الحجة الزهراء

عبارة عن مقامين

يبدو هذا الدرس ظاهرا رسالةً صغيرة، إلّا أنها في الحقيقة رسالةٌ عظيمة وقوية وواسعة جدا. وهي فاكهةٌ إيمانية وثمرة قرآنية فردوسية أينعت من حياتي التفكرية ومن اتحاد علم اليقين وعين اليقين في حياة النور المعنوية التحقيقية.

سعيد النُّورْسِيّ


المقام الأول

على ثلاثة أقسام

القسم الأول

من الدرس الذي أُلقي في المدرسة اليوسفية الثالثة. وهو خلاصة الخلاصة للمكتوب العشرين.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

وبه نستعين

فالذي قضى خمسا وثلاثين سنة معتزِلا الناسَ، وودّع الدنيا ونسيَها، ولاسيما في الليالي، حتى استوحش من الناس، لكثرة ما عانى من المراقبة المستديمة والترصّد الدائم لأعماله ترصدا ينطوي على حقد وضغينة وسوء طويّة، طوال ثلاثٍ وعشرين سنة، حتى أصبح يتضايق من أن يقضي ساعةً من وقته مع أحدٍ من الناس وفي مكان واحد، سوى مَن يشتاق إلى رسائل النور ومَن يقوم بمعاونته.. أقول: لقد نقلوا هذا الضعيف -أنا العاجز- إلى الزنـزانة الخامسة كرها، حيث الازدحام على أشده. ومنعوا إخوتي من التردد عليّ، بحجةِ رَفْعي دعوى إلى محكمة التمييز حول وضعي في السجن المنفرد أحد عشر شهرا.

فحينما كنت مضطربا وقلِقا على عدم تحمل العيش في هذا الازدحام الكثيف، إذا بالجو يبرد بردا شديدا -علامةً على الغضب- بحيث لو كنت في مكاني السابق لما تحملتُه قطعا. فانقلب لي العُسر يسرا، ونـزلت بي تلك الشدةُ رحمةً منه تعالى. فخطر للقلب:

على الرغم من قيام طلاب النور بأداء وظيفتهم -ونيابةً عنك- في تبليغ حقائق رسائل النور بجدّ وإخلاص، في كل ردهة من ردهات السجن، فإن هذه الردهة الخامسة الشبيهة بموضع انـزواء الزاهدين يتجدد دائما ويتبدل، فهي إذن أحوجُ ما تكون إلى دروس النور.

وكذا الشباب والشيوخ لاشك أنهم بأمسّ الحاجة إلى دروس يقينية وراسخة في إثبات وجوده تعالى وإثبات وحدانيته سبحانه. حيث يقرؤون ما تكتبه الصحفُ من هجوم الروس على الإيمان بهجمات الإلحاد الرهيبة، وإنكار الخالق العظيم.

فالذي ورد إلى القلب أثناء الأذكار عقب الصلاة هو هذا. وذكرتُ بدوري التهليلَ الذي أذكره منذ السابق عقب صلاة الفجر عشر مرات، وهو: «لا إلٰهَ إلّا الله وحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ المُلْكُ ولَهُ الحَمْدُ يُحْيِي ويُمِيتُ وهو حَيٌّ لَا يَمُوتُ بِيَدِهِ الخَيْرُ وهو عَلى كل شَيءٍ قَدِيرٌ وإلَيْهِ المَصِيرُ».

هذا التهليل العظيم والتوحيد الجليل الذي يحمل الاسم الأعظم -حسب روايةٍ- قد فصّله «المكتوب العشرون» العظيمُ تفصيلا واضحا ساطعا كالشمس، وذلك في إحدى عشرة كلمة من كلماته في أحد عشر برهاناً من براهينِ وجوب وجوده تعالى ووحدانية ربوبيته، وأورد إحدى عشرة بشارة من البشارات السارة.

نعم، كنت أكرر هذه الجملة المقدسة بتدبر عميق مع التفكر في خلاصةٍ موجزة للمكتوب العشرين، فخطر للقلب فجأةً: ألقِ هذه الخلاصة الموجزة درسا للعالم الفاضل «نادر» ومن يقيم هنا من الشباب. وأنا بدوري قلت: بسم الله.. وبدأت بإلقاء الدرس:

إن في هذا الكلام التوحيدي إحدى عشرة بشارة، وإحدى عشرة حجة إيمانية. سأشير إلى الحجج وحدَها بإشارة قصيرة جدا مُحيلا إيضاحاتِها وبشاراتها إلى «المكتوب العشرين» وإلى أجزاء رسائل النور.

وعندما كتبتُ هذا الدرس، رأيتُ من الأنسب أيضا إدراجَ مالم أُفصح عنه للمسجونين من كلمات ونكات فيه.

وهكذا، فالكلمات الإحدى عشرة من ذلك الكلام التوحيدي هي الآتية:

الكلمة الأولى: «لا إله إلّا الله»

إن الحجة الإيمانية في هذه الكلمة هي رسالة «الآية الكبرى» تلك الرسالة الخارقة التي لا نظير لها.

فقد أدت إلى نيل طلاب النور بالبراءة من المحكمة، وظهورِهم في سجن «دنيزلي» وانتصارهم في كلٍ من محاكم «أنقرة ودنيزلي» وانتشارها بالخفاء انتشارا مؤثرا. مثلما أصبح طبعُها سرا سببا لاعتقال طلابها تسعة أشهر.

نعم، إن شعاع «الآية الكبرى» أظهر ثلاثةً وثلاثين إجماعا عظيما وحججا كلية في الكون كله، مع إشارته في كل حُجة كلية إلى براهينَ غير محدودة تُثبت وجودَ واجبِ الوجود، ووحدانيتَه إثباتا ساطعا واضحا وضوح النهار. فيستنطق السماوات بكلمات النجوم في المقدمة ثم الأرضَ بجُمَل الحيوانات والنباتات وهكذا حتى يستنطق الكونَ كله بكلمات حقائق الحدوث والإمكان والتغيّر..

فعلى الذين يطلبون إيمانا راسخا لا يتزعزع والباحثين عن سيف لا ينثلم تجاه الفوضى الملحدة أن يراجعوا رسالة «الآية الكبرى».

الكلمة الثانية: «وحده»

والإشارة الوجيزة إلى الحجة التي فيها هي: أن في كل جهة من جهات هذا الكون وفي كل ناحية من نواحيه تُشاهَد وحدةٌ واضحة:

فمثلا: الكون كله أشبه ما يكون بمدينة عامرة، وقصر شامخ وكتاب بليغ مجسم، بحيث إن كلَ آية فيه، بل كل حرف من حروفه، بل كل نقطة من نقاطه في حُكم معجزةٍ وقرآنٍ مجسّد.

نعم، فكما يبين هذا وحدةً واضحة في الكون، فإن مصباحَ ذلك القصر مصباحٌ واحد، وقنديلَه الذي يبين الأوقات واحد أيضا، وطبّاخه المالك للنار.. واحد. وساقيه بالماء.. واحد، وهكذا واحد.. واحد.. واحد. حتى يبلغ الألف وواحد من الواحد والوحدة.

وبإظهار الكون هذه الوحدة في كل شيء، يثبت أن صاحبَ ذلك القصر وتلك المدينة وذلك الكتاب، ذلك القرآن الكبير المجسم، وكاتبَه ومصنّفَه، موجودٌ وواحدٌ أحدٌ.

الكلمة الثالثة: «لا شريك له»

والإشارة المختصرة جدا إلى ما فيها من حجة هي: الآية الجليلة: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُٓ اٰلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ اِذًا لَابْتَغَوْا اِلٰى ذِي الْعَرْشِ سَبيلًا﴾ (الإسراء:42) التي هي منبعُ شعاع «الآية الكبرى» وأستاذه، وأساسه.

نعم، لو كان معه آلهةٌ ولها مُداخلة في الخلق والإيجاد والربوبية لَفَسد نظامُ الكون كله واختل. بينما يُشاهَد أكملُ نظام وأدقّه في كل شيء ابتداءً من جناح ذبابة صغيرة، ومن بؤبؤ عينها ومن حجيرتها الصغيرة وانتهاءً إلى الطائرات الجوية، تلك هي الطيور التي لا تعد ولا تحصى، وإلى المنظومة الشمسية.. ففي كل شيء في الوجود يُرى أكملُ نظام سواءً أكان جزئيا أم كليا، صغيرا أم كبيرا. مما يُثبت هذا النظامُ الأكمل إثباتا لا يحتمل الشك أنّ الشرك محالٌ وجودُه، وأنه معدومٌ أصلا، ويُثبت أيضا إثباتا واضحا وجودَ واجبِ الوجود ووحدته.

الكلمة الرابعة: «له الملك»

وإشارة قصيرة جدا إلى ما فيها من حجة طويلة هي: أننا نشاهد بأبصارنا أنّ وراء حجاب الغيب مَن هو متصرفٌ بالأمور مالكٌ لقدرة مطلقة لا يحدّها حدّ ويملك من العلم مالا يحدّه حدود، إذ جَعل وجه الأرض مزرعةً واسعة سعةَ الأرض كلها، ينثر فيها كل ربيع بذورا تزيد على مائة ألف نوع من النباتات، ينثرها جميعا معا ومختلِطا بعضها ببعض، ثم يجني محاصيلَها جنيا متمايزا دون اختلاط ولا التباس مع انتظام كامل، ويوزّع بيد الرحمة والحكمة على مائتي ألف نوع من الحيوانات ما يلائمُهم من رزق معيّن على حسب حاجتهم. وهكذا يُصرّف الأمور على سعة ملكه الواسع الفسيح، الغني المعطاء. ولاسيما مزرعة الأرض.

فالذي لا يؤمن بهذا المتصرف الحكيم والملك الرحيم يضطر إلى إنكار هذه الأرض مع محاصيلها ويكون كالسوفسطائيين الحمقى.

الكلمة الخامسة: وهي «وله الحمد»

إن إشارة مختصرة جدا إلى ما فيها من حجة واسعة جدا هي:

أننا نشاهد بأبصارنا وندرك بعقولنا إدراكا لحد البداهة: أن رزاقا رحيما ومحسنا كريما يتصرف ويدبّر أمور مدينة الكون ويرعى شؤون حي الأرض، ويربّي معسكر الإنسان والحيوان، حتى إنه حوّل الأرض إلى سفينة تجارية، وإلى قطار لجلب الأرزاق، ليبعث على الشكر والحمد بما يغدُق من نِعَمه التي لا تعد ولا تحصى جاعلا من الربيع المبسوط على وجه الأرض ما هو بمثابة عربة القطار، المشحونة بمائة ألف نوع ونوع من أنواع الأطعمة، وملأ الأثداء الشبيهة بالمعلّبات باللبن السائغ لإمداد ذوى الحياة المعوزين الذين نفدت أرزاقُهم نهاية الشتاء. فمَن يملك ذرة من عقل يؤمن بلا شك أن هذا الأمر إنما هو من أفعالِ رزاقٍ رحيم. ومن لا يؤمن بهذا ويضل ضلالا بعيدا يضطر إلى إنكار جميع النعم المنضودة والأرزاق المعينة الباعثة على الحمد والشكر، وليس هو إلّا أحمقَ حيوانٍ مضر.

الكلمة السادسة: وهي «يحيي»

إن إشارة مختصرة جدا إلى ما فيها من حجة هي: ما أُثبِتَ في «الكلمة العاشرة» وفي أجزاء رسائل النور بالبراهين القوية أنه: يُبعث على سطح الأرض في كل ربيع جيشٌ سبحاني ضخم مؤلََّف من ثلاثمائة ألف نوع من أنواع ذوى الحياة وبما لا يحد من الأفراد في أشكال متنوعة وأنماط مختلفة. فتُوهَب لها الحياةُ، وتُجهَّز بكل ما يلزم الحياةَ وبانتظام كامل، مما يبين لنا مائة ألف نموذج من نماذج الحشر الأعظم، بل من أماراته..

فالذي يحيي كل تلك المخلوقات المتنوعة غير المحدودة معا، وهي مختلطةٌ ومكتنفة ومتشابكة بعضُها في بعض، بلا سهو ولا خطأ ولا نقص، ومن دون تحيّر، ويميّزها برغم اختلاطها وامتزاجها، وبلا نسيان لأحد منها، ويهب لها الحياة بكمال الميزان والنظام ويبعثها من نُطَفها التي هي قطرات ماء متماثلة، ومن نواها المتشابهة، ومن حبيبات لا يتميز بعضُها عن بعض إلّا قليلا، ومن بويضات الحشرات التي هي عينُ الأخرى ومن نُطف الطيور، ومن بويضاتها التي هي عين بعضها أو بفروق طفيفة.. فالذي يحيي تلك المئات من الألوف من ذوى الحياة التي تضم أفرادا لا تعد ولا تحصى، المتباينةِ صورةً، وصنعة ومعيشةً، ويبعث تلك المئات من الألوف من الأحياء، ويكتب مائة ألف كتاب مختلفٍ بعضُها عن بعض على صحيفة الأرض والربيع، يكتبها معا ومتداخلا وبلا خطأ كتابةً في أتم إتقان، ويتصرف فيها بعناية لا حدّ لها ويعمل فيها بحكمة لا منتهى لها. نعم.. إن الذي يفعل هذا إنما هو الخلاق العليم وهو المحيي والحي القيوم.. فمَن لا يعتقد بهذا لاشك أنه مضطر إلى إنكار نفسه وإنكار جميع الأحياء المنتشرة على الأرض كافة والمعلقة على شريط الزمان في جميع مواسم الربيع الماضية والموجودة على وجوه الأرض الحية والفضاء الحي.. وما هو إلّا أحمقُ الأحياء وأشقاهم.

الكلمة السابعة: وهي «ويميت»

إن إشارة في منتهى الاختصار إلى حججها هي:

أننا نشاهد عندما تُسرَّح ثلاثمائة ألف نوع من الأحياء من وظائفها باسم الموت في الخريف، فإنّ كلَّ نوع وكلَ فرد يُودِع بذورَه إلى يد الحكمة للحفيظ الجليل، تلك البذور التي هي عُليباتُ صحائفِ أعماله، وفهارسُ أفعالهِ، وقوائم ما سيعمله في الربيع المقبل، وهي شبيهةٌ بروحه الباقية من جهة -كبُذيرات التين المتناهية في الصغر التي تحمل جميعَ قوانين الحياة لشجرتها، فهي بمثابة روح باقية لها- فيَكتب فيها الخلّاقُ الحكيم، الحي الذي لا يموت، بقلم القَدَر-كالكتابة في القوة الحافظة- تاريخَ حياة الشجرة وكأنها كتابٌ ضخم.. فمَن لا يؤمن بهذا الخلّاق الحكيم الحي الذي لا يموت، ليس هو إنساناً أحمق وحيواناً فاقد الشعور فقط، بل هو كذلك أشقى من شيطان تُضرم به نارُ جهنم ومحكوم عليه بالموت الأبدي.

نعم، إن هذه الأفعال المذكورة والتي تشير إلى حجج هذه الكلمات، وهي أفعال حكيمة كلية محيطة وفي منتهى الإعجاز وتضم ما لا يتناهى من المعجزات والخوارق.. هذه الأفعال لا يمكن أن تكون بلا فاعل قطعا، بل ذلك محال بمائة محال، وباطل إطلاقا، فإسنادُها إلى الأسباب العمياء الصماء العاجزة الفاقدةِ للشعور، الجامدةِ المختلطة المستولية غير المنتظمة، ممتنعٌ بألف مرة ومرة ولا أساس له قطعا.

فلو فُوّضت تلك الأفعالُ الحكيمة إلى غير الفاعل الحكيم لَلَزم وجودُ قدرة مطلقة وحكمة مطلقة وإتقانٍ بديع كلي تخص تَشَكُّل جميعِ الأعشاب والأزاهير في كل ذرة من ذرات التراب.. ويلزم وجودُ قابليةِ فهـمٍ وإفهامِ أقوال ومكالمات وكلماتِ جميعِ الهواتف والراديوات في كل ذرة من ذرات الهواء. كما ذُكر في نكتة توحيدية في لفظ «هو» في «مرشد الشباب».

وهذا المفهوم الغريب العجيب لا يسع أيَّ شيطان كان أن يقنع به أحدا قط، فالكفر والإنكار الذي هو خارجٌ عن نطاق العقل إلى هذا الحد وبعيدٌ كل البعد عن الحقيقة وهو إهانةٌ للكائنات كلها وتَعدّ على حقوقها.. لا جزاءَ له إلّا النار، وهو عينُ العدالة. فينبغي القول: «لتعش جهنم لمثل هؤلاء المنكرين».

الكلمة الثامنة: «وهو حي لا يموت»

إن إشارة مختصرة جدا إلى ما فيها من حجة هي: أن الشُميسات المشاهَدة مثلا أثناء النهار على حَباب وجه البحر وعلى سطح النهر الجاري، تختفي بذهاب تلك الحباب، فتَظهر الشُميسات التي تعقبها كسابقاتها، فتشير بهذا إلى الشمس التي في السماء وتشهد عليها. وتدل بزوالها ووفاتها على وجود شمس دائمية وعلى بقائها.

كذلك المخلوقات على وجه بحر الكون المتبدل دوما وفي فضائه المتجدد الذي لا يحد، وفي مزرعة ذراته، هذه المخلوقاتُ تسيل سراعا وباستمرار في نهر الزمان الذي يتموج محتضنا جميعَ الحوادث والموجودات الفانية، وتموت مع أسبابها الظاهرية. فيذوق كونٌ الموتَ كلَّ سنة، وكلَ يوم، ويحل آخرُ جديدٌ محله، وتموت دنىً سيارةٌ باستمرار وعوالمُ سيالةٌ في مزرعة الذرات بعد أخذ المحاصيل منها.

فكما تُبين الحبابُ والشُميساتُ بزوالها الشمسَ الدائمة، فإن وفاةَ تلك المخلوقات غير المحدودة وزوالَ تلك المحاصيل، وتسريحها مع أسبابها الظاهرية تسريحا بكمال الانتظام، تدل دلالة قاطعة كالنهار الأبلج والشمسِ في وضح النهار على وجوب وجود الحي الذي لا يموت، على الشمس السرمدية، على الخلاق الباقي، على الآمر الأقدس، وعلى وحدانيته جلّ وعلا وعلى وجوده، دلالة ظاهرة أظهرَ من وجود الكائنات نفسها بألف مرة.. والشاهد على هذا كل موجود بحدّ ذاته وكل الموجودات معا.

فلا شك أَنْ قد أدركتم مدى حماقةِ وصمم وجنايةِ مَن لا يسمع هذه الأصوات العالية التي تملأ فضاءَ الكون كله وهذه الشهاداتِ القاطعةَ الصادقة.

الكلمة التاسعة: وهي «بيده الخير»

إن إشارة في منتهى الاختصار إلى ما فيها من حجة هي: أننا نشاهد في كل دائرة من دوائر هذا الكون وفي كل نوع من أنواعه وفي كل طبقة من طبقاته حتى في كل فرد من أفراده، بل في كل عضو من أعضائه، بل حتى في كل حجيرة من حجيرات جسمه، مَخزنا احتياطيا ومستودَعا لادّخار الرزق، ومزرعةً وخزينة تهيئ ما يلزمه ويَقيه، وتُسلّم -ما فيها- يدٌ غيبية إلى يد ذلك المخلوق في أنسب وقت ومن حيث لا يحتسب، بل بشكل خارجٍ عن طَوقه وإرادته، ضمن انتظام تام على وفق ميزان دقيق، ويتم ذلك كله في منتهى الحكمة وغاية العناية.. فالجبال مثلا تَدّخِر كلَّ ما يلزم الأحياء والإنسان من معادنَ وأدويةٍ وكلَّ ما يلزم متطلبات الحياة. فهي خزائن مُلئت في غاية الكمال بأمر الواحد الأحد وبتدبيره. مثلما الأرضُ مزرعةٌ وبَيدرٌ ومطبخٌ تُهيئ أرزاق جميع الأحياء وبكمال الانتظام والميزان، وذلك بقوة الرزاق الحكيم، بل إن في كل إنسان وفي كل عضو من أعضائه مخزنا ومستودعا للادّخار، بل حتى في كل حجيرة من حجيرات الجسم أيضا مخزنٌ صغير يناسبه لخزن الاحتياطي من الأرزاق.. وهكذا في كل موجود مخزنٌ، حتى إن مخزنَ الآخرة هو دارُ الدنيا، ومزرعةُ الجنة ومستودَعُها هو عالمُ الإسلام وعالم الإنسانية الحقة، الذي تنبعث منه الحسناتُ والحُسنُ والأنوار. ومخزنٌ من مخازن جهنم هو المواد الفاسدة والطوائف الملوثة التي تُنتج حناظل الشرور والقبح والكفر، تلك الشرور الناتجة من العدم والملوِّثة لعوالم الوجود التي هي الخير. ومخزنُ حرارة النجوم وموردها جهنمُ، وخزينةُ أنوارها ومصدرها الجنةُ..

وهكذا فإن كلمةَ «بيده الخير» بإشارتها إلى جميع تلك الخزائن غيرِ المحدودة تبين حجة ساطعة جدا.

نعم، إن هذه الكلمة، وكذا عبارة: «بيده مقاليد كل شيء» حجتان للربوبية والوحدانية لا منتهى لسعتهما، وهما ذات خوارق ومعجزات لا حدود لها، تبيّنها هاتان الجملتان لمن لم يُطمَس على عينه. فانظر مثلا من تلك الخزائن والمقاليد غير المحدودة إلى هذه فحسب:

إن المدبّر الحكيم المالك لمفاتيح البذور والنوى، تلك المخازنُ الصغيرة التي يضم كلٌ منها أجهزةَ منهاجِ مقدَّراتِ شجرة ضخمة أو زهرة فوّاحة، كما يوقظ بوّابَ بذرةٍ بأمره «أَفِقْ» بمفتاح الإرادة، وبميزانِ نظام تام؛ كذلك يفتح خزينةَ الأرض الهائلة بمفتاح الغيث، فيفتح جميعَ المخازن الصغيرة أي الحبيبات التي هي نطف النباتات وجميعَ مبادئ الحيوانات، والقطرات التي هي نطف الطيور والحشرات المتشكلة من هواء وماء، يفتحها جميعا ومعا وبلا خطأ وذلك بتلقّيها أمرَ الانفتاح والانكشاف.. ويفتح سبحانه في الوقت نفسه جميعَ خزائن الكون الكلية والجزئية، المادية والمعنوية، بمفتاح خاص لكل منها بيد الحكمة والإرادة والرحمة والمشيئة.

فإن كنت تريد أن تعرف هذا وتراه فانظر إلى مخازنك الصغيرة وهي قلبُك ودماغُك وجسدك ومعدتك. وانظر إلى حديقتك وإلى الربيع الذي هو زهرةُ الأرض وإلى أزاهيره وثمراته، فإنه سبحانه يفتحها بيد غيبية بمفاتيح متباينة متنوعة آتية من مصنع ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾. يفتحها بكمال النظام والميزان والرحمة والحكمة، فيُخرج رطلا بل مائة رطل من المطعومات أحيانا من درهم من عُليبات صغيرة، يُخرجها بكمال الانتظام والميزان مقيما بها ضيافةً فاخرة لذوي الحياة.

فهل من الممكن أن تتدخل قوةٌ عمياء وطبيعة صماء ومصادفة عشواء وأسبابٌ جامدة جاهلة عاجزة في فعلٍ لانهاية له يؤدّى إلى هذه الدرجة من الانتظام والعلم والبصيرة، وفي صنعةٍ دقيقةٍ ذات حكمة تامة لا تدنو منها المصادفةُ قطعا، وفي تصرّفٍ موزون لا خطأ فيه إطلاقا، وفي ربوبيةٍ جليلةٍ عادلةٍ عدالةً تامة لا ظلم فيها أصلا؟

وهل يمكن لمن لا يرى الأشياء كافة في آن واحد ولا يستطيع إدارتها كلها دفعةً واحدةً، ولا يجعل الذراتِ والنجومَ السيارة معا تحت أمره أن يتدخل في هذه الإدارة وتصريفِ الأمور التي جوانبُها كلها ذات حكمة ومعجزة وميزان؟

وهكذا فمن لا يؤمن بمثل هذا المتصرف للأمور، المدبّر الرحيم، والربّ الحكيم، والذي بيده الخير، وله مقاليد كل شيء، ويضل ضلالا بعيدا، ليس له إلّا النار التي تستعر وتغضب حتى ﴿تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ﴾ (الملك:8) كما قال تعالى. فتقول جهنمُ بلسان حالها: إنه يستحق عذابي الخالد فليس هو أهلا للرحمة.

الكلمة العاشرة: وهي «وهو على كل شيء قدير»

إن إشارة مختصرة جدا إلى ما فيها من حجة هي: أن كل ذي شعور يأتي إلى هذه الدنيا المضيف، ويفتح عينه يرى: قدرةً تُمسك الكونَ كله في قبضتها، وتضم علما أزليا مطلقا لا يضلّ ولا ينسى وحكمةً سرمدية لا عبث فيها إطلاقا وتشمل عنايةً بالغة، بحيث تجعل كل فرد من أفراد جيش الذرات منجذبا جذبة مولوية، فتستخدمها في وظائف شتى، وتُجري في اللحظة نفسها الكرة الأرضية في دائرة واسعة تبلغ مسافتها أربعة وعشرين ألف سنة في سنة واحدة وتديرها كالعاشق المولوى المجذوب بالقانون نفسه.

وإذ هي تجلب محاصيل المواسم إلى الحيوانات والإنسان، تجعل بالقانون نفسه في اللحظة نفسها الشمسَ مكوكا ودولابا وتُديرها في مركزها دورانَ منجذبٍ عاشقٍ أيضا مسخِّرةً النجومَ السيارة التي هي أفرادُ جيش المنظومة الشمسية في خدمات ووظائف جليلة بكمال الميزان والانتظام.

وأن القدرة نفسها تكتب بقانون الحكمة نفسها في اللحظة نفسها مئاتِ الألوف من الأنواع على صحيفة الأرض كافة، والتي كل منها بمثابة مئات الألوف من الكتب، تكتبها معا ومتداخلة، وبلا التباس ولا سهو، مُظهرةً بها ألوفا من نماذج الحشر الأعظم.

وأن القدرة نفسها، في اللحظة نفسها تحوّل صحيفة الهواء إلى لوحةِ محوٍ وإثبات، جاعلةً من ذراتها كلها كأنها نهايات قلم ذلك الكتاب ونقاطِه، مستعمِلةً إياها في وظائف كثيرة ضمن ما يعيّنه الأمر والإرادة الإلهية، حتى إنها أعطت قابلية إلى كلٍ من تلك الذرات لتتلقى الكلمات والمكالمات كلها كأنها تعلَم بها وتنشرها بلا خطأ ولا حيرة كأنها أُذينات صغيرة ولُسينات دقيقة. مما يُثبت أن عنصر الهواء عرشٌ للأمر والإرادة الإلهية.

وهكذا فقياسا على هذه الإشارة المختصرة: فالذي جعل هذا الكون في حكم مدينة منسّقة، وقصر عامر، ومضيف فاخر، وكتاب معجز، وقرآن مبين، ويمسك في قبضة قدرته بميزان العلم ونظام الحكمة جميعَ طبقات المخلوقات ودوائرها وطوائفها ابتداءً من ذرة من ذراتها وانتهاءً إلى مجموع الكون كلِه، ويدبّر شؤونه ويتصرف فيه، ويُظهر ضمن تلك القدرة الجليلة حكمتَه البالغة ورحمتَه الواسعة، ويُعلِم ضمن ربوبيته المطلقة ويُعرّف بها وجودَه ووحدانيتَه تعريفا ظاهرا كالشمس في رابعة النهار. فيطلب إزاء تعريفه التعرّفَ إليه بالإيمان، وإزاءَ تودُّدِه ودَّه بالعبادة، وإزاء آلائِه شكرَه وحمدَه.

فالذين لا يعرفون هذا الرحمن الرحيم ولا يَسْعون بالعبودية لحبِّه، بل يَضلون إلى الإنكار فيُضمرون نوعا من العداء تجاهه.. هؤلاء ليسوا إلّا شياطين في صور أناسي، وفي حكم نماردة صغار وفراعنة صُغر. ولاشك أنهم يستحقون عذابا خالدا لا نهاية له.

الكلمة الحادية عشرة: وهي «وإليه المصير»

أي إن المصير هو إلى دائرة حضوره، وإلى عالَمِه الباقي، وإلى دار آخرته، وإلى منـزل سعادته السرمدية، كما أنه مرجع جميع مخلوقات الكون فتستند إليه وترجع إلى قدرته جميعُ سلسلة الأسباب، علماً أن الأسباب ستائر وُضعتْ أمام تصرفات تلك القدرة، لأجل الحفاظ على هيبتها وعزتها المقدسة. فجميعُ الأسباب الظاهرية ستائرُ لا تأثير لها في الإيجاد قطعا. فلولا أمرُه جلّ وعلا وإرادتُه لا يقدر شيء -حتى الذرة- من الحركة.

نشير إشارة مختصرة إلى ما في هذه الكلمة من حجة فنقول:

أولا: إن حقيقة الحشر والآخرة والحياة الباقية التي تعبّر عنها هذه الكلمة المقدسة نحيل إثباتها والتصديق بها إلى «الكلمة العاشرة» وذيولِها وإلى «الكلمة التاسعة والعشرين» التي تُثبت تحققَها القاطع كتحقق الربيع المقبل، وإلى «المسألة السابعة من رسالة الثمرة»، وإلى شعاع «المناجاة»، وإلى الأجزاء الإيمانية لرسائل النور.

حقا إن تلك الرسائل قد أثبتت هذا الركن الإيماني بحجج لا منتهى لها، بأنّ تحقق الآخرة ثابتٌ بدرجةِ تَحقُّق وجود الدنيا بحيث تلجئ حتى أعتى المنكرين إلى التصديق به.

ثانيا: إن ثُلث القرآن المبين يبحث في الآخرة والحشر، ويبني كل الدعاوى على تلك الحقيقة. لهذا فكما أن جميعَ معجزات القرآن وحججه التي تثبت أحقيتَه تدل على وجود الآخرة، كذلك جميعُ معجزات الرسول ﷺ الشاهدة على صدق نبوته وجميعُ دلائل نبوته وجميعُ حجج صدقه تشهد على الآخرة والحشر؛ لأن أعظم ما دعا إليه ذلك النبي الكريم ﷺ طوال حياته كلها هو الآخرة، كما أن مائة وأربعة وعشرين ألفا من الأنبياء الكرام عليهم السلام قد دَعوا جميعُهم إلى الحياة الباقية والسعادة الأبدية وبشّروا البشرية بها وأثبتوا صدقَ دعواهم بما لا يحد من المعجزات والدلائل القاطعة. فلا شك أن جميع معجزاتهم وحججهم الدالة على نبوتهم وعلى صدقهم في دعواهم تشهد أيضا على الآخرة والحياة الباقية التي هي أعظمُ وأدوم دعواهم.

فقياسا على هذا فإن جميع الأدلة التي تثبت سائر الأركان الإيمانية تشهد بدورها على حدوث الآخرة وعلى انفتاح أبواب دار السعادة الخالدة.

ثالثا: إن خالق هذا الكون الذي خلقه بجميع ذراته وسياراته وأجزائه وطبقاته مقلِّدا كلا منها بوظيفة بل وظائفَ كثيرة بكمال الحكمة ومسخِرا لها باستمرار إظهارا لكماله وقدرته وربوبيته، والذي يُرسل طوائفَ المخلوقات قافلةً إثر قافلة بل يرسل دنىً متعاقبة متجدّدة سيالة إلى مَضيف هذا العالم وإلى ميدان امتحان هذه الحياة الدنيوية لِيُظهر تجليات غير محدودة لأسمائه الحسنى السرمدية وليلتقط صور تلك المخلوقات وأعمالها وأوضاعها بكامرات برزخية وسينمات أخروية منصوبة في عالم المثال. ومن بعد تسريحها يرسل طوائف أخرى قافلة إثر قافلة، بل يرسل نوعا من دنى سيارة وسيالة إلى ذلك الميدان، لأجل أن تتسنّم وظائف جليلة وتصبح مرايا لتجليات أسمائه الحسنى.

فهل من الممكن لهذا الخالق الجميل، الصانع الجليل، الله ذي الكمال، أن لا يجعل دار ثواب وجزاء؟ وأن لا يقيم الحشر والنشور لنوع الإنسان الذي يقابِل بالشعور والعقل في هذه الدنيا الفانية جميعَ مقاصد ذلك الخالق الكريم، والذي يحبّ ذلك الخالق ويحبّبه بجميع استعداداته، والذي يعرفه ويعرّفه، ويتوسل إليه بأدعية لا حد لها لبلوغ السعادة الأبدية والبقاء الأخروي، والذي يسأل الحياة الباقية التي هي اللذة بعينها يسألها بجميع فطرته وروحه واستعداده لما يتألم آلاما لا حد لها بالعقل الذي يحمله. فهل يمكن أن لا يكون لهذا الإنسان ثواب وعقاب؟ حاش لله وألف مرة كلّا..

إن تفاصيل وإيضاح هذه الإشارة المختصرة موجودة بأسطع صورها وأقوى حججها في رسائل النور؛ لذا نحيل إليها ونختصر هذه المسألة الطويلة جدا.

﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾

* * *