﴿ذٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَۚۛ فيهۚۛ هُـدًى لِلْمُتَّقينۙ﴿2

مقدمة

اعلم أن من أساس البلاغة الذي به يبرُق حُسن الكلام تجاوب الهيئات وتداعي القيود وتآخذها على المقصد الأصلي، وإمداد كلٍّ بقدْرِ الطاقة للمقصد، الذي هو كمجمَع الأودية أو الحوض المتشرب من الجوانب، بأن تكون مصداقاً وتمثالاً لما قيل:

عِبَارَاتُنَا شَتَّى وَحُسْنُكَ وَاحِدٌ      وَكُلٌّ إلى ذَاكَ الْجَمَال يُشِيرُ

مثلاً: تأمَّل في آيةِ ﴿وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ المسوقةِ للتهويل، المستفادِ من التقليل بسرّ انعكاس الضدّ من الضد. أفلا ترى التشكيك في ﴿إنْ كيف يمدّ التقليل، والمسّ بدل الإصابة في «مسّت» كيف يشير إلى القلّة والتروّح فقط، والمرّتيّة والتحقير في جوهرِ وصيغةِ وتنوينِ  ﴿نَفْحَةٌ كيف تلوِّح بالقلّة، والبعضية في ﴿مِنْ كيف تومئ إليها، وتبديل النَكال بالـ﴿عَذَابِ كيف يرمز إليها، والشفقةُ المستفادة من الـ«ربّ» كيف تشير إليها، وقِس؟! فكلٌّ يُمد المقصدَ بجهته الخاصة. وقِس على هذه الآية أخواتِها. وبالخاصة ﴿الٓمٓۚ ﴿1﴾ ذٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَۚۛ فيهۚۛ هُـدًى لِلْمُتَّقين لأنَّ هذه الآية ذُكرت لمَدح القرآن وإثبات الكمال له.

ولقد تجاوبَ وتآخذ على هذا المقصد: القَسَم بـ ﴿الٓمٓۚ  على وجه، وإشارة ﴿ذٰلِكَ ومحسوسيته وبُعديته، والألف واللام في  ﴿ الْكِتَابُ، وتوجيه إثباته بـ﴿لَا رَيْبَۚۛ فيهۚ.  فكلٌّ كما يُمد المقصدَ ويلقي إليه حصتَه يرمز ويشفّ من تحته عن ما يستند إليه من الدليل وإنْ دقّ.

فإن شئت تأمل في القَسَم بـ﴿الٓمٓۚ  إذ إنه كما يؤكّد، كذلك يُشعر بالتعظيم الموجّه للنظر الموجب لانكشاف ما تحته من اللطائف المذكورة ليبرهن على الدعوى المرموز إليها.

وانظر الإشارة في ﴿ذٰلِكَ المختصة بالرجوع إلى الذات مع الصفات لتعلَم أنها كما تفيد التعظيم -لأنها إما إشارة إلى المشار إليه بـ﴿الٓمٓۚ  أو المبشَّر به في التوراة والإنجيل – كذلك تلوّح بدليلها؛ إذ ما أعظم ما أُقسمَ به! وما أكمل ما بشَّر به التوراة والإنجيل! ثم أمعِن النظر في الإشارة الحسية إلى الأمر المعقول لترى أنها كما تفيد التعظيم والأهمية؛ كذلك تشير إلى أن القرآن كالمغناطيس المنجذِب إليه الأذهان، والمتزاحم عليه الأنظارُ المجْبِر لخيالِ كلٍّ على الإشتغال به. فتظاهرَ بدرجة -تراه العيون من خلفها إذا راجعت الخيال- يرمز بلسان الحال إلى وثوقِه بصدقه وتبرّيه عن الضعف والحيلة الداعيَين إلى التستر.. ثم تفكّر في البُعدية المستفادة من ﴿ذٰلِكَ؛ إذ إنها كما تفيد علوّ الرتبة المفيد لكماله؛ كذلك تومئ إلى دليله بأنه بعيدٌ عن ما سلك عليه أمثالُه. فإما تحت كلٍّ وهو باطل بالاتفاق، فهو فوق الكلِّ.

ثم تدبّر في «الـ» ﴿الْكِتَابُ لأنها كما تفيد الحصرَ العرفي المفيد للكمال؛ تفتح بابَ الموازنة وتلمِّح بها إلى أن القرآن كما جمَع محاسن الكتب قد زاد عليها فهو أكملُها..

ثم قف على التعبير بـ﴿الْكِتَابُ﴾ كيف يلوّح بأن الكتاب لا يكون من مصنوع الأمّيّ الذي ليس من أهل القراءة والكتابة.

أما ﴿لَا رَيْبَۚۛ فيهۚ  ففيه وجهان:

إرجاع الضميرِ إلى الحُكم، أو إلى الكتاب:

فعلى الأول -كما عليه المفتاح- يكون بمعنى يقيناً، وبلا شك، فيكون جهةً وتحقيقاً لإثبات كماله.

وعلى الثاني -كما عليه الكشاف- يكون تأكيداً لثبوت كماله.

وعلى الكل يناجي من تحت ﴿لَا رَيْبَۚ بـ ﴿وَاِنْ كُنْتُمْ في رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلٰى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِه۪﴾ (البقرة:23) ويرمز إلى دليله الخاص..

والاستغراق في ﴿لَا  بسبب إعدام الريوب الموجودة ينشد:

وَكَمْ مِنْ عَائِبٍ قَوْلاً صَحِيحاً        وَآفَتُهُ مِنَ الْفَهْمِ السَّقِيمِ

ويشير إلى أن المحلّ ليس بقابلٍ لتولّد الشكوك؛ إذ أقام على الثغور أماراتٍ تتنادى من الجوانب وتطرد الريوب المتهاجمة عليه.

وفي ظرفيةِ ﴿فيهۚ والتعبيرِ بـ«فِي» بدلَ أخواتها إشارةٌ إلى إنفاذ النظر في الباطن. وإلى أن حقائقه تطرد وتطيّر الأوهامَ المتوضعة على سطحه بالنظر الظاهر.

فيا مَن آنس قيمةَ التركيب من جانب التحليل، وأدرَك فرقَ الكلِّ عن كلٍّ! انظُر نظرة واحدة إلى تلك القيود والهيئات لترى كيف يلقي كلٌّ حصته إلى المقصد المشترك مع دليله الخاص، وكيف يفور نورُ البلاغة من الجوانب.

اعلم أنه لم يُربَط بين جُمَل ﴿الٓمٓۚ … ذٰلِكَ الْكِتَابُ… لَا رَيْبَۚۛ فيهۚۛ… هُـدًى لِلْمُتَّقين بحلقات العطف لشدة الاتصال والتعانق بينها، وأخذِ كلٍّ بحَجز سابقتها وذيل لاحقتها. فإن كلَّ واحدة كما أنها دليلٌ لكلٍّ بجهة؛ كذلك نتيجةٌ لكلِّ واحدة بجهة أخرى. ولقد انتقش الإعجاز على هذه الآية بنسج اثني عشر من خطوط المناسبات المتشابكة المتداخلة..

إن شئت التفصيل تأمل في هذا:

﴿الٓمٓۚ فإنها تومئ بالمآل إلى: «هذا متحدًّى به، ومَن يبرز إلى الميدان؟» ثم تلوِّح بأنه معجز.

وتفكَّر في ﴿ذٰلِكَ الْكِتَابُ فإنها تصرِّح بأنه ازداد على أخواته وطمَّ عليها، ثم تلمِّح بأنه مستثنى ممتاز لا يماثَل.

ثم تدبر في ﴿لَا رَيْبَۚۛ فيهِۚ فإنها كما تُفصح عن أنه ليس محلاً للشك تعلن بأنه منوّر بنور اليقين.

ثم انظُر في ﴿هُـدًى لِلْمُتَّقين إذ إنها كما تهدي إليك أنه يُري الطريق المستقيم؛ تفيدك أنه قد تجسم من نور الهداية.

فكلٌّ منها باعتبار المعنى الأول برهانٌ لرفقائها وباعتبار المعنى الثاني نتيجةٌ لكل منها.

ونذكر على وجه المثال ثلاثاً من الروابط الثنتي عشرة لتقيس عليها البواقي:

فـ ﴿الٓمٓۚأي هذا يتحدّى كلَّ معارض، فهو أكملُ الكتب، فهو يقيني؛ إذ كمالُ الكتاب باليقين، فهو مجسَّم الهداية للبشر..

ثم ﴿ذٰلِكَ الْكِتَابُ أي هو ازداد على أمثاله فهو معجز -أو- أي هو ممتاز ومستثنى؛ إذ لا شك فيه؛ إذ إنه يُري السبيل السويّ للمتقين..

ثم ﴿هُـدًى لِلْمُتَّقين أي يرشد إلى الطريق المستقيم، فهو يقيني، فهو ممتاز، فهو معجِز.. وعليك باستنباط البواقي.

أما ﴿هُـدًى لِلْمُتَّقين فاعلم أن منبع حُسن هذا الكلام من أربع نقط:

الأولى: حذفُ المبتدأ، إذ فيه إشارة إلى أن حُكمَ الاتحاد مسلَّمٌ. كأنَّ ذات المبتدأ في نفس الخبر. حتى كأنه لا تغايرَ بينهما في الذهن أيضاً.

والثانية: تبديل اسم الفاعل بالمصدر، إذ فيه رمز إلى أن نور الهداية تجسَّمَ فصار نفسَ جوهر القرآن؛ كما يتجسم لونُ الحُمرة فيصير قرْمِزاً.

والثالثة: تنكير﴿هُـدًى إذ فيه إيماءٌ إلى نهاية دقة هداية القرآن حتى لايُكْتنه كُنْهها، وإلى غاية وسعتها حتى لا يُحاط بها علماً. إذ المنكورية إما بالدقة والخفاء، وإما بالوسعة الفائتة عن الإحاطة. ومن هنا قد يكون التنكيرُ للتحقير وقد يكون للتعظيم.

والرابعة: الإيجاز في ﴿لِلْمُتَّقين بدل «الناس الذين يصيرون متقين به» أوجز بالمجاز الأوْل إشارة إلى ثمرة الهداية وتأثيرها، ورمزاً إلى البرهان «الإِنِّيّ» على وجود الهداية. فإن السامع في عصر يستدل بسابقه كما يستدل به لاحقُه.

 إن قلت: كيف تتولد البلاغة الخارجة عن طوق البشر بسبب هذه النقط القليلة المعدودة؟

قيل لك: إنَّ في التعاون والاجتماع سراً عجيباً. لأنه إذا اجتمع حُسنُ ثلاثة أشياء صار كخمسة، وخمسةٌ كعشرة، وعشرةٌ كأربعين بسر الانعكاس. إذ في كل شيء نوع من الانعكاس ودرجة من التمثل. كما إذا جمعتَ بين مرآتين تتراءى فيهما مرايا كثيرة، أو نوَّرتَهما بالمصباح يزداد ضياءُ كل بانعكاس الأشعة؛ فكذلك اجتماع النكت والنقط. ومن هذا السر والحكمة ترى كلَّ صاحب كمال وصاحب جمال يرى من نفسه ميلاً فطرياً إلى أن ينضمّ إلى مثيله ويأخذ بيد نظيره ليزداد حُسناً إلى حُسنه. حتى إن الحَجر مع حَجَريته إذا خرج من يد المعقِّد الباني في السقف المحدَّب يميل ويُخضع رأسَه ليُماسّ رأسَ أخيه ليتماسكا عن السقوط. فالإنسانُ الذي لا يدرك سرّ التعاون لهو أجمد من الحجر؛ إذ من الحجر من يتقوس لمعاونة أخيه!

 إن قلت: من شأن الهداية والبلاغة البيان والوضوح وحفظ الأذهان عن التشتت، فما بال المفسرين في أمثال هذه الآية اختلفوا اختلافاً مشتتاً، وأظهروا احتمالات مختلفة، وبيّنوا وجوه تراكيب متباينة، وكيف يعرف الحق من بينها؟

قيل لك: قد يكون الكلُّ حقاً بالنسبة إلى سامعٍ فسامعٍ؛ إذ القرآن ما نزل لأهل عصرٍ فقط بل لأهل جميع الأعصار، ولا لطبقة فقط بل لجميع طبقات الإنسان، ولا لصنف فقط بل لجميع أصناف البشر. ولكلٍّ فيه حصةٌ ونصيب من الفهم. والحال أن فهمَ نوع البشر يختلف درجة درجة.. وذوقَه يتفاوت جهة جهة.. وميلَه يتشتت جانباً جانباً.. واستحسانَه يتفرق وجهاً وجهاً.. ولذتَه تتنوع نوعاً نوعاً.. وطبيعتَه تتباين قسماً قسماً. فكم من أشياء يستحسنها نظرُ طائفة دون طائفة، وتستلذُّها طبقةٌ ولا تتنـزل إليها طبقة. وقِس!

فلأجل هذا السر والحكمة أكْثَرَ القرآنُ من حذف الخاص للتعميم ليقدِّر كلٌّ مقتضى ذوقه واستحسانه. ولقد نظّم القرآن جُمَله ووضعها في مكان ينفتح من جهاته وجوه محتملة لمراعاة الأفهام المختلفة ليأخذ كلُّ فهمٍ حصته. وقس! فإذن يجوز أن يكون الوجوهُ بتمامها مرادةً بشرط أن لا تردّها علومُ العربية، وبشرط أن تستحسنها البلاغةُ، وبشرط أن يقبلها علم أصول مقاصد الشريعة.

فظهر من هذه النكتة أن من وجوه إعجاز القرآن نظمَه وسبكَه في أسلوب ينطبق على أفهام عصر فعصر.. وطبقة فطبقة.