ولنشرع في نظم هذه الآية باعتبار نظم مجموعها بما قبلها، ثم نظمِ جُمَلها بعضٍ مع بعض، ثم نظم هيئاتِ كلّ جملةٍ جملة.

أما نظمُ المجموع بما قبله فاعلم أن القرآن لمّا بيّن أقسامَ البشر وأنواعَ المكلَّفين من المؤمنين المتّقين والكافرين المعاندين والمنافقين المذبذبين توجّه إليهم كافة مخاطباً بقوله: ﴿يَٓا اَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا﴾ عقّبه ورتّبه على سابقه ترتيبَ البناء على الهندسة، والأمرِ والنهي بالعمل على قانون العلم، والقضاءِ على القدر، والإنشاء والإيجادِ على القصة والحكاية؛ إذ لمّا ذكرَ مباحث الفِرَق الثلاث، وذكر خاصةَ كلٍّ وعاقبةَ كلٍّ، تهيأ الموضعُ وانتبه السامعُ فالتفت مخاطباً بذلك الخطاب.. ثم إن في هذا الالتفات -أعني ذكرَهم أولاً بالغَيبة ثم الخطابَ معهم هنا- نكتةً عمومية في أسلوب البيان، وهي: أنه إذا ذُكر محاسنُ شخص أو مساويه شيئاً فشيئاً يتزايدُ بحُكم الإيقاظ والتهييج ميلانُ استحسانٍ أو ميلُ نفرةٍ. ويتقوى ذلك الميل شيئاً فشيئاً إلى أن يُجبرَ صاحبَه على المشافهة مع ذلك الشخص، وبالنظر إلى المقام يقتضي ميولات السامعين لأوصافه أن يُحضر المتكلمُ ذلك الشخص ويجرّه إلى حضورهم فيتوجه إليه بالخطاب..

وفيه نكتة خصوصية هنا وهي تخفيفُ أعباء التكليف بلذّة الخطاب.. وفيه أيضاً إشارة إلى أنْ لا واسطةَ في العبادة بين العبد وخالقه.

وأما نظم الجمل فـ ﴿يَٓا اَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا﴾ خطابٌ لكل إنسان من الفِرق الثلاث في الأزمنة الثلاثة من كلِّ طبقات الفِرَق. أي أيها المؤمنون الكاملون اعبدوا على صفة الثبات والدوام.. وأيها المتوسطون اعبدوا على كيفية الازدياد.. وأيها الكافرون افعلوا العبادة مع شرطها من الإيمان والتوحيد.. وأيها المنافقون اعبدوا على كيفية الإخلاص. فالعبادة هنا كالمشتَرَك المعنوي فتأمل!

﴿رَبَّكُمُ﴾ أي اعبدوه لأنه ربٌّ يربيكم فلابد أن تكونوا عباداً تعبدونه.

تذييل: في ﴿رَبَّكُمُ﴾ رمزٌ دقيق إلى دليل إمكان الذوات. وفي ﴿جَعَلَ لَكُمُ الْاَرْضَ فِرَاشًا﴾ إلى دليل إمكان الصفات. وفي ﴿الَّذي خَلَقَكُمْ وَالَّذينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ إلى دليل حدوث الذوات والصفات. والذي ينصّ على دليل إمكان الذوات قوله تعالى: ﴿وَاللّٰهُ الْغَنِيُّ وَاَنْتُمُ الْفُقَرَٓاءُ﴾ وأيضاً: ﴿ اِلٰى رَبِّكَ الْمُنْتَهٰى﴾ (النجم:42) وأيضاً: ﴿فَاِنَّهُمْ عَدُوٌّ لٓي اِلَّا رَبَّ الْعَالَمينَ﴾ (الشعراء:77) وكذلك: ﴿قُلِ اللّٰهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ في خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ﴾ (الأنعام:91) وأيضاً: ﴿فَفِرُّٓوا اِلَى اللهِ﴾ (الذاريات:50) وكذلك: ﴿اَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ (الرعد:28) وقس، فتأمل!

وأما جملة ﴿الَّذي خَلَقَكُمْ﴾ فاعلم أن الله تعالى لمّا أمر بالعبادة وهي تقتضي ثلاثة أشياء: وجود المعبود، ووحدته، واستحقاقه للعبادة.. أجاب عن هذه الأسئلة المقدَّرة بالإشارة إلى دلائلها الثلاثة:

فدلائل الوجود قسمان: آفاقي وأنفسي. والأنفسي نوعان: نفسيّ وأصوليّ. فأشار إلى النفسي الأقربِ الأوضحِ بقوله: ﴿الَّذي خَلَقَكُمْ﴾ وإلى الأصولي بقوله: ﴿وَالَّذينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾.

وأما نظمُ ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ فاعلم أن القرآن لمّا علّق العبادةَ على خَلقِهم وآبائهم، اقتضى ترتيبُ العبادة على خَلق البشر نقطتين:

إحداهما: أن تكون خلقتُهم باستعداد العبادة، وجبليّتُهم على قابلية التقوى؛ حتى مَن يرى ذلك الاستعداد يأمل ويرجو منهم العبادةَ، كمن يرى المَخالِبَ يأمل الافتراس.

والثانية: أن يكون المقصدُ من خلقتهم ووظيفتهم التي هم مأمورون بها وكمالُهم الذي يتوجهون اليه، هو التقوى الذي هو كمال العبادة.

و ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ أي المقصد من خلقكم وكمالكم والذي هُيئ له استعدادُكم إنما هو التقوى.

وأما جملة: ﴿جَعَلَ لَكُمُ الْاَرْضَ فِرَاشًا﴾ فإشارة إلى أقرب الدلائل الآفاقية على وجوده تعالى.. وأيضاً فيها رمز إلى ردِّ التأثير الحقيقي للأسباب الذي هو منشأٌ لنوعِ شرك. أي تمهيدُ الأرض بجعله تعالى، لا بالطبيعة.

وأما: ﴿وَالسَّمَٓاءَ بِنَٓاءً﴾ فإشارة -بذكر السماء التي هي لصيقُ الأرض- إلى أعلى الدلائل الآفاقية البسيطة.

ثم أشار بقوله: ﴿وَاَنْزَلَ مِنَ السَّمَٓاءِ مَٓاءً﴾ إلى وجه دلالةِ المركبات والمواليد على وجود صانعها.

ثم إن كلاً من الجُمل السابقة كما تدل على إثبات الوجود؛ كذلك المجموعُ يلوّح بالوحدة. وصورةُ الترتيب المشيرِ إلى النظام الملوِّحِ بالنِعم مع دلالة: ﴿رِزْقًا لَكُمْ﴾ تُثبت استحقاقه تعالى للعبادة، لأن شكْرَ المُنْعِم واجبٌ. وفي ﴿رِزْقًا لَكُمْ﴾ إشارة إلى أنه كما أن الأرض والمواليد تخدم لك لابد أن تخدم لمَن سخّرها لك.

وأما نظم: ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلّٰهِ اَنْدَادًا ﴾ فاعلم أنه قد امتدت من نظمها خطوطٌ إلى ﴿يَٓا اَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ وإلى ﴿الَّذي خَلَقَكُمْ﴾ وإلى ﴿اَلَّذي جَعَلَ لَكُمُ﴾ وإلى ﴿وَاَنْزَلَ﴾. أي إذا عبدتُم ربَّكم فلا تشركوا له لأنه هو الرب، ولأنه هو الخالقُ لكم ولنَوعكم، فلا يجعلْ بعضُكم بعضاً أرباباً من دون الله، ولأنه هو الذي خلق الأرض وفرَشها ومهّدها لكم، ولأنه هو الذي خلق السماء وجعلها سقفا لبنائكم، فلا تعتقدوا تأثيراً حقيقياً للأسباب الطبيعية التي هي منشأ الوثنية، ولأنه هو الذي أرسل الماء إلى الأرض لرزقكم ومعيشتكم، ولا نعمةَ إلّا منه، فلا شكرَ ولا عبادةَ إلّا له.

وأما نظم كيفياتِ وهيئاتِ جملةٍ جملةٍ:

فاعلم أن كلمة ﴿يَٓا اَيُّهَا في جملة: ﴿يَٓا اَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا﴾ قد أكثر التنـزيلُ من ذكرها لنُكت دقيقة ولطائفَ رقيقة، إذ هذا الخطاب مؤكّد بوجوه ثلاثة: بما في ﴿يَا﴾ من الإيقاظ، وما في «أَيُّ» من التوسم، وما في «ها» من التنبيه.

فالخطاب هنا رمز إلى فوائدَ ثلاث: مقابلة مشقة التكليف بلـذّة الخطاب.. وأنّ ترقي الإنسان من حضيض الغيبة إلى مقام الحضور إنما هو بواسطة العبادة.. وأيضاً إشارة إلى أن المخاطَب مكلّف بجهات ثلاث: باعتبار قلبه بالتسليم والانقياد، ومن جهة عقله بالإيمان والتوحيد، وبالنظر إلى قالبه بالعمل والعبادة.. وأيضاً إيماء إلى أن المخاطبين ثلاثُ فرق.. وأيضاً تلويح إلى الطبقات الثلاث من الخواص، والمتوسطين، والعوام.. وأيضاً تلميح إلى الطرز المألوف والنسق المأنوس وهو أن المرء أولاً ينادي أحدا فيُوقِفه. ثم يتوسمه فيوجّهه. ثم يخاطبه فيُخدِمُه.

فبناء على هذه النكت تكون التأكيداتُ في الخطاب مؤسسةً من تلك الجهات.

أما النداء في ﴿يَا﴾ فلأن المُنادَى هو الناس المشتمل على الطبقات المختلفة من الغافلين والغائبين والساكتين والجاهلين والمشغولين والمُعرضين والمحبين والطالبين والكاملين يكون هذا النداء للتنبيه، وكذا للإحضار، وكذا للتحريك، وكذا للتعريف، وكذا للتقريع، وكذا للتوجيه، وكذا للتهييج، وكذا للتشويق، وكذا للازدياد، وكذا لهزّ العِطف..

وأما البُعد في ﴿يَا﴾ مع أن المقام مقام القُرب، فإشارة إلى جلالةِ وعظمةِ أمانة التكليف.. وأيضاً إيماءٌ إلى بُعد درجة العبودية عن مرتبة الألوهية.. وأيضاً رمز إلى بُعد أعصار المكلفين عن محلِّ وزمانِ ظهور الخطاب. وأيضا تلويح إلى شدة غفلةِ البشر.

وأما «أَيُّ» الموضوعُ للتوسّم من العموم، فرمز إلى أن الخطاب لعموم الكائنات. فيخصص من بينها الإنسان، بتحمل الأمانة على طريق فرض الكفاية. فإذن قصورُ الإنسان تجاوزٌ لحقِّ مجموع الكائنات.. ثم في «أَيُّ» جزالةُ الإجمال ثم التفصيل.

وأما «ها» فمع كونه عِوَضا عن المضاف إليه، إشارة إلى تنبيه مَن حضر بـ ﴿يَا﴾.

وأما ﴿النَّاسُ﴾ فإشارة -بحكم تلميح الوصفية الأصلية- إلى العتاب، أي «أيها الناس كيف تنسون الميثاق الأزلي؟» وأيضاً إلى العذر، أي «أيها الناس لابد أن يكون قصوركم عن السهو والنسيان لا بالعمد والجد!»

أما ﴿اعْبُدُوا﴾ فبحكم جوابيته للنداء العامِّ مناداهُ للطبقات المذكورة يدل على الإطاعة، ويشير إلى الإخلاص، ويرمز إلى الدوام، ويلوّح إلى التوحيد. أي أطيعوا.. وأخلصوا.. واثبتوا.. وازدادوا.. ووحّدوا.

وأما ﴿رَبَّكُمُ﴾ فإشارة إلى أن العبادة كما ينبغي أن يُرغَّب فيها، لأنها نسبةٌ شريفة ومناسبة عالية؛ كذلك لابد أن تُطلَب لأنها شكر وخدمة لمن هو يربيكم وتحتاجون اليه.

أما هيئاتُ ﴿الَّذي خَلَقَكُمْ وَالَّذينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾

فاعلم أن ﴿الَّذي﴾ الذي جهةُ معلوميته الصلةُ يشير إلى أن معرفة الله تعالى إنما تكون بأفعاله وآثاره لا بكُنهه.

وأن «خَلَق» الممتاز عن الإيجاد والإنشاء بكونه على وجه مقدَّرٍ مستوٍ، إشارة إلى أن استعداد البشر مسدَّد للتكليف.. وأيضا رمز إلى أن العبادة وظيفة، لأنها نتيجة الخلقة وأُجرتُها. فما الثواب إلّا من محض فضل الله تعالى.

وأن ﴿اَلَّذينَ﴾ بناءً على إبهامه إيماء إلى أن الذين سبقوكم انقرضوا فماتوا فذهبوا.. فلم يبقَ منهم جهةُ المعلومية إلّا كونُهم مخلوقين قبلكم.. فأنتم على شفا جُرف القبر.. فاعتبِروا.. فلا تغتروا بالدنيا.. فتشبثوا بأذيال العبادة التي هي وسيلةُ السعادة الأبدية.

أما كيفيات ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ فاعلم أن «لعل» للرجاء، ففي المرغوب يُقال إطماع، وفي المكروه إشفاق. فالرجاءُ في حق المتكلم هنا حقيقةً محالٌ. فهو إما باعتباره لكن مجازا، وإما باعتبار المخاطَب، وإما باعتبار المشاهدين والسامعين:

أما باعتبار المتكلم فاستعارةٌ تمثيلية، كما أن من جهّز أحدا بأسبابِ خدمةٍ يرجو منه -عُرفا- تلك الخدمة؛ كذلك إن الله جهّز البشر باستعداد الكمال وقابلية التكليف وواسطة الاختيار. ففي الاستعارة إشارة إلى أن حكمةَ خلق البشر هي التقوى.. وكذا رمز إلى أن نتيجة العبادة مرتبةُ التقوى.. وكذلك إيماء إلى أن التقوى أكبرُ المراتب.. وأيضاً تلميح إلى طرز أسلوب الملوك بالإطماع والرمز في موضع الوعد القطعيّ.

وأما باعتبار المخاطَب فكأنه يقول: «اعبدوا حال كونِكم راجين للتقوى، ومتوسطين بين الرجاء والخوف». وفي هذا الاعتبار إشارة إلى أنه لابد أن لا يعتمد الإنسان على عبادته.. وكذا إيماء إلى أنه لابد أن لا يكتفي بما هو فيه، بل لزم أن يكون مصداقا لـ«عليك بالحركة غيرِ السكون» فينظرَ في كل مرتبة إلى ما فوقها.

وأما باعتبار المشاهدين والسامعين، فكأن من شاهد البشر مجهّزا ومسلّحا باستعدادات، يأمل ويرجو منه العبادة، كمن يرى مخالبَ حيوان وأنيابه، يأمل منه الافتراس.. وكذلك إشارة إلى أن العبادة مقتضى الفطرة.

أما لفظ ﴿تَتَّقُونَ﴾ فإشارة -بحكم ترتّبه على عبادة الطبقات المذكورة- إلى مراتب التقوى وهي: التقوى عن الشرك، ثم التقوى عن الكبائر، ثم التقوى بحفظ القلب عما سواه تعالى.. وكذا التقوى بالتجنب عن العقاب.. وأيضاً التقوى بالتحرز عن الغضب.. وكذا رمز إلى أن العبادة بالإخلاص تكون عبادةً.. وأيضاً إيماء إلى أن العبادة مقصودةٌ بالذات لا وسيلة محضة.. وكذلك رمز إلى أن العبادة لابد أن لا تكون لأجل الثواب والعقاب.

أما هيئات آيةِ ﴿اَلَّذي جَعَلَ لَكُمُ الْاَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَٓاءَ بِنَٓاءً﴾

فاعلم أنها إشارة إلى التهييج على العبادة ببيان عظمةِ قدرة الصانع، وإلى التشويق عليها بالامتنان. كأنه يقول: أيها الإنسان! إن الذي سخّر لك الأرض والسماء يستحق أن تعبده.. وكذا إيماء إلى فضيلة البشر وعلوّ قيمته ومُكرَّمِيَّتِه عند الله، كأنه يقول: «إنَّ الذي أكرمكم بأنْ هيّأ الأجرامَ العلوية والسفلية بعظمتها لاستفادتكم، لابد أن تُظهروا لياقتكم للكرامة بعبادته..» وكذا تلميح إلى ردِّ التصادف والاتفاق وتأثيرِ الطبيعة، أي إن كل ما ترون بصفاتها إنما هي بجعلِ جاعلٍ وقصدِ قاصدٍ وتخصيصِ مخصِّص ونظمِ نظَّام جلّت حكمتُه.. وكذا تلويح إلى ردِّ مذهب أهل الطبيعة ومذهب الصابئين المولِّدِ لمذهب الوثنيين.. وايضاً تنبيه إلى أن صفات الأجسام بإمكانها تدل على الصانع؛ إذ الأجسام متساويةٌ ذراتُها في قابلية الأحوال والكيفيات العمومية، فكل صفة ممكنةٌ مترددة بين احتمالات كثيرة، فكل جسم باعتبار كل صفة وكيفية يحتاج إلى قصد وحكمة وتخصيصِ مخصِّص.

أما تقديم ﴿لَكُمُ﴾ فإشارة إلى أن تفريش الأرض لأجل الإنسان، لا أن المفترِش والمستفيد هو الإنسان فقط، حتى يكون الزائدُ عبثاً، فتأمل!

وأما ﴿فِرَاشًا﴾ فإشارة إلى نكتة البلاغة التي هي نقطة الغرابة، وهي قيدُ «مع اقتضاء طبعها الانغماس في الماء».. وإيماء إلى أن التفريش بالجَعل خلاف الطبيعة؛ إذ مقتضى طبيعة الكرة استيلاء الماء عليها وإحاطته بها، فالصانع بحكمته ومرحمته أَظهر قسماً منها وفرشه ووضع عليه مائدة نِعَمه.. وكذا تنبيه -بقاعدةِ: «إذا ثبت الشيءُ ثبت بلوازمه»- إلى أن الأرض كأرض البيت مبسوطة، فأنواع النباتات والحيوانات فيها كأساسات البيت إنما وضعت بقصدٍ وحكمةٍ.. وكذا إيماء إلى أن الأرض توسطت بقصدٍ وحكمة بين المائع الذي لا يتمسك عليه الأقدام، وبين الصلب الشديد الذي لا يقبل الاستفادة والزراعة فيكون عبثاً، ولو كان ذهباً. فبالتوسط إشارة إلى أنه بتخصيصِ وجعلِ وقصدِ حكيم.

أما ﴿وَالسَّمَٓاءَ بِنَٓاءً﴾ فإشارة إلى أنه تعالى لما جعل لكم السماء سقفاً وبناءً صارت نجومُها قناديل لكم، فلا يُتوهم التصادف في تفريق تلك القناديل وانتشارِها كما يُتوهم التصادف في وضعية الجواهر التي تُرمى على الأرض منتثرة.

اعلم أن في هذه الآية إشارة ورمزاً وإيماء إلى سرّ عجيب دقيق غال وهو:

إن قلت: إنَّ الإنسان ذرة بالنسبة إلى أرضه، وأرضُه ذرة بالنسبة إلى الكائنات. وكذا فردُه ذرة إلى نوعه، ونوعُه ذرة بالنسبة إلى شركائه في الاستفادة في هذا البيت العالي. وكذا جهةُ استفادة البشر بالنسبة إلى فوائدِ وغايات هذا البيت ذرة، والغايات التي تُحِسّ بها العقولُ ذرةٌ بالنسبة إلى فوائده في الحكمة الأزلية والعلم الإلهي، فكيف جُعِل العالمُ مخلوقاً لأجل البشر واستفادتُه علةً غائية؟.

قيل لك: نعم، ولكن مع كلِّ ما مرّ؛ لأجل وُسعة روح الإنسان وتبسّطِ عقله وانبساطِ استعداده وكثرةِ وانتشار استفادته من الكائنات.. وأيضاً لأجل عدم المزاحمة والتجزي والمدافعة في جهة الاستفادة كنسبة الكلّي إلى جزئياته -إذ الكلّي بتمامه موجود في كلٍ مِن جزئياته لا مزاحمةَ ولا تجزّيَ- جَعَل القرآنُ جهةَ استفادة البشر التي هي غايةٌ فذّة من ألوفِ ألوف غايات السماء والأرض، في منـزلة العلة الغائية. كأنها هي العلة بالنظر إلى الإنسان. أي إن الإنسان يستفيد من الأرض عرصةً لبيته والسماء سقفاً له والنجوم قناديل والنباتات ذخائر، فحقٌّ لكل فرد أن يقول: شمسي وسمائي وأرضي. فتأمل وعقلُك معك!

أما كيفياتُ: ﴿وَاَنْزَلَ مِنَ السَّمَٓاءِ مَٓاءً فَاَخْرَجَ بِه مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ﴾ فاعلم أن نسبة أنزل إلى الضمير إشارةٌ إلى أن القطرات إنما تُنـزَل بميزانِ قصدٍ وتُرسل بحكمةٍ، حتى إن كل قطرة محفوفة بنظام مخصوص، بأمارةِ عدم مصادمتها لأخواتها في تلك المسافة البعيدة مع تلعّب الهواء بها. فيؤذِنُ أنْ ليست غواربها على أعناقها، بل زمامُ كلٍّ في يد مَلَك ممثِّل لنظام ومَعكِس له.

أما ﴿مِنَ السَّمَٓاءِفإشارة بإقامة الظاهر مقامَ الضمير، إلى أن الغرض من هذه السماء جهتُها لا جِرمُها المخصوص.

أما ﴿مَٓاءً﴾ مع أن المُنـزَل ثلج وبَرَد ومطر، فإشارة إلى المنشأ القريب للاستفادة ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ المَٓاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيّ﴾ (الأنبياء:30). أما تنكيره فإشارة إلى أنه ماءٌ عجيبٌ شأنُه، غريبٌ نظامُه، مجهولٌ لكم امتزاجاتُه الكِمْيَوِية.

أما فاء ﴿فَاَخْرَجَ﴾ الموضوعة للتعقيب بلا مهلة، مع المهلة بين نزول الماء وخروج الثمر، فتلويح إلى فـ«اهتزت الأرضُ وربَت.. واخضرّت.. وانبتت من كل زوج بهيج.. فأخرج». أما نسبة ﴿اَخْرَجَ﴾ إلى الضمير فإشارة إلى أن خروج الثمار ليس بتولّد وتركّب فقط، بل الصانعُ الحكيم ينشئها ويرتبها بصفات وخواص لا توجد في مادتها.

أما ﴿بِه﴾ فبسبب تشرب المعنى الحقيقي -وهو الإلصاق- للسببية رمز إلى لطافة طراوة الثمار، فيعلو إليها الماء -خلاف طبيعته- بوساطة «الآثار الشَعرية» فيملأ أقداح الثمرات ملصقاً بها.

أما ﴿مِنَ الثَّمرَاتِ﴾ فلعدم خلوّها من معنى الابتداء عند سيبويه يشير إلى مفعولٍ يتنوع بتعيّن فهم السامع، أي إن من الثمرات أنواعاً كما تشتهون.

أما تنوين ﴿رِزْقًا﴾ فإشارة إلى أنه رزقٌ، مجهولٌ لكم أسبابُ حصوله، فيجيء من حيث لا يُحتسب.

أما ﴿لَكُمْ﴾ فإشارة إلى تأكيد معنى الامتنان.. وأيضاً إيماءٌ إلى أن الرزق لأجلكم، فلا بأس من استفادة غيركم منه تبعاً.. وكذا رمز إلى أنه تعالى كما خصّكم بالنِعم فخُصّوه بالشكر.

أما نظم هيئات ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلّٰهِ اَنْدَادًا﴾

فالفاء ينظر إلى الفقرات الأربعة: أي لأنه هو المعبود فلا تشركوا، ولأنه هو القادر المطلق والأرض والسماء في قبضته فلا تعتقدوا له شريكاً، ولأنه المُنعم فلا تشركوا في شكره، ولأنه هو خالقكم فلا تتخيلوا له شريكاً.

أما ﴿تَجْعَلُوا﴾ بدل تعتقدوا فإشارة إلى معنىَ: ﴿اِنْ هِيَ اِلَّٓا اَسْمَٓاءٌ سَمَّيْتُمُوهَٓا﴾ (النجم:23) أي أسماء لا معنى لها، تتخيلون لها وجوداً بجعلكم.

أما تقديم ﴿لِلّٰهِ﴾ فمع الاهتمام بجعله نُصبَ العين، إيماء إلى أن منشأ النهي كون الشريك لله.

أما ﴿اَنْدَادًا﴾ فلفظ الندّ بمعنى المِثل، ومِثلُه تعالى يكون عينَ ضدِّه، وبينهما تضادٌّ، ففيه إيماء لطيف إلى أن الندّ بيّن البطلان بنفسه.. أما الجمعُ فإشارة إلى نهاية جهالة المشركين وإيماء إلى التهكّم بهم. أي كيف تجعلون لله الذي لا شبيه له بوجهٍ مّا جماعةً من أمثال وأضداد؟». وكذا رمز إلى ردِّ كل أنواع الشرك. أي لا شريك له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله.. وتلويح إلى ردّ طبقات المشركين من الوثنيين والصابئين وأهل التثليث وأهل الطبيعة المعتقدين بالتأثير الحقيقي للأسباب.

تذييل: منشأ الوثنية والأصنام إما تأليهُ النجوم أو تخيّل الحلول أو توهّم الجسمية.

أما ﴿وَاَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ فمع أخواتها من الفواصل، إشارة إلى أن منشأ الإسلامية هو العلم وأساسُها العقل، فمن شأنه أن يقبل الحقيقةَ، ويردّ سفسطة الأوهام. ثم إنه أطنبَ بإيجازِ تركِ المفعول، أي ﴿وَاَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أن لا معبودَ حقيقياً ولا خالق ولا قادر مطلقاً ولا منعم إلّا هو.. وكذا وأنتم تعلمون أن الآلهة والأصنام ليست بشيء، لا تقتدر على شيء، وأنها مخلوقة مجعولة تتخيلونها. فتدبّر!