إن الفقرة الآتية تشير إلى أساس المراتب وتلخص باختصار شديد الفقرةَ العربية:

[إذ هو القدير على كل شيء بقدرة مطلقة محيطة ضرورية ناشئة لازمة ذاتية للذات الأقدسية. فمحال تداخل ضدها، فلا مراتب فيها، فتتساوى بالنسبة إليها الذرات والنجوم والجزء والكل والجزئي والكلي والنواة والشجر والعالم والإنسان].

أي هو القدير على كل شيء بقدرةٍ محيطة بكل شيء، ولازمةٍ بلزوم ذاتيّ وواجبة ضرورية ناشئة -كما في علم المنطق- للواجب الوجود، محال انفكاكُها ولا يمكن ذلك قطعا.

فما دامت مثل هذه القدرة لازمة بمثل هذا اللزوم للذات الأقدس، فلاشك أن العجز الذي هو ضد القدرة لا يدخلها بأية جهة كانت، فلا يكون عارضا للذات الأقدس. وحيث إن وجود المراتب في شيء، هو بتداخل ضده فيه -فمثلا: مراتب الحرارة ودرجاتها هي بدخول البرودة، ودرجات الجمال هي بمداخلة القبح- فمحال دنو العجز الذي هو ضده من هذه القدرة الذاتية، فلابد أنْ لا مراتب في تلك القدرة المطلقة. وحيث لا مراتب فيها، تتساوى النجوم والذرات إزاءها، ولا فرق بين الجزء والكل والفرد الواحد وجميع نوعه والإنسان والكون بالنسبة لتلك القدرة. وإحياءُ نواة واحدة والشجرةِ الباسقة ونفسٍ واحدة وجميعِ ذوى الأرواح في الحشر سواءٌ إزاء تلك القدرة ويسيرٌ عليها. فلا فرق لديها بين الكبير والصغير والقليل والكثير. والشاهدُ الصادق القاطع على هذه الحقيقة هو ما نشاهده في خلق الأشياء من كمال الصنعة والنظام والميزان والتميز والكثرة في السرعة المطلقة مع السهولة المطلقة واليسر التام. فهذه الحقيقة المذكورة هي مضمون المرتبة الأولى التي هي:

[وبسر مشاهدة غاية كمال الانتظام، الاتزانِ، الامتيازِ، الإتقانِ المطلقات، مع السهولة المطلقة في الكثرة والسرعة والخلطة]

المرتبة الثانية: وهي: [وبسر النورانية والشفافية والمقابلة والموازنة والانتظام والامتثال]

نحيل إيضاح هذه المرتبة وتفاصيلها إلى ختام «الكلمة العاشرة» وإلى «الكلمة التاسعة والعشرين» وإلى «المكتوب العشرين» ونشير إليها هنا إشارة مختصرة:

نعم، كما أن دخولَ ضوء الشمس وصورتها -من حيث النورانية- بالقدرة الربانية في سطح البحر وفي حَبابه كلها يسيرٌ، كدخوله في قطعة زجاجية، كلاهما سواء. كذلك القدرة النورانية لمن هو نور الأنوار، فإنّ خلقها للسماوات والنجوم وتسييرها يسيرٌ عليها كخلق الذباب والذرات وتسييرِها، فلا يصعب عليها شيء.

وكما توجد -بخاصيةِ الشفافيةِ- صورةُ الشمس المثاليةُ في مرآة صغيرة وفي بؤبؤ العين بالقدرة الإلهية، فبالسهولة نفسها يُعطي ذلك الضوء وتلك الصور بالأمر الإلهي إلى جميع الأشياء اللماعة وإلى جميع القطرات وجميع الذرات الشفافة وإلى سطح البحار. كذلك فإن جلوة القدرة المطلقة وتأثيرها في إيجاد نفس واحدة هو بالسهولة نفسها في خلقها الحيوانات كلها حيث إن وجه الملكوتية والماهية للمصنوعات شفاف ولماع. فلا فرق بالنسبة إلى تلك القدرة بين القليل والكثير والصغير والكبير.

وكما إذا وُضع جوزتان في كفتي ميزان حساس متقن يكيل الجبال، ثم وُضعت نواة صغيرة في إحدى الكفتين فإنها ترفعها بسهولة إلى قمة جبل وتخفض الأخرى إلى حضيض الوادي، وإذا ما وضع جبلان متساويان بدلا عن الجوزتين، فإن أحد الجبلين يرتفع إلى السماوات وينخفض الآخر إلى أعماق الوديان بالسهولة نفسها فيما إذا وضعت في إحدى الكفتين نواة صغيرة.. كذلك: «الإمكان مساوي الطرفين» حسب تعبير علم الكلام، أي إن وجود الأشياء الممكنة والمحتملة -أي غير الواجبة والممتنعة- وعدمها سواء، لا فرق بين وجودها وعدمها إن لم يوجد سبب.

ففي هذا الإمكان والمساواة بين الوجود والعدم، يتساوى القليل والكثير، الصغير والكبير. وهكذا فالمخلوقات ممكنات، وحيث إن وجودها وعدمها سواء ضمن دائرة الإمكان، فإن قدرة الواجب الوجود الأزلية المطلقة كما تعطي الوجودَ لممكن واحد بسهولة ويسر، تُلبِس كلَّ شيء وجودا يلائمه مُخلة للتوازن بين الوجود والعدم. وتنـزع عنه لباس الوجود الظاهري إن كانت قد انتهت مهمته، وترسله إلى العدم صورةً وظاهرا، بل إلى الوجود المعنوي في دائرة العلم.

بمعنى إن أُسندت الأشياء إلى القدير المطلق وفوّض أمرها إليه سبحانه فإنّ إحياء الربيع يَسْهُل كإحياء زهرة واحدة، وإحياء الناس جميعا في الحشر يسهل كإحياء نفس واحدة. بينما إذا أُسند خلق الأشياء إلى الأسباب فإنّ خلقَ زهرة واحدة يصعب كصعوبة خلق الربيع كاملا، وخَلْقَ ذبابة واحدة كخلق الأحياء بأسرها.

وكذا كما أن سفينة عظيمة وطائرة ضخمة تتحرك بمجرد مس مفتاح فيهما، بسر الانتظام، بسهولة نصبِ الساعة وتشغيلها. كذلك فإن إعطاء كل شيء كلي وجزئي، صغير وكبير قليل وكثير، قالبا معنويا، ومقدارا خاصا وحدودا معينة، بدساتيرِ العلم الأزلي، وبقوانينِ الحكمة السرمدية وبالأصول المعينة والجلوات الكلية للإرادة الإلهية، يجعل الأشياء كلها ضمن الانتظام العلمي التام وقانون الإرادة. فلاشك أن تحريك المنظومة الشمسية بقدرة القدير المطلق وجريها سفينةَ الأرض في مدارها السنوي هي بسهولة جريها الدمَ وما فيه من كريات حمر وبيض وتدوير ذراتها، جريا ودورانا ضمن نظام وحكمة حتى إنها تخلق إنسانا مع أجهزته الخارقة من قطرة ماء ضمن نظام الكون دون تعب ولانصب.

بمعنى أنه إذا أسند إيجاد الكون إلى تلك القدرة الأزلية المطلقة يكون الأمر سهلا كإيجاد إنسان واحد، وإن لم يُسنَد إليها فإنّ خلق إنسان واحد بأجهزته العجيبة ومشاعره الدقيقة، يكون مُشْكِلا وعسيرا كخلق الكون كله.

وكذا كما أن قائدا واحدا بأمره جنديا واحدا بالهجوم يسوقه إلى الهجوم، بسر الإطاعة والامتثال وتَلَقّي الأوامرِ، فإنه بالأمر نفسِه وبالسهولة نفسِها يسوق جيشا عظيما مطيعا أيضا إلى الهجوم.

كذلك المصنوعات التي كل منها في كمال الطاعة لقوانين الإرادة الإلهية لتَلَقّي إشاراتِ الأمر الرباني التكويني، وكالجندي المتأهب وكالعبد المأمور في مَيل فطريّ وشوق فطري ضمن دائرةِ دساتيرِ خط السير الذي عيّنه العلمُ الأزلي والحكمة الأزلية، وهو أكثر طاعةً وانقيادا للأوامر بألف مرة عن طاعة جنود الجيش، فهذه المصنوعات ولاسيما ذوي الحياة منها عندما يتلقى كل منها الأمر الرباني: «أُخْرُجْ من العدم إلى الوجود وتقلّدْ وظيفةً» تُلبِسه القدرةُ الإلهية بسهولة مطلقةٍ وجودا خاصا بالشكل الذي عيّنه العلمُ وبالصورة التي خصصتْها الإرادةُ وتأخذ بيده إلى ميدان الوجود.

وكذلك بالسهولة نفسها وبالقوة والقدرة نفسيهما يخلق سبحانه جيش الأحياء في الربيع ويُوكِل إليه الوظائفَ.

بمعنى أن كل شيء إذا أُسند إلى تلك القدرة، فإن إيجاد جيوش الذرات كلها وفِرَقِ النجوم كلها سهل كسهولةِ إيجادِ ذرة واحدة ونجم واحد، بينما إذا أُسند إلى الأسباب فإنّ خلق ذرة في بؤبؤ عينِ كائنٍ حي وفي دماغه -بقابليةٍ لتؤديَ الوظائف العجيبة- يكون ذا مشكلات وصعوبة كخلقِ جميعِ الحيوانات.

المرتبة الثالثة: وهي: [وبسر إمداد الواحدية ويُسر الوحدة وتجلي الأحدية]

سننظر إلى مضمونها بإشارات قصيرة جدا:

كما أن قائدا عظيما وسلطانا مهيبا تَسهُل إزاءه إدارةُ أمور البلاد الواسعة والأمة العظيمة كسهولة إدارة أهالي قرية واحدة، وذلك من حيث وحدةُ حاكميتِه وعملُ رعيته وفق أوامره وحده. إذ من حيث الواحدية في حكمه تكون أفرادُ الأمة كأفراد الجيش وسائلَ للتسهيلات، فتطبق الأوامر والقوانين بيُسر وسهولة. بينما إذا فوّضت الأمور إلى حكام مختلفين، ففضلا عن سقوطها في هاوية المشاكسات والاضطرابات فإن إدارة قرية واحدة بل بيت واحد تكون ذات مشكلات كإدارة تلك البلاد الواسعة.

ثم إن كل فرد من أفراد تلك الأمة المطيعة المرتبطة بقائد واحد، كالجندي يستند إلى قوة ذلك القائد ويعتمد على مخازنِ أعتدته ويستمد من جيشه العظيم، لذا يستطيع أن يأسر ملكا من الملوك، وينجز أعمالا هي أضعافُ أضعافِ ما يؤديه من عمل شخصي. فيكون انتسابه إلى ذلك السلطان قوة عظمى لا منتهى لها واقتدارا لا حدود له فيؤدى بها أعمالا جسيمة جليلة، بينما إذا انقطع ذلك الانتساب، فإن تلك القوة الهائلة تذهب أدراج الرياح، فلا يمكن أن يؤدي من الأعمال إلّا بمقدار ما في ساعده من قوة جزئية، وما يحمله على ظهره من أعتدة قليلة وطلقات محدودة. ولو طلب من ذلك الجندي ما يؤديه الجندي المستند المذكور من أعمال للزم وجود قوة جيش كامل في ساعده ومداخر أعتدة السلطان على ظهره!

كذلك الأمر، فإن سلطان الأزل والأبد، الصانع القدير، من حيث واحدية سلطنته وواحدية حاكميته المطلقة يدير الكون بسهولةِ إدارةِ مدينةٍ واحدة، ويخلق الربيع بسهولةِ خلق حديقة واحدة، ويحيي جميع الموتى في الحشر بسهولة خلق أوراق أشجار تلك الحديقة وأزاهيرها وثمراتها في الربيع المقبل، ويخلق الذباب بنظام نسر عظيم في سهولة ويسر، ويجعل إنسانا في حكم كونٍ عظيم بسهولة ويسر أيضا.

بينما إذا أُسند الأمر إلى الأسباب فإن خلق جرثومة واحدة يكون صعبا بصعوبةِ خلقِ كركدن عظيم، وخلق ثمرة من الثمرات بصعوبة خلق شجرة كاملة ذات مشكلات.. بل يلزم أن يُعطى كل ذرة من الذرات العاملة في وظائفَ عجيبة في حجيراتِ جسم الكائن الحي بصرا تُبصر به كلَّ شيء وعلما تدرِك به كلَ شيء، لتؤديَ تلك الوظائف الحياتية الدقيقة المتقنة.

ثم إن اليسر والسهولة يَبلغان في الوحدة بدرجة، بحيث يَسهل ورود تجهيزات جيش كامل من يدٍ واحدة من مصنع واحد، كسهولة تجهيز جندي واحد بالمعدات العسكرية، وإذا ما تدخلت أيدٍ مختلفة أخرى وأُخذ كل جهاز من تلك الأجهزة المتنوعة من مصانع متباينة، فإن تجهيز جندي واحد -من حيث الكمية- لا يمكن إلّا بألف مشكلة ومشكلة، إذ تصعب الأمور إلى صعوبةِ تجهيزِ ألف جندي، حيث يتدخل أُمراء متعددون وضباط عديدون.

ثم إن إدارة ألف جندي والآمرية عليهم إذا أُسندت إلى ضابط واحد، تسهل سهولةَ إدارة جندي واحد، من جهة، بينما إذا تُركت الإدارة إلى عشرة ضباط أو إلى الجنود أنفسهم، فيحدث كثير من الاختلاطات والفوضى والمشكلات. كذلك الأمر إذا أُسند كل شيء إلى الواحد الأحد فإنه يسهل كسهولة الشيء الواحد، بينما إذا أُسند إلى الأسباب فإن أمر كائن حي واحد يكون صعبا وعسيرا كالأرض كلها، بل يكون غير ممكن قطعا.

بمعنى أن في الوحدة سهولةً بدرجة الوجوب واللزوم، وفي الكثرة ومداخلة الأيدي تبلغ الصعوبةُ بدرجة عدم الإمكان.

فكما ذُكر في «المكتوبات» من كليات رسائل النور أنه إذا فوّض اختلاف الليل والنهار وحركات النجوم وتحولات الفصول السنوية كالخريف والشتاء والربيع والصيف إلى مدبّر واحد وآمر واحد، فإن ذلك الآمر الأعظم يأمر الأرض التي هي جندي من جنوده أَنْ: قُومي، دُورِي، سِيرِي وهي بدورها تنهض منجذبة بنشوة الأمر وتتحرك كالعاشق المولوي حركتين: يومية وسنوية، وتصبح وسيلة سهلة جدا لتحولات المواسم وحركات النجوم الظاهرية والخيالية، مُظهِرة السهولةَ التامة واليسر المتناهي في الوحدة.

ولكن لو تُرك الأمر -لا إلى ذلك الآمر الواحد- بل إلى الأسباب وإلى هوى النجوم ورغباتها، وقيل للأرض: قفي لا تجولي، فلربما يحصل وضع الأرض في حصول المواسم والليل والنهار بقطع ألوف النجوم والشموس التي هي أضخم من الأرض بألوف المرات مسافات تبلغ ملايين السنين بل مليارات السنين في كل ليلة وفي كل سنة!

أي يكون الأمر صعبا ومشكلا بدرجة المحال وغير الممكن.

وما في المرتبة الثالثة: من كلمة «تجلي الاحدية» تشير إلى حقيقة في منتهى السعة والعمق والدقة والعظمة، نحيل إيضاحها وإثباتها إلى رسائل النور مبينين نكتة من نكاتها ضمن تمثيل قصير جدا.

نعم، كما أن الشمس تنور الأرض كلَها بضيائها، وتصبح مثالا للواحدية، فهي بوجود صورتها ومثالها بألوانها السبعة وصورتها الذاتية في كل ما يقابلها من شيء شفاف كالمرآة فيها تصبح مثالا للأحدية.

فلو كان للشمس علمٌ وقدرةٌ واختيار وكانت للقطع الزجاجية وقطرات الماء والحباب التي تنعكس فيها الشُميسات قابليات، لكانت توجد شمس كاملة بقانون الإرادة الإلهية في كل منها وبجنب كل منها، توجد بصفاتها وبصورتها، من دون أن يعيق أو ينقص وجودُها في سائر الأماكن عن تصرفها شيئا، فتكون سببا لمظاهر كبيرة جدا بأمر القدرة الربانية وتأثيرها وحكمها. فتبين ما في الأحدية من سهولة فوق المعتاد.

كذلك الصانع الجليل فإنه باعتبار الواحدية يرى الأشياء كلَها وهو رقيب عليها بعلمه وبإرادته وبقدرته المحيطة بكل شيء، كما أنه من حيث الأحدية وبتجليها موجود جنب كل شيء ولاسيما ذوي الحياة، بأسمائه وصفاته الجليلة، بحيث يخلق بسهولة تامة في آن واحد الذبابةَ في نظام النسر، والإنسانَ في نظام الكون العظيم. فيَخلق ذوي الحياة بمعجزات كثيرة وكثيرة بحيث لو اجتمعت جميعُ الأسباب لِخلقِ بلبل واحد أو ذبابة واحدة لعجزت. فالذي يخلق بلبلا هو خالق الطيور لا غيره والذي يخلق إنسانا هو خالق الكون لا غيره.

المرتبة الرابعة والخامسة: هما.. [وبسر الوجوب والتجرد ومباينة الماهية، وبسر عدم التقيد وعدم التحيز وعدم التجزي]

إن نقل ما تفيده هاتان المرتبتان إلى أفهام عامة الناس عسير جدا، لذا نبين فحواهما باختصار مع ذكر بضع نكات قصيرة منهما.

أي إن قديرا مطلقا يملك وجودا هو أقوى وأمتن مراتبِ الوجود وهي مرتبة الوجوب الذي هو أزلي وأبدي والمنـزّه عن الماديات والمجرّد عنها، ويحمل ماهية مقدسة مباينة لجميع الماهيات.. هذا القدير المطلق يسيرٌ إزاءَ قدرته إدارةُ النجوم كإدارة الذرات، والحشرُ الأعظم سهل عليها كالربيع، وإحياءُ الناس جميعا في الحشر هيّن عليها كإحياء نفس واحدة.

لأن مقدار أنملة من نوع قوى من طبقات الوجود يمسك جبلا ضخما لطبقة خفيفة من طبقات الوجود ويديره. فمثلا المرآة، والقوة الحافظة وهما وجودان خارجيان -وهو وجود قوي- يمكنهما إن تضما وتديرا مائة من الجبال وألفا من الكتب من الوجود المثالي والمعنوي الذي هو ضعيف وخفيف.. وهكذا، فكم هو أدنى من حيث القوة الوجودُ المثالي من وجود خارجي، فإن أنواع الوجود الحادثة والعارضة للممكنات أيضا هي أدنى بألوف المرات وأخفُّ من وجودٍ واجب سرمدي أزلي، بحيث إن تجليا من ذلك الوجود المقدس بمقدار ذرة يدير عالَما من الممكنات.

آسف فإن أسبابا ثلاثة شبيهة بالمرض الناشئ من التسمم في الوقت الحاضر، لا تسمح لبيان هذه الحقيقة العظيمة بنكاتها. فأحيلها إلى رسائل النور وإلى وقت آخر بمشيئة الله.

المرتبة السادسة: وهي: [وبسر انقلاب العوائق والموانع إلى حكم الوسائل المسهِّلات].

أي كما أنه بقانون من جلوات الإرادة الإلهية والأمر التكويني -والذي تعبّر عنه العلومُ الحديثة بالعقدة الحياتية- تسري المواد اللازمة والأرزاق بتوجه تلك الإرادة والأمر من تلك العقدة الحياتية التي هي كمحرك ونابض لها إلى ثمراتِ شجرةٍ عظيمة فاقدة للشعور وإلى أوراقها وثمراتها، ولا تكون أغصانُها المتشعبة ولا جذوعُها القوية الصلدة عوائقَ وموانع دونها، بل تكون وسائلَ تيسيرٍ ووسائط تسهيل. كذلك في خلق الكون وإيجاد المخلوقات كلها تدع جميعُ الموانع الإحجامَ والممانعة إزاء تجلٍ للإرادة الإلهية ولتوجه الأمر الرباني، وتصبح وسيلةَ تسهيلٍ وتيسير. فالقدرةُ السرمدية تَخلُق الكونَ ومخلوقاتِ الأرض قاطبة بسهولة خلقها تلك الشجرةَ، لا يصعب عليها شيء. فلو لم تُسنَد جميع الخلق إلى تلك القدرة فإن إنشاء تلك الشجرة الواحدة وإدارتها تكون صعبةً صعوبةَ إدارةِ جميع الأشجار، بل صعوبةَ خلق الأرض وإدارتها. لأن كل شيء عندئذٍ يكون مانعا وحائلا. ولو اجتمعت الأسبابُ جميعها في هذه الحالة لا تستطيع أن ترسل الأرزاق اللازمة من معدة عقدتها الحياتية ومن زمبركها الناشئة من الأمر والإرادة، وتوصيلَها بانتظام إلى ثمراتها وأوراقها وأغصانها. إلّا إذا أُسند إلى كل جزء من أجزاء الشجرة بل حتى إلى كل ذرة من ذراتها بصرٌ يبصر كل الشجرة وكل جزء منها وكل ذرة من ذراتها، وعلمٌ محيطٌ بكل شيء وقدرةً قادرة على كل شيء.

وهكذا اصعد هذه المراتبَ الخمس وانظر كم في الشرك والكفر من مشكلات ومحالات. واعلم مدى امتناعهما وبُعدهما عن معايير العقل والمنطق، ومدى السهولة في طريق الإيمان والقرآن بل مدى ما فيها من حق وحقيقة مستساغة بدرجة الوجوب. ومدى معقوليتها وقطعيتها وسهولتها ومقبوليتها بدرجة اللزوم. شاهِدْ هذه الحقيقةَ وقل: الحمد لله على نعمة الإيمان.

(لقد سببت الضغوط والمضايقات تأجيل القسم الباقي من هذه المرتبة العظيمة إلى وقت آخر بمشيئة الله).

المرتبة السابعة: وهي: [وبسّر أن الذرة والجزء والجزئي والنواة والإنسان ليست بأقل صنعة وجزالة من النجم والكل والكلي والشجر والعالم].

تنبيه: إن أسس حقائق هذه المراتب التسع وكنـزها وشمسها هي آيتا سورة الإخلاص: ﴿قُلْ هُوَ اللّٰهُ اَحَدٌ * اَللّٰهُ الصَّمَدُ﴾ فهي إشارات قصيرة إلى لمعات من تجليات سر الأحدية والصمدية.

نلقي نظرة إلى فحوى هذه المرتبة السابعة بنكتة أو نكتتين محيلين تفاصيلها إلى رسائل النور.

وهي تعني أن الذرة التي تؤدي وظائف عجيبة في العين والدماغ ليست بأقل صنعة وإبداعا من النجم، وليس الجزء بأقل جزالة من مجموعه الكل. فمثلا: ليس الدماغ والعين بأقلَّ إتقانا وإبداعا، من الإنسان. ولا الفرد الجزئي بأقل إبداعا من النوع عامة، من حيث جمال الإتقان والغرابة في الخلق. ولا الإنسان بأقل صنعة من جنس الحيوان الكلي، من حيث أجهزته العجيبة. ولا البذرة التي هي بمثابة فهرس وبرنامج وقوة حافظة بأقل إتقانا من شجرتها الباسقة، من حيث كمال الصنع والخزن. ولا الإنسان الذي هو كون صغير بأقل إبداعا من الكون العظيم، من حيث إنه في أحسن تقويم ويملك أجهزة خارقة جامعة مهيأة للقيام بألوف الوظائف العجيبة.

فالذي يخلق الذرة إذن لا يعجز عن خلق النجم، والذي يخلق اللسان -وهو عضو في الإنسان- يخلق الإنسان بسهولة ويسر بلا شك. والذي يخلق الإنسان في أحسن تقويم لاشك أنه قادر على خلق الحيوانات كلها بسهولة كاملة، مثلما يخلقها أمام أنظارنا. والذي يخلق النواة بماهيةِ فهرسٍ وقائمةِ مفرداتٍ، ودفترِ قوانينَ أمريةٍ، وعقدةٍ حياتيةٍ، لاشك هو الذي يكون خالق جميع الأشجار. والذي جعل الإنسان أشبه ببذرة معنوية للعالم وثمرة جامعة له ومظهرا لجميع أسمائه الإلهية ومرآة لها ومرتبطا بالكائنات كلها وخليفة للأرض، لاشك أنه يملك قدرة قادرة على خلق الكون كله وتنسيقه بسهولةِ خلقِ الإنسان. ولهذا فمن كان خالقا وصانعا وربا للذرة والجزء والجزئي والنواة والإنسان فبالبداهة ولاشك أنه هو خالق النجوم والأنواع والكل والكليات والأشجار وجميعِ الكائنات وصانعُها وربها بالذات، فمحالٌ أن يكون غيرَه وممتنعٌ قطعا.

المرتبة الثامنة: [وبسرّ أن المحاط والجزئيات كالأمثلة المكتوبة المصغرة أو كالنقط المحلوبة المعصرة فلابد أن يكون المحيط والكليات في قبضة خالق المحاط والجزئيات ليدرج مثالها فيها بموازين علمه أو يعصرها منها بدساتير حكمته].

أي إن نسبة الجزئيات المحاطة والأفراد والنوى والبذور التي تتضمنها الكل والكليات إلى الكلّيّات الكبيرة المحيطة، شبيهةٌ بنماذج مصغرة وأمثلة مكتوب فيها ما كتب تماما في الكل والكليات كتابةً دقيقة تناسب تلك القطع الصغيرة. ولهذا فالكليات المحيطة هي في قبضة خالق تلك الجزئيات وتحت تصرفه بلا شك وذلك ليُدرِج كتابَ ذلك المحيط الكبير بموازين علمه وبأقلامه الدقيقة في مئات من القطع والدفاتر الصغيرة.

ثم إن نسبة الأجزاء والجزئيات المحاطة إلى الكليات المحيطة، ومثالهما شبيه بالقطرات المحلوبة أو القطرات المعصّرة من الكليات المحيطة. فمثلا نواة البطيخ كأنها قطرة محلوبة من جميع أنحاء البطيخ أو هي نقطة كتب فيها كتاب البطيخ كاملا حتى إنها تحمل فهرسه وقائمة محتوياته وبرنامجه.

فما دام الأمر هكذا، يلزم أن تكون تلك الجزئيات والقطرات والنقاط والأفراد بيد صانع ذلك الكل المحيط وتلك الكليات المحيطة، ليَعصر تلك الأفرادَ والقطراتِ والنقطَ منها بدساتير حكمته الحساسة. بمعنى أن خالق نواةٍ واحدة وفردٍ واحد هو خالق ذلك الكل الكبير والكليات، وخالقُ الكليات والأجناس التي تكبرها وتحيط بها أيضا وليس غيره. ولهذا فخالق نفس واحدة يخلق جميع الناس، والذي يبعث إنسانا ميتا واحدا يبعث الجن والإنس والأموات جميعا في الحشر، وسيبعثهم. وهكذا شاهِدْ مدى أحقية دعوى ﴿مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ اِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ (لقمان:28) ومدى ثبوتها وقطعيتها، شاهدها بأسطع وأجلى صورتها.

المرتبة التاسعة: [وبسرّ كما أن قرآن العزّة المكتوب على الذرة المسماة بالجوهر الفرد بذرات الأثير ليس بأقل جزالة وخارقية صنعة من قرآن العظمة المكتوب على صحيفة السماء بمداد النجوم والشموس، كذلك إن ورد الزهرة ليست بأقل جزالة وصنعة من درّيّ نجم الزُهرة، ولا النملة من الفيلة، ولا المكروب من الكركدن، ولا النحلة من النخلة، بالنسبة إلى قدرة خالق الكائنات. فكما أن غاية كمال السرعة والسهولة في إيجاد الأشياء أوقعت أهل الضلالة في التباس التشكيل بالتشكل المستلزم لمحالات غير محدودة تمجها الأوهام، كذلك أثبتت لأهل الهداية تساويَ النجوم مع الذرات بالنسبة إلى قدرة خالق الكائنات جلّ جلاله ولا إله إلّا هو الله أكبر].

كنت أود أن أبين مضمون هذه المرتبة الأخيرة بإسهاب ولكن مع الأسف حال دون ذلك العنتُ والضيق الناجم من التحكم الاعتباطي، والضعف الذي اعترى جسمي من التسمم فضلا عن الأمراض المؤلمة. لذا اضطررت إلى الاكتفاء بإشارات قصيرة جدا إلى مضمونها.

وهي تعني: كما لو كُتب قرآنٌ عظيم في الذرة -التي يطلق عليها في علم الكلام والفلسفة الجوهر الفرد غير القابل للانقسام- بذرات الأثير التي هي أصغر منها، وكُتب أيضا قرآن عظيم آخر في صحائف السماوات بالنجوم والشموس، ثم قورن بينهما، فلاشك أن القرآن المكتوب بالجوهر الفرد ليس بأقلّ جزالة وإعجازا وإبداعا من القرآن العظيم والكبير الذي جمّل وجه السماوات، وربما هو أكثر منه جزالة من جهة. كذلك إن ورد الزهرة ليست بأقل جزالة وصنعة من درّيّ نجم الزُهرَة ولا النملة أدنى من الفيل بل المكروب أكثر إبداعا من الكركدن خلقة والنحلة بفطرتها العجيبة أعجب من النخلة بالنسبة إلى قدرة خالق الكائنات. بمعنى أن خالق النحلة يخلق جميع الحيوانات، والذي يبعث نفسا واحدة يجمع الناس على صعيد الحشر ويبعثهم جميعا، وسيحشرهم حتما. فلا يصعب على تلك القدرة شيء، كما تشاهد مئات ألوف النماذج من الحشر في كل ربيع أمام أعيننا.

ومضمون الجملة العربية الأخيرة وفحواها المختصر هو: أن أهل الضلالة لجهلهم بالحقائق الثابتة الراسخة للمراتب المذكورة، ولظهور الموجودات إلى الوجود في منتهى السرعة والسهولة، فقد التبس عليهم تشكيلها وإيجادها بقدرةِ صانع قدير مطلق القدرة، مع تشكّلها ووجودها بنفسها، فاتحين لأنفسهم أبواب خرافات ومحالات غير محدودة تمجّها الأوهام والأذهان. إذ في تلك الحالة- مثلا- يلزم إعطاء كل ذرة من ذرات كائن حي قدرة قادرة على صنع كل شيء وعلما وبصرا يبصر كل شيء. أي إنهم بعدم قبولهم لإلهٍ واحدٍ أحدٍ اضطروا إلى قبول آلهة بعدد الذرات حسب مذهبهم، مستحِقين الدخول إلى أسفل سافلي جهنم.

أما أهل الهداية فقد منحت الحقائقُ القوية للمراتب السابقة والحججُ الرصينة إلى قلوبهم السليمة وعقولهم الصائبة قناعةً تامة قاطعة وإيمانا قويا وتصديقا بعين اليقين، حتى اعتقدوا بلا ريب ولا شبهة وبكل اطمئنانِ قلبٍ أنه لا فرق بين النجوم والذرات وأصغرِ شيء وأكبره إزاء القدرة الإلهية، حيث نشاهد أمامنا هذه المخلوقات العجيبة. فكل صنعة عجيبة منها تصدّق دعوى الآية الكريمة ﴿مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ اِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾. وتشهد أن حكمَها هو عين الحق ومحض الحقيقة. وتقول بلسان الحال: الله أكبر، ونحن بدورنا نقول: الله أكبر بعدد المخلوقات مصدقين حكمَ هذه الآية الكريمة بكل قوتنا وقناعتنا ونشهد أن حكمها هو عين الحق والحقيقة نفسها بحجج لا منتهى لها.

﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾

اللّهمّ صلّ وسلم على من أرسلته رحمةً للعالمين

والحمد لله ربّ العالمين.