بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿اَلرَّحْمنُ * علم القران * خَلَقَ الْاِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾

فنحمده مصلين على نبيه محمد الذي أرسله رحمة للعالمين وجعل معجزته الكبرى الجامعة برموزها وإشاراتها لحقائق الكائنات باقية على مر الدهور إلى يوم الدين وعلى آله عامة وأصحابه كافة.

أما بعد؛ فاعلم:

أولاً: أنَّ مقصدنا من هذه «الإشارات» تفسيرُ جملةٍ من رموز نظْمِ القرآن؛ لأن الإعجازَ يتجلى من نظمه. وما الإعجازُ الزاهر إلّا نقشُ النظم.

وثانياً: أنَّ المقاصد الأساسية من القرآن وعناصرَه الأصلية أربعةٌ: التوحيد، والنبوة، والحشر، والعدالة؛

لأنه لمّا كان بنو آدم كرَكبٍ وقافلةٍ متسلسلةٍ راحلةٍ من أودية الماضي وبلاده، سافرةٍ في صحراء الوجود والحياة، ذاهبةٍ إلى شواهق الاستقبال، متوجهةٍ إلى جنّاته، فتهتز بهم المناسباتُ وتتوجه إليهم الكائناتُ. كأنه أرسلَتْ حكومةُ الخِلقة فَنَّ الحكمةِ مستنطقاً وسائلاً منهم بـ«يا بني آدم! مِن أين؟ إلى أين؟ ما تصنعون؟ مَنْ سلطانُكم؟ مَنْ خطيبُكم؟».

فبينما المحاورة، إذ قام من بين بني آدم -كأمثاله الأماثل من الرسل أولي العزائم- سيّدُ نوعِ البشر محمّد الهاشمي ﷺ وقال بلسان القرآن:

«أيها الحكمة! نحن معاشرَ الموجودات نجيء بارزين من ظلمات العدم بقدرةِ سلطان الأزل، إلى ضياءِ الوجود.. ونحن معاشر بني آدم بُعِثْنا بصفة المأمورية ممتازين من بين إخواننا «الموجودات» بحمل الأمانة.. ونحن على جناح السفر من طريق الحشر إلى السعادة الأبدية، ونشتغل الآن بتدارك تلك السعادة وتنمية الاستعدادات التي هي رأسُ مالِنا.. وأنا سيُّدُهم وخطيبهم. فها دونكم منشوري! وهو كلامُ ذلك السلطان الأزلي تتلألأ عليه سكّةُ الإعجاز. والمجيبُ عن هذه الأسئلة الجوابَ الصوابَ ليس إلا القرآنَ، ذلك الكتاب..

كان (حاشية) جواب لما.. هذه الأربعةُ عناصرَه الأساسية.

فكما تتراءى هذه المقاصدُ الأربعة في كله، كذلك قد تتجلى في سورةٍ سورةٍ، بل قد يُلْمَح بها في كلامٍ كلامٍ، بل قد يُرْمَز إليها في كلمةٍ كلمةٍ؛ لأن كلَّ جزءٍ فجزءٍ كالمرآةِ لكلٍّ فكلٍّ متصاعداً، كما أن الكلَّ يتراءى في جزءٍ فجزءٍ متسلسلاً.

ولهذه النكتة -أعني اشتراك الجزءِ مع الكلِّ-يُعرَّفُ القرآنُ المشخَّصُ كالكلّي ذي الجزئيات؟.

 إن قلت: أرني هذه المقاصدَ الأربعة في ﴿بِسْمِ اللهِ وفي ﴿اَلْحَمْدُ لله.

قلت: لما أُنزل ﴿بِسْمِ اللهِ لتعليم العباد كان «قُلْ» مقدَّراً فيه. وهو الأُمّ في تقدير الأقوال القرآنية. فعلى هذا يكون في «قُلْ» إشارةٌ إلى الرسالة.. وفي ﴿بِسْمِ اللهِ رمزٌ إلى الألوهية.. وفي تقديم الباء تلويحٌ إلى التوحيد.. وفي ﴿اَلرَّحْمن تلميحٌ إلى نظام العدالة والإحسان.. وفي ﴿الرَّحيمِ﴾ إيماء إلى الحشر.

وكذلك في ﴿اَلْحَمْدُ لله إشارةٌ إلى الألوهية.. وفي لام الاختصاص رمزٌ إلى التوحيد.. وفي ﴿رَبِّ الْعَالَمينَ﴾ إيماءٌ إلى العدالة والنبوة أيضا؛ لأن بالرسل تربيةَ نوعِ البشر.. وفي ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدّينِ﴾ تصريح بالحشر.

حتى إن صَدَفَ ﴿اِنَّٓا اَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾ يتضمنُ هذه الجواهر. هذا مثالاً فانسج على منواله.

﴿بِسْمِ اللهِ﴾ كالشمس يضيء نَفْسَه كغيرِه، فاستغنى. حتى إن باءَه متعلقةٌ بالفعل المفهوم من معناها أي أستعين به، أو المفهوم عُرفاً، أي أتَيمّن به، أو بما يستلزمه «قل» المقدَّر من «اقرأ» المؤخّر للإخلاص والتوحيد.

أما «الاسم» فاعلم أن لله أسماءً ذاتية، وأسماءً فعلية متنوعة كالغفار والرزاق والمحيي والمميت وأمثالِها. وتنوّعُها وتكثُّرها بسبب تعدد نسبة القدرة الأزلية إلى أنواع الكائنات. فكأن ﴿بِسْمِ اللهِ﴾ استنـزالٌ لتأثير وتعلّق القدرةِ ليكون ذلك التعلّقُ روحاً مُمدّاً لكسب العبد.

﴿اللهِ﴾ لفظةُ الجلال نسخةٌ جامعة لجميع الصفات الكمالية لدلالتها التزاماً عليه؛ بسر استلزام ذاتِه تعالى لصفاته بخلاف سائر الأعلام، لعدم الاستلزام.

﴿اَلرَّحْمن الرَّحيمِ﴾

وجهُ النظم أنَّ لفظ الجلال كما يتجلى منه الجلالُ بسلسلته، كذلك يتراءى الجمالُ بسلسلته من ﴿اَلرَّحْمن الرَّحيمِ﴾، إذ الجلال والجمال أصلان تَسلسلَ منهما -بتجليهما في كل عالَم- فروعٌ كالأمر والنهي، والثواب والعذاب، والترغيب والترهيب، والتسبيح والتحميد، والخوف والرجاء إلى آخره..

وأيضا كما أن لفظَ الجلال إشارةٌ إلى الصفات العينية والتنـزيهية؛ كذلك ﴿الرَّحيمِ﴾ إيماءٌ إلى الصفات الغيرية الفعلية؛ و ﴿اَلرَّحْمن﴾ رمزٌ إلى الصفات السبع التي هي لا عينٌ ولاغيرٌ؛ إذ ﴿اَلرَّحْمن﴾ بمعنى الرزاق، وهو عبارة عن إعطاء البقاء. والبقاءُ تكرُّرُ الوجود. والوجودُ يستلزم صفةً مُمَيِّزةً وصفةً مُخَصِّصَةً وصفةً مُؤَثِّرَةً، وهي العلمُ والإرادةُ والقدرةُ. والبقاء الذي هو ثمرةُ إعطاء الرزق يقتضي عُرفاً ثبوتَ البصر والسمع والكلام؛ إذ لابدّ للرزّاق من البصر ليرى حاجةَ المرزوق إن لم يَطلب، ومن السمع ليستمع كلامَه إن طلب، ومن الكلام ليتكلم مع الواسطة إن كانت. وهذه الستُّ تستلزم السابعةَ التي هي الحياةُ.

 إن قلت: تذييل ﴿اَلرَّحْمن﴾ الدالّ على النِعَمِ العظيمة بـ ﴿الرَّحيمِ﴾ الدالِّ على النِعم الدقيقة يكون صنعةَ التدلّي، والبلاغةُ في صنعة الترقِّي من الأدنى إلى الأعلى؟

قلت: تذييلٌ للتتميم كالأهداب للعين واللجام للفرس.. وأيضا لمّا توقفت العظيمةُ على الدقيقة، كانت الدقيقةُ أرقى كالمفتاح للقفل واللسان للروح.. وأيضا لما كان هذا المقامُ مقامَ التنبيه على مواقع النِعَمِ كان الأخفى أجدرَ بالتنبيه، فيكون صنعةُ التدلِّي في مقام الامتنانِ والتعدادِ صنعةَ الترقِّي في مقام التنبيه.

 إن قلت: ﴿اَلرَّحْمن﴾ و﴿الرَّحيمِ﴾ كأمثالهما بمبادئها محالٌ في حقه تعالى كرقَّةِ القلب، وإن أُريد منها النهايات فما حكمةُ المجاز؟

قلت: هي حكمةُ المتشابهات؛ وهي «التنـزّلات الإلهية إلى عقول البشر»، لتأنيس الأذهان وتفهيمِها، كمَن تكلّم مع صبيّ بما يألَفُه ويأنَس به. فإن الجمهور من الناس يجتنون معلوماتِهم عن محسوساتهم، ولا ينظرون إلى الحقائق المحضة إلّا في مرآة متخيّلاتهم ومن جانب مألوفاتهم.. وأيضا المقصود من الكلام إفادةُ المعنى، وهي لا تتم إلّا بالتأثير في القلب والحس، وهو لا يحصل إلّا بإلباس الحقيقةِ أسلوبَ مألوفِ المخاطَب، وبه يستعدّ القلبُ للقبول.

 ﴿اَلْحَمْدُ﴾

وجهُ النظم مع ما قبله، أن ﴿اَلرَّحْمن﴾ و﴿الرَّحيمِ﴾ لمّا دلّتا على النِعَم استوجَبتا تعقيبَ الحمد. ثم إن ﴿اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ﴾ قد كُرِّرَت في أربع سُوَرٍ من القرآن، كلُّ واحدة منها ناظرةٌ إلى نعمةٍ من النِعم الأساسية التي هي: النشأةُ الأولى، والبقاءُ فيها، والنشأةُ الأخرى، والبقاءُ بعدَها.

ثم وجهُ نظمِه في هذا المقام (أي جعلُه فاتحةَ فاتحةِ القرآن) هو أنه كتصوّر العلّةِ الغائية المقَدَّم في الذهن؛ لأن الحمدَ صورةٌ إجمالية للعبادة، التي هي نتيجةٌ للخِلقة، والمعرفةِ التي هي حكمةٌ وغايةٌ للكائنات. فكأن ذكرَه تصوّرٌ للعلة الغائية.. وقد قال عز وجل ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْاِنْسَ اِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات:56).

ثم إنَّ المشهور من معاني الحمد إظهارُ الصفات الكمالية.

وتحقيقُه أنَّ الله سبحانه خلق الإنسان وجعلَه نسخةً جامعةً للكائنات، وفِهْرِسْتة لكتاب العالَم المشتمل على ثمانيةَ عشَر ألفَ عالَم، وأودع في جوهره أنموذجاً من كلِّ عالَم تجلّى فيه اسمٌ من أسمائه تعالى. فإذا صرفَ الإنسانُ كلَّ ما أُنعِمَ عليه إلى ما خُلِقَ لأجله إيفاءً للشكر العُرفي -الداخل تحت «الحمد»- وامتثالاً للشريعة التي هي جِلاءٌ لصدأ الطبيعة، يصيرُ كلُّ أُنموذج مشكاةً لعالَمِهِ ومرآةً له وللصفة المتجلية فيه والاسم المتظاهر منه. فيكون الإنسان بروحه وجسمِه خلاصةَ عالَمَي الغيب والشهادة، ويتجلى فيه ما تجلى فيهما.

فبالحمد يصيرُ الإنسان مَظهراً للصفات الكمالية الإلهية. يدلّ على هذا قول «محي الدين العربي» في بيان حديث «كُنْتُ كَنْزَاً مَخْفِيًّا فَخَلقت الْخَلْقَ لِيَعْرِفُوني» أي فخلقتُ الخَلق ليكون مرآةً أُشاهِدُ فيها جمالي.

﴿لِلّٰهِ﴾ أي الحمد مُختص ومُستحَق للذات الأقدس المشخَّص الذي يُلاحَظ بمفهوم «الواجب الوجود» إذ قد يلاحَظ المشخّص بأمرٍ عام. وهذه اللام متعلقةٌ بمعنَى نفسِها، كأنها تشرّبَت معنى متعلَّقها. وفي اللام إشارةٌ إلى الإخلاص والتوحيد.

﴿رَبِّ﴾ أي الذي يربّي العالَم بجميع أجزائه، التي كلٌّ منها كالعالَم عالَمٌ؛ وذرَّاتُه كنجومه متفرِّقةٌ متحرِّكة بالانتظام.

واعلم أن الله عزّ وجلّ عيّن لكلِّ شيء نقطةَ كمالٍ وأودع فيه مَيلاً إليها، كأنه أمَرَه أمراً معنوياً أن يتحرك به إليها، وفي سفره يحتاج إلى ما يُمدُّه ودفعِ ما يَعوِّقهُ، وذلك بتربيته عزّ وجلّ. لو تأملتَ في الكائنات لرأيتَها كبني آدمَ طوائفَ وقبائلَ يشتغل كلٌّ منفرداً ومجتمعاً بوظيفته التي عيَّنَها له صانِعُه ساعياً مُجدّاً مطيعا لقانون خالقه. فما أعجبَ الإنسانَ كيف يشذّ!

﴿الْعَالَمينَ﴾ الياء والنون إما علامةُ للإعراب فقط كـ«عشرين وثلاثين».. أو للجمعية؛ لأن أجزاء العالَم عَوالمٌ.. أو العالَمُ ليس منحصراً في المنظومة الشمسية. قال الشاعر:

اَلْحَمْدُ للّٰهِ كَمْ للّٰهِ مِنْ فَلَكٍ   تَجرِي النُّجُومُ بِهِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ

وآثرَ جمعَ العقلاء مثل: ﴿رَاَيْتُهُمْ لي سَاجِدينَ﴾ (يوسف:4) إشارةً إلى أنّ نظرَ البلاغة يصوّر كلَّ جزء من أجزاء العالم بصورةِ حيّ عاقلٍ متكلِّمٍ بلسان الحال. إذ العالَم اسمُ ما يُعلَمُ به الصانعُ ويشهدُ عليه ويشير إليه. فالتربيةُ والإعلامُ يُومِيان -كالسجود- إلى أنها كالعقلاء.

﴿اَلرَّحْمن الرَّحيمِ﴾

وجهُ النظم أنهما إشارتـان إلى أساسَي التربـية؛ إذ ﴿اَلرَّحْمن﴾ لـكونه بمعنى الرزاق يلائم جلبَ المنافع؛ و﴿الرَّحيمِ﴾ لكونه بمعنى الغفار يناسب دفعَ المضار وهما الأساسان للتربية.

﴿مَالِكِ يَوْمِ الدّينِ﴾ أي يوم الحشر والجزاء.

وجه النظم أنه كالنتيجة لسابقه؛ إذ الرحمةُ من أدلة القيامة والسعادة الأبدية؛ لأن الرحمةَ إنما تكون رحمةً، والنعمةَ نعمةً إذا جاءت القيامةُ وحصلت السعادةُ الأبدية. وإلّا فالعقلُ الذي هو من أعظم النِعَم يكون مصيبةً على الإنسان، والمحبةُ والشفقة اللتان هما من ألطفِ أنواع الرحمة تتحولان ألَماً شديداً بملاحظة الفراق الأبدي.

 إن قلت: إنَّ الله تعالى مالكٌ لكل شيء دائماً فما وجهُ الاختصاص؟

قلت: للإشارة إلى أن الأسباب الظاهرية التي وضَعَها الله تعالى في عالم الكون والفساد لإظهار عظمته (أي لئلا يُرى في ظاهر نظر العقل مباشرةُ يد القدرة بالأمور الخسيسة في جهة مُلْك الأشياء) ترتفع في ذلك اليوم وتتجلّى ملكوتيةُ كلِّ شيء صافيةً شفّافةً، بحيث يَرى ويَعرف كلُّ شيء سيِّدَه وصانِعَه بلا واسطة. وفي التعبير بلفظ «اليوم» إشارة إلى أمارة حدسية من أمارات الحشر بناءً على التناسب البيّن بين اليوم والسنة، وعُمر البشر ودوران الدنيا. كالكائن بين أميال الساعة العادّة للثواني والدقائق والساعات والأيام. فكما أن مَن يرى مِيلاً أتمَّ دَوْرَه يَحدُس في نفسه أن من شأن الآخر أيضاً أن يتمّ دورَه وإن كان بمُهلة؛ كذلك إن من يرى القيامةَ النوعية المكررة في أمثال اليوم والسنة يتحدّس بتولّد ربيع السعادة الأبدية في صُبح يوم الحشر للإنسان الذي شخصُه كنوعٍ.

والمراد من ﴿الدّينِ﴾ إمّا الجزاءُ، أي يوم جزاءِ الأعمال الخيرية والشرّيّة، أو الحقائقُ الدينية، أي يوم طلوعها وظهورها وغلبةِ دائرة الاعتقاد على دائرة الأسباب؛ لأن الله عزّ وجلّ أودع بمشيئته في الكائنات نظاماً يربط الأسبابَ بالمسبّبات وألجأ الإنسانَ بطبيعته ووَهمِه وخيالِه إلى أن يراعي ذلك النظام ويرتبط به. وكذا وجَّه كلَّ شيء إليه وتَنَزَّه عن تأثير الأسباب في مُلكه. وكلّف الإنسانَ اعتقاداً وإيماناً بأن يراعي تلك الدائرة بوجدانه وروحه ويرتبط بها. ففي الدنيا دائرةُ الأسباب غالبةٌ على دائرة الاعتقاد؛ وفي الأُخرى تتجلى حقائقُ العقائد غالبةً على دائرة الأسباب.

واعلم أن لكلٍّ من هاتين الدائرتين مقاماً معيناً وأحكاماً مخصوصة، فلابد أن يُعطَى كلٌّ حقَّه. فمَن نظر في مقام دائرة الأسباب، بطبيعته ووهمِه وخياله ومقاييس الأسباب، إلى دائرة الاعتقاد اضطر إلى الاعتزال. ومن نظر في مقام الاعتقاد ومقاييسه بروحه ووجدانه إلى دائرة الأسباب أنتج له توكلاً تَنْبَلِياً وتمرّداً في مقابلة المشيئة النَظّامة.

﴿اِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ في «الكاف» نكتتان:

إحداهما: تضمُّن الخطابِ بسر الالتفات للأوصاف الكمالية المذكورة، إذ ذكرُها شيئاً شيئاً يحرّك الذهن ويُعدِّه ويملؤهُ شوقاً ويهزّه للتوجه إلى الموصوف. فـ ﴿اِيَّاكَ﴾ أي يا مَن هو موصوف بهذه الصفات.

والأخرى: أنَّ الخطاب يشير إلى وجوب ملاحظة المعاني في مذهب البلاغة ليكون المقروء كالمُنْزَل، فينجرّ طبعاً وذوقاً إلى الخطاب. فـ ﴿اِيَّاكَ ﴾ يتضمن الامتثال بـ«اُعْبُدْ رَبَّكَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ».

والتكلمُ مع الغير في ﴿نَعْبُدُ﴾ لوجوه ثلاثة:

أي نعبدُ نحن معاشر أعضاءِ وذرّاتِ هذا العالم الصغير -وهو أنا- بالشكر العُرفي الذي هو إطاعةُ كلٍّ لما أُمر به.. ونحن معاشر الموحّدين نعبدك بإطاعة شريعتك.. ونحن معاشر الكائنات نعبد شريعتك الكبرى الفطرية ونسجد بالحيرة والمحبة تحت عرش عظمتك وقدرتك.

وجهُ النظم أنّ ﴿نَعْبُدُ﴾ بيانٌ وتفسير لـ﴿اَلْحَمْدُ﴾ ونتيجة ولازم لـ ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدّينِ﴾.

واعلم أن تقديم ﴿اِيَّاكَ﴾  للإخلاص الذي هو روحُ العبادة. وأن في خطاب الكاف رمزاً إلى علّة العبادة؛ لأن من اتصف بتلك الأوصاف الداعية إلى الخطاب استحق العبادة.

﴿وَاِيَّاكَ نَسْتَعينُ﴾ هذه كـ ﴿اِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ باعتبار الجماعات الثلاث:

أي نحن معاشرَ الأعضاء ومعاشر الموحِّدين ومعاشر الكائنات نطلب منك التوفيقَ والإعانةَ على كل الحاجات والمقاصد التي أهمُّها عبادتُك.

كرَّرَ ﴿اِيَّاكَ﴾ لتزييد لذةِ الخطاب والحضور.. ولأن مقام العيان أعلى وأجلُّ من مقام البرهان.. ولأن الحضورَ أدعَى إلى الصدق وبأن لا يكذب.. ولاستقلال كلٍّ من المقصدين.

واعلم أن نظم ﴿نَسْتَعينُ﴾ مع ﴿نَعْبُدُ﴾ كنظم الأجرة مع الخدمة؛ لأن العبادةَ حقُّ الله على العبد، والإعانةَ إحسانُه تعالى لعبده. وفي حصر ﴿اِيَّاكَ ﴾ إشارةٌ إلى أن بهذه النسبة الشريفة التي هي العبادةُ والخدمة له تعالى يترفَّعُ العبدُ عن التذلل للأسباب والوسائط، بل تصيرُ الوسائطُ خادمةً له وهو لا يعرف إلّا واحداً، فيتجلى حُكْمُ دائرةِ الاعتقاد والوجدانِ كما مرَّ. ومَن لم يكن خادماً له تعالى بحقٍّ يصير خادماً للأسباب ومتذللاً للوسائط.

لكن يلزم على العبد وهو في دائرة الأسباب أنْ لا يهمل الأسبابَ بالمرة، لئلا يكون متمرداً في مقابلة النظام المودَع بحكمته ومشيئته تعالى، لأن التوكل في تلك الدائرة عطالةٌ كما مرَّ.

وكنظم المقدِّمة مع المقصود لأن الإعانةَ والتوفيق مقدمةُ العبادة.

﴿إهْدِنَا﴾

وجه النظم أنه جوابُ العبد عن سؤاله تعالى، كأنه يسأل: أيُّ مقاصدِكَ أعلَقُ بقلبك؟ فيقول العبد: ﴿إهْدِنَا﴾.

واعلم أن ﴿إهْدِنَا﴾ بسبب تعدُّد مراتبِ معانيه -بناءً على تنوّع مفعولِه إلى الهادين والمُستهدين والمستزيدين وغيرهم- كأنه مـشتـقٌّ من المصادر الأربعة لفِعل الهداية. فـ﴿إهْدِنَا﴾ باعتبار معشرٍ: «ثبّتنا»، وبالنظر إلى جماعةٍ: «زدنا»، وبالقياس إلى طائفةٍ: «وفّقنا»، وإلى فرقة: «أعْطنا».. وأيضا إن الله تعالى بحُكم ﴿اَعْطٰى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدٰى﴾ (طه:50) هدانا بإعطاء الحواس الظاهرة والباطنة، ثم هدانا بنَصب الدلائل الآفاقية والأنفسية، ثم هدانا بإرسال الرسل وإنزال الكتب، ثم هدانا أعظمَ الهداية بكشف الحجاب عن الحقِّ فظهرَ الحقُّ حقاً والباطل باطلاً.

اللّهمَّ أرِنَا الْحَقَّ حَقًّا وَارْزُقْنَا اتِّبَاعَهُ وَأرِنَا الْبَاطِلَ بَاطِلاً وَارْزُقْنَا اجْتِنَابَهُ.

﴿الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ﴾

اعلم أن الصراط المستقيم هو العدلُ الذي هو ملخّص الحكمة والعفّة والشجاعة اللاتي هي أوساطٌ للمراتب الثلاث للقوى الثلاث.

توضيحه: أنَّ الله عزّ وجلّ لما أسكن الروحَ في البدن المتحوِّل، المحتاج، المعروض للمهالك، أودعَ لإدامتها فيه قوىً ثلاثاً.

إحداها: القوةُ الشهوية البهيمية الجاذبة للمنافع.

وثانيتها: القوةُ الغضبية السَبُعية الدافعة للمضرّات والمخرِّبات.

وثالثتها: القوةُ العقلية المَلَكية المميِّزة بين النفع والضر.

لكنه تعالى -بحكمته المُقتضية لتَكمُّل البشر بسرِّ المسابقة- لم يُحدِّد بالفطرة تلك القوى كما حدّد قوى سائرِ الحيوانات، وإنْ حدَّدَها بالشريعة؛ لأنها تنهى عن الإفراط والتفريط وتأمر بالوَسط، يصدع عن هذا ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَٓا اُمِرْتَ﴾ (هود:112). وبعدمِ التحديدِ
الفطري يحصل مراتبُ ثلاثٌ: مرتبةُ النقصان وهي التفريط، والزيادةِ وهي الإفراط، والوسطِ وهي العدل.

فتفريطُ القوةِ العقلية الغباوةُ والبلادة، وإفراطُها الجربزةُ الخادعة والتدقيقُ في سفاسف الأمور، ووسطُها الحكمة، ﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ اُو۫تِيَ خَيْرًا كَثيرًا﴾ (البقرة:269).

اعلم أنه كما تنوعَ أصلُ هذه القوة إلى تلك المراتب، كذلك كلُّ فرع من فروعها يتنوعُ إلى هذه الثلاث؛ مثلاً: في مسألة خَلق الأفعال: مذهبُ أهل السنة وسطُ الجبر والاعتزال، وفي الاعتقاد: مذهبُ التوحيد وسطُ التعطيل والتشبيه.. وعلى هذه القياسُ.

وتفريطُ القوة الشهَوية الخمودةُ وعدمُ الاشتياق إلى شيء، وإفراطُها الفجورُ بأن يشتهي ما صادف، حَلَّ أو حَرُمَ، ووسطُها العفةُ بأن يرغب في الحلال ويهرب عن الحرام. وقس على الأصل كلَّ فرع من فروعاته من الأكل والشرب واللبس وأمثالِها.

وتفريط القوة الغضبية الجبانةُ أي الخوفُ مما لا يُخاف منه والتوهمُ، وإفراطهُا التهوّرُ الذي هو والدُ الاستبداد والتحكّم والظلم، ووسطُها الشجاعةُ أي بذلُ الروح بعشقٍ وشوقٍ لحماية ناموس الإسلامية وإعلاءِ كلمةِ التوحيد. وقس عليها فروعها..

فالأطراف الستة ظلمٌ والأوساط الثلاثة هي العدلُ الذي هو الصراط المستقيم، أي العملُ بـ ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَٓا اُمِرْتَ﴾ (هود:112). ومَن مرَّ على هذا الصراط يمرّ على الصراط الممتدِّ على النار.

﴿صِرَاطَ الَّذينَ اَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾

اعلم أن نظم دُرَر القرآن ليس بخيط واحد بل النظمُ -في كثيرٍ- نقوشٌ تحصل من نسج خطوطِ نِسَبٍ متفاوتةٍ قُرباً وبُعداً، ظهوراً وخفاء. لأن أساس الإعجاز بعد الإيجاز هذا النقشُ.

مثلاً: ﴿صِرَاطَ الَّذينَ اَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ يناسب ﴿اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ﴾ لأن النعمة قرينة الحمد.. و ﴿رَبِّ الْعَالَمينَ﴾ لأن كمال التربية بترادف النِعَم.. و ﴿اَلرَّحْمن الرَّحيمِ﴾ لأن المُنعَم عليهم -أعني الأنبياء والشهداء والصالحين- رحمةٌ للعالمين ومثال ظاهر للرحمة.. و
﴿مَالِكِ يَوْمِ الدّينِ﴾ لأن الدين هو النعمة الكاملة.. و ﴿نَعْبُدُ﴾ لأنهم الأئمة.. و﴿نَسْتَعينُ﴾ لأنهم الموفّقون.. و ﴿إهْدِنَا﴾ لأنهم الأسوة بسر ﴿فَبِهُدٰيهُمُ اقْتَدِهْ﴾ (الأنعام:90). و ﴿الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ﴾ لظهور انحصار الطريق المستقيم في مسلكهم. هذا مثالٌ لك فقس عليه..

وفي لفظ ﴿الصِّرَاطَ﴾ إشارة إلى أن طريقَهم مسلوكةٌ محدودةُ الأطراف، مَن سلكها لا يخرج عنها.

وفي لفظ ﴿الَّذينَ﴾ -بناءً على أنه موصولٌ، ومن شأن الموصول أن يكون معهوداً نُصْبَ العين للسامع- إشارةٌ إلى علوِّ شأنهم وتلألئهم في ظلمات البشر، كأنهم معهودون نصبَ العين لكلِّ سامع وإنْ لم يتحرَّ ولم يطلب.. وفي جمعيته رمزٌ إلى إمكان الاقتداء بهم وحقانية مسلكِهم بسرِّ التواتر إذ «يَدُ الله مَعَ الْجَمَاعَةِ»..

وفي صيغة ﴿اَنْعَمْتَ﴾ إشارةٌ إلى وسيلةِ طلبِ النعمة.. وفي نسبتها شافعٌ له كأنه يقول: يا إلهي! مِن شأنك الإنعامُ وقد أنعمْتَ بفضلك، فأنْعِمْ عليّ وإن لم أستحق..

وفي ﴿عَلَيْهِمْ﴾ إشارةٌ إلى شدة أعباء الرسالة وحَملِ التكليف، وإيماءٌ إلى أنهم كالجبال العالية تتلقى شدائدَ المطر لإفاضة الصحارى. وما أُجمِلَ في ﴿الَّذينَ اَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ يفسرُه ﴿فَاُولٰٓئِكَ مَعَ الَّذينَ اَنْعَمَ اللّٰهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِينَ وَالصِّدّيقينَ وَالشُّهَدَٓاءِ وَالصَّالِحينَ﴾ (النساء:69) إذ القرآن يفسر بعضُه بعضاً.

* إن قلت: مسالك الأنبياء متفاوتةٌ وعباداتُهم مختلفة؟

قيل لك: إنَّ التبعية في أصول العقائد والأحكام؛ لأنها مستمرة ثابتة دون الفروعات التي من شأنها التغير بتبدل الزمان. فكما أن الفصولَ الأربعة ومراتبَ عمر الإنسان تؤثر في تفاوت الأدوية والتلبّس، فكم من دواءٍ في وقت يكون داءً في آخر؛ كذلك مراتبُ عمر نوع البشر تؤثر في اختلاف فروعات الأحكام التي هي دواءُ الأرواح وغذاءُ القلوب.

﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾.

وجه النظم: اعلم أن هذا المقامَ لكونه مقامَ الخوف والتخلية يناسب المقامات السابقة؛ فيُنظَر بنَظر الحيرة والدهشة إلى مقام توصيف الربوبية بالجلال والجمال، وبنَظر الالتجاء إلى مقام العبودية في ﴿نَعْبُدُ﴾، وبنظر العَجز إلى مقام التوكل في ﴿نَسْتَعينُ﴾، وبنظر التسلّي إلى رفيقه الدائمي أعني مقام الرجاء والتحلية، إذ أوّل ما يتولد في قلب مَن يرى أمراً هائلاً حِسُّ الحيرةِ، ثم ميلُ الفرار، ثم التوكّلُ عند العجز، ثم التسلّي بعد ذلك الأمر.

* إن قلت: إنَّ الله عزّ وجلّ حكيمٌ غنيٌ، فما الحكمة في خلق الشرّ والقبح والضلالة في العالم؟

قيل لك: اعلم أن الكمال والخير والحُسن في الكائنات هي المقصودةُ بالذات وهي الكليات؛ وأن الشر والقبح والنقصان جزئياتٌ بالنسبة إليها قليلةٌ تبَعيةٌ مغمورة في الخلقة، خلَقَها خالقُها منتشرةً بين الحسن والكمال، لا لذاتها، بل لتكونَ مقدمةً، وواحداً قياسياً، لظهور -بل لوجودِ- الحقائق النسبية للخير والكمال.

* إن قلت: فما قيمةُ الحقائق النسبية حتى استُحسِن لأجلها الشرُّ الجزئي؟

قيل لك: إن الحقائق النسبية هي الروابطُ بين الكائنات.. وهي الخطوط المنسوجُ منها نظامُها.. وهي الأشعة المنعكس منها وجودٌ واحدٌ لأنواعها. وإن الحقائق النسبية أزْيَدُ بألوفٍ من الحقائق الحقيقية؛ إذ الصفات الحقيقية لذاتٍ لو كانت سبعةً كانت الحقائقُ النسبية سبعمائة. فالشرُّ القليل يُغْتَفَر بل يُسْتَحْسَن لأجل الخير الكثير؛ لأن في ترك الخير الكثيرِ -لأن فيه شراً قليلاً- شراً كثيراً. وفي نظر الحكمة: «إذا قابل الشرُّ القليلُ شراً كثيراً صار الشرُّ القليل حسناً بالغير»، كما تقرر في الأصول في الزكاة والجهاد.

وما اشتهر من «أنَّ الأشياء إنما تُعْرَف بأضدادها» معناه: أن وجود الضدِّ سببٌ لظهور ووجود الحقائق النسبية للشيء. مثلاً: لو لم يوجد القبحُ ولم يتخلل بين الحُسن لَما تَظَاهَر وجودُ الحُسن بمراتبه الغيرِ المتناهيةِ.

* إن قلت: ما وجهُ تفاوتِ هذه الكلمات الثلاث: فعلاً، واسم مفعولٍ، واسمَ فاعلٍ، في ﴿اَنْعَمْتَ﴾ و﴿الْمَغْضُوبِ﴾ و﴿الضَّٓالّينَ﴾ ؟ وأيضاً ما وجهُ التفاوت في ذكر صفةِ الفرقة الثالثة، وعاقبةِ الصفة في الفرقة الثانية، وعنوانِ صفة الفرقة الأولى باعتبار المآل؟

قيل لك: اختار عنوانَ النعمة؛ لأن النعمة لذةٌ تميل النفسُ إليها.. وفعلاً ماضياً للإشارة إلى أن الكريمَ المطلق شأنُه أن لا يَسترِدَّ ما يُعطي.. وأيضاً رمزٌ إلى وسيلة المطلوب بإظهار عادةِ المُنعم، كأنه يقول: لأن من شأنك الإنعامُ وقد أنعَمْتَ فأنْعِم عليّ.

أما ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ﴾ فالمراد منه الذين تجاوزوا بتجاوز القوةِ الغضبية فظلموا، وفَسقوا بترك الأحكام كتمرّد اليهود. ولما كان في نفس الفسق والظلم لذةٌ منحوسة وعزةٌ خبيثة لا تتنفّر منه النفسُ، ذَكَرَ القرآنُ عاقبتَه التي تُنَفِّر كلَّ نفْسٍ وهي نُزُولُ غضبِه تعالى.. واختار الاسم الذي من شأنه الاستمرار، إشارةً إلى أن العصيان والشر إنما يكون سمةً إذا لم ينقطع بالتوبة والعفو.

أمّا ﴿وَلَا الضَّٓالّينَ﴾ فالمراد منه الذين ضلّوا عن الطريق بسبب غلبة الوَهم والهوى على العقل والوجدان، ووقعوا في النفاق بالاعتقاد الباطل كسَفسطة النصارى. اختار القرآنُ نفسَ صفتهم، لأن نفسَ الضلالة ألَمٌ يُنَفّر النفسَ، ويجتنب منه الروحُ وإن لم يرَ النتيجةَ.. واسماً لأن الضلالة إنما تكون ضلالة إذا لم تنقطع.

واعلم أن كلَّ الألم في الضلالة، وكلَّ اللذة في الإيمان.

فإن شئت تأمل في حال شخصٍ: بينما أخرجَتْه يدُ القدرة من ظلمات العدم وألقَتْهُ في الدنيا -تلك الصحراءِ الهائلة- إذ يفتح عَينَيه مستعطفاً، فيرى البليّاتِ والعلل كالأعداء تتهاجمُ عليه، فينظر مسترحِماً إلى العناصر والطبائع فيراها غليظةَ القلب بلا رحمة قد كَشَرت عليه الأسنانَ؛ فيرفع رأسَه -مستمداً- إلى الأجرام العلوية فيراها مهيبةً ومدهشة تهدّده كأنها مَرامِي نارية من أفواه هائلة تمرّ حواليه؛ فيتحيّر ويخفضُ رأسَه متستراً ويطالع نفسَه؛ فيسمع أُلوفَ صيحاتِ حاجاته وأنين فاقاته، فيتوحّش، فينظر إلى وجدانه ملتجئا؛ فيرى فيه أُلوفاً من آمال متهيجةٍ ممتدةٍ لا تُشبعها الدنيا.

فبالله عليك، كيف حالُ هذا الشخص إنْ لم يعتقد بالمبدأ والمعاد والصانع والحشر؟ أتظنّ جهنمَ أشدَّ عليه من حاله وأحرقَ لروحه؟ فإنّ له حالةً تركّبت من الخوف والهيبة والعَجز والرعشة والقلق والوحشة واليتم واليأس؛ لأنه إذا راجع قدرتَه يراها عاجزةً ضعيفة؛ وإذا توجّه إلى تسكين حاجاته يراها لا تسكت؛ واذا صاح واستغاث لا يُسْمَع ولا يُغاث. فيَظن كلَّ شيء عدواً، ويتخيل كلَّ شيء غريباً فلا يستأنس بشيء، ولا ينظر إلى دوران الأجرام إلّا بنظر الخوف والدهشة والتوحش المزعجة للوجدان.

ثم تأمل في حال ذلك الشخص إذا كان على الصراط المستقيم واستضاء وجدانُهُ وروحُه بنور الإيمان؛ كيف ترى أنه إذا وَضع قدمَه في الدنيا وفتح عينَيه فرأى تَهاجُم العاديات الخارجية يرى إذن «نقطة استناد» يستند إليها في مقابلة تلك العاديات، وهي معرفةُ الصانع فيستريح. ثم إذا فتّش عن استعداداته وآمالِه الممتدة إلى الأبد، يرى «نقطة استمداد» يستمد منها آمالُه وتتشرب منها ماءَ الحياة وهي معرفةُ السعادة الأبدية. وإذ يرفع رأسه وينظر في الكائنات يستأنس بكلِّ شيء، وتجتني عيناه من كلِّ زهرة أُنسيةً وتحبّباً، ويرى في حركات الأجرام حكمةَ خالقِها، ويتنـزّه بسيرها، وينظر نظَرَ العبرة والتفكر، كأنّ الشمس تناديه: «أيها الأخ! لا تتوحش مني، فمرحباً بقدومك! نحن كلانا خادمان لذاتٍ واحد، مطيعان لأمره». والقمرَ والنجومَ والبحرَ وأخواتها يناجيه كلٌّ منها بلسانه الخاص وترمز إليه: بـ«أهلاً وسهلاً، أمَا تعرفنا؟ كلّنا مشغولون بخدمة مالكك، فلا تَضجر ولا تتوحش ولا تخف من تهديد البلايا بنَعَراتها، فإن لجام كلٍّ بيد خالقك».

فذلك الشخص في الحالة الأولى يحسّ في أعماق وجدانه ألَماً شديداً فيضطر للتخلص منه وتهوينه وإبطال حسِّهِ بالتسلّي، بالتغافل، بالاشتغال بسفاسف الأمور، ليُخادِع وجدانَه وينامَ روحُه؛ وإلَّا أحسّ بألَمٍ عميق يُحرق أعماق وجدانه. فبنسبة البُعْدِ عن الطريق الحق يتظاهر تأثيرُ ذلك الألم.

وأما في الحالة الثانية، فهو يحس في قعر روحِه لذةً عاليةً وسعادة عاجلة كلما أيقظ قلبَه وحرَّك وجدانَه وأحسّ روحَه استزاد سعادةً واستبشر بفتح أبواب جناتٍ روحانيةٍ له.

اللّهمَّ بِحُرْمَةِ هذِهِ السُّورَةِ اجْعَلْنَا مِنْ أهْلِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.

* * *