المسألة السابعة

اعلم أن الخيال المندمجَ في أسلوبٍ لابدّ أن يتسنبل على نواةِ حقيقةٍ، ويكون كالمرآة في أن ينعكس به -في المعنويات- القوانينُ والعلل المندرجة في سلسلة الخارجيات.

وفلسفة النحو التي هي المناسباتُ المذكورةُ في كُتبه أيضاً من هذا القبيل؛ كما يقال: الرفعُ للفاعل، لأن القويَّ يأخذ القويَّ. وقس عليه..

المسألة الثامنة

اعلم أن سيبويه نصّ على أن الحروف التي تعَدّد معانيها كـ«من» و«إلى» و«الباء» وغيرها، أصلُ المعنى فيها واحدٌ لا يزول؛ لكن باعتبار المقام والغرضِ قد يتشرب معنىً معلّقاً، ويجذبه إلى جوفه، فيصير المعنى الأصلي صورةً وأسلوباً لمسافره. وكذلك إن العارف بفقه اللغة إذا تأمّل عَرَف أن اللفظ المشترك في الأغلب معناه واحدٌ، ثم بالمناسبات وقع تشبيهاتٌ.. ثم منها مجازات.. ثم منها حقائقٌ عرفية.. ثم يتعدد. حتى إن «العين» التي معناه الواحد البصر أو المنهل، يُطلق على الشمس أيضا؛ً بالرمز إلى أن العالَم العلويَّ ينظر إلى العالم السفليِّ بها، أو أن ماء الحياة الذي هو الضياءُ يسيل من ذلك المنبع في الجبل الأبيض المُشرف، وقس!

المسألة التاسعة

اعلم أن أعلى مراتب البلاغة الذي يُعجِز الإرادةَ الجزئية والفكرَ الشخصيّ والتصور البسيط هو أن يحافظَ ويراعي وينظر المتكلمُ دفعةً نِسَب قيودِ الكلام وروابطِ الكلمات وموازنة الجُمل التي يُظهِر كلٌّ مع الآخر نقشاً متسلسلاً إلى النقش الأعظم. حتى كأن المتكلمَ استخدم عقولاً إلى عقله، كالباني لقصر يضع الأحجار المتلونة بوضعية تحصل بها نقوشٌ غريبة من مناظرةِ وموازاةِ الكلِّ مع الكلِّ كـ«العين» في الخط المشترك بين أسماء «الخلفاء الراشدين». ومن أظهر مسائل هذه المسألة قوله تعالى: ﴿الٓمٓ ﴿1﴾ ذٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فيهِ هُـدًى لِلْمُتَّقينَعلى ما سمعت سابقاً.

وأيضاً من أسباب علوّ الكلام أن يكون كشجرةِ النَّسَب يتسلسل متناسلاً إلى المقاصد التي تتدلى على المقام والغرض.. وأيضاً من أسباب رفعةِ طبقة الكلام أن يكون مستعداً لاستنباط كثير من الفروع والوجوه كقصة موسى على نبينا وعليه السلام.

المسألة العاشرة

اعلم أن سلاسة الكلام المنتجة لِلَطافته وحُلْوه هو أن تكون المعاني والحسياتُ المندمجة فيه ممتزجةً تتحدُ أو مختلفةً تنتظم؛ لئلا تتشربَ الجوانبُ قوّةَ الإفادة والغرض، بل يجذبَ المركزُ القوّةَ من الأطراف.. وأيضاً من السلاسة أن يتعيّن المقصد.. وأيضاً منه أن يتظاهر ملتقى الأغراض.

المسألة الحادية عشرة

اعلم أن سلامة الكلام التي هي سببُ صحته وقوّته هي أن يكون الكلام بحيث يشير إلى المبادئ والدلائل، ويرمز إلى اللوازم والتوابع، وبقيود الموضوع والمحمول وكيفياتهما يومئ إلى ردِّ الأوهام ودفع الشبهات؛ كأنّ كلَّ قيدٍ جوابٌ لسؤال مقدّر.

وإن شئت مثالاً فعليك بفاتحة الكتاب.

المسألة الثانية عشرة

اعلم أن الأساليب على ثلاثة أنواع:

أحدها: الأسلوب المجرّد، الذي لونه واحد، وخاصّته الاختصارُ والسليقية والسلامة والاستقامة. فهو أملس سويٌّ، ومحل استعماله المعاملاتُ والمحاورات والعلوم الآلية. وإن شئت مثالاً سلساً منه فعليك بكتب السيّد الجرجاني.

والثاني: الأسلوب المزيَّن، وخاصتُه التزيين والتنوير، وتهييج القلب بالتشويق أو التنفير. والمقامُ المناسب له الخطابيات كالمدح والذم وغيرهما والإقناعيات ونظائرهما. وإذا تحرّيت المثال المزيّن فادخل في «دلائل الإعجاز» و«أسرار البلاغة» ترَ فيهما جِناناً مزيّنة.

والثالث: الأسلوب العالي، وخاصتُه الشدة والقوّة والهيبة والعلوية الروحانية. ومقامُه المناسب الإلهيات والأصول والحكمة. وإن شئت مثلاً بيناً وتمثالاً معجِزاً فعليك بـ«القرآن» فإن فيه ما لا عين رأت ولا خطر على قلب بليغ..

انتهى الفصل والمقدمة بتلخيص.

* * *

ثم اعلم أن مدار النظر في آيتنا هذه، وهي: ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا…﴾ الخ:

أوّلاً: نظمها بسابقها.. وثانياً: النظم بين جملها.. وثالثاً: نظم كيفية جملة جملة؛ فمع استحضار ما مضى:

اعلم أن القرآن لمّا صرّح بحقيقة حال المنافقين ونصّ على جنايتهم عقّبها بالتمثيل لثلاث نكت:

إحداها: تأنيس الخيال الذي هو أطوَعُ للمتخيَّلات من المعقولات، وتأمينُ إطاعةِ الوهم الذي شأنُه التشكيكاتُ ومعارضةُ العقل، وانقيادِه بإظهار الوحشي بصورة المأنوس، وتصويرِ الغائب بصورة الشاهد.

والثانية: تهييج الوجدان وتحريك نَفرته ليتفق الحسُّ والفكرُ بتمثيل المعقول بالمحسوس.

والثالثة: ربط المعاني المتفرقة وإراءة رابطةٍ حقيقية بينها بواسطة التمثيل.. وأيضا الوضع نُصب عين الخيال ليجتني بالنظر الدقائقَ التي أهملها اللسانُ.

واعلم أن مآل جمل هذه الآية كما يناسب مآل مجموع قصة المنافقين؛ كذلك يناسب آيةً آيةً منها. ألَا ترى أن مآل القصة أنهم آمنوا صورةً للمنافع الدنيوية.. ثم تبطنوا الكفرَ..

ثم تحيروا وترددوا.. ثم لم يتحرَّوا الحق.. ثم لم يستطيعوا الرجوع فيعرفوا. وما أنسبَ هذا بحال من أوقدوا لهم ناراً أو مصباحاً.. ثم لم يحافظوا عليها.. ثم انطفأتْ.. ثم أُظلموا.. ثم لا يتراءى لهم شيءٌ حتى يكون كلُّ شيء معدوماً في حقهم! فلِسُكون الليل كأنهم صُمّ، ولتعامي الليل وانطفاء أنواره كأنهم عُميٌ، ولعدم وجود المخاطَب والمُغيث لا يستغيثون كأنهم بُكمٌ، ولعدم استطاعة الرجوع كأنهم أشباح جامدة لا أرواح لها.

ثم إن في المشبَّه به نُقَطاً أساسية تُناظر النقط الأساسية في المشبَّه. مثلاً: الظلمةُ تنظر إلى الكفر، والحيرةُ إلى التذبذب، والنار إلى الفتنة. وقس.

 إن قلت: إنَّ في التمثيل نوراً، فأين نورُ المنافق حتى يتم تطبيق التمثيل؟

قيل لك: إن لم يكن في الشخص نور، ففي محيطه يمكن له الاستنارة.. وإن لَمْ، ففي قومه يمكن الاستضاءة.. وإن لم، ففي نوعه يمكن له الاستفادة.. وإن لم، ففي فطرته كان يمكن له الاستفاضة كما مر.. وإن لم تقنع، ففي لسانه بالنظر إلى نظر غيره أو بالنظر إلى نفسه لترتب المنافع الدنيوية.. وإن لم، فباعتبار البعض من الذين آمنوا ثم ارتدّوا.. وإن لم، فيجوز أن يكون النور إشارة إلى ما استفادوا كما أن النار إشارة إلى الفتنة.. وإن لم ترضَ بهذا أيضاً، فبتنـزيل إمكان الهداية منـزلةَ وجودها، كما أشار إليه ﴿اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدٰى﴾ فإنه هو الجار الْجُنُب للتمثيل.

أما وجه النظم بين الجمل: فاعلم أن نظم جملةِ ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ مناسبتُها للموقع.

نعم، حالُ هذا المستوقد على هذه الصورة تطابق مقتضى حالِ الصفِّ الأول من مخاطَبي القرآن، وهم ساكنو جزيرة العرب؛ إذ ما منهم إلّا وقد عرفَ هذه الحالة بالذات أو بالتسامع، ويحسّ بدرجة تأثيرها ومُشَوَّشِيَّتِها؛ إذ بسبب ظُلم الشمسِ يلتجئون إلى ظُلمة الليل فيسيرون فيها. وكثيراً ما يُغمّى عليهم السماءُ فيصادفون حَزْنَ الطرق، وقد ينجر بهم الطريق إلى الورطة.. وأيضاً قد يجولون في معاطِف الكهوف المشحونة بالمؤذيات فيضلّون الطريق فيحتاجون لإيقاد النار أو اشتعال المصباح ليُبصروا رفقاءهم حتى يستأنسوا ويروا أُهبتهم وأشياءهم كي يحافظوا عليها، ويعرفوا طريقهم ليذهبوا فيها ويتراءى لهم الضواري والمهالك ليجتنبوا. فبينما هم استضاؤوا بنورهم إذ اختطفَتهم آفةٌ سماوية.. وبينما هم في ذروة كمال الرجاء وآنِ الظفر بالمطلوب إذ سقطوا في حضيض اليأس المطلق. فنصَّ على هذا الحال بقوله: ﴿فَلَمَّٓا اَضَٓاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّٰهُ بِنُورِهِمْ﴾.

اعلم أن هذه «الفاء» تشير إلى أنهم أوقدوا النار ليستضيئوا فأضاءت فاطمأنوا بالاستضاءة فتعقّبهم الخيبةُ وسقطوا في أيديهم. وما أشدَّ تأثير العدم عليهم في آن انتظار الحصول! ثم إن هذه الشرطية تستلزم استلزام الإضاءة لذَهاب النور. وخفاءُ هذا الاستلزام يشير إلى تقدير ما يظهر به اللزومُ هكذا: فلما أضاءت استضاؤوا بها فاشتغلوا.. فلم يحافظوا.. فلم يهتموا بها، ولم يعرفوا قدرَ النعمة فيها.. فلم يمدّوها.. فلم يديموها؛ فانطفأتْ. لأنه لمّا كانت الغفلةُ عن الوسيلة للاشتغال بالنتيجة -بسر: ﴿اِنَّ الْاِنْسَانَ لَيَطْغٰى ﴿6﴾ اَنْ رَاٰهُ اسْتَغْنٰى﴾ (العلق:6-7)- سبباً لعدم الإدامة المستلزِم للانطفاء، كان كأن نفسَ الإضاءةِ سببٌ
لذَهاب النور.

أما جملة ﴿وَتَرَكَهُمْ في ظُلُمَاتٍ﴾ فبعدما أشار إلى خُسرانهم بذَهاب النِعم، بزوال النور، عقّبه بخِذلانهم بنـزول النِقم، بالسقوط في الظلمات.

أما جملة ﴿لَا يُبْصِرُونَ﴾ فاعلم أن الإنسان إذا أُظلِمَ عليه وأضلَّ السبيلَ، فقد يسكنُ ويتسلّى برؤية رفقائه ومُرافقه، وإذا لم يُبصِرهما كان السكونُ مصيبةً عليه كالحركة بل أوحشَ.

أما ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ فاعلم أن الإنسان إذا وقع في مثل هذا البلاء قد يتسلَّى ويأمل ويرجو النجاةَ من جهات أربع مترتبة:

فأولاً: يرجو أن يسمع تناجي الخَلْق من القُرى أو أبناء السبيل؛ إن يستمِدَّ يُمدّوه. ولمّا كانت الليلة ساكنةً بَكماءَ استوى هو والأصمُّ، فقال: ﴿صُمٌّ﴾ لقطع هذا الرجاء.

وثانياً: يأمل أنه إن نادى أو استغاث يُحتمل أن يسمعَ أحدٌ فيُغيثه، ولمّا كانت الليلة صماءَ كان ذو اللسان والأبكمُ سواءً، فقال: ﴿بُكْمٌ﴾ لإلقامهم الحجرَ بقطع هذا الرجاء أيضاً.

وثالثاً: يأمل الخلاصَ برؤية علامةٍ أو نار أو نيّرٍ، تشير له إلى هدف المقصد. ولمّا كانت الليلة طاميةً رمداءَ عبوسةً عمياءَ، كان ذو البصر والأعمى واحداً، فقال: ﴿عُمْيٌ﴾ لإِطفاء هذا الأمل أيضاً.

ورابعاً: لا يبقى له إلّا أن يجهَد في الرجوع، ولمّا أحاط به الظلمةُ كان كمَن دخل في وحلٍ باختياره وامتنعَ عليه الخروج. نعم، كم من أمرٍ تذهب إليه باختيارٍ ثم يُسلَبُ عنك الاختيارُ في الرجوع عنه، تُخلّيه أنت ولا يُخلّيك هو، فقال تعالى: ﴿فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ لسدّ هذا الباب عليهم وقطعِ آخر الحبل الذي يتمسكون به، فسقطوا في ظلمات اليأس والتوحّش والسكونة والخوف.

أما الجهة الثالثة، أعني: نظمَ قيودات جملة جملة، فانظر إلى ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ كيف تتطاير شراراتُ النُكَت من قيوداتها.

أما لفظ «المَثَل» فإشارةٌ إلى غرابة حال المنافقين وأن قصتهم أعجوبةٌ؛ إذ المَثَل هو الذي يجول على الألسنة ويتناقله الناسُ لتضمنه لغرابةٍ؛ إذ أخصُّ صفاته الغرابةُ. ثم لاندماج قاعدة أساسية في الأمثال يُقال لها: «حِكمةُ العوام» و«فلسفةُ العموم». فالمراد بالمثَل هنا، صفتُهم الغريبة وقصتُهم العجيبة وحالُهم الشنيعة. ففي التعبير بالمَثَل مجازاً إشارةٌ إلى الغرابة، وفي الإشارة رمزٌ إلى أن مِن شأن صفتهم أن تدور على لسان النَّفرة والتلعين كضرب المَثل.

وأما «الكاف»:

 فإن قلت: إنْ حُذف كان تشبيهاً بليغاً فهو أبلغ؟

قيل لك: الأبلغ في هذا المقام ذكرُه، إذ التصريحُ به يوقظ الذهنَ بأن ينظر إلى المثال تبعياً، فينتقل عن كل نقطةٍ مهمة منه إلى نظيرها من المشبَّه. وإلّا فقد يتوغل فيه قصداً فتفوتُ منه دقائقُ التطبيق.

وأما «المَثَل» الثاني فإشارة إلى أن حال المستوقِد بغرابته ووجودِه في حسّ العموم كان في حُكم ضرب المثل.

وأما ﴿الَّذِي﴾ :

 فإن قلت: كيف أفردَ مع أنهم جماعة؟

قيل لك: إذا تساوى الجزء والكل والفرد والجماعة ولم يؤثر الاشتراك في صفة الفرد زيادة ونقصاناً جاز الوجهان، مثل ﴿كَمَثَلِ الْحِمَارِ﴾ ففي إفراده إشارةٌ إلى استقلال كلِّ فرد في تمثّل الدهشة وتصوير شناعتهم، أو كان ﴿الَّذِي﴾ «الذين» فاختُصر.

وأما ﴿اسْتَوْقَدَ﴾ فسينُه إشارة إلى التكلّف والتحري. وفي إفراده مع جمع الضمير في ﴿بِنُورِهِمْ﴾ رمز لطيفٌ إلى أن فرداً يوقدُ لجماعةٍ. ولقد ألطفَ في الإفراد إيقاداً والجمعِ استنارة.

وأما ﴿نَارًا﴾ بدلَ «المصباح» أو غيره، فإشارة إلى المشقة في نور التكليف، ورمز إلى أنهم يوقدون تحت النور الظاهري نارَ فتنةٍ. وأما تنكيرُه فإيماء إلى شدة احتياجهم حتى إنهم يرضون بأية نارٍ كانت.

ثم أجِلِ النظرَ فيما حول جملة ﴿فَلَمَّٓا اَضَٓاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّٰهُ بِنُورِهِمْ﴾ لترى كيف تضيء قيوداتُها على ظلماتِ الدهشة التي هي الغرضُ الأساسي. ولقد سمعتَ في «المسألة الرابعة» أن قوة الكلام بتجاوب القيود:

أما «الفاء» فإيماءٌ إلى أن هجوم اليأس المطلق يعقُب كمالَ الرجاء.

وأما ﴿لَمَّا﴾ فلتضمنه قياساً استثنائياً مستقيماً مع دلالته على تحقق المقدَّم، يُنتج تحققَ التالي وقطعَ التسلي.

وأما ﴿اَضَٓاءَتْ﴾ فإشارة إلى أن الإيقاد للاستنارة لا للاصطلاء. وفيه رمز إلى شدة الدهشة إذ ما أفاد لهم الإضاءةُ إلّا رؤيةَ المهالك والعلمَ بوجودها، ولولاها لأمكن مغالطةُ النفس وتسكينُها.

وأما ﴿مَا حَوْلَهُ﴾ فإشارة إلى إحاطة الدهشة من الجهات الأربع، وإلى لزوم التحفظ بالإضاءة عن هجوم الضرر عن الجهات الست.

وأما ﴿ذَهَبَ﴾ فلأنه جزاءُ الشرط لا بد أن يكون لازماً. ولخفاء اللزوم -كما مرّ- يرمز إلى أنهم لم يتعهدوها ولم يعرفوا قَدْرَ النعمة فيها. فبنفس الإضاءة أُخذوا عن أنفسهم وأنساهم البطرُ والفرحُ تعهّدها فأخذها الله عنهم..

وأما إسنادُ ﴿ذَهَبَ﴾ إلى ﴿اللّٰهُ﴾ فإشارة إلى قطع رجاءين: رجاءِ التعمير ورجاءِ الرحمة؛ لأنه يشير إلى أن الآفة سماويةٌ لا تقبل التعمير، ويرمز إلى أنه جزاءٌ لقصور المرء، ولهذا يأخذه الله تعالى. فينقطع المتمسك به عند انقطاع الأسباب، وهو أملُ الرحمة. إذ لا يُستعان من الحق على إبطال الحق.

وأما «الباء» فإشارة إلى اليأس عن العَود؛ إذ لا رادَّ لما أخذه الله للفرق البيّن بين ذهبَ به أي استصحبَه، وبين أذهَبه أي أرسله، وذهب أي انطلق؛ لإمكان العَود في الآخرَين دون الأول.

وأما «النور» ففيه إيماء لطيف إلى تذكُّر حالِهم على الصراط.

وأما الإضافة في «هُمْ» المفيدةُ للاختصاص، فإشارة إلى شدّة تأثرهم؛ إذ مَن انطفأت نارُه فقط مع أن نار الناس تلتهب أشدُّ تألماً.

ولله درّ التنـزيل ما ألطفَه في فنون البلاغة! ألَم ترَ كيف توجهت هيئاتُها إلى الغرض الكلّيّ، أعني الدهشةَ مع اليأس، كالحوض في ملتقى الأودية؟.

ثم أمعِن النظرَ في ﴿وَتَرَكَهُمْ في ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ﴾ :

أما «الواو» فإشارة إلى أنهم جمعوا بين الخسارتين؛ سُلبوا ضياءً، وأُلبسوا ظلمةً.

أما «تَرَك» بدلَ «أبقى» أو غيرِه فإشارة إلى أنهم صاروا كجسد بلا روح، وقشر بلا لبّ. فمن شأنهم أن يُترَكوا سُدىً ويُلقَوْا ظِهرياً.

وأما ﴿في﴾ فرمزٌ إلى أنه انعدمَ في نظرهم كلُّ شيء، ولم يبق إلّا عنوانُ العدم، وهو الظلمة فصارت ظرفاً وقبراً لهم.

وأما جمع ﴿ظُلُمَاتٍ﴾ فإيماء إلى أن سَواد الليل وظلمةَ السحاب أولَدتا في روحهم ظلمةَ اليأس والخوف، وفي مكانهم ظلمةَ التوحش والدهشة، وفي زمانهم ظلمةَ السكون والسكوت، فأحاطت بهم ظلماتٌ متنوعة.. وأما تنكيرها فإيماء إلى أنها مجهولة لهم، لم يسبق لهم ألفَةٌ بمثلها فتكون أشدَّ وقعاً.

وأما ﴿لَا يُبْصِرُونَ﴾ فتنصيص على أساس المصائب، إذ مَن لم يرَ كان أَرْأَى للبلايا، وبفقد البصر يُبصِر أخفى المصائب. وأما المضارِعية فلتصويرِ وتمثيلِ حالهم نصبَ عين الخيال ليرى السامع دهشتهم فيتحسسَ بوجدانه أيضاً.

وأما تركُ المفعول فللتعميم، أي لا يرون منافعهم ليحافظوها، ولا يُبصرون المهالك كي يجتنبوا عنها، ولا يتراءى الرفقاءُ ليستأنسوا بهم، فكأن كلَّ واحد فردٌ برأسه.

ثم انظر إلى جُمل ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ لتسمع ما تتناجى به؛ إذ هذه الأربعة حدٌّ مشترك بين الممثَّل والممثَّل به، وبرزخ بينهما ومتوجهة إليهما؛ تتكلم عن حال الطَرفين. ومرآة لهما تُريك شأنَهما. ونتيجةٌ لهما تُسمعك قصتهما.

أما الجهة الناظرة إلى الممثَّل به:

فاعلم أن مَن سقط في مثل هذه المصيبة يبقى له رجاءُ النجاة باستماع نجوى مُنجٍ، فاستلزمت أبكميةُ الليلة أصمّيّتَه.. ثم إسماع مغيثٍ، فاقتضت أصميةُ الليل أبكميتَه.. ثم الهدى برؤية نار أو نيّر فانتج تعامي الليلِ عُمْيَه.. ثم العَود إلى بدءٍ، فانسدّ عليه الباب كمَن سقط في وحل كلما تحرك انغمس..

وأما الجهة الناظرة إلى الممثَّل:

فاعلم أنهم لمّا وقعوا في ظلمات الكفر والنفاق أمكن لهم النجاةُ عن تلك الظلمات بطرق أربعة مترتبة:

فأوّلاً: كان عليهم أن يرفعوا رؤوسهم ويستمعوا إلى الحق ويصغوا إلى إرشاد القرآن، لكن لما صارت غَلغَلة الهوى مانعةً لأن يخلُص صدى القرآن إلى صماخهم، وأخذ التهوّس بآذانهم جارّاً لهم عن تلك الطريق، نعى عليهم القرآنُ بقوله: ﴿صُمٌّ﴾ إشارةً إلى انسداد هذا الباب، ورمزاً إلى أن آذانهم كأنها قطعت وبقيت ثقبات مشوّهة أو قِطعات متدلية في جوانب رؤوسهم.

وثانياً: لابد لهم أن يَخفضوا رؤوسَهم ويشاوروا وجدانَهم، فيسألوا عن الحق والصراط، لكن لما أخذ العنادُ على يد لسانهم وجرَّه الحقدُ من خلف إلى الجوف، ألقمَهم القرآن الحجرَ بقوله: ﴿بُكْمٌ﴾ إشارة إلى انسداد هذا الباب أيضاً في وجوههم، ورمزاً إلى
أنهم بالسكوت عن الإقرار بالحق كانوا كمن قُلع لسانُه فبقي الفمُ ككهفٍ خلا عن ساكنِهِ مشوِّهاً للوجه.

وثالثاً: لَزِمهم أن يُرسلوا أنظار العِبرة لتجتني لهم الدلائلَ الآفاقية، لكنْ وضَعَ التغافلُ يدَه على عيونهم، وردّ -وطرَد- التعامي الأنظارَ إلى أجفانهم، فقال القرآن: ﴿عُمْيٌ﴾ إشارةً إلى أنهم عمهوا عن هذا الطريق أيضاً. ورمزَ بحذف أداة التشبيه إلى أن عيونهم التي هي أنوارُ الرأس كأنها قُلعت فبقيت نُقَرات مشوّهة في جباهِهم.

ورابعاً: لابد من أن يعرفوا قبح حالهم القبيح، ليتنفّروا، فيندموا، فيتوبوا، فيرجعوا. لكن لمّا زيّنت لهم أنفسُهم -لأجل فساد الفطرة بالإصرار وغلبةِ الهوى والشيطان- تلك القبائحَ، قال القرآن: ﴿فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ إشارة إلى انسداد آخر الطرق عنهم، ورمزاً إلى أنهم وقعوا باختيارهم فيما لا اختيار لهم في الخروج كالمضطرب في بحر الرمل.

* * *