المسألة السادسة

في صحيفة المستقبل لاسيما «مسألة الشريعة».

ولابد من ملاحظة أربع نكَت في هذه المسألة:

إحداها: أنَّ شخصاً ولو خارقاً إنما يتخصص ويصير صاحبَ ملَكة في أربعة فنون أو خمسة فقط.

النكتة الثانية: إنَّ كلاماً واحداً قد يتفاوت بصدوره عن متكلِّمين، فكما يدل على سطحية أحدٍ وجهله.. كذلك يدلّ على ماهرية الآخر وحذاقته، مع أن الكلامَ هو الكلامُ؛ إذ أحدُهما لمّا نظر إلى المبدأ والمنتهى، ولاحظ السياق والسباق، واستحضر مناسبتَه مع أخواته، ورأى موضعاً مناسباً فأحسنَ الاستعمال فيه، وتحرى أرضاً منبتة فزرعه فيها، ظهر منه أنه خارق وصاحب مَلَكة فيما هذا الكلام منه. وكل فذلكات القرآن من الفنون وملتقطاته إنما هي من هذا القبيل.

النكتة الثالثة: هي أن كثيراً من الأمور العادية الآن -بسبب تكمّل المبادئ والوسائط حتى يلعبُ بها الصبيان- لو كانت قبل هذا بعصرين لعُدّت من الخوارق. فما يحافظ شبابيتَه وطراوتَه وغرابته على هذه الأعصار المديدة يكون البتة من خوارق العادات والعادات الخارقة.

النكتة الرابعة: هي أن الإرشاد إنما يكون نافعاً إذا كان على درجة استعداد أفكار الجمهورِ الأكثرِ. والجمهورُ -باعتبار المعْظَم- عوامُّ، والعوام لا يقتدرون على رؤية الحقيقة عريانةً ولا يستأنسون بها إلّا بلباس خيالهم المألوف. فلهذه النكتة صوّرَ القرآنُ تلك الحقائقَ بمتشابهات وتشبيهات واستعارات، وحافظ الجمهورَ الذين لم يتكمّلوا عن الوقوع في ورطة المغلطة، فأبْهَمَ وأهمَلَ في المسائل التي يعتقد الجمهورُ -بالحس الظاهري- خلافَ الواقع ضرورياً، لكن مع ذلك أومأ إلى الحقيقة بنَصْب أمارات.

فإذا تفطنتَ لهذه النكت، اعلم أن الديانة والشريعة الإسلامية المؤسّسةَ على البرهان العقليّ ملخصةٌ من علوم وفنون تضمنت العُقَد الحياتية في جميع العلوم الأساسية: من فنّ تهذيب الروح، وعلم رياضة القلب، وعلم تربية الوجدان، وفنّ تدبير الجسد، وعلم تدوير المنـزل، وفنِّ سياسة المدنية، وعلم نظامات العالم، وفنِّ الحقوق، وعلم المعاملات، وفنِّ الآداب الاجتماعية، وكذا وكذا وكذا… الخ. مع أن الشريعة فسّرت وأوضحت في مواقع اللزوم ومظانّ الاحتياج، وفيما لم يلزم أو لم يستعد له الأذهانُ أو لم يساعد له الزمانُ أجملتْ بفذلكة ووضعت أساساً أحالَت الاستنباطَ منه وتفريعَه ونُشُوءَ نَمَائِه على مَشُورة العقول. والحال أن كل هذه الفنون بل ثلثَه بعد ثلاثة عشر عصراً -مع انبساط تلاحق الأفكار وتوسع نتائجها، وكذا في المواقع المتمدنة، وكذا في الأذكياء – لا يوجد في شخص. فمن زيّن وجدانَه بالإنصاف يصدّق بأن حقيقة هذه الشريعة خارجةٌ عن طاقة البشر دائما لاسيما في ذلك الزمان، ويصدّق بمآل ﴿لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾.

«والفضل ما شهدت به الأعداء»:

فهذا «قارلائيل» فيلسوف أمريكا نقل عن الأديب الشهير الألماني وهو «كوته» إذ قال بعد ما أمعن النظر في حقائق القرآن: «عجباً، أيمكن تكمّل العالم المدني في دائرة الإسلامية؟» فأجاب بنفسه: «نعم، بل المحققون الآن مستفيدون -بجهةٍ- من تلك الدائرة.» ثم قال الناقل: لما طلعتْ حقائقُ القرآن صارت كالنار الجوّالة وابتلعت سائر الأديان، فحُقَّ له؛ إذ لا يحصل شيءٌ من سفسطيات النصارى وخرافات اليهود. فصدّق ذلك الفيلسوفُ مآلَ: ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهۖ  فَاِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ ﴾.

 فإن قلت: إن القرآن وكذا مفسِّرَه -أعني الحديث- إنما أَخذ من كلِّ فنٍّ فذلكةً، وإحاطةُ فذلكاتٍ كثيرة ممكنةٌ لشخص.

قيل لك: إن الفذلكة بحُسن الإصابة في موقعها المناسب، واستعمالَها في أرض منبتةٍ مع أمور مرموزةٍ غيرِ مسموعة -قد أشرنا إليها في النكتة الثانية- تشفّ كالزجاجة عن مَلَكة تامة في ذلك الفن واطلاعٍ تام في ذلك العلم، فتكون الفذلكةُ في حُكم العلم ولا يمكن لشخص أمثالُ هذه.

اعلم أن نتيجة هذه المحاكمات هي أن تستحضر أوّلاً ما سيأتي من القواعد وهي:

أن شخصاً لا يتخصص في فنون كثيرة..

وأن كلاماً واحداً يتفاوت من شخصين، يكون بالنظر إلى واحدٍ ذهباً وإلى الآخر فحماً..

وأن الفنون نتيجةُ تلاحق الأفكار وتتكمّل بمرور الزمان..

وأن كثيراً من النظريات في الماضي صارت بدهيةً الآن..

وأن قياس الماضي على هذا الزمان قياسٌ مثبّط مع الفارق..

وأن أهل الصحراء لا تستر بساطتَهم وصفوتهم الحيلُ والدسائسُ التي تختفي تحت حجاب المدنية..

وأن كثيراً من العلوم إنما يتحصل بتلقين العادات والوقوعات وبتدريس الأحوال لطبيعة البشر بإعداد الزمان والمحيط..

وأن نور نظر البشر لا ينفذ في المستقبل ولا يرى الكيفيات المخصوصة..

وأنه كما أن لحياة البشر عمراً طبيعياً ينقطع؛ كذلك لقانونه عمرٌ طبيعيّ ينتهي البتة..

وأن للمحيط الزماني والمكاني تأثيراً عظيماً في أحوال النفوس..

وأن كثيراً من الخوارق الماضية تصير عادية بتكمّل المبادئ..

وأن الذكاء -ولو كان خارقاً- لا يقتدر على إيجاد فنٍ وتكميله دفعةً بل كالصبيّ يتدرج.

وإذا استحضرتَ هذه المسائل وجعلتها نُصبَ عينيك فتجرَّدْ وتعرَّ من الخيالات الزمانية والأوهام المحيطية، ثم غُصْ من ساحل هذا العصر في بحر الزمان، ماراً تحته إلى أن تخرج من جزيرة عصر السعادة ناظراً على جزيرة العرب! ثم ارفع رأسك والبَس ما خاط لك ذلك الزمانُ من الأفكار، ثم انظر في تلك الصحراء الوسيعة! فأول ما يتجلى لعينك: أنك ترى إنساناً وحيداً لا مُعينَ له ولا سلطنة، يبارزُ الدنيا برأسه.. ويهجم على العموم.. وحمَل على كاهله حقيقةً أجلّ من كرة الأرض.. وأخذ بيده شريعةً هي كافلةٌ لسعادة الناس كافة.. وتلك الشريعة كأنها زبدةٌ وخلاصةٌ من جميع العلوم الإلهية والفنون الحقيقية.. وتلك الشريعةُ ذاتُ حياةٍ لا كاللباس بل كالجلد، تتوسع بنموّ استعداد البشر وتثمر سعادة الدارين، وتنظّم أحوالَ نوع الإنسان كأهلِ مجلسٍ واحد. فإن سُئلتْ: قوانينُها من أين.. إلى أين؟ لقالت بلسان إعجازها: نجيء من الكلام الأزليّ ونرافق فكرَ البشر إلى الأبد، فبعد قطع هذه الدنيا نفارق -صورةً- من جهة التكليف ولكن نرافقُ دائماً بمعنوياتنا وأسرارنا فنغذّي روحَهم ونصير دليلَهم.. فيا هذا أفلا يتلو عليك ما شاهدتَ الأمرَ التعجيزيَّ في: ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهۖ  فَاِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا…﴾ الخ.

ثم اعلم أن آيةَ ﴿وَاِنْ كُنْتُمْ في رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا﴾…الخ: تشير إلى أن ناساً -بسبب الغفلة عن مقصود الشارع في إرشاد الجمهور، وجهلهم بلزوم كونِ الإرشاد بنسبة استعداد الأفكار- وقَعوا في شكوك وريوب منبعُها ثلاثة أمور:

أحدها: أنهم يقولون: وجود المتشابهات والمشكلات في القرآن منافٍ لإعجازه المؤسَّس على البلاغة المبنية على ظهور البيان ووضوحِ الإفادة.

والثاني: أنهم يقولون: إنَّ القرآن أطلق وأبهمَ في حقائق الخِلقة وفنون الكائنات مع أنه منافٍ لمسلك التعليم والإرشاد.

والثالث: أنهم يقولون: إن بعض ظواهر القرآن أميَلُ إلى خلاف الدليل العقلي، فيَحتمل خلافَ الواقع، وهو مخالفٌ لصدقه.

الجواب -وبالله التوفيق-:

أيها المشككون اعلموا أن ما تتصورونه سبباً للنقص إنما هو شواهدُ صدق على سر إعجاز القرآن.

أما الجواب عن الريب الأول وهو وجود المتشابهات والمشكلات، فاعلم أن إرشاد القرآن لكافة الناس، والجمهورُ الأكثرُ منهم عوام، والأقلُّ تابع للأكثر في نظر الإرشاد. والخطابُ المتوجه نحو العوام يستفيد منه الخواصُّ ويأخذون حصتهم منه.. ولو عكس لبقيَ العوام محرومين، مع أن جمهورَ العوام لا يجرِّدون أذهانهم عن المألوفات والمتخيلات، فلا يقتدرون على دَرك الحقائق المجرّدة والمعقولات الصِّرفة إلّا بمنظار متخيلاتهم وتصويرِها بصورة مألوفاتهم. لكن بشرط أن لا يقف نظرُهم على نفس الصورة حتى يلزم المحالُ والجسميةُ أو الجهة، بل يمر نظرهم إلى الحقائق.

مثلاً: إن الجمهور إنما يتصورون حقيقةَ التصرف الإلهي في الكائنات بصورة تصرف السلطان الذي استوى على سرير سلطنته. ولهذا اختار الكناية في: ﴿اَلرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوٰى﴾ (طه:5) وإذا كانت حسيّات الجمهور في هذا المركز فالذي يقتضيه منهجُ البلاغة ويستلزمه طريقُ الإرشاد رعايةُ أفهامهم واحترامُ حسياتهم ومماشاةُ عقولهم ومراعاةُ أفكارهم، كمن يتكلم مع صبي فهو يتصبّى في كلامه ليفهمه ويستأنس به. فالأساليبُ القرآنية في أمثال هذه المنازل المرعيِّ فيها الجمهورُ تسمى بـ«التنزلات الإِلهية إلى عقول البشر»، فهذا التنـزّلُ لتأنيس أذهانهم. فلهذا وُضِعَ صورُ المتشابهات منظاراً على نظر الجمهور. ألا ترى كيف أكثرَ البُلغاء من الاستعارات لتصور المعاني الدقيقة، أو لتصوير المعاني المتفرقة! فما هذه المتشابهات إلّا من أقسام الاستعارات الغامضة، إذ إنها صورٌ للحقائق الغامضة.

أما كون العبارة مُشكلاً؛ فإما لدقّة المعنى وعمقِه، وإيجازِ الأسلوب وعلويته، فمشكلاتُ القرآن من هذا القبيل.. وإما لإِغلاق اللفظ وتعقيد العبارة المنافي للبلاغة، فالقرآن مبرأٌ منه. فيا أيها المرتاب! أفلا يكون من عين البلاغة تقريبُ مثل هذه الحقائق العميقة البعيدة عن أفكار الجمهور إلى أفهام العوام بطريق سهل، إذ البلاغةُ مطابقةُ مقتضى الحال؟ فتأمل..

أما الجواب عن الريب الثاني، وهو إبهامُ القرآن في بحث تشكّل الخِلقة على ما شرحتْه الفنونُ الجديدة… فاعلم أن في شجرة العالم ميلَ الاستكمال، وتشعَّبَ منه في الإنسان ميلُ الترقي، وميلُ الترقي كالنواة يحصل نشوؤه ونماؤه بواسطة التجارب الكثيرة، ويتشكل ويتوسع بواسطة تلاحق نتائج الأفكار؛ فيثمر فنوناً مترتبة بحيث لا ينعقد المتأخر إلّا بعد تشكّل المتقدم، ولا يكون المتقدمُ مقدمةً للمؤخر إلّا بعد صيرورته كالعلوم المتعارَفة. فبناءً على هذا السر، لو أراد أحدٌ تعليم فنٍّ أو تفهيمَ علمٍ -وهو إنما تولّدَ بتجارب كثيرة- ودعا الناس إليه قبل هذا بعشرة أعصُرٍ لا يفيد إلّا تشويشَ أذهان الجمهور، ووقوعَ الناس في السفسطة والمغلطة.

مثلا: لو قال القرآن: «أيها الناس انظروا إلى سكون الشمس (حاشية) قد سنح لي في المرض بين النوم واليقظة في: ﴿وَالشَّمْسُ تَجْر۪ي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَاۜ﴾ (يس:38) أي في مستقرها، لاستقرار منظومتها، أي جريانها لتوليد جاذبتها النظامة للمنظومة الشمسية، ولو سكنت لتناثرت (هذه الحاشية النومية دقيقة لطيفة). وحركةِ الأرض واجتماع مليون حيوان في قطرة، لتتصوروا عظمة الصانع»، لأَوْقع الجمهورَ إما في التكذيب وإما في المغالطة مع أنفسهم والمكابرةِ معها بسبب أن حسهم الظاهريّ -أو غلط الحس- يرى سطحيةَ الأرض ودوران الشمس من البدهيات المشاهَدة. والحال أن تشويش الأذهان -لا سيما في مقدار عشرة أعصر لتشهِّي بعض أهل زماننا- منافٍ لمنهاج الإرشاد وروح البلاغة.

يا هذا! لا تظنن قياس أمثالها على النظريات المستقبلة من أحوال الآخرة، إذ الحس الظاهري لمّا لم يتعلق بجهة منها بقيت في درجة الإمكان فيمكن الاعتقاد والاطمئنان بها فحقها الصريح التصريح بها. لكن ما نحن فيه لما خرج من درجة الإمكان والاحتمال في نظرهم -بحكم غلط الحس- إلى درجة البداهة عندهم فحقه في نظر البلاغة الإبهام والإطلاق احتراماً لحسياتهم وحفظاً لأذهانهم من التشويش. ولكن مع ذلك أشار القرآن ورمز ولوّح إلى الحقيقة، وفَتَح الباب للأفكار ودعاها للدخول بنصب أمارات وقرائن. فيا هذا! إن كنت من المنصفين إذا تأملت في دستورِ: «كلِّم الناس على قدر عقولهم» ورأيت أن أفكار الجمهور -لعدم إعداد الزمان والمحيط- لا تتحمل ولا تهضم التكليفَ بمثل هذه الأمور -التي إنما تتولد بنتائج تلاحق الأفكار- لعرفتَ أن ما اختاره القرآنُ من الإبهام والإطلاق من محض البلاغة ومن دلائل إعجازه.

أما الجواب عن الريب الثالث -وهو إمالةُ بعض ظواهر الآيات إلى منافي الدلائل العقلية وما كشفَه الفن-: فاعلم أن المقصد الأصليّ في القرآن إرشادُ الجمهور إلى أربعة أساسات هي: إثبات الصانع الواحد، والنبوّة، والحشر، والعدالة.. فذكرُ الكائنات في القرآن إنما هو تبَعيّ واستطراديّ للاستدلال؛ إذ ما نزل القرآنُ لدرس الجغرافيا والقوزموغرافيا، بل إنما ذكرَ الكائنات للاستدلال بالصنعة الإِلهية والنِظام البديع على النَّظّام الحقيقي جلّ جلالُه، والحال أن أثر الصنعة والعمد والنظام يتراءى في كل شيء. وكيف كان التشكّل فلا علينا؛ إذ لا يتعلق بالمقصد الأصلي، فحينئذ ما دام أنه يبحث عنها للاستدلال، وما دام أنه يجب كونه معلوماً قبل المُدَّعى، وما دام أنه يُستحسن وضوحُ الدليل.. كيف لا يقتضي الإرشادُ والبلاغةُ تأنيسَ معتقداتهم الحسية، ومماشاةَ معلوماتهم الأدبية بإمالة بعض ظواهر النصوص إليها، لا ليدلّ عليها بل من قبيل الكنايات أو مستتبعات التراكيب مع وضع قرائن وأمارات تشير إلى الحقيقة لأهل التحقيق.

مثلا: لو قال القرآنُ في مقام الاستدلال: «أيها الناس! تفكّروا في سكون الشمس مع حركتها الصورية، وحركةِ الأرض اليومية والسنوية مع سكونها ظاهراً، وتأملوا في غرائب الجاذب العموميّ بين النجوم، وانظروا إلى عجائب الأَلَكْتِرِيق وإلى الامتزاجات الغير المتناهية بين العناصر السبعين، وإلى اجتماع ألوفِ ألوف حيوانات في قطرة ماء لِتعلموا أن الله على كل شيء قدير!»… لكان الدليلُ أخفى واغمضَ وأشكلَ بدرجاتٍ من المدَّعى. وإنْ هذا إلّا منافٍ لقاعدة الاستدلال. ثم لأنها من قبيل الكنايات لا يكون معانيها مدارَ صدق وكذب. ألا ترى أن لفظ «قال» ألفُه يفيد خفةً سواء كان أصلُه واواً أو قافاً أو كافاً.

الحاصل: أنَّ القرآن لأنه نزل لجميع الإنسان في جميع الأعصار يكون هذه النُقط الثلاث دلائل إعجازه. والذي علّم القرآنَ المعجِزَ، إنّ نظر البشير النذير وبصيرته النقّادَة أدقّ وأجلّ وأجلى وأنفذُ من أن يلتبس أو يشتبه عليه الحقيقةُ بالخيال، وإن مسلكه الحقّ أغنى وأعلى وأنْزَهُ وأرفع من أن يُدلِّس أو يغالط على الناس!

المسألة السابعة

اعلم أن كتب السير والتاريخ قد ذكرت كثيراً من معجزاته المحسوسة، والخوارق الظاهرة المشهورة عند الجمهور، وقد فسرها المحققون. فلأن تعليم المعلوم ضائع، اَحَلْنا التفصيلَ على كتبهم فلنجملْ بذكر الأنواع:

فاعلم أن الخوارق الظاهرة وإن كان كل فرد منها آحاديا غيرَ متواتر لكن الجنس وكثيراً من الأنواع متواتر بالمعنى. ثم إن أنواعها ثلاثة:

الأول: الإرهاصات المتنوعة كانطفاء نار المجوس، ويبوسة بحر ساوة، وانشقاق إيوان كسرى، وبشارات الهواتف… حتى كأنه يتخيل للإنسان أن العصر الذي ولد فيه النبيُّ عليه الصلاة والسلام صار حسّاساً ذا كرامةٍ فبشَّر بقدومه بالحسّ قبل الوقوع.

النوع الثاني: الإخبارات الغيبية الكثيرة مِن فتح كنوز كسرى وقيصر، وغلبة الروم، وفتح مكة، وأمثالها. كأن روحَه المجرّد الطيّار مزّق قيد الزمان المعيّن والمكانِ المشخّص، فجال في جوانب المستقبل فقال لنا كما شاهَد.

النوع الثالث: الخوارق الحسيَّة التي أظهرها وقتَ التحدِّي والدعوى. كتكلم الحجر، وحركة الشجر وشق القمر، وخروج الماء… وقد قال الزمخشري: «بلغ هذا النوع إلى ألف». وأصنافٌ من هذا النوع متواترة بالمعنى حتى إنّ ﴿وَانْشَقَّ الْقَمَرُ﴾ لم يتصرف في معناه من أنكر القرآن أيضاً.

 فإن قلت: مِثلُ انشقاق القمر لابد أن يشتهرَ في العالم ويُتعارف.

قيل لك: فلاختلافِ المطالع، ووجودِ السحاب، وعدم الترصد للسماء كما في هذا الزمان، ولكونه في وقت الغفلة، ولوجوده في الليل، ولكون الانشقاق آنيّاً.. لا يلزم أن يراه كلُّ الناس أو أكثرُهم. على أنه قد ثبت في الروايات أنه قد رآه كثيرٌ من القوافل الذين كان مَطلعهم ذلك المطلع.

ثم إن رئيس هذه المعجزات هو القرآن المبين المبرهَن إعجازُه بجهات سبع أُشير إليها في هذه الآية.

هذا النقش الغريب في هذا المبحث العجيب وقع توافقاً حينما نسخته في دياربكر بدار جودت بك في تسعة عشر من شباط عصر ليلة الجمعة صادف سقوط بتليس واسارة المؤلف (بديع الزمان) تلك الليلة فكأن حصول هذا النقش على هذه الصحيفة في تلك الليلة إشارة -والله اعلم- الى اراقة دماء من في معية المؤلف من الطلبة واسارته في تلك الليلة في بتليس ا هـ. (عبد المجيد).

وكذا يصور هذا النقش صورة حية لفت بالمؤلف ذنبها وهي مقطوعة الرأس وما هي الّا الروس قطع الله رأسهم.. وكذا يصور جدول الماء الذي سقط المؤلف فيه مجروحاً ومحصوراً وبقي فيه ثلاثين ساعة منتظراً للموت في كل دقيقة. ا هـ. (حمزة).

وإذ تفهمتَ هذه المسائل فاستمع لما يُتلى عليك من نظم الآية بوجوهها الثلاثة؛ مِن نظم المجموع بما قبله، ونظم الجمل بعضها مع بعض، ونظم هيئاتِ وقيودِ جملةٍ جملةٍ.

أما النظم الأول فمن وجهين:

الأول: أنه لمّا قال: ﴿يَٓا اَيُّهَا النَّاسُ﴾ لإثبات التوحيد -على تفسير ابن عباس- أَثبت بهذه نبّوةَ محمد عليه الصلاة والسلام الذي هو مِن أظهرِ دلائل التوحيد… ثم إن إثبات النبوّة بالمعجزات. وأعظمُ المعجزات هو القرآن. وأدقُّ وجوه إعجاز القرآن ما في بلاغة نظمه… ثم إنه اتفق الإسلامُ على أن القرآن معجِز، إلّا أن المحققين اختلفوا في طرق الإعجاز، لكن لا تزاحمَ بين تلك الطرق، بل كلٌّ اختار جهةً من جهاته؛ فعند بعضٍ إعجازُه إخباره بالغيوب، وعند بعضٍ جمعُه للحقائق والعلوم، وعند بعض سلامتُه من التخالف والتناقض، وعند بعض غرابةُ أسلوبه وبديعيتُه في مقاطعِ ومبادئ الآيات والسور، وعند بعض ظهورُه من أُمّيّ لم يقرأ ولم يكتب، وعند بعض بلوغُ بلاغة نظمِه إلى درجةٍ خارجة عن طوق البشر، وكذا وكذا.. الخ.

ثم اعلم أن معرفة هذا النوع من الإعجاز تفصيلاً إنما تحصل بمطالعة أمثال هذا التفسير، وإجمالاً يُعرَف بثلاث طرق. (كما حققها عبد القاهر الجرجاني شيخ البلاغة، والزمخشري والسكاكي والجاحظ) :

الطريق الأول: هو أنّ قومَ العرب كانوا بدويين أمّيين، ولهم محيطٌ عجيب يناسبهم.. وقد انتبهوا بالانقلابات العظيمة في العالم.. وكان ديوانُهم الشعرَ وعلمُهم البلاغةَ، ومفاخرتُهم بالفصاحة في أمثال سوق عُكاظة.. وكانوا أذكى الأقوام.. وكانوا أحوجَ الناس لجَوَلان الذهن إذن.. ولقد كان لأذهانهم فصلُ الربيع، فطلع عليهم القرآنُ بحَشمة بلاغته فمحا وبهَر تماثيل بلاغتهم وهي «المعلقات السبعة» المكتوبة بذَوب الذهب على جدار الكعبة. مع أن أولئك الفصحاء البلغاء -الذين هم أمراء البلاغة وحُكام الفصاحة- ما عارضوا القرآن وما حاروا ببنت شفةٍ، مع شدة تحدِّي النبيّ عليه السلام لهم، ولَومِه لهم، وتقريعه إياهم، وتسفيهه لأحلامهم، وتحريكِه لأعصابهم في زمان طويل، وترذيله لهم، مع أنّ من بلغائهم من يحكّ بيافوخه كتفَ السماء، ومنهم من يناطح السِّماكَيْن بكبره… فلولا أنهم أرادوا وجرّبوا أنفسهم فأحسوا بالعجز، لَمَا سكتوا عن المعارضة البتة؛ فعجزُهم دليلُ إعجاز القرآن.