المقام الثاني

من الحجة الزهراء

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

وبه نستعين

إن حقيقة واحدة من آية الختام لسورة الفاتحة تشير إلى الموازنة بين أهل الهداية والاستقامة وأهل الضلالة والطغيان. والآية هي منبع جميع الموازنات والمقايسات المعقودة في رسائل النور. وهذه الموازنة يبيّنها بوضوح وبأسلوب عجيب ويعبّر عنها تعبيرا معجزا قولُه تعالى في سورة النور:

﴿اَللّٰهُ نُورُ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ مَثَلُ نُورِه كَمِشْكٰوةٍ فيهَا مِصْبَاحٌ اَلْمِصْبَاحُ في زُجَاجَةٍ اَلزُّجَاجَةُ كَاَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ﴾ (النور:35) إلى آخر الآية.

والذي بعده: ﴿اَوْ كَظُلُمَاتٍ في بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشٰيهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِه مَوْجٌ…﴾ (النور:40) إلى آخر الآية.

فالآية الأولى، آية النور تتوجه بعشر إشارات إلى رسائل النور وتنظر إليها، كما أُثبت في الشعاع الأول، مخبرةً خبرا مستقبليا معجِزا عن ذلك التفسير للقرآن الكريم.

ولما كانت هذه الآية الكريمة أهمَّ سبب من أسباب إطلاق اسم «النور» على رسائل النور، وبناءً على بيانِ معجزة معنوية لهذه الآية العظيمة، كما في السياحة الخيالية التمثيلية لبيان معجزة «ن» نعبد، في قسم من المكتوب التاسع والعشرين.. فإن سائح الدنيا في رسالة «الآية الكبرى» الذي سأل جميع الكائنات وأنواعَ الموجودات أثناء بحثه عن خالقه ووجدانه له ومعرفته إياه، وعرفه بثلاث وثلاثين طريقا وببراهين قاطعة بعلم اليقين وعين اليقين، فإن السائحَ نفسه قد ساح بعقله وقلبه وخياله في أجواءِ طبقات العصور والأرض والسماوات، دون أن يصيبه تعبٌ أو نصب، بل ما زال يسيح ليشفي غليلَه حتى ساح في أرجاء الدنيا الواسعة كلها، فبحث عن جميع نواحيها كمن يسيح في مدينة. مستندا بعقله أحيانا إلى حكمة القرآن وتارةً إلى حكمة الفلسفة كاشفا بمنظار الخيال أقصى الطبقات، إلى أن رأى الحقائق كما هي في الواقع، فأخبر عن قسم منها في تلك الرسالة «الآية الكبرى».

وها نحن نبين بيانا مختصرا جدا ثلاثا عوالم فقط من تلك العوالم والطبقات الكثيرة التي دخلها السائح بسياحة خيالية، والتي هي عين الحقيقة، إلّا أنها ظهرت في معنى التمثيل وفي صورته. نبين هذه العوالم كنماذجَ وأمثلةٍ فحسبُ للموازنة الموجودة في ختام سورة «الفاتحة» وكمثال من حيث القوة العقلية وحدها.

أما سائر مشاهداته وموازناته فنحيلها إلى الموازنات المعقودة في رسائل النور.

النموذج الأول هو: أن ذلك السائح الذي لم يأت إلى الدنيا إلّا ليجد خالقَه وليعرفه، خاطب عقله قائلا:

لقد سألنا كل شيء عن خالقنا، وأخذنا جوابا شافيا وافيا، ولكن كما يرد في المثل: «ينبغي سؤال الشمس عن الشمس نفسها» فعلينا الآن أن نقوم بسياحة أخرى لأجل معرفة خالقنا من تجليات صفاته الجليلة «كالعلم والإرادة والقدرة» ومن آثاره البديعة ومن جلوات أسمائه الحسنى. فدخل الدنيا لهذا الغرض، وركب سفينة الأرض فورا كأهل الضلال الذين يمثلون تيارا آخر، وقلّد نظارة العلم والفلسفة غيرِ المقيدة بحكمة القرآن. ونظر من خلال منظار منهج الجغرافيا غير المسترشد بالقرآن فرأى: أن الأرض تسيح في فضاء غير محدود، وتقطع في سنة واحدة دائرةً تبلغ أربعة وعشرين ألف سنة، بسرعة تزيد على سرعة انطلاق القذيفة بسبعين مرة. وقد حَمَلت على مناكبها مئاتِ الألوف من أنواع ذوى الحياة العاجزة الضعيفة. فلو تاهت لِدقيقة واحدة وضيّعت طريقها أو اصطدمت بنجمة سائبة، تبعثرت متساقطة في فضاء غير محدود، وألقت ما عليها من الأحياء الضعيفة وأفرغتها في العدم والعبث والضياع.

فاستشعر ظلماتٍ معنويةً رهيبة خانقة كظلمات في بحر لجّيّ تنبعث من هذا الفهم الذي في تيار ﴿المَغْضُوبِ عَلَيْهِمو﴿الضَّالِّينَ. فقال من أعماقه: يا حسرتاه! ماذا عملنا؟ لِمَ ركبنا هذه السفينة المرعبة؟ وكيف النجاة منها؟ فقذف نظارة تلك الفلسفة العمياء وكَسَرَها، ودخل تيارَ ﴿الَّذينَ اَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ وإذا بحكمة القرآن تغيثه مُسَلِّمَةً إلى عقله منظارا يبين الحقيقة كاملة، قائلة له: انظر الآن.. فنظر ورأى:

أن اسم ﴿رَبّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قد أشرق من بُرجِ قوله تعالى ﴿هُوَ الَّذي جَعَلَ لَكُمُ الْاَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا في مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِه وَاِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ (الملك:15) وجعل الأرض سفينة آمنة سالمة تمخر عباب بحر الكون الواسع بانتظام دقيق دائرةً حول الشمس لأجل حِكَم كثيرة ومنافعَ شتى، مشحونةً بذوي الحياة وما يلزمها من أرزاق، وهي تجلب محاصيل المواسم للمحتاجين إلى الرزق، ونصب سبحانه وتعالى ملَكين اثنين يسميان بـ«الثور والحوت» ملّاحَين وقائدَين لتلك السفينة. فيُجريانها في سياحة عبر المملكة الربانية التي هي في منتهى الهيبة والروعة، لتستجمّ مخلوقاتُ الخالق الجليل وضيوفُه في فضاء هذا الكون الواسع. وهكذا تُبين هذه السياحة المهيبة حقيقةَ ﴿اَللّٰهُ نُورُ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ﴾ حيث تعرّف خالقَها بتجلي هذا الاسم.

وبعدما أدرك السائح هذا المعنى من مشاهدته الأرضَ ردّد من أعماق روحه ووجدانه: ﴿اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ رَبِّ الْعَالَمينَ﴾ ودخل ضمن طائفة الذين أنعمت عليهم.

النموذج الثاني من العوالم التي شاهدها ذلك السائح هو أنه:

بعدما غادر ذلك السائح سفينةَ الأرض، دخل عالم الإنسان والحيوانات. فنظر إلى العالم بمنظار الحكمة الطبيعية غير المستلهِمة للحياة والروح من الدين، فرأى أن حاجاتٍ غير محدودة لذوي حياة لا يحصون، وأعداءً غير محدودين محيطون بهم يؤذونهم ويُلحِقون بهم أضرارا جسيمة في حوادثَ قاسية لا رحمة فيها، وهم لا يملكون من رأس المال إلّا واحدا من ألف بل واحدا من مائة ألف إزاء تلك الحاجات. وليس في اقتدارهم تجاه تلك الأمور والأشياء المضرة إلّا واحد من مليون! فتألم السائح أمام هذه الحالة التي تثير الرثاء والرهبة والألم -لما يحمل الإنسان من علاقات الرقة الجنسية والشفقة النوعية والعقل- وتألّم لحالهم ألما شديدا وحَزِن عليهم حزنا يشعره بآلام اليأس كالعذاب الشديد في جهنم، فندم ألف ندم على دخوله هذا العالم الحزين النكد.

وإذ هو يكابد هذه الآلام ويعاني منها ما يعاني إذا بحكمة القرآن الكريم تمدّه وتسعفه، مسلّمة له مِنظارَ ﴿الَّذينَ اَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾  قائلة له: انظر.. فنظر ورأى:

أن كل اسم من أسماء الله الحسنى أمثال: الرحمن، الرحيم، الرزاق، المنعم، الكريم، الحفيظ، قد أشرق كالشمس الساطعة، وذلك بتجلي ﴿اَللّٰهُ نُورُ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ﴾ عند بروج الآيات الكريمة: ﴿مَا مِنْ دَٓابَّةٍ اِلَّا هُوَ اٰخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا﴾ (هود:56) ﴿وَكَاَيِّنْ مِنْ دَٓابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَاۗ اَللّٰهُ يَرْزُقُهَا وَاِيَّاكُمْ﴾ (العنكبوت:60) ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنٓي اٰدَمَ﴾ (الإسراء:70) ﴿اِنَّ الْاَبْرَارَ لَفي نَعيمٍ﴾ (الانفطار:13)

فانغمرت دنيا الإنسان والحيوان بتلك الرحمة السابغة والإحسان العميم حتى كأنها تحولت إلى جنة موقتة. فعلم السائح أن هذه الدنيا بما فيها تعرّف تعريفا جيدا المُضيّف الكريم لهذا المَضيف الجميل الجدير بالمشاهَدة، المليئ بالعبر، فحمد الله سبحانه ألف حمد قائلا: الحمد لله رب العالمين.

النموذج الثالث من سياحة السائح التي تحوى مئات من مشاهداته:

إن ذلك السائح في الدنيا، الذي يريد معرفة خالقه، من خلال تجليات أسمائه الحسنى وصفاته الجليلة خاطب عقله وخياله قائلا: هيا لنصعد إلى السماوات العلى كالأرواح والملائكة تاركين أجسادنا في الأرض، ولنسأل عن خالقنا أهلَ السماوات. فركب العقلُ الفكرَ والروحُ الخيالَ وصعدوا جميعا إلى السماء متخذين علمَ الفلك مرشدَهم، ونظروا بمنظار «الضالين.. المغضوب عليهم» أي بمنظار الفلسفة التي لا تعير للدين بالا، فشاهد السائح: أن آلاف الأجرام والنجوم المستطيرة نارا وَتَكْبُرُ الأرضَ ألف مرة وتنطلق وتجرى متداخلة أسرعَ من سرعة القذائف مائة مرة وهي جامدة لا شعور لها، كأنها سائبة، حتى إن ما أخطأت إحداها سبيلَها لدقيقة واحدة مصادفةً واصطدمت مع أخرى لا شعور لها اختلط الحابل بالنابل وعمّت الفوضى وحدث ما يشبه القيامة في ذلك العالم غير المحدود.

فما من جهة نظر إليها السائح إلّا وأورثته الوحشةَ والدهشة والحيرة والخوف، فندم على صعوده إلى السماء ألف ندم، إذ قد اختل العقل والخيال واضطربا كليا. حتى ليقولا: إننا لا نريد معرفة مثل هذه المعاني القبيحة الأليمة المعذبة كعذاب جهنم، بل نربأ بأنفسنا حتى عن مشاهدتها، لأن وظيفتنا الأساس رؤية الحقائق الجميلة وإراءتها، وإذ يقولان هكذا إذا بتجل مِن ﴿اَللّٰهُ نُورُ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ﴾ أشرقت الأسماء الإلهية: «خالق السماوات والأرض» و«مسخر الشمس والقمر» و«رب العالمين» وأمثالها.. أشرقت كالشمس من بروج الآيات الكريمة:

﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَٓاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابيحَ ﴾ (الملك:5) ﴿اَفَلَمْ يَنْظُرُٓوا اِلَى السَّمَٓاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا﴾ (ق:6) و﴿ثُمَّ اسْتَوٰٓى اِلَى السَّمَٓاءِ فَسَوّٰيهُنَّ سَبْعَ سَمٰوَاتٍ﴾ (البقرة:29)

فملأت أنوار تلك الأسماء السماوات كلها بالنور والملائكة. وحوّلتها إلى مسجد عظيم وجامع كبير ومعسكر مهيب. فدخل ذلك السائح ضمن طائفة ﴿الَّذينَ اَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ ونجا من ظلمات ﴿كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ وإذا به يرى مملكة جميلة مهيبة منسقة كالجنة..
فترقت قيمةُ العقل والخيال وسمت وظائفهما ألف درجة لما شاهدا في كل جانب منها من يعرّف بالخالق الجليل.

وهكذا ننهي هذا البحث الواسع مكتفِين بهذه الإشارة القصيرة جدا مُحِيلِينَ سائر مشاهدات السائح في الكون إلى رسائل النور قياسا على هذه النماذج الثلاثة المذكورة من بين مئات النماذج لدى سياحته لمعرفة واجب الوجود من خلال تجليات أسمائه تعالى. ونحاول بإشارة في منتهى الاختصار معرفةَ خالق الكون -كمعرفة ذلك السائح- وذلك من خلال آثارِ وتجلياتِ صفات «العلم» و«الإرادة» و«القدرة» فقط بين الصفات السبع الجليلة لخالقنا ومن حجج تحقق تلك الصفات الثلاث الجليلة، ونحيل تفاصيلها إلى رسائل النور.

إن الفقرة العربية الآتية هي وردي التفكري الدائم المستخلَص من خلاصة الحزب النوري العربي، التي تبيّن ثلاث مراتب من المراتب الثلاث والثلاثين لجملةِ «الله أكبر». فنشير ضمن شرحها وما يشبه ترجمتها بإشارات قصيرة إلى ما أشغل كثيرا علماء الكلام وعلماء العقائد من معرفة تلك الصفات بتجلياتها في الكون والتصديق بها بإيمان راسخ بعين اليقين. فهذه الفقرة العربية تفتح سبيلا إلى الإيمان الكامل بتلك الصفات الثلاث -بعلم اليقين- على وجود واجب الوجود ووحدانيته بدرجة البداهة:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّٰهِ الَّذي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَريكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبيرًا﴾ (الإسراء:111).

اَلله أكبرُ من كل شيء قدرةً وعلما إذ هو العليمُ بكل شيءٍ بعلمٍ محيطٍ لازمٍ ذاتيّ (حاشية) ولله المثل الأعلى: كلزوم الضياء المحيط للشمس. للذاتِ يلزم الأشياء لا يمكنُ أن ينفكّ عنهُ شيء بسر الحضور والشهود والإحاطة النورانية، وبسر استلزام الوجود للمعلومية وإحاطة نور العلم بعالم الوجود.

نعم، فالانتظامات الموزونة.. والاتزانات المنظومة.. والحِكَم القصدية العامة.. والعنايات المخصوصة الشاملة.. والأقضية المنتظمة.. والأقدار المثمرة.. والآجال المعينة والأرزاق المقننة.. والإتقانات المفننة.. والاهتماماتُ المزينة.. وغاية كمال الانتظام والانسجام والاتساق والإتقان والاتزان والامتياز، المطلقات في كمال السهولة المطلقة.. دالّات على إحاطةِ علمِ علّام الغيوب بكل شيء ﴿اَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطيفُ الْخَبيرُ﴾ (الملك:14) فنسبةُ دلالةِ حسنِ صنعةِ الإنسان على شعور الإنسان إلى نسبةِ دلالة حسن خلقة الإنسان على علم خالق الإنسان كنسبة لُميعةِ نجيمة الذبيبة في اللّيلة الدّهماء إلى شعشعة الشّمس في رابعة النّهار.

نشير بإشارات قصيرة إلى «العلم الإلهي». هذه الحقيقة الإيمانية الجليلة، ضمن ترجمة قصيرة جدا لهذه الفقرة العربية محيلين تفاصيلها إلى رسائل النور، فنقول: (حاشية) لقد كُتب القسم الثاني أثناء مكابدةِ مرض رهيب لم أره طوال حياتي من جراء تسمم، فأرجو النظر إلى تقصيراتي بنظر المسامحة. ويستطيع «خسرو» أن يصلح ويبدل ويعدل ما يراه غير مناسب.

نعم، كما أن الرحمةَ تبين نفسها كالشمس بأرزاقها العجيبة وتُثبت بدلالة قاطعة أن وراء ستار الغيب رحمانًا رحيما، كذلك «العلم» الذي اتخذ موقعا ضمن مئات الآيات القرآنية، والذي هو -من جهةٍ- أُولى الصفات السبع الجليلة يبين نفسه كضوء الشمس بثمراتِ وحكمِ النظام والميزان، ويدل على وجود عليم بكل شيء دلالة مطلقة.

نعم، إن نسبة دلالةِ حُسن صنعةِ الإنسان المنتظمة المقدّرة على شعوره وعلمه، ودلالةِ حُسن خلق الإنسان في أحسن تقويم على علم خالق الإنسان وحكمته جل وعلا كنسبة لُمَيعة اليراعة في الليلة الدهماء إلى شعشعة الشمس في رابعة النهار.

والآن قبل الخوض في بيان دلائل العلم الإلهي، فإن دلالة تجليات تلك الصفة المقدسة في أنواع الكائنات على الذات المقدسة دلالة واضحة جدا قد شهد عليها وتضمنها الحوارُ الذي دار ليلة المعراج النبوي، لدى حظوته ﷺ بالحضور والخطاب الإلهي لَمَّا قال:

«التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله» باسم جميع ذوي الحياة وأنواع المخلوقات، حيث هو مبعوث ورسول، فقدّم إلى خالقه الجليل هدايا جميعِ ذوي الحياة، في طرازِ معرفةِ جميع تلك المخلوقات ربَّها بتجليات العلم، قال ذلك في موضع السلام وبدلا عن جميع ذوي الشعور.

أي إن الطوائف الأربع لجميع ذوي الحياة تقدّم بالكلمات الأربع: «التحيات المباركات الصلوات الطيبات» وبتجليات العلم الأزلي الأبدي، تحياتِها وتهانيَها وعبوديتَها ومعرفتها الجميلة الطيبة إزاء علام الغيوب، لذا غدت قراءةُ هذه المحاورة المعراجية المقدسة بمعناها الواسع فرضا على جميع المسلمين في التشهد.

نبين معنى من معاني تلك المحاورة السامية بأربع إشارات مختصرة جدا مُحِيلين إيضاحها إلى رسائل النور.

الكلمة الأولى: هي «التحيات لله»

ومعناها باختصار هو:

إذا ما صنع صَنَّاع ماهر ماكنةً خارقة، بما يملك من علم واسع وذكاء خارق، فإن كل مَن يشاهد تلك الماكنة العجيبة يهنئ ذلك الصَنَّاعَ تهنئةَ تقديرٍ وإعجاب. ويقدم له هدايا وتحيات مادية ومعنوية مع ثناء مفعم بالاستحسان. والماكنةُ بدورها تهنئ وتبارك صناعَها بلسان الحال وتقدم هدايا وتحيات معنوية له، وذلك بإظهار رغباتِ ذلك الصَّنَّاع كاملة، وعرضِ خوارقِ صنعته الدقيقة وإبرازِ حذاقته العلمية.

كذلك فإن جميع طوائف ذوي الحياة في الكائنات كلها، بل كل طائفة منها، وكل فرد من أفرادها، إنما هي ماكنة معجزة بكل جوانبها، تهنئ صانعَها الجليل الذي يعرّف نفسه بجلوات علمه الواسع الذي يبصر علاقة كل شيء بأي شيء كان، ويوصل إليه كلَ ما يلزم حياته في وقته، تهنّئه وتزجي إليه بالتحيات وتباركه بقولها: «التحيات لله» بألسنة أحوال حياتها، كما تهنئه ألسنة أقوال ذوي الشعور كالإنس والجن والملك. فيقدّم جميعُ ذوي الحياة ثمنَ حياتهم مباشرة بمعنى العبادة إلى خالقهم الذي يعلم أحوال المخلوقات كلها. فعبّر الرسول الكريم محمد ﷺ لدى حضوره أمام الواجب الوجود في ليلة المعراج باسم جميع ذوي الحياة بقوله: «التحيات لله» بدلا من السلام، مقدِّما تحياتِ طوائفِ جميع ذوي الحياة وهداياهم وسلامهم المعنوي.

نعم، إن كانت ماكنة منتظمة اعتيادية تدل على صانع ماهر حاذق بتركيبها المنظم الموزون، فإن كل ماكنة من المكائن الحية التي تملأ الكون والتي لا تعد ولا تحصى تُظهر إذن ألفَ معجزة ومعجزة عِلمية، ولاشك أن ذوي الحياة يدلون على وجوب وجود صانعهم السرمدي وعلى معبوديته بتجليات العلم التي هي كضوء الشمس بالنسبة لدلالة تلك الماكنة التي هي كضوء اليراعة.

الكلمة الثانية السامية من كلمات المعراج: هي «المباركات»

لما كانت الصلاة معراج المؤمن كما هو ثابت في الحديث الشريف، وفيها أنوار تجليات المعراج الأعظم، وأن سائح الدنيا قد وجد خالقه العلّام للغيب بصفة العلم في كل عالم. فنحن كذلك ندخل مع ذلك السائح عالَم المباركات الواسع والذي يستنطق الآخرين بالتبريك والتهنئة، ونحاول أن نعرف خالقنا بعلم اليقين -مثل ذلك السائح- من خلال التجليات المعجزة الدقيقة للصفة الإلهية الجليلة، صفةِ العلم. وذلك أثناء مشاهدة ذلك العالم، عالمِ المباركات ومطالعته، ولاسيما صغار ذوي الأرواح اللطيفين المباركين الأبرياء، والنوى والبذور التي هي عُليبات تضم مقدّرات ذوي الحياة وبرامجها.

نعم، إننا نشاهد بأبصارنا أن جميع أولئك الصغار اللطيفين الأبرياء وتلك المخازنِ والعُليبات المباركة، تنتفض جميعُها وكل فرد منها دفعة بعلمِ عليم حكيم للمضي إلى ما خُلق لأجله حتى تستنطق تلك الحركات كلَ ناظر إليها بنظر الحقيقة بالقول: بارك الله، ما شاء الله.. ألف ألف مرة.

نعم، فالنُطف مثلا والبيوض والبذور والنوى، كل منها ضمن نظام دقيق آت من العلم.. وأن ذلك النظام ضمن ميزان آت من مهارة كاملة.. وذلك الميزان ضمن تنظيم جديد.. وهذا ضمن مكيال ووِزان جديد.. وهذا بدوره ضمن تربية.. وتمييز.. وعلامات فارقة مقصودة عن متشابهات أمثالها.. وهذه ضمن تزيين وتجميل متقن.. وهذا أيضا ضمن أجهزة كاملة وتصوير ملائم دقيق حكيم.. وهذه ضمن اختلاف لحوم تلك المخلوقات والثمرات وما يؤكل منها، لإشباع المحتاجين إلى الرزق إشباعا كريما بما ينسجم وأذواقهم.. وهذا أيضا ضمن نقوش وأشكال من الزينة المتباينة زُيّنت بعلم وإعجاز.. وهذه ضمن روائح طيبة متنوعة.. وطعومات لذيذة متباينة، بحيث إن انكشاف صور جميع تلك المخلوقات وتمايزَ بعضها عن بعض بكمال الانتظام بلا خطأ ولا سهو في سرعة مطلقة.. وَوُسْعَة مطلقة.. مع أنها في كثرة مطلقة.. ودوام تلك الحالة الخارقة في كل موسم، يجعل كل فرد والأفراد جميعا يَظهرون بهذه الألسنة الخمسة عشرة العلم الإلهي، ويلفتون الأنظار إلى المهارة الخارقة لربهم ويدلّون بها على علمه المعجز. فيعرّفون بجلاء كالشمس صانعَهم الواجب الوجود، علام الغيوب.

فشهادتهم هذه الواسعةُ الساطعة جدا وتهانيهم وتقديرهم لصانعهم، هي التي عبّر عنها النبي ﷺ الذي تكلم باسم جميع المخلوقات في ليلة المعراج وقال: «المباركات» بدلا عن السلام.

الكلمة الثالثة: وهي «الصلوات»

إن مائة مليون من أهل الإيمان يعلنون تلك الكلمة المقدسة التي قيلت في المعراج المحمدي الأكبر، وتقال في المعراج الخاص بالمؤمن، أي في تشهّد الصلاة، في كل يوم في الأقل عشر مرات، باتّباعهم الرسول الكريم ﷺ يعلنونها في أرجاء الكون كله مقدِّمين إياها إلى الحضرة الربانية.

وبناء على البيان الواضح والإثبات القوى القاطع في رسالة المعراج «الكلمة الحادية والثلاثين» وإيضاحها جميعَ حقائق المعراج، حتى إزاء خطابها للملحد المنكر المتعنت، نُحيل تفاصيل البحث وحججه إلى تلك الرسالة، إلّا أننا نشير إشارة في منتهى الاختصار إلى المعنى الواسع لهذه الكلمة المعراجية الثالثة والذي يبينه العوالم العجيبة لطوائف ذوي الأرواح والمشاعر، فنشاهد تلك العوالم محاوِلين معرفةَ وحدانيةِ خالقنا ووجودِه وكمالِ رحمانيته ورحيميته وعظمةِ قدرته وشمول إرادته، وذلك من خلال تجليات العلم الأزلي.

نعم، إننا نشاهد في هذا العالم أن كل ذي روح يستشعر بالأحاسيس وبالفطرة -وإن لم يكن بالشعور والعقل- أنه يعانى عجزا وضعفا لا يُحدّان بحدودٍ مع أن أعداءه وما يؤلمه لا يُعدّون، وأن كلّا منهم يتقلب في فقر وحاجة لا حدود لهما مع أن حاجاته ومَطالِيبَه لا حدّ لها. ولما كان اقتداره ورأس ماله لا يكفي لواحد من ألف منها، تراه يستغيث ويبكي بكل ما يملك من قوة، ويتضرع فطرةً وضمنا. وإذ يلتجئ إلى ديوانِ عليمٍ قدير بصوته الخاص وبلسانه الخاص وبدعواتٍ وصلوات وتوسلات وتضرعات ونوع من صلوات خاصة به، إذا بنا نشاهد أن قديرا حكيما عليما مطلقا يعلم كل حاجة من حاجات أولئك الأحياء ويقضيها لهم، ويبصر كل داء من أدوائهم ويسعفها لهم، ويسمع كل نداء ودعاء يدعونه فطرةً ويستغيثون به ويستجيب لهم، فيحوّل سبحانه وتعالى بكاءهم إلى ابتساماتٍ حلوة ويبدل استغاثاتهم إلى أنواع من الحمد والشكر.

إن هذا المدد المتسم بالحكمة والعلم والرحمة يدل دلالة واضحة بتجليات العلم والرحمة على المجيب المغيث الرحيم الكريم. فجميع الصلوات والعبادات التي تنطلق من هذه العوالم، عوالمِ ذوي الأرواح، الصاعدة إلى ذلك المجيب المغيث قد عَبّر عنها -بهذا المعنى- وقدّمها وخصصها محمدٌ ﷺ في المعراج الأكبر، ويرددها كل مؤمن في المعراج الأصغر في كل صلاة بـ«الصلوات الطيبات لله».

الكلمة الرابعة السامية: وهي «الطيبات لله»

لما كانت حقائقُ كثيرة لرسائل النور تتخطر على قلبي في أذكار الصلاة، فقد رأيتُني كأنني أنساق -بناء على هذه الحكمة- إلى بيانِ حقائقِ كلمات سورة الفاتحة والتشهد بإشارات قصيرة دون اختيار منى.

وهكذا فالكلمة القدسية: «الطيبات» التي قيلت في المعراج المحمدي التي تحوى معاني الطيبات التي لاتحد والمنطلقة من الإنس والجن والملك والروحانيين الذين هم أهل المعرفة والإيمان والشعور الكلي، والذين يجمّلون الكون بأسره بطيباتهم وحسناتهم وعباداتهم الجميلة، المتوجهة كلها إلى عالم الجميلات، والذين يدركون إدراكا كاملا الجمالاتِ والمحاسنَ التي لاتحد للجميل المطلق السرمدي، والجمالَ الدائم لأسمائه الحسنى التي تجمّل الكون فيقابِلون بالعبادات الكلية المفعمة بالعشق والشوق، وبالروائح الطيبة العطرة للإيمان الساطع وللمعارف الواسعة وللحمد والثناء التي يقدمونها تجاه خالقهم الجليل..

وبحكم هذا المعنى الواسع لتلك الطيبات التي لا تحد وبمضمون ما قيل في المعراج، تُكرِر الأمة كلها تلك الكلمةَ المقدسة في التشهد يوميا دون ملل ولا سأم.

نعم، إن هذا الكون مرآة تعكس الجمال السرمدي والحسن غير المحدود، بل تجلياتِه سبحانه. وما في الكون من جمال وحُسن آت من ذلك الحسن السرمدي، ويتجمل بالانتساب إليه فيرقى ويعلو.. إذ لولا ذلك الانتساب لتحول الكون إلى مأتم موحش وأخلاط ودمار وفوضى ضاربة الأطناب.

ويُدرك ذلك الانتساب بمعرفة الإنس والجن والملك والروحانيين وبتصديقهم، وهم الدعاة الأدلاّء إلى سلطنة الألوهية، حتى إن الحمد الجميل والثناء الحسن الذي يرفعه أولئك الدعاة ونَشْرَ ثنائهم على معبودهم وكلماتهم إلى كل ناحية في الكون وإلى العرش الأعظم تقف إزاءها ذرات الهواء على أهبة الاستعداد لأداء هذه المهمة وكأنها ألسنة ناطقة مصغرة وآذان صاغية صغيرة، لأجل تقديم تلك الكلمات الطيبات إلى الحضرة الإلهية.. فخطر إلى قلبي أن هناك احتمالا قويا بمنح تلك المهمة الخارقة جدا والعجيبة إلى الهواء.

وهكذا فكما أن الإنس والمَلَك يعرّفون المعبود الجليل بإيمانهم وعباداتهم، كذلك الحكيم ذو الجلال يعرّف نفسه تعريفا ظاهرا ساطعا بما أودع من استعدادات جامعة كثيرة في الدعاة وبما جهّزهم به من أجهزة بديعة خارقة وبما فيهم من دقائق علمية، وجَعَل كلا منهم ذا ارتباط مع الكون بأسره وكأن كلا منهم كون مصغر.

فمثلا: إنّ خلق القوة الحافظة والخيالية والمفكرة وأمثالها من المكائن العجيبة في موضع صغير في دماغ الإنسان لا يتجاوز حجم جوزة واحدة، وجَعْلَ القوة الحافظة بمثابة مكتبة ضخمة، يبين أنه سبحانه وتعالى يُظهر نفسه بتجليات العلم الأزلي بيانا واضحا كالشمس في رابعة النهار. (حاشية) إن مرضي الشديد جدا لا يسمح بالإيضاح، وما كتبته إنما هو مصدر ومساعدة لمهمة «خسرو» في الترجمة ليس إلّا.