﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ﴿11﴾ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ ﴿12﴾﴾

اعلم أن وجه نظم هذه الآية بما قبلها هو أنَّ الله تعالى لمّا ذكر الأُولى من الجنايات الناشئة عن نفاقهم وهي ظلمُهم أنفسَهم وتجاوزُهم على حقوق الله تعالى بنتائجها المتسلسلة المذكورة، عقّبها بثانيةِ الجنايات؛ وهي تجاوزُهم على حقوق العباد وإيقاعُهم الفساد بينهم مع تفرعاتها..

ثم إن ﴿اِذَا قيلَ﴾ كما أنه مربوط باعتبار القصة بـ ﴿يَقُولُ﴾ في ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ﴾ وباعتبار المآل بـ ﴿يُخَادِعُونَ﴾؛ كذلك يرتبط باعتبار نفسه بـ ﴿يَكْذِبُونَ﴾.
وتغير الأسلوب من الحَمْلية إلى الشرطية أمارة ورمزٌ خفي إلى مُقدَّر بينهما، كأنه يقول: ﴿لَهُمْ عَذَابٌ اَليمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾؛ إذ إذا كذبوا فتنوا، وإذا فتنوا أفسدوا، وإذا نوصحوا لم يقبلوا، ﴿وَاِذَا قيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا…﴾ الخ.

وأما وجه النظم بين الجمل الصريحة والضمنية في هذه الآية فهو عينُ النظم والربط في ما أمثّل لك وهو أنك إذا رأيت أحداً يسلك في طريق تنجرّ إلى هلاكه، فأولاً تنصحه قائلا له: «مذهبُك هذا ينهار بك في البوار فتجنَّب». وإن لم ينتهِ بنُهاه، تعُود عليه بالزّجر والنهي والنعي وتؤيّد نهيَك وتديمُه في ذهنه إما بتخويفه بنفرةِ العموم، وإما بترقيق قلبه بالشفقة الجنسية كما سيأتيك بيانُهما. فإن كان ذلك الشخص متعنتاً لَجوجاً مُصرّاً ألدَّ راكباً متنَ الجهل المركّب فهو لا يسكت، بل يدافع عن نفسه، كما هو شأنُ كل مفسد يرى فسادَه صلاحاً؛ إذ الإنسانيةُ لا تُخلّى أن يرتكب الفسادَ من حيث هو فساد. ثم يستدِل ويدّعي بـ«أن طريقي هذا حق، ومعلوم أنه كذلك؛ فلا حقّ لك في النصيحة فلا احتياج إلى نصيحتك، بل أنت محتاج إلى التعلّم، فما السبيل السويّ إلّا سبيلُنا، فلا تعرّض بوجود طريقٍ أصوبَ». وإن كان ذلك الشخص اللجوج ذا الوجهين يكون كلامُه ذا اللسانين؛ يداري الناصحَ لإلزامه بوجهٍ، ويتحفظ على مسلكه بآخر، فيقول: أنا مصلحٌ أي ظاهراً كما تطلُب، وباطناً كما أعتقد.. ثم من شأنه تأييد وتأكيد دعواه بأن الصلاح من صفتي المستمرة، لا أني كنتُ صالحاً الآن بعد فسادي قبلُ.. ثم إذا كان ذلك الشخصُ متمردا ومُتَنَمِّراً ومصرّاً في نشر مذهبه، وترويجِ مسلكه، وتزييفِ ناصحه وتعريضِ أهل الحق بهذه الدرجة، ظهر أنه لا يجدي له دواءٌ، ولم يبقَ إلا آخرُ الدواء، أعني المعالجةَ لعدم السراية. وما هذه المعالجة إلّا تنبيهُ الناس وإعلامُهم بأنه مفسدٌ لا صلاحَ فيه؛ إذ لا يستعمِل عقلَه ولا يستخدم شعورَه حتى يحس بهذا الشيء الظاهر المحسوس.

فإذا تفهّمتَ الحلقات المُسرَّدة في هذا المثال تفطنتَ ما بين الجمل المنصوصة والمرموزة إليها بالقيود، في ﴿وَاِذَا قيلَ لَهُمْ﴾ إلى آخره. فإن فيما بينها نظماً فطرياً بإيجاز يحمرّ من تحته الإعجاز.

وأما نظم هيئات كل جملةٍ جملةٍ:

فاعلم أن جملة ﴿وَاِذَا قيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْاَرْضِ﴾

القطعيةُ في ﴿اِذَا﴾ إشارةٌ إلى لزوم النهي عن المنكر ووجوبه..

وبناء المفعول في ﴿قيلَ﴾ رمز إلى أن النهي فرضُ كفاية على العموم..

وفي لام ﴿لَهُمْ﴾ إيماء إلى أن النهي لابد أن يكون على وجه النصيحة دون التحكم، والنصيحة على وجه اللطف دون التقريع..

و ﴿لَا تُفْسِدُوا﴾ فذلكةٌ وخلاصة لصورة قياس استثنائي أي لا تفعلوا هكذا، وإلّا نشأ منه الهَرْج والمَرْج، فينقطع خيطُ الإطاعة، فيتشوش نظام العدالة، فتنحلّ رابطة الاتفاق، فيتولد منه الفسادُ، فلا تفعلوا لئلا تفسدوا..

ولفظ ﴿فِي الْاَرْضِ﴾ تأييدٌ وتأكيد للنهي وإدامةٌ للزجر، إذ نهيُ الناصح موقتٌ لابد من إدامته في ذهن المنصوح بتوكيل وجدانه ليزجرَه دائما من تحته. وهو إما بتحريك عِرق الشفقة الجنسية، وإما بتهييج عرق التنفُّر من نفرة العموم.. و﴿فِي الْاَرْضِ﴾ هو الذي يوقظ العِرقَين وينعشهما؛ إذ لفظ ﴿فِي الْاَرْضِ﴾ يناجيهم بأن فسادكم هذا يسري إلى نوع البشر فأيُّ حقدٍ وغيظ لكم على جميع الناس الذين فيهم المعصومون والفقراء والذين لا تعرفونهم، أفلا تتوجعون لهم ولِمَ لا تترحّمون بهم؟ هب أن ليست لكم تلك الشفقة الجنسية، فلا أقلَّ من أن تلاحظوا أن حركتكم هذه تجلب عليكم معنى نَفرة العموم.

 فإن قلت: أيّ غرض لهم بالعموم وكيف ينجرّ فسادُهم إلى الكل؟

قيل لك: كما أن من نظر بمرآة البصرِ السوداءِ رأى كلَّ شيء أسودَ قبيحاً. كذلك من احتجبت بصيرتُه بالنفاق وفسَد قلبُه بالكفر رأى كل شيء قبيحاً مبغوضاً، (و) يحصل في قلبه عنادٌ وحقد مع كل البشر بل كل الكائنات.. ثم كما أن انكسار سنٍّ من جَرْخٍ من دولابٍ من ساعة يتأثر به الكلُّ كلياً أو جزئياً؛ كذلك بنفاق الشخص يتأثر نظامُ هيئة البشر التي انتظمت بالعدالة والإسلامية والإطاعة. فأسفاً قد تظاهرت سمومُهم المتسلسلة حتى أنتجت هذه السفالة.

وأما جملة: ﴿قَالُٓوا اِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ ففي ﴿قَالُٓوا﴾ بدلَ «لا يقبلون النصيحة» الظاهرِ من السياق إشارة إلى أنهم يدّعون ويَدْعون إلى مسلكهم.

وفي ﴿اِنَّمَا﴾ خاصيتان:

الأولى: أن مدخوله لابد أن يكون معلوماً حقيقةً أو ادّعاءً. ففيها رمز إلى تزييف الناصح وإظهار ثباتهم على جهلهم المركب.

والثانية: الحصر، ففيها إشارة إلى أن صلاحهم لا يشوبُه فسادٌ فليسوا كغيرهم؛ ففي الإشارة رمز إلى التعريض بالمؤمنين.

وفي اسميّة ﴿مُصْلِحُونَ﴾ بدلَ «نصلح» إشارة إلى أن الصلاحَ صفتُنا الثابتة المستمرة. فحالنا هذه عين الإصلاح بالاستصحاب.. ثم إنهم ينافقون في هذا الكلام أيضاً، إذ يَتَبَطَّنون خلاف ما يُظهرون، فباطناً يدعون فسادهم صلاحاً وظاهراً يُرَاؤُونَ أن عملَهم لصلاح المؤمنين ومنفعتهم.

وأما جملة ﴿اَلَٓا اِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلٰكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ فاعلم أنهم لمّا أدرجوا في معاطف الجملة السابقة معاني: من ترويج مسلكهم ودعوى ثبوت الصلاح لهم، وأن الصلاح صفتُهم المستمرة.. وأنهم منحصرون عليه.. وأن الفساد لا يشوب صلاحَهم.. وأن هذا الحكم ظاهر معلوم.. ومن تعريضهم بالمؤمنين ومن تجهيلهم للناصح؛ أجابَهم القرآنُ بهذه الجملة المتضمنة لأحكامٍ من إثبات الفساد لهم، وأنهم متحدون مع حقيقة المفسدين.. وأن الفساد منحصر عليهم.. وأن هذا الحكم حقيقة ثابتة.. ومن تنبيه الناس على شناعتهم.. ومن تجهيلهم بنفي الحس عنهم كأنهم جمادات.

وإن شئت فانظر إلى ﴿اَلَٓا﴾ التي للتنبيه كيف تزيِّف بتنبيهها ترويجَهم الناشئ من دعواهم المترشحَ من ﴿قَالُٓوا﴾.. وإلى ﴿اِنَّا﴾ التي للتحقيق كيف تردّ دعواهم المعلومية بـ ﴿اِنَّمَا﴾، كأن ﴿اِنَّا﴾ تقول: حالُهم في الحقيقة والباطن فسادٌ، فلا يجديهم الصلاحُ ظاهراً.. وإلى الحصر في ﴿هُم﴾ كيف يقابل تعريضَهم الضمنيّ في ﴿اِنَّمَا﴾ و﴿نَحْنُ﴾.. وإلى تعريف ﴿الْمُفْسِدُونَ﴾ -الذي معناه حقيقة المفسدين تُرى في ذاتهم فهُم هي- كيف يدافع حصرَهم المستفاد من ﴿اِنَّمَا﴾ أيضاً.. وإلى ﴿وَلٰكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ كيف يدافع تزييفهم الناصح وأنهم ليسوا مستحقين للنصيحة بدعوى المعلومية. فتأمل!

* * *