عريضة مقدمة إلى مجلس الوزراء

هذا قسم من العريضة المقدمة إلى مجلس الوزراء قبل خمسة عشر عاما وأثناء محكمة «أسكي شهر»:

يا أهل الحل والعقد!

لقد تعرضتُ لظلم يندر وجوده في الدنيا. ولما كان السكوت على هذا الظلم يعدّ استهانة بالحق وعدمَ احترام له فقد اضطررتُ إلى إفشاء حقيقة مهمة جدا، فأقول:

إما قوموا بإعدامي وببيان ذنبي الذي استلزم حكما مقداره مائة سنة وسنة ضمن دائرة القانون وإطاره، أو برهِنوا على أنني مجنون وفاقد للعقل، أو أعطوا لرسائلنا ولنا ولأصدقائنا الحرية الكاملة وحاسِبوا الذين تسببوا في إيقاع الأذى بنا.

أجل، لا بد أن يكون لكل حكومة قانون واحد، وأصول واحدة، حيث تُعطى العقوبات على أساس ذلك القانون، فإذا لم يكن في قوانين الحكومة الجمهورية ما يبرر إيقاع الأذى الشديد بي وبأصدقائي فإن من المفروض ومن الواجب تقديمَ الترضية الضرورية والتقدير والمكافأة لنا مع إعطائنا كاملَ الحرية، ذلك لأنه لو كانت خدمتي القرآنية تعدّ عملا عدائيا موجها ضد الحكومة، فإنه يلزم إصدارُ حكم عليّ بالسجن لمدة مائة سنة وسنة أو بالإعدام، وكذلك إصدار عقوبات قاسية على الذين ارتبطوا معي في هذه الخدمة بشكل جدي بدلا من الحكم عليّ بسنة واحدة وعلى أصدقائي بستة أشهر. فإن لم تكن خدماتنا هذه موجهة ضد الحكومة، فعليها أن تقابلنا بالتقدير والمكافأة بدلا من العقاب والسجن والأذى والاتهام. ذلك لأن مائة وعشرين رسالة، أصبحت ترجمانا لهذه الخدمة، واستطاعت أن تتحدى فلاسفة أوروبا وأن تهدم كل أسسهم الفكرية وتجعلها أثرا بعد عين.

لا شك أن هذه الخدمة الفعالة والمؤثرة ستؤدي إما إلى نتيجة مخيفة، أو إلى ثمرة علمية راقية ونافعة جدا، لذا لا يمكن إصدار قرار بحبسي سنة واحدة وكأننا نلعب لعب الأطفال من أجل ذر الرماد على العيون واستغفال العامة والتستر على مؤامرات الظالمين ضدنا، ذلك لأن أمثالي إما أن يصعدوا على المشنقة بكل فخر ويعدموا، وإما أن يكونوا أحرارا في الموقع الذي يستحقونه.

أجل، إن اللص الماهر الذي يستطيع أن يسرق ألماسات بقيمة آلاف الليرات، إن قام بسرقة قطع زجاجية بقيمة عدة قروش وتم الحكم عليه بنفس الحكم من سرقة ألماسات ثمينة، فإنه ما من لص أو ذي عقل وشعور يفعل ذلك. لأن أمثال هذا اللص يكون ذكيا وحاذقا ولا يتورط في عمل في غاية الحمق والبلاهة.

أيها السادة!

لنفرض أنني كنت مثل ذلك اللص حسب ما تتوهمون، فلماذا أختار ناحية بائسة من نواحي مدينة «إسبارطة» حيث بقيتُ منـزويا فيها مدة تسع سنوات. إذن فبدلا من توجيه أفكارِ بضعةٍ من الأفراد المخلصين «الذين تم الحكم عليهم بأحكام خفيفة» نحو معاداة الحكومة وإلقاءِ نفسي ورسائلِ النور -التي هي غاية حياتي وهدفها- في الخطر فقد كان من الأفضل لي البقاءُ في موقع كبير في «أنقرة» أو في «إسطنبول» -كما كنت في السابق- وتوجيهُ الآلاف من الناس نحو الغاية التي ابتغيها، عند ذلك كنت أستطيع أن أتدخل وأن أشارك في أمور الدنيا بعزة تليق بمسلكي بدلا من التعرض لمثل هذه العقوبة التافهة والذليلة.

ولأجل أن أبين مدى الخطأ الذي يقع فيه الذين يريدون دفعي إلى رتبة واطئة لا نفع فيها ولا أهمية لها، فإنني أقول مضطرا مذكرا ببعض أنانيتي وريائي السابقين وليس من أجل الفخر والمدح:

إن الذين تيسرتْ لهم رؤية دفاعي الذي طبع تحت عنوانِ «شهادة مدرستين للمصيبة»، يشهدون أنه استطاع بخطبة واحدة جَلْبَ ثماني كتائب من الجنود إلى الطاعة في أحداثِ 31 مارت، وكما كتبتْ الجرائد آنذاك استطاع بمقالة واحدة في زمن حرب الاستقلال باسم «الخطوات الست» أن يحوّل رأيُ العلماء في إسطنبول ضد الإنكليز، مما كان له أثر إيجابي كبير في الحركة الملية «الوطنية» وفي جامع أياصوفيا استمع الآلاف إلى خطبته، وفي مجلس المبعوثان (المجلس النيابي) في أنقرة استُقبل بتصفيق حار وقام مائة وثلاث وستون نائبا بالموافقة على تخصيصِ مائة وخمسين ألف ليرة لمدرسة دار الفنون (الجامعة)، وعندما دعا إلى الصلاة قابَل حدةَ رئيس الجمهورية في ديوان الرئاسة وردَّ عليه دون خوف أو وجل وعندما كان في «دار الحكمة الإسلامية» رأت حكومة الاتحاد والترقى بالإجماع أنه أوفق شخص لتبليغ الحكمة الإسلامية إلى حكماء أوروبا بشكل مؤثر. أما كتابه «إشارات الإعجاز» الذي ألّفه في جبهات القتال -والذي تمت مصادرته الآن- فقد أعجب به القائد العام أنور باشا إعجابا كبيرا إلى درجة أنه هرع إلى استقباله بكل احترام -وهذا ما لم يفعله مع أحد- وقرر إعطاء الورق اللازم لطبع هذا الكتاب لكي تكون له حصة من شرف تلك الهدية ومن ثوابها، هدية الحرب، كما ذَكر جهاد مؤلف الكتاب في الحرب بكل خير وبكل تقدير..

فمثل هذا الرجل لا يستطيع أن يسكت على معاملته بهذه الصورة وكأنه تورط في جرائم تافهة كسرقة بغلة أو خطف بنت أو نشل جيب، لأنه لو سكت لكان هذا وصمة له ولعزته العلمية القدسية ولخدماته وللألوف المؤلفة من أصدقائه الغالين، لأنكم عندما تعاقبونه بحبسه سنة واحدة فكأنكم تعاملونه معاملة سارقِ نعجة أو خروف. فبعد قيامكم بوضعه دون أي سبب تحت الإقامة الجبرية وتحت المراقبة مدة عشر سنوات مليئة بالمضايقات وبالآلام، وبعد هذا التعذيب تقومون الآن بحبسه سنة واحدة وبإبقائه تحت الإقامة الجبرية سنة أخرى. وبدلا من معاناته من تحكم وتجبر شرطي عادي أو رجل بوليس سري عادي -وهو الذي لم يتحمل تحكم السلطان- فإنه من الأفضل والأولى له أن يُشنق. ولو أن مثل هذا الرجل أراد التدخل في أمور الدنيا ورغب في ذلك، وكانت وظيفته ومهمته المقدسة تسمح له بذلك، إذن لاستطاع أن يقود أمرا أعظم بعشرات المرات من حادثةِ «مَنَمَنْ» ومن ثورة «الشيخ سعيد» أي لأسمعكم صوتا راعدا كدوي المَدافع وليس طنينا كطنين أجنحة الذباب!

أجل، إنني أعرِض أمام أنظار حكومة الجمهورية بأن ما أتعرض له حاليا من مصائب ومن بلايا هو نتيجة لمؤامراتِ ودعاياتِ منظمة بلشفية سرية، فهناك جو من الدعايات العامة الشاملة التي لم يشاهَد لها مثيل في السابق وجو من الخوف ومن الإرهاب. والدليل على هذا هو أنه ما من أحد من أصدقائي -الذين يبلغ عددهم مائة ألف- استطاع أن يبعث لي رسالة واحدة منذ ستة أشهر ولم يستطع أن يرسل لي تحية أو سلاما. وأصحاب المؤامرات هذه الذين يحاولون خداع الحكومة واستغفالها استطاعوا بتقاريرهم السرية ترتيبَ تحقيقات واستجوابات وتحريات في كل مكان بدءاً من الولايات الشرقية للبلد إلى الولايات الغربية.

إن الخطة التي كان المتآمرون يحيكونها رُتبت وكأن هناك حادثة مهمة أُعاقَب عليها -مع الآلاف من الأشخاص مثلي- عقابا قاسيا، ولكنها انتهت في الأخير إلى عقوبة تافهة جدا يمكن أن تفرض على أي شخص اعتيادي قام بحادثة سرقة تافهة؛ إذ عوقب خمسة عشر شخصا بريئا من بين مائة وخمسة عشر بالسجن لمدة ستة أشهر. فهل هناك شخص يملك شعورا وعقلا يقوم بوخز أسد كبير في ذيله وخزة خفيفة بسيف قاطع حاد يحمله في يده فيثيره ضده؟ ذلك، لأنه لو كان يريد حفظ نفسه من ذلك الأسد أو لو كان يريد قتله لاستعمل ذلك السيف القاطع في موضع آخر من ذلك الوحش.

إن قيامكم بإصدار عقوبة خفيفة ضدي يدل على أنكم تتوهمون أنني مثل هذا الرجل. ولو أنني كنت شخصا يتصرف مثل هذا التصرف البعيد عن العقل وعن الشعور فلماذا ملأتم هذا البلد بطوله وعرضه بجو من الخوف؟ وما الداعي لكل هذه الدعايات التي تستهدف جلب عداء الرأي العام ضدي؟ لقد كان من المفروض أن تتعاملوا معي كتعاملكم مع مجنون عادي فترسلوني إلى مستشفى المجاذيب.

أما لو كنت شخصا مهما كأهمية التدابير التي تتخذونها ضدي، فليس من العقل ومن المنطق وخز ذلك الأسد أو ذلك الوحش في ذيله وإثارته للهجوم عليه، بل عليه أن يحافظ قدر الإمكان على نفسه منه. وهكذا فإنني فضلتُ حياةَ الانزواء منذ عشر سنوات باختياري وتحملت من الآلام والمضايقات مالا يتحمله إنسان، ولم أتدخل في أي شأن من شؤون الحكومة ولم أرغب في ذلك أصلا، ذلك لأن مهمتي المقدسة تمنعني من هذا.

يا أهل الحل والعقد!

هل من الممكن لمن استطاع قبل خمس وعشرين سنة -بشهادة جرائد ذلك الوقت- أن يكسب إلى جانب أفكاره ثلاثين ألف شخص بمقالة واحدة كتبها، وجَلَبَ نحوه أنظارَ واهتمامَ جيشِ الحركة، وأجاب بست كلمات على أسئلةِ كبيرِ قساوسةِ إنكلترة الذي طلب الإجابة عليها بستمائة كلمة، والذي كان يخطب في بداية عهد الحرية كأي سياسي متمرس… هل من الممكن أن لا يوجد في مائة وعشرين رسالة من رسائل هذا الشخص سوى خمس عشرة كلمة تتعلق بالسياسة وبأمور الدنيا؟ أيمكن لأي عقل أن يقتنع بأن مثل هذا الرجل يسلك طريق السياسة وله أهداف دنيوية؟ لأنه لو كان يهتم بالسياسة وبالتعرض للحكومة لظهر ذلك صراحةً أو إيماءً في مائة موضع من كتاب واحد فقط. ولو كانت غايته توجيه النقد السياسي أَمَا كان بإمكانه أن يجد ما ينقده غير موضوع الحجاب وغير موضوع الميراث وهما من المواضيع ومن الدساتير الموجودة منذ السابق؟

إن أي شخص يملك فكرا سياسيا معينا يستطيع أن يجد مئات الآلاف من المواضيع التي ينتقدها لنظام هذه الحكومة التي قامت بانقلاب كبير، ولا يقتصرَ على موضوعين معلومين فقط. فهل يمكن حصر الانقلاب الذي قامت به حكومة الجمهورية على مسألتين صغيرتين فقط؟ ومع أنني لم أقصد توجيه أي انتقاد لها فقد التقطوا كلمتين أو ثلاثا وردت في كتاب أو كتابين كتبتهما سابقا وادّعوا بأنني أهاجم نظام الحكومة وأهاجم انقلابها. وأنا أسألكم الآن: هل يعقل إشغال البلد بطوله وعرضه ونشر جو من الخوف فيه لمجرد تناولي لمسألة علمية لا تتطلب إصدار أية عقوبة من جرائها مهما كانت صغيرة؟

إن القيام بإصدار عقوبة خفيفة وتافهة في حقي وفي حق بضعة أشخاص من أصدقائي ونشر دعايات مكثفة وشديدة ضدنا في عموم البلد، وإشاعة جو من الخوف والإرهاب بين الناس لكي ينفّروهم منا ويبغّضونا في أعينهم، وجَلْب وزير الداخلية «شكري قايا» قوةً كبيرة إلى مدينة إسبارطة لتقوم بمهمةٍ يستطيع القيام بها جندي واحد -وهي القيام بإلقاء القبض عليّ وسجني- وقيامَ رئيس الوزراء «عصمت إينونو» بزيارة الولايات الشرقية بهذه المناسبة، وكذلك منعي من الحديث والتكلم شهرين كاملين في السجن، وعدم السماح لأي أحد بالسؤال عن حالي أو إرسال تحية لي وأنا وحيد في هذه الغربة.. كل هذا يشير إلى وضع غريب جدا لا معنى له ولا حكمة فيه لا تليق بأية حكومة في الدنيا -علما بأن مصدر كلمة «الحكومة» هو تناول الأمور بالحكمة- وليس فقط بحكومة الجمهورية التي من المفروض أنها تراعي القوانين وتحترمها.

إنني أريد حفظَ حقوقي في إطار القانون. كما أتهم كل من يخالف القانون ويدوس عليه باسم القانون بأنه يرتكب جناية، ولا شك أن قوانين حكومة الجمهورية ترفض أعمال هؤلاء الجناة، وآمل أن تعاد لي حقوقي».

سعيد النُّورْسِيّ

ملاحظة:

المكتوب السادس عشر (من المكتوبات) مع ذيله يعدّ دفاعا عن الأستاذ النُّورْسِيّ وعن رسائل النور، ولهذا أدرجَه الأستاذ النُّورْسِيّ هنا ضمن الشعاع الرابع عشر هذا، فمن شاء فليراجعه في موضعه من «المكتوبات». (المترجم)


رسائل من السجن

باسمه سبحانه

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أبدا دائما.

أيها الإخوة الأعزاء الأوفياء!

لقد رأيت أنوار سُلوان ثلاثة، أبينها في نقاط ثلاث للذين ابتُلوا بالسجن ومن يقوم بنظارتهم ورعايتهم ومن يعينهم في أعمالهم وأرزاقهم.

النقطة الأولى: أن كل يوم من أيام العمر التي تمضي في السجن، يمكن أن يُكسِب المرءَ ثوابَ عبادة عشرة أيام، ويمكن أن يحوّل ساعاته الفانية -من حيث النتيجة- إلى ساعات باقية خالدة.. بل يمكن أن يكون قضاء بضع سنين في السجن وسيلة نجاة من سجن أبدي لملايين السنين.

فهذا الربح العظيم مشروط لأهل الإيمان بأداء الفرائض، والتوبة إلى الله من الذنوب والمعاصي التي دفعته إلى السجن، والتوجه إليه تعالى بالشكر صابرا محتسبا. علما أن السجن نفسَه يحول بينه وبين كثير من الذنوب.

النقطة الثانية: أن زوال الألم لذةٌ، كما أن زوال اللذة ألمٌ.

نعم، إن كل من يفكر في الأيام التي قضاها بالهناء والفرح يشعر في روحه بحسرة وأسف عليها، حتى ينطلق لسانُه بكلمات الحسرات: أواه.. آه.. بينما إذا تفكر في الأيام التي مرت بالمصائب والبلايا فإنّه يشعر في روحه وقلبه بفرح وبهجة من زوالها حتى ينطلق لسانه بـ: «الحمد لله والشكر له، فقد ولّت البلايا تاركةً ثوابَها». فينشرح صدره ويرتاح.

أي إنّ ألما موقتا لساعة من الزمان يترك لذة معنوية في الروح، بينما لذةٌ موقتة لساعة من الزمان تترك ألما معنويا في الروح، خلافا لذلك.

فما دامت الحقيقة هذه، وساعاتُ المصائب التي ولّت مع آلامها أصبحت في عِداد المعدوم، وأنّ أيام البلايا لم تأتِ بعدُ، فهي أيضا في حكم المعدوم.. وإنّه لا ألمَ من غير شيء.. ولا يَرِدُ من العدم ألمٌ.. فمن البلاهة إذن إظهار الجزَع ونفاد الصبر الآن، من ساعات آلامٍ ولّتْ، ومن آلامٍ لم تأتِ بعدُ، علما أنها جميعا في عِداد المعدوم. ومن الحماقة أَيضا إظهار الشكوى من الله وتركُ النفس الأمارة المقصّرة من المحاسبة، ومن بعد ذلك قضاءُ الوقت بالحسرات والزفرات. أَوَ ليس من يفعل هذا أَشدَّ بلاهة ممن يداوم على الأكل والشرب طَوالَ اليوم خشيةَ أَنْ يجوع أو يعطش بعد أيام؟

نعم، إنّ الإنسان إن لم يُشتِّتْ قوة صبره يمينا وشمالا -إلى الماضي والمستقبل- وسدَّدَها إلى اليوم الذي هو فيه، فإنها كافيةٌ لتحل له حبالَ المضايقات.

حتى إنني أَذكر -ولا أَشكو- أَنّ ما مرَّ عليَّ في هذه المدرسة اليوسفية الثالثة في غضون أيام قلائل من المضايقات المادية والمعنوية لم أَرها طوال حياتي، ولاسيّما حرماني من القيام بخدمة النور مع ما فيّ من أمراض. وبينما كان قلبي وروحي يعتصران معا من الضيق واليأس إذا بالعناية الإلهية تمدني بالحقيقة السابقة، فانشرح صدري أيّما انشراح وولّت تلك المضايقات فرضيتُ بالسجن وآلامه والمرض وأَوجاعه. إذ من كان مثلي على شفير القبر يُعدّ ربحا عظيما له أن تتحول ساعةٌ من ساعاته التي يمكن أن تمر بغفلة إلى عشر ساعات من العبادة.. فشكرت الله كثيرا.

النقطة الثالثة: إن القيام بمعاونة المسجونين بشفقة ورأفة وإعطاءهم أرزاقهم التي يحتاجون إليها وضماد جراحاتهم المعنوية ببلسم التسلّي والعزاء، مع أنه عمـل بسيـط إلّا أَنّه يحمل في طياته ثوابا جزيلا وأجرا عظيما. حيث إن تسليم أرزاقهم التي تُرسل إليهم من الخارج يكون بحكم صَدقة، وتُكتب في سجل حسنات كل مَن قام بهذا العمل، سواءً الذين أَتوا بها من الخارج أو الحراس أو المراقبون الذين عاونوهم، ولاسيّما إن كان المسجون شيخا كبيرا أو مريضا أو غريبا عن بلده أو فقيرا معدما، فإن ثواب تلك الصدقة المعنوية يزداد كثيرا.

وهذا الربح العظيم مشروط بأداء الفرائض من الصلوات لتُصبح تلك الخدمة لوجه الله.. مع شرط آخر هو أن تكون الخدمة مقرونة بالشفقة والرحمة والمحبة من دون أَن يحمّل شيئا من المنّة.

* * *

حاشية صغيرة لرسالة «مرشد الشباب»

باسمه سبحانه

إن المسجونين هم في أمسّ الحاجة إلى ما في رسائل النور من سلوان حقيقي وعزاء خالص. ولاسيما أولئك الشبان الذين تلقَّوا صفعات التأديب ولطمات التأنيب بنَـزواتهم وأهوائهم. فقضوا نضارةَ عمرهم في السجن، فحاجة هؤلاء إلى النور كحاجتهم إلى الخبز.

إن عروق الشباب تنبض لهوى المشاعر، وتستجيب لها أكثرَ مما تستجيب للعقل وترضخ له. وسَورات الهوى -كما هو معلوم- لا تبصر العقبى، فتفضّل درهما من لذة حاضرة عاجلة على طنٍ من لذة آجلة، فيُقْدِم الشابُّ بدافع الهوى على قتل إنسان بريء للتلذذ بدقيقة واحدة من لذة الانتقام، ثم يقاسي من جرائها ثمانيةَ آلاف ساعة من آلام السجن.. والشاب ينساق إلى التمتع لساعة واحدة في اللهو والعبث -في قضية تخص الشرف- ثم يتجرع من ورائها آلام ألوف الأيام من سجن وخوف وتوجس من العدو المتربص به.. وهكذا تضيع منه سعادةُ العمر بين قلق واضطراب وخوف وآلام.

وعلى غرار هذا يقع الشباب المساكين في ورطات ومشاكل عويصة كثيرة حتى تحوّل ألطفَ أيام حياتهم وأحلاها إلى أمرّ الأيام وأقساها، وفي حالة يرثى لهم ولاسيما بعد أن هبّت عواصفٌ هوجاء من الشمال تحمل فتنا مدمّرة لهذا العصر؛ إذ تستبيح لهوى الشباب الذي لا يرى العقبى أعراضَ النساء والعذارى الفاتنات وتدفعهم إلى الاختلاط الماجن البذيء، فضلا عن إباحتها أموالَ الأغنياء لفقراء سفهاء.

إن فرائص البشرية كلَها لترتعد أمام هذه الجرائم المنكرة التي تُرتكب بحقها.

فعلى الشباب المسلم في هذا العصر العصيب أن يشمّروا عن سواعد الجد لينقذوا الموقف، ويَسُلُّوا السيوفَ الألماسية لحجج رسائل النور وبراهينها الدامغة -التي في رسالة «الثمرة» و«مرشد الشباب» وأمثالهما- ويدافعوا عن أنفسهم، ويصدّوا هذا الهجوم الكاسح الذي شُنّ عليهم من جهتين.. وإلّا فسيضيع مستقبلُ الشباب في العالم، وتذهب حياتُه السعيدة، ويفقد تنعّمه في الآخرة، فتنقلب كلُها إلى آلامٍ وعذاب؛ إذ سيكون نـزيلَ المستشفيات، بما كَسبت يداه من إسراف وسفاهة.. ونـزيلَ السجون، بطيشه وغيّه.. وستبكي أيامُ شيخوخته بكاءً مرا ويزفر زفرات ملؤها الحسرات والآلام.

ولكن إذا ما صان نفسه بتربية القرآن، ووقاها بحقائق رسائل النور فسيكون شابا رائدا حقا، وإنسانا كاملا، ومسلما صادقا سعيدا، وسلطانا على سائر المخلوقات.

نعم، إن الشاب إذا دفع ساعة واحدة من أربع وعشرين ساعة من يومه في السجن إلى إقامة الفرائض، وتاب عن سيئاته ومعاصيه التي دفَعَتْه إلى السجن، وتجنّب الخطايا والذنوب مثلما يجنّبه السجنُ إياها.. فإنه سيعود بفوائدَ جمّة إلى حياته وإلى مستقبله وإلى بلاده وإلى أمته وإلى أحبّائه وأقاربه، فضلا عن أنه يكسب شبابا خالدا في النعيم المقيم بدلا من هذا الذي لا يدوم خمسَ عشرة سنة.

هذه الحقيقة يُبشِّر بها ويخبر عنها عن يقين جازم جميعُ الكتب السماوية وفي مقدمتها القرآنُ الكريم.

نعم، إذا ما شكر الشاب على نعمة الشباب -ذلك العهدِ الجميل الطيب- بالاستقامة على الصراط السوي، وأداء العبادات، فإن تلك النعمة المهداة تزداد ولا تنقص، وتبقى من دون زوال، وتصبح أكثر متعةً وبهجة.. وإلّا فإنها تكون بلاء ومصيبة مؤلمة ومغمورة بالغم والحزن والمضايقات المزعجة حتى تذهب هباءً فيكون عهدُ الشباب وبالا على نفسه وأقاربه وعلى بلاده وأمته.

هذا وإن كلَّ ساعة من ساعات المسجون الذي حُكم عليه ظلما تكون كعبادة يومٍ كامل له، إن كان مؤديا للفرائض، ويكونُ السجن بحقه موضعَ انـزواء واعتزال من الناس كما كان الزهّاد والعُبّاد ينـزوون في الكهوف والمغارات ويتفرغون للعبادة. أي يمكن أن يكون هو مثل أولئك الزهاد.

وستكون كل ساعة من ساعاته إن كان فقيرا ومريضا وشيخا متعلقا قلبُه بحقائق الإيمان وقد أناب إلى الله وأدّى الفرائض، في حُكم عبادة عشرين ساعة له، ويتحوّل السجنُ بحقّه إلى مدرسة تربوية إرشادية، وموضعِ تحابب ومكان تعاطف، حيث يقضي أيامَه مع زملائه في راحة فضلا عن راحته وتوجه الأنظار إليه بالرحمة، بل لعله يفضّل بقاءَه في السجن على حريته في الخارج التي تنثال إليه الذنوب والخطايا من كل جانب، ويأنس بما يتلقى من دروس التربية والتزكية فيه. وحينما يغادره لا يغادره قاتلا ولا حريصا على أخذ الثأر، وإنما يخرج رجلا صالحا تائبا إلى الله، قد غنم تجاربَ حياتية غزيرة. فيُصبح عضوا نافعا للبلاد والعباد، حتى حدا الأمر بجماعة كانوا معنا في سجن «دنيزلي» إلى القول، بعدما أخذوا دروسا إيمانية في سمو الأخلاق ولو لفترة وجيزة من رسائل النور:

«لو تلقّى هؤلاء دروسَ الإيمان من رسائل النور في خمسة عشر أسبوعا، فإنه أجدى لإصلاحهم من إلقائهم إلى السجن خمس عشرة سنة».

فما دام الموتُ لا يفنى من الوجود، والأجلُ مستورٌ عنا بستار الغيب، ويمكنه أن يحلّ بنا في كل وقت.. وأن القبر لا يُغلق بابُه.. وأن البشرية تغيب وراءه قافلة إثر قافلة.. وأن الموت نفسه بحق المؤمنين ما هو إلّا تذكرة تسريح وإعفاء من الإعدام الأبدي -كما وضّح ذلك بالحقيقة القرآنية- وأنه بحق الضالين السفهاء إعدام أبدي كما يشاهدونه أمامهم؛ إذ هو فراق أبدي عن جميع أحبتهم وأقاربهم بل الموجودات قاطبة.. فلابد ولا شك بأن أسعد إنسان هو مَن يشكر ربه صابرا محتسبا في سجنه مستغلا وقته أفضل استغلال، ساعيا لخدمة القرآن والإيمان مسترشدا برسائل النور.

أيها الإنسان المبتلَى بالملذات والمُتع!

لقد علمتُ يقينا طوال خمس وسبعين سنة من العمر، وبألوفِ التجارب التي كسبتُها في حياتي، ومثلها من الحوادث التي مرت عليّ أن الذوقَ الحقيقي، واللذةَ التي لا يشوبها ألم، والفرحَ الذي لا يكدّره حُزن، والسعادةَ التامة في الحياة إنما هي في الإيمان، وفي نطاق حقائقه ليس إلّا. ومن دونه فإن لذةً دنيوية واحدة تحمل آلاما كثيرة كثيرة. وإذ تقدِّم إليك الدنيا لذة بقدر ما في حَبَّةِ عنب تصفعك بعشر صفعات مؤلمات، سالبةً لذةَ الحياة ومتاعَها.

أيها المساكين المبتلَون بمصيبة السجن!

ما دامت دنياكم حزينة باكية، وأن حياتكم قد تعكرت بالآلام والمصائب، فابذلوا ما في وسعكم كيلا تبكي آخرتُكم، ولتفرح وتحلو وتسعد حياتكم الأبدية. فاغتنموا يا إخوتي هذه الفرصة، إذ كما أن مرابطةَ ساعة واحدة أمام العدو ضمن ظروف شاقة يمكن أن تتحول إلى سنة من العبادة، فإن كل ساعة من ساعاتكم التي تقاسونها في السجن تتحول إلى ساعات كثيرة هناك إذا ما أديتم الفرائض، وعندها تتحول المشقات والمصاعب إلى رحماتٍ وغفران.

سعيد النُّورْسِيّ


إخوتي الأعزاء الأوفياء!

لا أعزيكم بل أهنئكم، إذ مادام القدر الإلهي قد ساقنا إلى هذه المدرسة اليوسفية الثالثة لحكمة اقتضاها، وأنه سيطعمنا قسما من أرزاقنا دعتنا إلى هنا، ومادامت تجاربنا القاطعة قد علّمتنا -لحد الآن- أن العناية الإلهية لطيفة بنا وقد جعلتنا ننال سر الآية الكريمة: ﴿وَعَسٰٓى اَنْ تَكْرَهُوا شَيْـًٔا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ (البقرة:216)، وأن إخواننا الحديثي العهد في المدرسة اليوسفية هم أحوج الناس إلى السلوان الذي تورثه رسائل النور، وأن العاملين في دوائر العدل هم أشد حاجة من الموظفين الآخرين إلى القواعد والدساتير السامية التي تتضمنها رسائل النور، وأن أجزاء هذه الرسائل تؤدي لكم مهمتكم خارج السجن وبكثرة كاثرة، وأن فتوحاتها لا تتوقف، وأن كل ساعة فانية هنا في السجن تصبح بمثابة ساعات من العبادة الباقية… ينبغي لنا -وفق النقاط المذكورة- أن نتجمل بالصبر والثبات شاكرين خالقنا مستبشرين إزاء هذه الحادثة.

أُعيد إليكم الرسائلَ الصغيرة المسلية كلها، والتي كتبناها في سجن «دنيزلي».

نسأل الله أن تسليكم أيضا تلك الفقرات المشحونة بالحقائق.

* * *

إخوتي الأعزاء الأوفياء!

أولا: حمدا لله بما لا يحدّ من الحمد لله، لقد ظهر في الساحة روّادٌ معنويون من المفتين والوعاظ والأئمة والعلماء، الذين هم الأصحاب الحقيقيون لرسائل النور، حيث كان الشباب والمعلمون والطلاب هم طلبة النور الغيارى لحد الآن.

فألف ألف تهنئة وبارك الله فيكم يا أدهم وإبراهيم وعلي عثمان.. فلقد بيّضتم وجوه أهل المدارس الشرعية، وحوّلتم إحجامهم وترددهم إلى شجاعة وإقدام.

ثانيا: ما ينبغي أن يتأسف ويندَم أولئك الذين ولّدوا هذه الحادثة من جراء فعالياتهم وانفعالاتهم الخالصة لله. لأن سجن «دنيزلي» قد بارك الذين لم يأخذوا الحذر في أعمالهم من حيث النتيجة، حيث التعب قليل والفائدة المعنوية عظيمة جدا. نسأل الله أن لا تكون هذه «المدرسة اليوسفية الثالثة» قاصرة عن التي قبلها.

ثالثا: علينا الشكر لله على ظروفنا العصيبة هذه في السجن وذلك لما فيها من زيادة الثواب حسب المشقة. ونسعى في الوقت نفسه لأداء وظيفتنا التي هي خدمة الإيمان بإخلاص. أما التوفيق في أعمالنا أو الحصول على نتائج خيّرة فيها فموكولة إلى الله سبحانه وتعالى ولا نتدخل فيها، بل نظل صابرين شاكرين لله إزاء هذه المعتكفات قائلين: خير الأمور أحمزها.

وعلينا أن نعلم أن هذه الحادثة ما هي إلّا علامة على قبول أعمالنا، وهي وثيقة وأمارة على اجتيازنا الامتحان في جهادنا المقدس.

* * *