمام عليا رضي الله عنه في أيام خلافته يمثل أمام المحكمة مع يهودي ليتحاكما. وقد شاهد أحد مسؤولي العدل أن أحد الموظفين احتد وغضب على سارق ظالم وهو يقطع يده فأصدر أمره بعزل ذلك الموظف في الحال، وقال آسفا: «من خلط مشاعره الذاتية بإجراء العدالة فقد اقترف ظلما كبيرا».

أجل، إن الموظف عندما يقوم بتنفيذ حكم القانون إن لم يشفق على المحكوم فليس له أن يحتدّ عليه، فإن فعَلَ ذلك كان ظالما. حتى إن أحد الحاكمين العادلين قال: «إن الشخص الذي يقوم بتنفيذ قصاص القتل إن احتد وغضب أثناء ذلك التنفيذ يُعدّ قاتلا».إذن فما دامت الحقيقة الخالصة والبعيدة عن الأغراض هي التي لا بد أن تسود في المحكمة، فإن من الغريب أن يتعرض طلاب النور -البريئون والمحتاجون إلى من يسرّي عنهم وإلى تجلي العدالة في حقهم- إلى إهانات ومعاملات قاسية هنا، رغم صدور قرارٌ بتبرئتنا من ثلاث محاكم، ورغم وجود أمارات عديدة لاستعداد تسعين في المائة من هذه الأمة للشهادة، وهذا يدل على أنه لا يمكن صدور أي ضرر من طلاب النور، بل على العكس من ذلك فإنهم يقدّمون فوائد جمة لهذه الأمة ولهذا الوطن. ولأننا قررنا أن نتحمل كلَ مصيبة وكلَ إهانة بكل صبر، فإننا نسكت ونحيل الأمر إلى الله تعالى ونقول: «لعل في هذا الأمر خيرا». ولكنني خشيت أن تؤدي هذه المعاملات الموجَّهة إلى هؤلاء الأبرياء نتيجةً لتبليغات مُغرضة إلى قدوم البلايا، لذا اضطررتُ إلى كتابة هذا الأمر.

وإذا كان هناك أي تقصير أو ذنب في هذه المسألة فإنه يعود إليّ. ولم يمد لي هؤلاء المساكين يدَ المساعدة إلّا بدافع من إيمانهم ومن أجل آخرتهم ضمن مرضاة الله تعالى، ومع أنهم كانوا يستحقون التقدير فإن القيام بمثل هذه المعاملات القاسية تجاههم قد أغضب حتى الشتاء. ومن الغريب أيضا والمحيِّر أنهم ساقوا أوهام تشكيل جمعية مرة أخرى، مع أن ثلاث محاكم دَققت هذه الناحيةَ وأصدرت قرارَها بالبراءة. ثم إنه لا يوجد فيما بيننا أيّ أمر يستدعي اتهامنا بتشكيل أية جمعية، ولم تجد المحاكمُ ولا رجال الأمن ولا أهل الاختصاص أيةَ أمارة حول ذلك، إذ لا توجد بيننا سوى رابطة الأخوة الأخروية مثلما يوجد ما بين المعلم وتلاميذه وما بين أستاذ جامعي وبين طلابه وما بين حافظ القرآن وتلاميذه الذين يسعون لحفظ القرآن. فالذين يتهمون طلاب النور بتشكيل جمعية عليهم أن ينظروا بنفس المنظار إلى جميع أهل المهن وإلى جميع الطلاب وإلى جميع الوعاظ أيضا، لذا فلا أجد لزاما عليَّ أن أدافع عن هؤلاء الذين جيىءَ بهم إلى السجن هنا نتيجة اتهامات تافهة لا أساس لها أبدا.

ولما قمتُ بالدفاع ثلاث مرات عن رسائل النور التي يهتم بها هذا البلد والعالمِ الإسلامي والتي صدرت منها فوائد مادية ومعنوية كبيرة لهذه الأمة، فسأقوم بالدفاع عنها مرة أخرى منطلِقا من الحقيقة نفسها، وليس هناك أي سبب يمنع دفاعي هذا ولا يوجد أي قانون أو أية سياسة تستطيع أن تَحُول بيني وتمنعني عن هذا.

أجل، نحن جمعية.. جمعية لها منتسبون يبلغ عددهم في كل عصر ثلاثمائة وخمسين مليونا، وفي كل يوم يُظهِر كل منتسب حرمته وتوقيره الكامل لمبادئ هذه الجمعية المقدسة بأدائه الصلاة خمس مرات ويُظهر استعداده لخدمة هذه المبادئ، ويهبّون لمساعدة بعضهم بعضا بأدعيتهم وبمكاسبهم المعنوية حسب دستورهم المقدس: ﴿اِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ اِخْوَةٌ ﴾ (الحجرات:10). ها نحن أولاء أفراد هذه الجمعية العظيمة المقدسة، وظيفتنا الخاصة إيصال حقائق القرآن الإيمانية بشكلها اليقيني إلى أهل الإيمان، وإنقاذُهم وإنقاذ أنفسنا من الإعدام الأبدي ومن السجن البرزخي الانفرادي، ولكن لا توجد لنا أية علاقة بالجمعيات الدنيوية والسياسية المتّسمة بالألاعيب وبالأساليب الملتوية، ولا توجد لنا أية علاقة بلعبة الجمعيات أو بأية جمعية سرية مع أن هذه هي التهمة الموجهة إلينا على الدوام ونحن أصلا لا نتدنى أبدا إليها.

وبعد أن قامت أربعُ محاكم بتدقيق هذا الأمر وتمحيصه جيدا قررت إصدار قراراتها بالبراءة.

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

تتمة ومرفق للدفاع المقدَّم إلى ستة مراجع في «أنقرة»

 وإلى محكمة «أفيون» للجنايات الكبرى

أقول وأصرح لمحكمة «أفيون» بأن تحمّلي وصبري قد نفدا، وأنه يجب وضع حد لهذا الأمر. فنحن منفيون منذ اثنتين وعشرين سنة دون أي سبب، وتحت الترصد الدائم وكأن حبسي المنفرد وعزلي المطلق عن العالم لا يكفي، فقد قدموني للمحاكم ست مرات وأدخلوني السجن ثلاث مرات دون أي مبرر قانوني (سوى مسألتين أو ثلاث) بل جراء أوهام وتوقع احتمالات، لأنهم لم يجدوا في مائة رسالة من رسائل النور أيّ مأخذ قانونيّ ضدنا وعاقبوا طلاب النور بغرامات مالية بلغت مئات الآلاف من الليرات، وهذا ظلم وغدر لا مثيل له، وستلعن الأجيالُ القادمة بكل شدة مسببي هذا الظلم والقائمين به، أما يوم المحكمة الكبرى فإننا نؤمن الإيمانَ كله بأن هؤلاء الظالمين سيُرمَون إلى جهنم وفي أسفل سافلين، وهذا ما جَعَلَنا نجد بعض التسرية، وإلّا فإنه كان في مقدورنا أن ندافع بكل قوة عن حقوقنا.

وهكذا ففي خمس عشرة سنة دخلنا ست محاكم، وتم تدقيق رسائل النور ومكاتيبنا مدة عشرين سنة، وكانت النتيجة أننا بُرِّئنا من قِبَل خمس محاكم تبرئة كاملة، أما محكمة «أسكي شهر» فلم تَجد ما يُوجب الإدانة إلّا بضع جمل في رسالة صغيرة هي رسالة «الحجاب» واتخذتْها عذرا، واستندت إلى مادة قانونية مطاطة، وأصدرت حكما بعقوبة بسيطة ضدنا، ولكننا كتبنا في «اللائحة التصحيحية» التي قدمناها رسميا إلى «أنقرة» بعد محكمة التمييز وأشرنا إلى أمر واحد فقط كأنموذج على عدم قانونية الحكم، وقلنا:

«إن آية الحجاب التي توضِّح عادة من العادات الإسلامية القوية الواردة في الدستور المقدس لدى ثلاثمائة وخمسين مليونا منذ ألف وثلاثمائة وخمسين عاما.. هذه الآية الكريمة تعرّضت لاعتراض أحد الزنادقة، ولانتقاد المدنية؛ لذا قمت بتفسيرها والدفاع عنها متبِعا إجماعَ ثلاثمائة وخمسين ألف تفسير مقتديا في ذلك نهج أجدادنا طوال ألف وثلاثمائة وخمسين عاما. فإذا كانت هناك عدالة في الدنيا فيجب إصدار حكم بنقض العقوبة الصادرة والحكم الصادر بحق رجل قام بمثل هذا التفسير، لكي تُمسح هذه اللطخة العجيبة عن جبين جهاز العدالة في هذه الحكومة الإسلامية». وعندما قدمتُ هذه اللائحة التصحيحية التي كتبتُها إلى المدعي العام هناك أُصيب بالذعر وقال:

«أرجوك! لا ضرورة لكل هذا، فعقوبتك خفيفة، والفترة الباقية قليلة جدا فلا حاجة لتقديم هذه اللائحة».

ولاشك أنكم على علم بأنني أدرجتُ نماذج أخرى عجيبة من الاتهامات ضمن الاعتراضات والدفاعات التي أرسلتُها إليكم وإلى المراجع الرسمية في «أنقرة» على غرار هذا الأنموذج، لذا فإني أطلب من محكمة «أفيون» وآمل منها باسم العدالة إعطاءَ الحرية الكاملة لرسائل النور التي لها بركة وخدمة تُعادِل خدمة جيش بأكمله في سبيل مصلحة هذه الأمة وهذا الوطن. وبذهاب أصدقائي الذين دخلو السجن بسببي فقد خطر على قلبي فكر يسوقني لاقتراف ذنب يستحق أكبر عقوبة لكي أودع هذه الحياة. وهو ما يلي:

بينما كان من المفروض أن تقوم الحكومة بحمايتي وبمد يد العون والمساعدة لي، لوجود مصلحة كبيرة للأمة أو منفعة كبيرة للوطن في هذا الأمر، فإن قيامها بالتضييق عليَّ يشير إلى أن عصابة الإلحاد الخفيةَ التي تحاربني منذ أربعين سنة، والبعض من أفراد عصابة الشيوعيين التي التحقت بها الآن، استطاعوا احتلال أماكن مهمة في المراكز الرسمية، وهؤلاء هم الذين يقودون الحملة ضدي. أما الحكومة فهي إما تجهل هذا الأمر أو إنها تسمح بذلك عن علم، وهناك أمارات عديدة مقلقة حول هذا الأمر.

السيد رئيس المحكمة!

لو سمحتم فإنني أود أن أطرح سؤالا يحيرني كثيرا..

لماذا يقوم أهل السياسة بتجريدي من جميع حقوقي المدنية ومن حقوقي في الحرية بل ربما من حقوقي في الحياة مع أنني لم أشترك في السياسة ولم أدخل معتركها؟ لقد عاملوني وكأنني سفّاح خضب يديه بدماء مئات الضحايا، فوضعوني في حبس منفرد ومنعزل ثلاثة أشهر ونصف، وحاولوا أثناءها التعرض لحياتي وأقدموا على تسميمي إحدى عشرة مرة. وعندما أراد أصدقائي الحريصون وتلاميذي الصادقون حمايتي من شر هؤلاء منعوا اتصالهم بي، بل إنهم حرموني حتى من مطالعة كتبي المباركة والخالية من أي ضرر والتي أجد الأُنس معها في وحدتي وشيخوختي ومرضي وغربتي.

لقد رجوت المدعي العام أن يعطيني كتابا واحدا من كتبي، ومع أنه وعدَ بذلك إلّا أنه لم يفعل، فاضطررت إلى البقاء وحيدا في قاعة كبيرة ومقفَلة وباردة دون أي شاغل أشغل به نفسي، وأوعزوا إلى الموظفين وإلى الخدم والحراس التعاملَ معي بعداوة وبخشونة بدلا من المعاملة الحسنة التي قد أجد فيها بعض السلوان وبعض التسرية. وهاكم أنموذجا صغيرا من معاملتهم هذه:

كتبت عريضة إلى المدير وإلى المدعي العام وإلى رئيس المحكمة، وأرسلتها إلى أحد إخواني لكي يكتبها بالحروف الجديدة التي أَجهَلها، وفعلا تمت الكتابة وقُدّمت العريضة لهم. لقد عدّوا هذا جُرما كبيرا صادرا مني، فقاموا بتغطيةِ وسدِّ جميع نوافذ غرفتي وسمّروها، ومع أن الدخان كان يؤذيني، فإنهم لم يتركوا نافذة واحدة دون تغطيتها وسدِّها. ومع أن أنظمة السجن تقضي بأن لَا تتجاوز مدةُ الحبس الانفرادي خمسة عشر يوما، فإنهم حبسوني حبسا انفراديا مدة ثلاثة أشهر ونصف، ولم يسمحوا لأي صديق بالاتصال بيَّ. ثم إنهم أروني لائحة اتهام بأربعين صفحة كتبوها وهيؤوها في ثلاثة أشهر، ولأنني لا أعرف الحروف الجديدة ولكوني مريضا وذا خط رديء، فقد رجوتهم أن يبعثوا إليّ من يقرأ هذه اللائحة مع طالبَين من طلابي -من الذين يفهمون لغتي لكي يقوما بكتابة اعتراضي ودفاعي- فلم يأذنوا بذلك ولم يقبلوه وقالوا:

«ليأت المحامي لكي يقرأه». ثم لم يسمحوا حتى بذلك، بل قالوا لأحد الإخوان «اكتب اللائحة بالحروف القديمة وأعطها له». ولكن كتابة تلك اللائحة لا يمكن أن تتم إلّا في ستة أو سبعة أيام. وهكذا فبدلا من قراءةٍ تستغرق ساعة واحدة فقد مددوا هذا العمل إلى ستة أو إلى سبعة أيام، وذلك لكي يمنعوا أيّ اتصال معي، وهذا عمل استبدادي مذهل يلغي كل حقوقي في الدفاع. ولا يتعرض سفاح ارتكب مائة جريمة وحكم عليه بالإعدام إلى مثل هذه المعاملة في أية بقعة من بقاع الدنيا، والحقيقة أنني في ألم شديد لأنني لا أعرف أي سبب لمثل هذا التعذيب. لقد قيل لي بأن رئيس المحكمة شخص عادل ورحيم، لذا فقد قمتُ بتقديم هذه الشكوى إلى مقامكم كتجربة أولى وأخيرة.

توجد أربعة أسس في لائحة الاتهام:

الأساس الأول

وهو الادعاء بأنني شخص أفخر بنفسي وأُمَجِّدها. وقد رددتُ هذا الادعاء بكل ما أملك من قوة، وكانت اللجنة المختصة في محكمة «دنيزلي» قد ذكرتْ أنه «لو ادَّعى سعيد أنه المهدي المنتظر لقَبل كلُّ طلابه ذلك».

الأساس الثاني

قيامه بإخفاء مؤلفاته.

يجب أن لا تُعطى معاني خاطئة من قبل الأعداء المتسترين، لأن الإخفاء لم يكن بقصدٍ سياسي أو بأي قصد يضر بأمن البلاد، ولا يعدّ وجود جهاز طبع بالحروف القديمة عذرا لهم للهجوم علينا. أما قضية الصفعة الموجهة من رسائل النور إلى مصطفى كمال (حاشية) أورد الادعاء العام اتهاما نتيجة سوء فهم فيما ورد من كرامة رسائل النور التي تجلى بعضها كصفعات تأديبية. إذ زعموا أننا نقول: إن البلايا والزلازل التي حدثت في أثناء الهجوم على طلاب النور وعلى رسائل النور إنما هي صفعات من رسائل النور… حاشا ثم حاشا، نحن لم نقل ولم نكتب هذا، بل ذكرنا في مواضع عدة مع إيراد الأدلة، أن رسائل النور بمثابة صدقات مقبولة، لذا فهي وسيلة لدفع البلايا، فعندما يتم الهجوم على رسائل النور تَبهت الأنوار وتجد المصائب الفرصةَ سانحة للظهور. أجل إن مئات الحوادث والوقائع وشهادة وتصديق الآلاف من طلاب النور ترينا استحالة وجود المصادفة في توافق تلك الحوادث كما أظهرنا ذلك جزئيا في المحاكم، فإننا نؤمن بشكل قاطع بأن هذه التوافقات دليل على قبول رسائل النور ودليل على الكرم الإلهي وهو نوع من الكرامة المهداة من القرآن الكريم إلى رسائل النور. فقد عرفتْ بها ست محاكم وكذلك المراجع الرسمية في «أنقرة» فلم يعترضوا عليها وأصدروا قرارهم بتبـرئتنا وأعادوا لنا جميع كتبنا ومن ضمنها «الشعاع الخامس». ثم إن قيامي بإظهار سيئاته ليس إلّا من أجل صيانة كرامة الجيش. أي إن عدم محبة شخصٍ فردٍ ليس إلّا من أجل كيل الثناء إلى الجيش بكل حب.

الأساس الثالث

على الرغم من وجود مائة ألف طالب من طلاب النور وإحالة مائة ألف نسخة من رسائل النور إلى ست محاكم في ظرف عشرين سنة، فلم تُسجَّل لدى موظفي أمنِ عشرِ ولايات أيُّ شيء يخلّ بالأمن أو يقلق هدوء البلد. وإن عدم وجود أية مادة تشير إلى هذا الإخلال لا في هذه المحاكم الست ولا عند موظفي هذه الولايات العشر لَهُوَ أكبر دليل وأفضل ردٍّ على التهمة العجيبة القائلة بأننا نحرّض على الإخلال بالأمن.

أما بخصوص لائحة الاتهام الجديدة هذه فمن العبث القيام بالرد عليها، لأنه ليس إلّا تكرارا لتُهم سابقة سبق وأن تمت الإجابة عليها عدة مرات، وسبق لثلاث محاكم إصدار قراراتها بتبرئتنا منها، وهي مسائل لا أهمية لها. ولما كان اتهامنا في هذه المسائل يُعد في الحقيقة اتهاما لمحكمة الجنايات الكبرى في «أنقرة» ولمحكمة «دنيزلي» ولمحكمة «أسكي شهر» (لأن هذه المحاكم برّأتنا في هذه المسائل) لذا فإنني أدَع الإجابة عنها لهذه المحاكم.

زد على هذا فهناك مسألتان أو ثلاث مسائل أخرى:

المسألة الأولى

مع أنهم أصدروا قرارا ببراءتنا وبإعادة ذلك الكتاب إلينا بعد تدقيق وتمحيص تامّين دام سنتين في محكمة «دنيزلي» و«محكمة الجنايات الكبرى في أنقرة» فإنهم يلوّحون بمسالة أو مسألتين واردتين في رسالة «الشعاع الخامس» بخصوصِ قائد مات وانتهى أمره كمادة اتهام ضدنا. أما نحن فنقول: إن توجيه نقد صائب كلي بحق شخص مات وانتهى أمره وانقطعت صلته بالحكومة لا يعدّ في نظر القانون ذنبا.

ثم قام مقامُ الادعاء باستخراج تأويل متحذلق من معنى عام وكلي، وطبّق هذا في حق ذلك القائد. علما بأنه ما من قانون يَعُدّ وجودَ معنى في رسالة خاصة وسرية يدِقّ على أفهام العامة ولا يدركها سوى واحد في المائة.. ما من قانون يعد ذلك ذنبا. ثم إن تلك الرسالة شرحت تأويلَ الأحاديث المتشابهة بشكل رائع. وعندما نكون بصدد بيان المعنى الحقيقي لحديث وانطبق هذا المعنى بحق شخص مقصّر فما من قانون يعد هذا ذنبا، خاصة وإن هذا البيان موجود منذ حوالي أربعين عاما وتم تقديمه لثلاث محاكم ولمحكمتكم، وقُدّم مرتين خلال ثلاث سنوات إلى ستة مراجع رسمية في «أنقرة» ولم يتم الاعتراضُ على دفاعي وعلى اعتراضاتي التي قدمتُ فيها إجاباتٍ قطعية.

ثم إن نقدَ ذلك الشخص الذي كان ضمن انقلاب أدَّى إلى مساوئ عديدة، لا ترجع إليه وحده حسنات ذلك الانقلاب، بل ترجع إلى الجيش وإلى الحكومة، أما هو فقد تكون له حصة واحدة منها؛ فكما أن قيامنا بنقده من زاويةِ سيئاته لا يُعد ذنبا، لا يجوز القول إن ذلك يعني الهجومَ على حركة الانقلاب. ويا ترى أيُّ ذنب وأيّ جريرة في أن تَنتقِد أو تُضمِر عدمَ المحبة لرجل حوّل جامعَ «آيا صوفيا» الذي هو مبعث الشرف الأبدي لأمة بطلة، والدرّةُ الساطعة لخدماتها وجهادِها في سبيل القرآن، وهديةٌ تذكارية نفيسة من هدايا سيوف أجدادها البسلاء.. حوّله إلى دار للأصنام وبيت للأوثان وجعل مقر المشيخة العامة ثانوية للبنات؟

المسألة الثانية حول موجِبات الاتهام في لائحة الادعاء العام:

بعدما كسبنا البراءة في ثلاث محاكم، فإن بيانا رائعا لتأويل حديث شريف (في الشعاع الخامس) قبل أربعين سنة أنقذ الأمة. حيث إن شيخ الإسلام -للجن والإنس- «علي أفندي الزنبللي» قد قال: «ليس هناك أي جواز في لبس القبعة، حتى لو لبست مزاحا». كما لم يجوّز لبسَها شيوخُ الإسلام وعلماؤه، مما جعل عوام أهل الإيمان أمام خطر حين اضطروا إلى لبسها إذ أصبحوا أمام خيارين: إما أن يتركوا دينهم، أو يقوموا بحركة عصيان.

ولكن إحدى فقرات رسالة «الشعاع الخامس» ذكرتْ أنه: «ستعلو القبعةُ الرؤوس وستقول: لا تسجدْ، ولكن الإيمان الموجود في ذلك الرأس سيُجبر تلك القبعة أيضا على السجود ويجعلها إن شاء الله مسلمة» فأنقذت عوام أهل الإيمان من التمرد والعصيان كما أنقذتهم من التخلي عن دينهم باختيارهم. فضلا عن أنه ليس هناك قانون يطالب الأشخاص المنـزوين بمثل هذه الأشياء، وأن ست حكومات في ظرف عشرين سنة لم تجبرني على لبس القبعة. كما أن النساء والأطفال وأئمة المساجد والموظفين في دوائرهم ومعظم القرويين غير مجبرين على لبسها، وفي الآونة الأخيرة رُفعت عن رؤوس الجنود. كما أن لبس الطاقية وأغطيةِ الرأس غير ممنوع في كثير من الولايات، ورغم كل هذا فقد أصبح هذا عنصرَ اتهام ضدي وضد إخواني. فهل يوجد في العالم كله قانون أو مصلحة أو أصل يَعد مثل هذا الاتهام (الخالي من أي معنى) ذنبا؟

الأساس الثالث المتخذ مدارا للاتهام:

وهو زعم التحريض للإخلال بالأمن في «أميرداغ». وأنا أقول ردا على هذا:

أولا: نشير إلى الاعتراض الذي قدمتُه إلى هذه المحكمة وإلى ست مراجع رسمية في «أنقرة» بعلم هذه المحكمة وإذنها، وهو اعتراض لم يُردّ عليه، لذا فإنني أقدم الاعتراض نفسه كجواب للائحة الاتهام.

ثانياً: يشهد كل من تكلم معي في «أميرداغ» ويشهد الأهالي وموظفو الأمن بأنني بعد صدور القرار ببراءتي ابتعدتُ بكل قوتي -وأنا قابع في انـزوائي- عن المشاركة في أية سياسة دنيوية، حتى إنني تركت التأليف والتراسل، فلم أكتب إلّا فقرتين صغيرتين حول الملائكة وحول حكمة التكرار في القرآن، ولم أكن أكتب سوى مكتوب واحد فقط في الأسبوع أحث فيه على قراءة رسائل النور، حتى إنني لم أبعث لأخي المفتي -الذي كان من طلابي طوال عشرين عاما- سوى ثلاث أو أربع رسائل في ظرف ثلاث سنوات، وكان يبعث إليّ ببطاقات تهنئة العيد على الدوام، وكان يَقلق عليَّ قلقا كبيرا. أما أخي الآخر الساكن في بلدتي فلم أبعث له طوال عشرين عاما أية رسالة أبدا، ومع ذلك نرى أن لائحة الاتهام تقوم بحذلقة لا مثيل لها بتكرار الأسطوانة القديمة واتهامي بالإخلال بالأمن، وبالوقوف ضد الحركة الانقلابية. ونحن نقول ردَّا على هذا:

إن ما يزيد عن عشرين ألف نسخة من رسائل النور، طوال عشرين عاما، طالعها عشرون ألفا، بل مائة ألف من الناس بكل شوق وبكل قبول، ومع ذلك لم تجد ستُّ محاكم ولم يجد رجالُ الأمن في عشر ولايات معنية أيَّ شيء ضدهم. وهذا يبين بأنه لو كان هناك احتمال واحد فقط من ألوف الاحتمالات ضدنا فإنهم يأخذون به ويتخذون هذا الاحتمال وكأنه أمر واقع لا محالة، مع أنه لو كان هناك احتمال واحد ضمن احتمالين أو ثلاثة، ولم يظهر أي أثر له فلا يُعدّ ذلك الاحتمال ذنبا. حتى إن واحدا بالألف من الاحتمال غير وارد، وهناك احتمال وارد لكل شخص -ومنهم المدعي العام- وهو احتمالُ قيامه بقتلِ أشخاص عديدين، أو القيام بالإخلال بالأمن خدمةً للشيوعيين وللفوضويين. إذن فإن النظر إلى مثل هذه المبالغة في الاحتمالات وكأنها أصبحت حقيقة وواقعة، واستعمالَها على هذا الأساس خيانة للعدالة وللقانون. ثم إن من الطبيعي وجود معارضة لكل حكومة، وإن المعارضة الفكرية لا تعدُّ جناية. فالحكومةُ تأخذ بالظاهر ولا تحاسِب على ما في القلوب. ونحن نخشى أن يكون الأشخاص الذين يوجِّهون مثل هذه التهم الباطلة في حق شخص لم يصدر منه أي ضرر ضد الوطن وضد الأمة، بل كانت له فوائد وخدمات كثيرة، ولم يتدخل في شؤون الحياة الاجتماعية بل وأجبروه على العيش في عزلة تامة، والذي قوبلت مؤلفاتُه بكل تقدير في أهم المراكز الإسلامية (حاشية) في الخطأ الثمانين من الأخطاء المائة التي وقع فيها المدعي العام، نراه يقول: «إن التأويل الوارد في الشعاع الخامس يُعدّ خطأً « وجوابي على ذلك هو: وردت في «الشعاع الخامس» الجملة التالية: «أحد التأويلات -والله أعلم- هو هذا التأويل» ومعنى هذه الجملة: «أن من الممكن أن يكون هذا هو معنى هذا الحديث الشريف». لذا فلا يمكن من الناحية المنطقية تكذيب هذه الجملة، إلّا عند إثبات استحالتها.

       ثانيا: منذ عشرين عاما، بل منذ أربعين عاما لم يقم أحد بردّ التأويلات التي أوردناها ردا منطقيا وعلميا سواء أكانوا من معارضيّ أو ممن يحاولون معارضة رسائل النور، ولم يقل أحد من أولئك العلماء المعارضين «إن هذه التأويلات فيها نظر»، بل صدّقوها مع ألوف من علماء طلاب النور، لذا فإنني أحيل إلى مقامكم تقدير مدى البعد عن الإنصاف عندما يردّ هذا التأويلَ شخص لا يعرف حتى عددَ السور الموجودة في القرآن الكريم.

       والخلاصة: أن معنى التأويل لحديث شريف أو لآية كريمة هو: أنه معنى واحد محتمل من عدة معاني محتملة وممكنة. نخشى أن يكون هؤلاء الأشخاص أداة في خدمة الشيوعية وفي خدمة الفوضوية دون أن يشعروا.

هناك أمارات أعلمُ منها أن أعداءنا الخفيين يحاولون النيل من رسائل النور والتقليل من قيمتها، فينشرون وَهْمَ وجود فكرة المهدية -من الناحية السياسية- فيها ويدّعون أن رسائل النور وسيلة لهذه الفكرة، ويبحثون ويدققون عسى أن يعثروا على سند لهم لهذه الأوهام الباطلة. ولعل العذاب الذي أتعرض له نابعٌ من هذه الأوهام. وأنا أقول لهؤلاء الظالمين المتسترين وللذين يسمعون لهم ويعادوننا:

«حاش!… ثم حاش!… إنني لم أقم بمثل هذا الادعاء، ولم أتجاوز حدي ولم أجعل الحقائق الإيمانية وسيلة شخصية أو أداة لنيل الشهرة والمجد، وإن السنوات الثلاثين الأخيرة خاصة، من عمري البالغ خمسة وسبعين عاما تشهد، وتشهد رسائلُ النور البالغةُ مائة وثلاثين رسالة، ويشهد الآلاف من الأشخاص الذين صادقوني حق الصداقة بهذا.

أجل، إن طلاب النور يعرفون هذا، كما أنني سردت الحجج التي أَظهرتْ في المحاكم أنني لم أسْعَ من أجل مقام أو مرتبة لشخصي أو من أجل الحصول على مرتبة أو مقام أو شهرة معنوية أو أخروية، بل سعيت بكل ما أملك من قوة لتوفير خدمة إيمانية لأهل الإيمان، وربما كنت مستعدا لا للتضحية بالمراتب الدنيوية الفانية وحدها بل -إن لزم الأمر- بالتضحية حتى بالمراتب الأخروية الباقية لحياتي في الآخرة، مع أن الجميع يسعون للحصول على هذه المراتب، ويعلم أصدقائي المقربون بأنني -إن لزم الأمر- أقبل ترك الجنة والدخول إلى جهنم من أجل أن أكون وسيلة لإنقاذ بعض المساكين من أهل الإيمان وقد ذكرتُ هذا وبرهنت عليه في المحاكم من بعض الوجوه، ولكنهم يرومون بهذا الاتهام إسناد عدم الإخلاص لخدمتي الإيمانية والنورية، ويرومون كذلك التقليل من قيمة رسائل النور وحرمان الأمة من حقائقها.

أيتوهم هؤلاء التعساء أن الدنيا باقية وأبدية؟ أم يتوهمون أن الجميع مثلهم يستغلون الدين والإيمان في مصالح دنيوية؟ إن هذا التوهم يقودهم إلى الهجوم على شخصٍ تحدى أهل الضلالة في الدنيا وضحى في سبيل خدمة الإيمان بحياته الدنيوية، وهو مستعد للتضحية بحياته الأخروية إن لزم الأمر في سبيل هذه الخدمة. وأنه غير مستعد لأن يستبدل ملك الدنيا كلها بحقيقة إيمانية واحدة، كما صرح في المحاكم، ويقودهم إلى الهجوم على شخص هرب بكل قوته من السياسة ومن جميع مراتبها المادية منها وما يشمّ منها معنى السياسة سواءً أكانت من قريب أو بعيد وذلك بسر الإخلاص، وتحمّل عذابا لا مثيل له طوال عشرين عاما، ومع ذلك لم يتنـزل -حسب المسلك الإيماني- إلى السياسة. ثم إنه يَعد شخصَه من جهة النفس- أقل مرتبة من كثير من طلابه، لذا فهو ينتظر دوما دعاءهم واستغفارهم له، ومع أنه يَعد نفسه ضعيفا وغير ذي أهمية، إلا أن بعض إخوانه الخلص أسندوا إليه في رسائلهم الخاصة بعضا من فضائل النور، وذلك لكونه ترجمانا للفيوضات الإيمانية القوية التي استمدوها من رسائل النور، ولم يخطر ببالهم في ذلك أيّ معنى سياسي، بل على مجرى العادة، ذلك لأن الإنسان قد يخاطب شخصا عاديا ويقول له: «أنت وليّ نعمتي… أنت سلطاني». أي يعطون له -من زاوية حسن الظن- رتبا عالية لا يستحقها، وهي أكثر ألف مرة من رتبته ومن قيمته. وكما هو معلوم فإن هناك عادة قديمة جارية مقبولة -لم يعترض عليها أحد- فيما بين الطلاب وبين أساتذتهم وهي قيام الطلاب بمدحٍ مبالَغ فيه لأساتذتهم قياما منهم بحق الشكر، ووجودُ بعض التقاريظ والمدح المبالغ فيه في خاتمة الكتب المقبولة.. فهل يعد هذا ذنبا بأي وجه من الوجوه؟ صحيح أن المبالغة تعد في جانب منها مخالفة للحقيقة، ولكن شخصا مثلي ليس له أحد، ويعاني من الغربة ما يعاني، وله أعداء كثيرون، وهناك أسباب عديدة لكي يبتعد عنه معاونوه ومساعدوه… أفيستكثر عليّ هؤلاء البعيدون عن الإنصاف أَنْ أَشُدَّ من الروح المعنوية لهؤلاء المساعدين والمعاونين ضد المعارضين العديدين، وأَنْ أُنقذهم من الابتعاد والهرب وأَحُول دون كسر حماستهم المتجلية في مديحهم المبالغ فيه، وأن أُحَوّل هذا المديح إلى رسائل النور ولا أردّهم ردا كاملا وقاطعا؟ وهكذا يظهر مدى ابتعاد بعض الموظفين الرسميين عن الحق أو عن القانون وعن الإنصاف عندما يحاولون أن ينالوا من الخدمة الإيمانية التي يؤديها شخص بلغ من العمر عتيا وهو على أبواب القبر، وكأن هذه الخدمة مسخرة لغرض من أعراض الدنيا».

إن آخر ما نقول: لكل مصيبة ﴿اِنَّا لِلّٰهِ وَاِنَّٓا اِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾.

سعيد النُّورْسِيّ

* * *