﴿وَالَّذينَ يُؤْمِنُونَ بِمَٓا اُنْزِلَ اِلَيْكَ وَمَٓا اُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْاٰخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴿4﴾﴾

اعلم أن القرآن أرسلَ النظمَ أي لم يعيّن بوضعِ أمارةٍ وجهاً من وجوه التراكيب في كثير من أمثال هذه الآية، لسرٍّ لطيف، هو منشأ الإيجاز الذي هو منشأ الإعجاز، وهو:

أنَّ البلاغة هي مطابقةُ مقتضى الحال. والحال أن المخاطَبين بالقرآن على طبقات متفاوتة، وفي أعصار مختلفة. فلمراعاة هذه الطبقات، ولمجاورة هذه الأعصار، ليستفيد مخاطَبُ كلِ نوعٍ ما قُدِّرَ له من حصته، حَذَف القرآنُ في كثيرٍ للتعميم والتوزيع، وأطلق في كثيرٍ للتشميل والتقسيم، وأرسَل النظمَ في كثيرٍ لتكثير الوجوه، وتضمينِ الاحتمالات المستحسَنة في نظر البلاغة والمقبولةِ عند العِلم العربي ليفيض على كلِّ ذهنٍ بمقدار ذوقه. فتأمل!

ثم إن وجه نظم هذه الآية بسابقتها التخصيصُ بعد التعميم. ليعلن على رؤوس الأشهاد شرفَ مَنْ آمن من أهل الكتاب، وليردّ يدَ استغناء أهله في أفواههم، وليأخذ يدَ أمثال «عبد الله بن سلام»، ويشوِّق غيرَه لأن يأتمّ به.. وأيضا التنصيصُ على قسْمَي المتقين للتصريح بشمول هداية القرآن لكافة الأُمم، والتلويحُ لعموم رسالة محمد عليه السلام لقاطبة المِلل.. وأيضا التفصيلُ بعد الإجمال لشرح أركان الإيمان المندمجة في صَدَفِ ﴿يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ إذ دلَّ على الكتب والقيامة صراحة، وعلى الرسل والملائكة ضمناً.

ثم إن القرآن لم يوجز هنا بنحو «والمؤمنين بالقرآن» لترصيع هذا المعنى بلطائفَ وتزيين ذيوله بنكَت، فآثر ﴿وَالَّذينَ يُؤْمِنُونَ بِمَٓا اُنْزِلَ﴾.

إذ في ﴿اَلَّذينَ﴾ رمزٌ إلى أن وصفَ الإيمان هو مناطُ الحكم وأن الذات مع سائر الصفات تابعةٌ له ومغمورة تحتَه.

وفي ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ بدلَ «المؤمنين» الدالِّ على الثبوت في زمان ما، تلويحٌ إلى تجدد الإيمان بتواتر النـزول وتكرّر الظهور مستمراً.

وفي «مَا» الإبهامِ، إيماء إلى أن الإيمان مجمَلاً قد يكفي، وإلى تشميل الإيمان للوحي الظاهر والباطن وهو الحديث.

وفي ﴿اُنْزِلَ﴾ باعتبار مادته إشارةٌ إلى أن الإيمان بالقرآن هو الإيمان بنـزوله من عند الله. كما أن الإيمان بالله هو الإيمان بوجوده، وباليوم الآخر هو الإيمان بمجيئه. وبالنظر إلى صيغته الماضَوية -مع أنه لم يتم النـزول إذ ذاك- إشارةٌ إلى تحقُّقِه المُنـزَّلِ بمنـزلة الواقع مع أن مضارعِيَّةَ ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ تتلافى ما في ماضويته. بل لأجل هذا التنـزيل ترى في أساليب التنـزيل كثيراً ما يبتلع الزمانُ الماضي المستقبلَ ويتَزَيَّا المضارعُ بزيّ الماضي، إذ فيه بلاغة لطيفة. لأن مَن سمع الماضيَ فيما لم يمضِ بالنسبة إليه اهتزّ ذهنُه، وتيقّظ أنه ليس وحدَه، وتذكّر أن خلفَه غيرَه من الصفوف بمسافات. حتى كأن الأعصارَ مدارجُ والأجيالَ صفوفٌ قاعدون خلفَها، وتَنبَّهَ أن الخطابَ والنداءَ الموجّه إليه بدرجة من الشدة والعلوّ يسمعه كلُّ الأجيال. وهو خُطبةٌ إلهية أنصتَ لها كلُّ الصفوف في كل الأعصار. فالماضي حقيقةٌ في الكثير -في أكثر الأزمان- ومجازٌ في القليل -في أقلّها- ومراعاةُ الأكثر أوفَى لحق البلاغة.

وفي ﴿اِلَيْكَ﴾ بدلَ «عليك» رمز إلى أن الرسالة وظيفةٌ كُلِّف بها النبي عليه السلام وتحمَّلها بجزئه الاختياري.. وإيماءٌ إلى علوّه بخدمة جبرائيل بالتقديم إليه؛ إذ في «عَلى» شمُّ اضطرارٍ وعلوِّ واسطةِ النـزول.. وفي خطابِ ﴿اِلَيْكَ﴾ بدل «إلى نحو محمد» تلويحٌ إلى أن محمداً عليه السلام ما هو إلّا مخاطَب والكلامُ كلام الله.. وأيضا معنى الخطاب تأكيد وتصوير لمعنى النـزول؛ الذي هو الوحي، الذي هو القرآن، الذي هو خطابُ الله معه، الذي هو الخاصة النافذة في الكل. فكشف هذا الجزءُ الحجابَ عن حصته من تلك الخاصة. فظهر أن هذا الكلام بالنظر إلى اشتماله على هذه اللطائف المذكورة في نهاية الإيجاز.

﴿وَمَٓا اُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾

اعلم أن أمثال هذه التوصيفات تتضمن تشويقاً، يتضمن أحكاماً إنشائية. كآمِنوا كذا وكذا.. ولا تفرقوا..

ثم إن في هذا النظم والربط أربعَ لطائف:

إحداها: عطفُ المدلول على الدليل. أي «ياأيها الناس إذا آمنتم بالقرآن فآمنوا بالكتب السابقة أيضاً، إذ القرآن مصدِّقٌ لها وشاهد عليها» بدليل ﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ (البقرة:97).

والثانية: عطفُ الدليل على المدلول، أي «يا أهل الكتاب إذا آمنتم بالأنبياء السابقين والكتب السالفة لزم عليكم أن تؤمنوا بالقرآن وبمحمد عليه السلام، لأنهم قد بشّروا به. ولأن مدارَ صدقهم ونزولِها، ومناطَ نبوتهم يوجد بحقيقته وبروحه في القرآن بوجه أكمل وفي محمد عليه السلام بالوجه الأظهر. فيكون القرآنُ كلامَ الله بالقياس الأوْلَوِيّ، ومحمَّدٌ عليه الصلاة والسلام رسولَه بالطريق الأولى».

والثالثة: أنَّ فيه إشارة إلى أن مآل القرآن -أعني الإسلامية الناشئة في زمان السعادة- كشجرةٍ أصلُها ثابت في أعماق الماضي، منتشرةُ العروق، متشربةٌ عن منابع حياتها وقوّتها، وفرعُها في سماء الاستقبال ناشرةٌ، أغصانُها مثمرةٌ. أي أخذت الإسلامية بقَرنَي الماضي والاستقبال.

والرابعة: أنَّ فيه إشارةً إلى تشويق أهل الكتاب على الإيمان وتأنيسِهم، والتسهيلِ عليهم. كأنه يقول: «لا يَشقَّنَّ عليكم الدخولُ في هذا السلك، إذ لا تخرجون عن قشركم بالمرّة، بل إنما تكمّلون معتقداتكم، وتبنون على ما هو مؤسَّس لديكم»إذ القرآن معدِّلٌ ومكمِّلٌ في الأُصول والعقائد، وجامع لجميع محاسن الكتب السابقة وأُصولِ الشرائع السالفة. إلّا أنه مؤسِّس في التفرعات التي تتحول بتأثير تغيّر الزمان والمكان؛ فكما تتحول الأدويةُ والألبسةُ في الفصول الأربعة، وطرزُ التربية والتعليم في طبقات عمر الشخص؛ كذلك تقتضي الحكمةُ والمصلحة تبدل الأحكام الفرعية في مراتبِ عمرِ نوعِ البشر. فكم من حُكمٍ فرعيٍّ كان مصلحةً في زمان، ودواءً في وقتِ طفوليةِ النوع، لا يبقى مصلحةً في آخَرَ، ودواءً عند شبابية النوع. ولهذا السرّ نَسخَ القرآنُ بعض الفروع. أي بيّن انقضاءَ أوقات تلك الفروع ودخولَ وقت آخر.

وفي ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾ لطائف:

اعلم أنه ما من كلمة في التنـزيل يأبى عنها مكانُها، أو لم يرضَ بها، أو كان غيرُها أولى به. بل ما من كلمة من التنـزيل إلا وهي كدُرٍّ مُرصَّعٍ مرصوص متماسك بروابط المناسبات؛ فإن شئتَ مثالاً تأمل في ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾ كيف ترى اللطائف المتطايرة من جوانب هذه الآية تَوَضَّعتْ على هذه الكلمة الفذة.

فإن ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾ تشرّبتْ وتلوّنت -فتُرشِّح وتُرمز بخمس لطائف- المناسباتِ المنعكسة من المقاصد الخمسة المندمجة في مسألة النبوة المسوقةِ لها هذه الآيةَ.

أما المقاصد المندمجة فهي أن محمداً عليه السلام نبيٌّ، وأنه أكمل الأنبياء، وأنه خاتم الأنبياء، وأنه مُرسل لكافة الأقوام، وأن شريعتَه ناسخةٌ لجميع الشرائع، وجامعةٌ لمحاسنها.

أما وجه انعكاس المقصد الأول في تلك الكلمة، فهو أن ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾ إنما يقال إذا اتّحد المسلك وكان الطريق واحداً. فكأن هذه الكلمة تترشح بأن الحججَ على نبوة مَن قبله وصِدقِ كُتبهم، حُجةٌ بمجموعها بتنقيح المناط وتحقيق المناط بالقياس الأوْلَوِي على نبوة محمد عليه السلام ونزولِ كتابه. فكأن جميعَ معجزاتهم معجزةٌ فذّة على صدق محمد عليه السلام.

وأما وجه انعكاس المقصد الثاني، وهو الأكملية فيها، فهو أن ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾ بناءً على ملاحظة عادةِ «أن السلطان يخرج في أُخريات الناس».. وعلى قاعدة التكمّل في نوع البشر المقتضية لأكملية المربِّي الثاني عن المربِّي الأول.. وعلى أغلبية مهارةِ وزيادةِ الخَلَف على السَّلَف، تلوّح بأن محمداً عليه السلام سلطانُ الأنبياء، أكملُ من كلّهم. كما أن القرآنَ أجمعُ وأجملُ من كُتبهم.

وأما وجه تشرّبها من المقصد الثالث وهو «الخاتمية» فهو أنَّ ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾ بسر قاعدة: «إن الواحد إذا تكثَّر تسلْسَلَ لا يسكن، وإن الكثير إذا اتّحد استقرّ لا ينقطع»، وبإشمام المفهوم المخالف تُلمّح بأنه عليه السلام خاتم الأنبياء.

وأما وجه انصباغها من المقصد الرابع وهو «عموم الدعوة» فهو أن ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾ المفيدةَ «أنك خَلَفُهم وكلٌّ منهم سلَفُك» بسر قاعدة: «إنَّ الخلف يأخذ تمامَ وظيفة السلف ويقوم مقامَه» تشير بأنه إذا كان كلٌّ منهم سلفَك فأنت نائبُ الكل، ورسولُ
جميع الأُمم.

نعم، لا يكون إلّا كذلك! إذ الفطرةُ حاكمة له، والحكمةُ قاضية به؛ لأنه كانت أُمم العالَم الإنساني قبل زمان السعادة في غاية التباعد والاختلاف مادةً ومعنىً، واستعداداً وتربيةً؛ ما كفَت لهم التربيةُ الواحدة وما شملت الدعوةُ المفردة. ثم لمّا انتبه العالمُ الإنساني بزمان السعادة بعده، وتمايلَ إلى الاتحاد بمداولة الأفكار، ومبادلةِ الطبائع، واختلاطِ الأقوام، وتحرّى البعضُ عن حال البعض حتى تمخّض الزمانُ بكثرة طرق المخابرة والمناقلة؛ فصارت الكرةُ كمملكة، وهي كولاية، وهي كبلدة، واتصل الرحم بين أهل الدنيا؛ كَفَت الدعوةُ الواحدة والنبوةُ الفريدة للكافة.

وأما وجه إشمامها بالمقصد الخامس فهو أنَّ ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾ المومية من «مِن» إلى «إلى»، ومن «إلى» إلى الإغناء، أي «انتهت الرسالة بقدومك إذ أغْنَتْ شريعتُك»، ترمز بأن شريعتَه عليه السلام ناسخةٌ بالانتهاء وجامعةٌ بالإغناء.

واعلم أن الأمارة لنظر البلاغة على تشرّب هذه الكلمة لهؤلاء اللطائف هي أن هذه المقاصد الخمسة كالأنهار الجارية تحت هذه الآيات، حتى يفورُ هذا بكماله في آية.. وينبع ذاك بتمامه في أُخرى.. ويتجلى ذلك بشَرَاشيره في آخرة. فأدنى ترشُّح على السطح يومي بتماسّ عروق الكلمة بها. وأيضا تتسنبل هذه المعاني في آيات مسوقةٍ لها.

﴿وَبِالْاٰخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾

اعلم أن مآل هذه الآية هو المقصدُ الرابع من المقاصد الأربعة المشهورة وهو «مسألة الحشر».

ثم إنّا قد استفدنا من نظم القرآن عشرةَ براهين عليها، ذكرناها في كتاب آخر فناسبَ تلخيصُها هنا. وهي:

أنَّ الحشر حقٌّ؛ لأن في الكائنات نظاماً أكملَ قصديّاً..

وأنّ في الخلقة حكمةً تامة..

وأنْ لا عبثية في العالم..

وأنْ لا إسراف في الفطرة.. والمزكّي لهؤلاء الشواهد الاستقراء التام بجميع الفنون التي كلٌّ منها شاهدُ صدق على نظامِ نوعِ موضوعِه..

وأيضا إن في كثير من الأنواع مثل اليوم والسنة وغيرهما قيامةً مكررةً نوعية..

وأيضا جوهرُ استعداد البشر يرمز إلى الحشر..

وأيضا عدمُ تناهي آمال البشر وميولِه يشير إليه..

وأيضا رحمةُ الصانع الحكيم تلوّح به..

وأيضا لسانُ الرسول الصادق عليه السلام يصرّح به..

وأيضا بيانُ القرآن المعجِز في أمثال: ﴿وَقَدْ خَلَقَكُمْ اَطْوَارًا﴾ (نوح:14) ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبيدِ﴾ (فصلت:46) يشهد له. تلك عشرةٌ كاملةٌ، مفاتيحُ للسعادة الأبدية وأبوابٌ لتلك الجنة.

أما بيان البرهان الأول: فهو أنه لو لم تنجرَّ الكائناتُ إلى السعادة الأبدية لصار ذلك النظام الذي أتقن فيه صانعُه إتقاناً حَيَّرَ فيه العقولَ صورةً ضعيفةً خادعة، وجميعُ المعنويات والروابط والنسب في النظام هباءً منثوراً. فليس نظامُ ذلك النظام إلّا اتصالَه بالسعادة، أي إن النكت والمعنويات في ذلك النظام إنما تتسنبل في عالم الآخرة. وإلّا لانطَفأ جميعُ المعنويات، وتقطّع مجموعُ الروابط، وتمزّقَ كل النسب، وتفتَتَ هذا النظام؛ مع أن القوة المندمجة في النظام تنادي بأعلى صوتها: أن ليس من شأنها الانقضاضُ والانحلال.

وأما البرهان الثاني: فهو أن تمثالَ العناية الأزلية الذي هو الحكمةُ التامة، التي هي رعايةُ المصالح والحِكَم في كل نوع، بل في كل جزئي -بشهادة كلِّ الفنون- يبشّر بقدوم السعادة الأبدية. وإلّا لَزِم إنكار هذه الحِكم والفوائد التي أجبرتنا البداهةُ على الإقرار بها؛ إذ حينئذ تكون الفائدةُ لا فائدة.. والحكمةُ غير حكمةٍ.. والمصلحةُ عدم مصلحة. وإن هذا إلّا سفسطة.

وأما البرهان الثالث المفسّر للثاني: فهو أن الفن يشهد أيضاً أن الصانع اختار في كل شيء الطريقَ الأقصر، والجهةَ الأقرب، والصورةَ الأخف والأحسن. فيدلّ على أن لا عبثية. فيدلّ على أنه جدّيّ حقيقي. وما هو إلا بمجيء السعادة الأبدية. وإلّا لتنـزل هذا الوجود منـزلةَ العدم الصرف. وتحول كلُّ شيء عبثاً محضاً.. سبحانك ماخلَقْتَ هذا عَبَثاً.

أما البرهان الرابع الموضِّح للثالث: فهو أن لا إسراف في الفطرة بشهادة الفنون. فإن تقاصر ذِهْنُك عن إدراك حِكَم الإنسان الأكبر وهو «العالم» فأمعِن النظر في العالم الأصغر وهو «الإنسان». فإن فن منافع الأعضاء قد شرح وأثبت أن في جسد الإنسان -تقريباً- ستمائة عظم كلٌّ لمنفعة.. وستةَ آلاف عصب هي مجارٍ للدم كلٌّ لفائدة.. ومائةَ وأربعة وعشرين ألفَ مسامةٍ وكوّة للحجيرات التي تعمل في كلٍّ منها خمسُ قوى من الجاذبة والدافعة والممسكة والمصوّرة والمولّدة كلٌّ منها لمصلحة. وإذا كان العالَمُ الأصغر كذا فكيف يكون الإنسان الأكبر أنقصَ منه؟ وإذا كان الجسد الذي لا أهمية له بالنسبة إلى لبِّه بتلك الدرجة من عدم الإسراف، فكيف يُتصوَّر إهمالُ جوهر الروح؟ وإسرافُ كلِّ آثاره من المعنويات والآمال والأفكار؟ إذ لولا السعادةُ الأبدية لتقلصت كلُّ المعنويات وصارت إسرافاً. فبالله عليك، أيُمكن في العقل أن يكون لك جوهرةٌ قيمتُها الدنيا، فتهتم بصدَفها وغلافها حتى لا تخلي أن يصل الغبار إليه، ثم تأخذ الجوهرةَ فتكسّرها شذراً مذراً وتمحو آثارَها؟ كلا ثم كلا! ما تهتم بالغلاف إلّا لأجل ما فيه.. وأيضاً إذا أفهمتْك قوةُ البِنية في شخص وصحةُ أعضائه واستعداده استمرارَ بقائه وتَكمُّله؛ أفلا تُفهّمك الحقيقةُ الثابتة الجارية في روح الكائنات، والقوةُ الكاملة المومية بالاستمرار في الانتظام، والكمالُ المنجرّ إلى التكمل في النظام مجيءَ السعادة الأبدية من باب الحشر الجسماني؟ إذ هي المخلّصةُ للانتظام عن الاختلال، والواسطةُ للتكمل وانكشاف تلك القوة المؤبَّدة.

وأما البرهان الخامس والحدسُ المُرمِز إلى المقصد: فهو أن وجودَ نوعِ قياماتٍ مكرّرةٍ نوعيةٍ في كثير من الأنواع يشير إلى القيامة العظمى. وإن شئتَ تمثُّلَ الرمزِ في مثالٍ، فانظر في ساعتك الأُسبوعية، فكما أن فيها دواليبَ مختلفةً دوّارة متحركة محركة للإبر والأمْيالِ العادّةِ واحدةٌ منها للثواني، وهي مقدمة ومخبِرة لحركة إبرة الدقائق، وهي مُعدّة ومُعلِنة لحركة مِيل الساعات، وهي محصّلة ومُؤْذنة لحركة الإبرة التي تَعُدّ أيام الأُسبوع. فإتمام دورة السابقة يشير بأن أُختَها اللاحقة تتم دورَها؛ كذلك إن لله تعالى ساعةً كبرى دواليبُها الأفلاكُ تعدّ أميالُها الأيامَ والسنين وعمرَ البشر وبقاءَ الدنيا، نظير الثواني والدقائق والساعات والأيام في ساعتك. فمجيءُ الصبح بعد كل ليلة، والربيعِ بعد كل شتاء -بناء على حركة تلك الساعة- يشير إشارةً خفية ويرمز رمزاً دقيقاً بتولّد صبحِ ربيع الحشر من تلك الساعة الكبرى.

 إن قلت: القيامةُ النوعية لا تُحشَر الأشخاصُ بأعيانهم فكيف ترمز بالقيامة الكبرى لِعَوْد الأشخاص هناك بأعيانهم؟

قيل لك: إنَّ شخصَ الإنسان كنوعِ غيره، إذ نورُ الفكر أعطَى لآمال البشر وروحه وُسْعةً وإنبساطاً بدرجة وسِعَت الأزمنةَ الثلاثة، لو ابتلع الماضيَ والمستقبل مع الحال لم تمتلئ آمالُه؛ لأن نور الفكر صيّر ماهيتَه عُلْوية، وقيمتَه عمومية، ونظرَه كلياً، وكمالَه غير محصور، ولذتَه دائمية، وألمَه مستمراً. أما فردُ النوع الآخر فماهيتُه جزئية، وقيمتُه شخصية، ونظرُه محدود، وكمالُه محصور، ولذتُه آنيّة، وألمُه دفعيّ، فوجودُ نوعِ قيامة في الأنواع، كيف لا يشير بالقيامة الشخصية العمومية للإنسان؟

وأما البرهان السادس الملوّح: فهو عدمُ تناهي استعدادات البشر؛ نعم، إن تصوراتِ البشر وأفكارَه التي لا تتناهى، المتولدةَ من آماله الغير المتناهية، الحاصلةِ من ميوله الغيرِ المضبوطةِ، الناشئةِ من قابلياته الغير المحدودة، المستترةِ في استعداداته الغير المحصورة، المزروعةِ في جوهر روحه الذي كرّمه الله تعالى؛ كلٌّ منها يشير في ما وراءَ الحشر الجسماني بإصبع الشهادةِ إلى السعادة الأبدية وتمد نظرَها اليه. فتأمل!

وأما البرهان السابع المبشر: فهو أن رحمةَ الرحمن الرحيم تبشّر بقدوم أعظم الرحمة، أعني السعادة الأبدية؛ إذ بها تصيرُ الرحمةُ رحمةً، والنعمةُ نعمةً. وبها تخلص الكائناتُ من النياحات المرتفعة من المأتم العموميّ المتولد من الفراق الأبديّ المصيّر للنِعم نِقماً. إذ لو لم يجئ روحُ النِعَم أعني السعادة الأبدية، لتحوّل جميعُ النعم نِقماً؛ ولَلزم المكابرةُ في إنكار الرحمة الثابتة بشهادة عموم الكائنات بالبداهة وبالضرورة..

فيا أيها الحبيب الشفيق العاشق! انظُر إلى ألطفِ آثار رحمة الله، أعني المحبةَ والشفقة والعشق؛ ثم راجعْ وجدانَك، لكن بعد فرض تعقّب الفراقِ الأبدي والهجران اللايزالي عليها، كيف ترى الوجدانَ يستغيث.. والخيالَ يصرخ.. والروحَ يضجر من انقلاب تلك المحبة والشفقة -اللتين هما أحسنُ وألطفُ أنواع الرحمة والنعمة- أعظمَ مصيبةٍ عليك وأشدَّ بلاءٍ فيك؟ أفيمكن في العقل أن تساعد تلك الرحمةُ الضرورية لهجوم الفراق الأبدي والهجرانِ اللايزاليّ على المحبة والشفقة؟ لا! بل من شأن تلك الرحمة أن تسلِّط الفراقَ الأبدي على الهجران اللايزاليّ، والهجرانَ اللايزاليّ على الفراق الأبدي، والعدمَ عليهما.

وأما البرهان الثامن المصرّح: فهو لسانُ محمد عليه السلام الصادق المصدوق، ولقد فتح كلامُه أبوابَ السعادة الأبدية، على أن إجماع الأنبياء من آدمهم إلى خاتمهم عليهم السلام على هذه الحقيقة حُجةٌ حقيقيةٌ قطعية على هذا المدّعَى. ولِأمرٍ مّا اتفقوا.

وأما البرهان التاسع: فهو إخبار القرآن المعجِز؛ إذ التنـزيلُ المصدَّق إعجازُه بسبعة أوجه في ثلاثةَ عشرَ عصراً دعواه عينُ برهانها. فإخباره كشَّافٌ للحشر الجسماني ومفتاحٌ له.

وأما البرهان العاشر، المشتمل على ألوفٍ من البراهين التي تضمّنَها كثيرٌ من الآيات مثل ﴿وَقَدْ خَلَقَكُمْ اَطْوَارًا﴾ المشيرِ إلى «قياس تمثيلي»، و﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبيدِ﴾ المشيرِ إلى «دليل عَدْليّ»، وغيرهما، فلقد فتح القرآن في أكثر الآيات كُوّاتٍ ناظرة إلى الحشر.

أما القياس التمثيلي المشار إليه بالآية الأُولى: فانظر في وجود الإنسان فإنه ينتقل من طَور إلى طور؛ من النطفة إلى العلَقة.. ومنها إلى المضغة.. ومنها إلى العظم واللحم.. ومنه إلى الخلق الجديد. ولكلٍّ من تلك الأطوار قوانينُ مخصوصة، ونظاماتٌ معيّنة، وحركاتٌ مطّردة يشفّ كلٌّ منها عن قصدٍ وإرادةٍ واختيارٍ.. ثم تأمل في بقائه فإن هذا الوجود يجدّد لباسَه في كل سنة، ومن شأنه التحللُ والتركّب، أي انقضاضُ الحجيرات وتعميرُها ببدل ما يتحلل من المادة اللطيفة الموزّعة على نسبة مناسبة الأعضاء التي يُحضِرها صانعُها بقانون مخصوص. ثم تأمل في أطوار تلك المادةِ اللطيفة الحاملةِ لأرزاق الأجزاء. كيف تنتشر في أقطار البدَن انتشاراً تحيّر فيه العقولُ. وكيف تنقسم بقانون التقسيم المعيّن على مقدار حاجات الأعضاء؛ بعد أن تلخّصت تلك المادةُ بنظام ثابت، ودستور معين، وحركة عجيبة من أربع مصفاتات، وانطبخت في أربعة مطابخ بعد أربعةِ انقلابات عجيبة؛ المأخوذةِ تلك المادة من القُوتِ المحصَّل من المواليد المنتشرة في عالم العناصر بدستورٍ منتظم؛ ونظام مخصوص، وقانون معين. وكلٌّ من القوانين والنظامات في تلك الأطوار يشفّ عن سائقٍ وقصدٍ وحكمةٍ. كيف لا، ولو تأملتَ من قافلة تلك المادة اللطيفة في ذرةٍ مثلاً، مُستَّرةً في عنصر الهواء تصير بالآخرة جزءاً من سواد عين «الحبيب»، لعَلِمتَ أن تلك الذرةَ وهي في الهواء معيّنةٌ كأنها موظفةٌ مأمورة بالذهاب إلى مكانها الذي عُيّن لها؛ إذ لو نظرت إليها بنظرِ فنّيّ تيقنتَ أن ليست حركتُها «اتفاقية عمياء» «بتصادف أعمى»، بل تلك الذرةُ ما دخلت في مرتبةٍ إلَّا تبعَت نظاماتِها المخصوصة، وما تدرّجَتْ إلى طورٍ إلَّا عَمِلت بقوانينه المعيّنة، وما سافرت إلى طبقة إلَّا وهي تُساق بحركة عجيبة منتظمة، فتمرّ على تلك الأطوار حتى تصل إلى موضعها. مع أنها لا تنحرف قطعاً مقدار ذرة عن هدف مقصدها.

والحاصل: أن من تأمل في النشأة الأولى لم يبقَ له تردّدٌ في النشأة الأخرى، ولقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: «عَجباً لمن يَرى النشأةَ الأُولَى كيفَ ينكر النشأة الأخرى».

نعم، كما أن جمعَ نفراتِ عسكرِ فرقةٍ أُذِنَ لهم بالاستراحة والانتشار إذا دُعوا بالآلة المعروفة -يتسللون عن كل طرَف ومكمَن، فيجتمعون متّحدين تحت لوائهم- يكون أسهلَ وأسهلَ من جلبهم أول الأمر إلى الانتظام تحت السلاح؛ كذلك إن جمعَ الذرات التي حصَلت بينها المؤانسةُ والمناسبة بالامتزاج في وجودٍ واحدٍ إذا نوديتْ بصُور إسرافيل فينساب الكلُّ من كل فجٍّ عميق مُلبِّيةً لأمر خالقها، يكون أسهلَ وأمكن في العقل من إنشائها وتركيبها أول المرة.

أما بالنسبة إلى القدرة فأعظمُ الأشياء كأصغرِها.

ثم الظاهر أن المُعاد يُعاد بأجزائه الأصلية والفضولية معاً. كما يشير إليه كبرُ أجسام أهل الحشر وكراهةُ قصّ الأظفار والأشعار ونحوها للجُنُب، وسُنِّـيَّةُ دفنِها. والتحقيق أن عَجب الذَّنَب يكفي أن يكون بذراً ومادةً لتشكّله.

وأما الدليل الذي لوّح به: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبيدِ﴾ : فاعلم أنّا كثيراً ما نرى الظالمَ الفاجر الغدّار في غاية التنعّم، ويمرّ عمُره في غاية الطيب والراحة، ثم نرى المظلومَ الفقير المتديّن الحَسَنَ الخُلقِ ينقضي عمرُه في غاية الزحمة والذلّةِ والمظلومية، ثم يجيء الموتُ فيساوي بينهما. وهذه المساواةُ بلا نهايةٍ تُرى ظُلماً. والعدالةُ والحكمة الإلهيتان اللتان شهِدت عليهما الكائناتُ منـزّهتان عن الظلم؛ فلابد من مجمَعٍ آخر ليرى الأولُ جزاءَه والثاني ثوابَه فيتجلى العدالةُ الإلهية.

وقِس على هاتين الآيتين نظائرهما. هذا..

أما وجهُ النظم في أجزاء ﴿وَبِالْاٰخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ فاعلم أن مناط النكت: «الواو»، ثم تقديمُ ﴿بِالآخِرَةِ﴾ ثم الألف واللام فيها، ثم التعبير بهذا العنوان، ثم ذِكر ﴿هُمْ﴾، ثم ذِكر ﴿ يُوقِنُونَ﴾ بدلَ «يؤمنون».

أما «الواو» ففيها التخصيص بعد التعميم، للتنصيص على هذا الركن من الإيمان، إذ هو أحد القطبين اللذين تدور عليهما الكتبُ السماوية.

وأما تقديمُ ﴿بِالآخِرَةِ﴾ ففيه حصرٌ، وفي الحصر تعريضٌ بأن أهلَ الكتاب بناءً على قولهم: ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ اِلَّٓا اَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ (البقرة:80) ونفيِهم اللذائذ الجسمانية، آخرتُهم آخرةٌ مجازية اسمية، ما هي بحقيقة الآخرة.

وأما الألف واللام فللعَهد، أي إشارةٌ إلى المعهود بالدوران على ألسنة كلِّ الكتب السماوية.. وفي العهد لمحٌ إلى أنها حقٌ وإشارة إلى الحقيقة المعهودة الحاضرة بين أهداب العقول بسبب الدلائل الفطرية المذكورة.. وفي العهد حينئذ رمزٌ إلى أنها حقيقة.. وأما التعبير بعنوان «الآخِرَةِ» الناعتة للنشأة فلتوجيه الذهن إلى النشأة الأولى، لينتقل إلى إمكان النشأة الأخرى.

وأما ﴿هُمْ﴾ ففيه حصرٌ، وفي الحصر تعريض بأن إيمان من لم يؤمن بمحمد عليه الصلاة والسلام من أهل الكتاب ليس بيقين، بل إنما يظنونه يقيناً.

وأما ذكر ﴿ يُوقِنُونَ﴾ بدل «يؤمنون» مع أن الإيمان هو التصديقُ مع اليقين، فليضع الإصبع على مناط الغرض قصداً لإطارة الشكوكِ؛ إذ القيامةُ محشرُ الريوب.. وأيضا بالتنصيص ينسدّ طُرق التعلل بـ«إنا مؤمنون فليؤمن مَن لم يؤمن».

* * *