إلى رئاسة محكمة التمييز

في جلسة محكمة التمييز التي راجعْناها لإبطال القرار الجائر الذي أصدرتْه محكمة «أفيون» في حقنا لم يَدَعوا لي فرصة للكلام، بل تَلَوا علينا اتهاما ثالثا شديد اللهجة، ولم يسمحوا لأحد أن يساعدني في الكتابة، وفضلا عن رداءة خطي في الكتابة فقد كنت مريضا، وهذه الشكوى التي كتبتها وأنا مريض أقدمها إلى مقامكم «الذي أنصفني مرتين إنصافا تاما» كلائحة تمييز.

باسمه سبحانه

هذه عريضة إلى محكمة الحشر الكبرى، وشكوى إلى المقام الإلهي، ولتسمعها محكمة التمييز في الوقت الحالي والأجيال الآتية في المستقبل وليسمعها أساتذة دار الفنون «الجامعة» وطلابها المثقفون، فمن مئات المصائب والبلايا التي واجهتها طوال ثلاث وعشرين سنة اخترت عشرا منها لعرضها على عدالة المقام الإلهي ذي الجلال الحاكم المطلق مشتكيا إليه:

الأولى: مع أنني شخص مقصر، فقد نذرت كل حياتي في سبيل سعادة هذه الأمة وفي سبيل إنقاذ إيمانها، ولقد سعيت بكل جهدي للعمل برسائل النور لكي أضحى بنفسي في سبيل حقيقة افتدتها ألوف الأنفس، وهي الحقيقة القرآنية، واستطعتُ بتوفيق من الله تعالى وفضل منه أن أتحمل شتى ضروب التعذيب، فلم أتقهقر ولم أنسحب.

أسوق مثالا واحدا من التصرفات الغادرة والظالمة التي واجهتها في سجن أفيون وفي محكمتها:

مع أنهم أسمعوني وأسمعوا طلاب النور الأبرياء الذين كانوا ينتظرون السلوان من عدالة المحكمة ثلاث مرات لائحة الاتهام المليئة بالافتراءات وكانت قراءة اللائحة تستغرق كل مرة ساعتين في الأقل، إلّا أنهم لم يسمحوا لي بالكلام وبالرد إلّا لمدة دقيقة واحدة أو دقيقتين، مع أنني رجوت منهم أن يسمحوا لي بالدفاع عن حقوقنا لمدة خمس أو عشر دقائق.

ومع أنني أبقيت معزولا لمدة عشرين شهرا في سجن انفرادي، إلّا أنهم لم يأذنوا لأحد بزيارتي ورؤيتي إلّا لصديقين أو ثلاثة ولمدة ثلاث أو أربع ساعات فقط، وقد ساعدتني هذه الزيارة مساعدة جزئية جدا في كتابة دفاعي. ثم منعوا هؤلاء أيضا، وعاملوهم معاملة قاسية وعاقبوهم. وأجبرونا على سماع لائحة الاتهام للمدعي العام البالغة خمس عشرة صحيفة والتي ملأها بالأكاذيب المغرضة وبالافتراءات وبسوء الفهم.

حتى إنني أحصيت فيها واحدا وثمانين خطأً، ولم يسمحوا لي بالكلام وبالرد، ولو سمحوا لي بذلك لقلت لهم: بينما لا تتعرضون لليهود ولا للنصارا ولا للمجوس الذين ينكرون دينكم ويهينون أجدادكم -بوصفهم بأنهم كانوا على ضلالة- وينكرون نبيكم ﷺ ولا يقبلون بقوانينِ قرآنكم الكريم، ولا للمنافقين المرتدين من الفوضويين من أنصار البلشفية، وذلك تحت شعار حرية الفكر وحرية الوجدان. وإن الحكومة البريطانية التي نعلم مدى تعصبها للنصرانية ومدى جبروتها، تسمح للملايين من المسلمين الموجودين تحت حكمها بقراءة القرآن في كل وقت وأخذِ دروس منه، هذه الدروس التي تردّ كل العقائد الباطلة وكل الدساتير الكافرة للإنكليز. ثم إن المعارضين لكل حكومة يستطيعون إبداء آرائهم علنا ويستطيعون نشر هذه الأفكار، ولا تتعرض لهم محاكم هذه الحكومات. أما أنا فقد تم تدقيق أربعين سنة من حياتي وتدقيق مائة وثلاثين كتابا من كتبي وجميع مكاتيبي ورسائلي حتى السرية منها في محكمة «إسبارطة» وفي محكمة «دنيزلي» وفي محكمة جزاءِ «أنقرة» وكذلك في رئاسة الشؤون الدينية، كما قامت محكمة التمييز بهذا التدقيق مرتين -وربما ثلاث مرات- وبقيت رسائل النور بكل نسخها الخاصة منها وغير الخاصة في يدها مدة حوالي ثلاث سنوات، ومع ذلك لم يجدوا فيها أي شيء يستوجب عقوبة مهما كانت صغيرة. وأنا أتساءل ما هو الذنب الذي اقترفناه لكي تقوموا بإصدار عقوبة قاسية في حقنا وسجننا سجنا انفراديا وأنا بهذه الدرجة من الضعف وفي هذا الوضع القاسي من الظلم والقهر، وأي قانون أو مصلحة أو وجدان يرضى بهذا؟ مع أن رسائل النور -التي تجدون مجموعتها كاملة بين أيديكم- أصبحت مرشدا قويا وقويما لأكثر من مائتي ألف طالب من طلاب النور الحقيقيين المستعدين للتضحية، فخدمت بذلك أمن البلد واستقراره. ثم إن دفاعي الذي قدمته والذي بلغ أربعمائة صفحة أثبت براءتنا بشكل قاطع لا يقبل الشك، لذا ستُسألون هذه الأسئلة أمام المحكمة الكبرى يوم الحشر دون ريب.

الثانية: لقد عدّوا تفسيري للآيات القرآنية الصريحة حول الحجاب والإرث وذكر الله وتعدد الزوجات، وقيامي برد الاعتراضات المثارة ضدها من قِبَلِ المدنية الغربية الحالية ردا مفحما.. عدّوا ذلك إحدى التهم الموجهة إليّ. وأكرر هنا الفقرة التي أوردتُها قبل خمسة عشر عاما في محكمة «أسكي شهر» ثم في محكمة التمييز في أنقرة وستكون هذه الفقرة شكواي في محكمة الحشر الكبرى وتنبيها وإيقاظا للجماعات المثقفة للأجيال القادمة وستكون هي مع «رسالة الحجة الزهراء» بمثابة لائحة تمييز، كما أنني أكرر هذه الفقرة للمدعي العام الذي لم يترك لي فرصة للكلام والذي أثبتّ ثمانين خطأ ورد في لائحته الاتهامية التي ملأها بالمغالطات وأعرضها مرة أخرى على هيئة المحكمة التي أصدرت حكما عليّ بسنتين من الحبس الانفرادي الشديد وبسنتين من النفي والإقامة الجبرية:

إنني أقول لمحكمة وزارة العدل: إن إدانة من يفسر أقدس دستور إلهيّ وهو الحق بعينه، ويحتكم إليه ثلاثمائة وخمسون مليونا من المسلمين في كل عصر في حياتهم الاجتماعية، خلال ألف وثلاثمائة وخمسين عاما. هذا المفسر استند في تفسيره إلى ما اتفق عليه وصدق به ثلاثمائة وخمسون ألف مفسر، واقتدى بالعقائد التي دان بها أجدادنا السابقون في ألف وثلاثمائة وخمسين سنة.. أقول: إن إدانة هذا المفسر قرار ظالم لا بد أن ترفضه العدالة، إن كانت هناك عدالة على وجه الأرض، ولا بد أن ترد ذلك الحكم الصادر بحقه وتنقضه. ولتسمع هذا الآذان الصماء لعصرنا الحالي.

ألا يعني إدانة شخص ترك السياسة واعتزل الحياة الاجتماعية ولا يؤمن من الناحية الفكرية العلمية ببعض القوانين الأجنبية التي قُبلت في هذا البلد بمقتضى ظروف معينة، لقيامه بتفسير هذه الآيات إنكارا منهم للإسلام وخيانة لمليار من أجدادنا الأبطال المتدينين واتهاما لملايين التفاسير القرآنية؟!

الثالثة: من الأسباب التي ذكروها لتبرير الحكم عليّ هي القيام بالإخلال بالأمن والاستقرار؛ وعلة هذا أنهم قاموا بتفسير خاطئ لمعنى بعضِ الجمل الواردة في خطاباتٍ شخصية ورسائلَ خاصة لا تتجاوز الخمسين جملة، مع أن رسائل النور تحوي أكثر من مائة ألف كلمة وجملةٍ، ونظروا إلى احتمالٍ واهٍ وبعيدٍ جدا لا يتجاوز واحدا في المائة بل واحدا من ألف، وعدوا هذا الاحتمال البعيد واقعا ويريدون به عقابنا.

وأنا أُشهد الذين يعرفون الثلاثين أو الأربعين سنة الأخيرة من حياتي والآلافَ من طلبة النور الأصفياء فأقول:

عندما بدأ القائد العام للجيش الإنكليزي الذي احتل إسطنبول ببذر بذور الخلاف بين المسلمين حتى خدع شيخَ الإسلام وبعض العلماء الآخرين وجعل أحدهم يهاجم الآخر، ووسع الخلاف بين جماعة الاتحاديين وجماعة «الائتلاف» لكي يهيئ الجو لانتصار اليونانييـن واندحار الحركة المـلية الوطنية. قمـت آنذاك بتأليف كتـابي «الخطوات السـت» ضد الإنكلـيز وضد اليونانييـن، وقام السـيد «أشرف أديب» بطبعه ونشره، مما ساعد على إبطال مفعول الخطة الجهنمية لذلك القائد. فالذي لم يحفل بتهديد القائد الإنكليزي بإعدامه ولم يهرب إلى أنقرة مع أن حكومة أنقرة استدعته تقديرا منهم لنضاله، وفي روسيا لم يحفل بقرار الإعدام الذي أصدره القائد الروسي، واستطاع في حوادثِ 31 مارت بخطبة واحدة تهدئةَ ثماني كتائبَ هائجةٍ من الجيش وإعادتَها إلى الطاعة. وعندما قال له باشوات المحكمة العسكرية العرفية: «أنت أيضا رجعي فقد طالبت بحكم الشريعة» لم يحفل بتهديدهم أدنى احتفاء بل أجابهم: «إذا كانت المشروطية عندكم تعني استبدادَ فئةٍ معيّنة، فليشهد الثقلان أنني رجعي، وأنا مستعد للتضحية بروحي في سبيل مسألة واحدة فقط من مسائل الشريعة مما أذهل الضباطَ الكبار. وبينما كان يَتوقع حكمَ الإعدام أصدروا قرارهم بتبرئته وتخلية سبيله. ولم يشكرهم على قرارهم هذا، بل هتف وهو في طريقه للخروج: «لتعش جهنم للظالمين».

وفي ديوان الرئاسة في أنقرة -كما أُدرج في قرار لمحكمة أفيون- عندما قال له مصطفى كمال في غضب: «لقد دعوناك هنا لكي نستأنس بآرائك السديدة، فإذا بك تكتب أمورا حول الصلاة فبذرتَ الخلاف فيما بيننا» فأجابه أمام ما يقرب من خمسين نائبا: «إن أكبر مسألة بعد مسألة الإيمان هي الصلاة، ومن لا يصلي يعدّ خائنا وحكم الخائن مردود». فاضطر ذلك القائد الصارم إلى كظم غيظه وإلى إرضائه بعض الترضية.

ثم إنه لم يسجِّل رجال أمن الحكومة في ست ولايات أيةَ حادثة تخل بالأمن لطلبة النور، مع أنهم يعدّون بمئات الآلاف، سوى حادثة صغيرة تتعلق بقيام أحد الطلبة الصغار بدفاع شرعي. ولم يَسمع أحد أن طالبا من طلاب النور دخل السجن بسبب جرم أو جناية، وما دخل السجن إلّا وأصلح المسجونين. ومع أن مئات الآلاف من نُسخ رسائل النور منتشرة في أرجاء البلد فلم يشاهِد أحد ضررا لها، بل لم يجدوا منها سوى النفع طوال ثلاث وعشرين سنة. وأصدرت ثلاثُ محاكم لثلاث حكومات أحكامها بالبراءة، كما أن مئات الآلاف من الطلبة يشهدون ويصدقون بأقوالهم وبأفعالهم على قيمة رسائل النور.

ثم هل يجوز أن يُتهم شخصٌ منـزوٍ ومنعزل وكبير السن وفقير ويرى نفسه على حافة القبر وتَرَكَ بكل قوته وقناعته الأشياءَ الفانية. فلا يهتم بأية رتبة دنيوية بل هو في شغل شاغل بما يكفّر عن تقصيراته السابقة وبأمور تنفع حياته الخالدة، وهو لشدة شفقته ولرغبته في تجنيب الأبرياء والشيوخ أيةَ أضرار تلحق بهم فإنه يتجنب الدعاء على ظالمِيه ومعذبيه.. هل يجوز أن يُتهَم مثل هذا الشخص ويقالَ بحقه: إن هذا الشيخ المنـزوي يحاول الإخلال بالأمن ويفسد الاستقرار، وغايته هي المؤامرات الدنيوية وهي القصد من اتصالاته ومكاتيبه، لذا فهو مذنب؟. إن من يقول هذا بحقه ويحكمون عليه في ظلِّ ظروف قاسية لا شك أنهم مذنبون، ومذنبون جدا، وسيدفعون ثمن هذا في المحكمة الكبرى يوم الحشر.

مثل هذا الرجل الذي هدّأ ثماني كتائب عسكرية وأجبرها على الانقياد للنظام بخطبة واحدة واستطاع قبل أربعين سنة بمقالة واحدة أن يجعل الآلاف من الناس ينحازون إليه ويكونون أنصاره، ولم يُحنِ رأسه أمام ثلاثة قواد جبارين -المذكورين سابقا- ولم يخش منهم ولم يتملق لهم وقال أمام المحاكم: «ألا فلتعلموا جيدا بأنه لو كان لي من الرؤوس بعدد ما في رأسي من شعر وفصل كل يوم واحد منها عن جسدي فلن أحني هذا الرأس الذي نذرته للحقائق القرآنية أمام الزندقة والكفر المطلق، فلن أخون الوطن والأمة والإسلام». فهل يجوز بعد هذا أن يقال لمثل هذا الشخص الذي لم يكن له علاقة مع أحد في مدينة «أميرداغ» إلا مع بضعة من أصدقاء الآخرة إضافة إلى ثلاث من الذين كانوا يقومون بشؤون خدمته…

هل يجوز أن يقال: «إن سعيدا هذا عمل سرا في أميرداغ كي يخل بالأمن، فقد سمم أفكار بعض أفراد الشعب هناك، فقام عشرون شخصا هناك بمدحه وكتابة مكاتيب خاصة له، مما يبرهن على أنه يعمل سرا ضد النظام الثوري للحكومة؟» واستنادا إلى هذه التهمة فقد اتُّبِعتْ سياسة عدائية ضده وحكم عليه بالحبس الشديد لمدة سنتين حيث وضع في سجن انفراديّ وفي عزلة تامة، ولم يسمحوا له بالكلام والدفاع عن نفسه في المحكمة. لأجل كل هذا فإنني أحيل هؤلاء الذين عذبوني وابتعدوا هذا الابتعاد عن العدالة وعن الإنصاف إلى ضمائرهم.

وهل يُعقَل وهل من الممكن أن يقوم مثل هذا الشخص الذي نال توجّه الناس إليه أكثر مما يستحقه والذي حَمَل الألوفَ على الطاعة والانقياد بخطبة واحدة، وجَعَل الآلاف من الناس ينضمون إلى جمعية الاتحاد المحمدي بمقالة واحدة منه، واستمع إلى خطبته خمسون ألف شخص في جامع أياصوفيا بكل تقدير.. هل يعقل وهل يمكن أن يقوم مثل هذا الشخص بعمل سري طوال ثلاث سنوات في مدينة أميرداغ ثم لا يوفق إلّا في إقناع بضعة أشخاص ويترك أمور الآخرة وينغمس في مؤامرات السياسة فيملأ قبره -القريب منه- بالظلمات بدلا من النور؟ أيمكن هذا؟ إن الشيطان نفسه لا يمكن أن يقنع بهذا أحدا.

الرابعة: لقد أبرزوا عدم قيامي بلبس القبعة كسبب مهم لإدانتي ولم يسمحوا لي بالكلام، وقد كنت ناويا أن أقول لهم:

لقد بقيت في مدينة «قسطموني» مدة ثلاثة أشهر موقوفا في مركز الشرطة هناك ولم يقل لي أحد: «عليك أن تضع القبعة على رأسك». وفي ثلاث محاكم لم أضع قبعة على رأسي ولم أحسر عن رأسي في جلسات هذه المحاكم، ولم يتعرض أحد لي. صحيح أن بعض الظالمين الذين لم يكن لديهم نصيب من الدين اتخذوها حجة وتعرضوا لي بشكل غير رسمي بالأذى طوال ثلاث وعشرين سنة وضيقوا عليّ كثيرا وآذوني. وأن الأطفال والنساء وأكثر القرويين والموظفين في الدوائر الرسمية والذين يلبسون غطاء الرأس، غير مضطرين إلى لبس القبعة، إذ لا فائدة أو مصلحة مادية في ذلك، إذن فإن شخصا منـزويا مثلي قاسى عشرين عاما بسبب عدم لبس القبعة والافتراءات، علما بأن جميع المجتهدين وجميع شيوخ الإسلام منعوا لبسها، والآن يعودون إلى إيذائي وعقوبتي دون أي وجه حق، فكما لا يتعرض أحد إلى الذين يشربون الخمر جهارا نهارا في شهر رمضان ولا يصلون، وذلك باسم الحرية الشخصية، لذا فإن الذين يتهمونني من أجل زيي مرارا وتكرارا بهذا العناد وبهذه الشدة سوف يُسأَلون عن هذا عندما يُشاهِدون الحبس الانفرادي الأبدي في القبر ويحضرون إلى المحكمة الكبرى.

الخامسة: إن رسائل النور التي حازت قبول مائة ألف من أهل الإيمان والتي قَدمت طوال عشرين عاما منافعَ عديدة -خالصة من أية شائبة من الضرر- للأمة وللوطن تُصادَر لأتفه الأسباب: فمثلا صودرت مجموعةُ «ذو الفقار-المعجزات الأحمدية» -التي أَنقذت إيمانَ مائة ألف شخص- لورود تفسير صحيح ومحقّ لآيتين كريمتين في صفحتين فقط من مجموع صفحاتها البالغة أربعمائة صفحة مع أن هذه المجموعة تعرضت لمرور الوقت، وصدرت خلاله قوانين عفو عديدة، فهل يجوز مصادرة تلك المجموعة القيمة النافعة من أجل صفحتين فقط؟ والآن تتم مصادرة رسائل أخرى قيمة بسبب كلمة أو كلمتين -يفسرونها تفسيرا خاطئا- ضمن ألف كلمة. وكل من سمع لائحة الادعاء الثالثة هذه والقرارَ الذي نشرناه يتأكد مما نقول.

أما نحن فإننا نقول لكل مصيبة نراها: ﴿اِنَّا لِلّٰهِ وَاِنَّٓا اِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ و﴿حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَكيلُ﴾.

السادسة: أنني أقول للذين يتهمون المترجم المسكين لرسائل النور (يعني نفسه) بسبب قيام بعض طلبة النور بثناء مبالَغ فيه وحسن ظن مفرط بإرسال رسائلِ تشجيع وتهنئة وتقدير وشكر بعد أن استفادوا استفادة كبرى من البراهين الإيمانية التي لا تتزعزع واكتسابهم العلوم الإيمانية بدرجة علم اليقين… أقول لهم:

إنني شخص ضعيف وعاجز ومنفي ونصف أمي، وعندما كانوا يثيرون الناس ضدي بدعاياتهم ويخوفونهم مني، كنت كلما أجد دواء لأدوائي من أدوية القرآن الكريم ومن حقائقه الإيمانية الرفيعة كتبت تلك الحقائق القيمة إيمانا منى بأنها ستكون علاجا شافيا لأبناء الأمة والوطن، ولما كان خطي رديئا جدا فقد كنت بحاجة ماسة إلى معاونين، فيسّرت العناية الإلهية لي معاونين خاصين وصادقين وثابتين.

ومن الطبيعي أنني لا أستطيع أن أرد بشكل قاطع حسنَ ظنهم ومدحهم المخلص، أو أن أوبخهم على هذا فأجرح مشاعرهم، فمثل هذا التصرف يخالف الأنوار المستلهمة من خزينة القرآن الكريم ويعاديها ويهوّن منها. لذا فلكي لا يبتعد عني هؤلاء المعاونون من ذوي الأقلام الألماسية والقلوب الشجاعة فإنني كنت أحول مديحهم لشخصي العاجز المفلس إلى رسائل النور التي هي صاحبة الحق في هذا المديح لأنها تعكس المعجزة المعنوية للقرآن الكريم، أحيلها إلى الشخصية المعنوية لطلاب النور. وعندما كنت أقول لهم: «إنكم تعطون لي حصة تزيد على حصتي بمائة مرة» كنت أوذي مشاعرهم إلى حد ما. فهل هناك مادة قانونية تضع شخصا في موقع الاتهام واللوم لأن أفرادا آخرين يمدحونه بالرغم من أنه كاره لهذا المديح؟ أتوجد مثل هذه المادة القانونية لكي يمكن تبرير قيام موظف رسمي اتهامي باسم القانون؟

هذا مع العلم أنه قد ذكر في الصفحة رقم (54) من القرار المنشور للائحة الاتهام ضدنا قولي: «إن ذلك الشخص العظيم الذي سيظهر في آخر الزمان سيكون من نسل آل البيت، أما نحن معشر طلاب النور فيمكن أن نعدّ من آل البيت من الناحية المعنوية فقط. ثم إنه لا يوجد في مسلك النور مكان للأنانية أو لتبجيل شخص أو الرغبة في مقامات دنيوية، أو التطلع نحو الجاه والشهرة أبدا. بل إنني أرى نفسي مضطرا حتى لترك المقامات الأخروية -إن أُعطيتْ لي- كي لا أخل بالإخلاص الموجود في المسلك النوري».

كما ورد في الصفحة (22) وفي الصفحة (23) من قرار اللائحة هذه العبارات: «معرفة الإنسان تقصيره أمام الله وإدراك فقره نحوه وعجزه أمامه والالتجاء إليه بذل وخشوع… فأرى نفسي بتلك الشخصية أشقى وأعجز أفقر وأكثر تقصيرا أمام الله من أي أحد كان من الناس. فلو اجتمعت الدنيا في مدحي والثناء علىّ لا تستطيع أن تقنعني بأنني صالح وفاضل… لن أبوح بكثير من مساوئ شخصيتي الثالثة ومن أحوالها السيئة لئلا أنفركم عني كليا. فالفضل الإلهي هو الذي يسخر شخصيتي التي هي كأدنى جندي، في خدمة أسرار القرآن التي هي بحكم أعلى منصب للمشيرية وأرفعها. فالنفس أدنى من الكل والوظيفة أسمى من الكل، فألف شكر وشكر لله سبحانه».

ومع أن اللائحة اقتبست العبارات أعلاه من كلامنا وأدرجتها في متنها، إلّا أن الذين يريدون وضعي في موضع المذنب لمجرد قيام بعض الأشخاص بمدحي ووصفي بأنني مرشد عظيم ومهدي -بأنني هديتهم بالمعنى الوارد في رسائل النور- لا شك أنهم يستحقون نيل جزاءهم على ما اقترفوه من ذنوب كبيرة.

السابعة: قامت محكمة دنيزلي ومحكمة الجنايات الكبرى في «أنقرة»، ومحاكم التمييز بإصدار قراراتها بالإجماع على تبرئتنا وعلى تبرئة رسائل النور بأجمعها، حيث أعادت هذه الرسائلَ وكذلك جميعَ خطاباتنا إلينا، ومع أنهم قالوا إنه «حتى على فرض وقوع خطأ في قرار التبرئة لمحكمة دنيزلي فما دامت محكمة التمييز قامت بتبرئتكم، فإنّ قرار التبرئة أصبح قطعيا وثابتا ولا يمكن سَوقُكم إلى المحكمة مرة أخرى». ومع أنني قضيت ثلاث سنوات في مدينة «أميرداغ» منـزويا لا أتصل إلا مع بضعة أشخاص ممن يقومون بشؤون خدمتي بشكل متناوب «وكانوا يعملون كمساعدِي خياط» ولا أتحدث مع أحد إلّا مع بعض المتدينين في حالات نادرة وضرورية ولمدة بضع دقائق فقط، وسوى إرسال رسالة واحدة فقط في الأسبوع من أجل التشجيع على قراءة رسائل النور «حتى إنني لم أرسل إلى شقيقي المفتي إلّا ثلاث رسائل طوال ثلاث سنوات»، بل تركت التأليف الذي كنت عاكفا عليه منذ ثلاثين سنة سوى تأليف نكتتين اثنتين بعشرين صفحة تناولتْ موضوعين مهمين ومفيدين جدا لأهل الإيمان ولأهل القرآن وهما «حكمة التكرار في القرآن» و«بعض المسائل حول الملائكة»… لم أؤلف عداهما ولكني وافقت على ضمّ الرسائل التي برأتْها المحاكم وجعْلِها بشكل مجلدات، وعندما قامت المحكمة بإرجاع خمسمائة نسخة من «رسالة الآية الكبرى» التي كانت مطبوعة بالأحرف القديمة، فقد أعطيتُ موافقتي لإخواني باستنساخها بوساطة جهاز الاستنساخ -لعلمي بأن القانون لا يمنع ذلك بصورة رسمية- وذلك لكي يستفيد العالم الإسلامي منها، وانشغلتُ فقط بتصحيحها ولم أنشغل أبدا بالسياسة، حتى إنني فضلتُ البقاء في غربة أليمة ولم أرجع إلى بلدتي -كما فعل جميع المنفيين الآخرين- رغم صدور الإذن الرسمي بذلك، لكي لا أنشغل بالدنيا وبالسياسة.

إذن فإن القيام بتوجيه هذا الاتهام الثالث المحتوي على أمور باطلة وكاذبة وعلى تفسيرات خاطئة ومحاوَلة إدانةَ مثل هذا الرجل يحتوي على معنَيَيْن مذهلَين -لن أقولهما الآن- وقد أثبتتْ المدةُ الأخيرة البالغة عشرين شهرا هذا الأمر. وأنا أقول: حسبهم القبر وسقر، وأحيل أمري إلى المحكمة الكبرى يوم القيامة.

الثامنة: بعد أن بقيتْ رسالة «الشعاع الخامس» سنتين لدى محكمة دنيزلي ومحكمة أنقرة أعيدت إلينا. وبعد أن صدر القرار بتبرئتها سمحتُ بنشرها -مع دفاعي في تلك المحكمة- في آخر مجموعة «سراج النور». صحيح أنني كنت أحتفظ بها كرسالة خاصة ليست معروضة على الناس، ولكن ما دامت المحكمة شهرت بها وأعلنتها ثم أعادتها إلينا بعد براءتها، فقلت بأنه لا ضرر إذن من نشرها، لذا أذنتُ لهم بنشرها. وكان أصل هذه الرسالة قد كتب قبل حوالي أربعين سنة حول تأويلاتِ أحاديثَ متشابهة كانت قد انتشرت بين الناس منذ القديم، ومع أن عددا من علماء الحديث ضعّفوا قسما من هذه الأحاديث، إلّا أنني قمت بكتابة هذه الرسالة إنقاذا لأهل الإيمان من الشبهات لأن المعاني الظاهرة لهذه الأحاديث كانت تتسبب في اعتراضات كثيرة عليها، إلّا أن قسما من تأويلاتها الخارقة ظهرت أمام الأعين، لذا اضطررنا إلى إخفاء هذه الرسالة وجَعْلِها رسالة سرية خاصة لكي لا تُفسَّر تفسيرا خاطئا، وبعد أن قامت عدة محاكم بتدقيقها وتشهيرها ثم إعادتها إلينا، إلّا أنها عادت مرة أخرى إلى اتخاذها سببا في إدانتنا، لذا فإننا نحيل مدى ابتعاد هذا العمل عن العدالة وعن الحق وعن الإنصاف إلى ضمائر هؤلاء الذين يريدون إدانتنا بسبب من قناعاتنا الوجدانية، كما نحيل شكوانا هذه إلى المحكمة الإلهية الكبرى ونقول: ﴿حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَكيلُ﴾.

التاسعة: وهذه نقطة مهمة جدا ولكننا نمسك عن ذكرها لئلا نُغضب الذين حكموا علينا، وذلك لأجل قيامهم بقراءة رسائل النور.

العاشرة: وهذه نقطة قوية ومهمة ولكننا نمسك أيضا عن ذكرها حاليا لكي لا تدفعهم إلى الاستياء والامتعاض.

سعيد النُّورْسِيّ

الموقوف في السجن الانفرادي