والطريق الثاني: هو أن أهلَ العلم والتدقيق وأهل التنقيد الذين يعرفون خواصَّ الكلام ومزاياه ولطائفه تأملوا في القرآن سورةً سورةً، وعشراً عشراً، وآيةً آيةً، وكلمةً كلمةً؛ فشهدوا بأنه جامعٌ لمزايا ولطائفَ وحقائقَ لا تجتمع في كلام بشر. فهؤلاء الشهداءُ ألوفُ ألوفٍ. والذي يدلّ على صدق شهادتهم هو أن القرآن أوقعَ في العالم الإنساني تحوّلاً عظيماً، وأسّس ديانةً واسعة، وأدام على وجه الزمان ما اشتمل عليه من العلوم. فكلما شابَ الزمانُ شَبَّ، وكلما تكرّر حَلا. فإذن ﴿اِنْ هُوَ اِلَّا وَحْيٌ يُوحٰى﴾ (النجم:4).

والطريق الثالث: (حاشية) هذه الطريق حجة قاطعة. -كما حقّقه الجاحظ-: هو أن الفصحاء والبلغاء مع شدة احتياجهم إلى إبطال دعوى النبيّ عليه السلام، ومع شدة حقدهم وعنادهم له تركوا المعارضةَ بالحروف: الطريقَ الأسلمَ والأقربَ والأسهلَ، والتجأوا إلى المقارعةِ بالسيوف الطريقِ الأصعبِ الأطولِ، المشكوكةِ العاقبةِ، الكثيرةِ المَخاطر؛ وهم بدرجةٍ من الذكاء السياسي، لا يمكن أن يخفى عليهم التفاوتُ بين هذين الطريقين. فمَن ترك الطريقَ الأول -لو أمكن- مع أنه أشدُّ إبطالاً لدعواه، واختار طريقاً أوقعَ مالَه وروحَه في المهالك، فهو إما سفيهٌ -وهو بعيد ممن ساسوا العالم بعد أن اهتدوا-، وإما أنه أحسَّ من نفسه العجزَ عن السلوك في الطريق الأول فاضطر للطريق الثاني.

 فإن قلت: يمكن أن تكون المعارضةُ ممكنة.

قيل لك: لو أمكنتْ لطمِع فيها ناسٌ لتحريك أعصابهم لها. ولو طمعوا لفعلوا لشدة احتياجهم. ولو عارضوا لتظاهرت للرغبة وكثرةِ الأسباب للظهور. ولو تظاهرت لوجد من يلتزمها ويدافع عنها ويقول: إنه قد عورض، لاسيما في ذلك الزمان. ولو كان لها ملتزمون ومدافعون -ولو بالتعصب- لاشتهرت، لأنها مسألة مهمة. ولو اشتهرت لنقلتها التواريخُ كما نقلت هذيانات «مسيلمة» بقوله: «الفيل ما الفيل، وما أدراك ما الفيل، صاحب ذَنَبٍ قصير، وخُرطوم طويل».

 فإن قلت: «مسيلمة» كان من الفصحاء فكيف صار كلامُه مَسْخرة وأضحوكة بين الناس؟

قيل لك: لأنه قوبل بما فاقَه بدرجات كثيرة. ألا ترى أن شخصاً -ولو كان حسناً- إذا قوبل بيوسف عليه السلام لصار قبيحاً ولو كان مليحاً. فثبت أن المعارضة لا يمكن؛ فالقرآن معجِز.

 فإن قلت: للمرتابين كثيرٌ من الاعتراضات والشكوك على تراكيب القرآن وكلماته مثل: ﴿اِنْ هٰذَانِ﴾ (طه:63) و﴿وَالصَّابِؤنَ﴾ (المائدة:69) و﴿الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾ وأمثالها من الاعتراضات النحوية؟

قيل لك: عليك بخاتمة مفتاح السكاكي فإنه ألقَمهم الحجر بـ«أفلا يتفطنون أنّ من كررَ كلامَه في زمان مديد مع أنه فصيح بالاتفاق كيف لا يُحس بالغلطات التي تَظهر لنظر هؤلاء الحُمَقَاء»؟.

 أما الوجه الثاني لنظم الآية: فاعلم أن الآية السابقة لمّا أمرت بالعبادة استَفسر ذهنُ السامع بـ«على أية كيفية نعبدُ»؟ فكأنه أجاب: «كما علّمكم القرآن». فعاد سائلاً: «كيف نعرف أنه كلام الله تعالى؟» فأجاب بقوله: ﴿وَاِنْ كُنْتُمْ في رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلٰى عَبْدِنَا...﴾ الخ.

أما نظم الجمل بعضها مع بعض فهو: أن جملةَ ﴿وَاِنْ كُنْتُمْ في رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلٰى عَبْدِنَا﴾ قد وقعتْ في موقعها المناسب؛ إذ لمّا أمر القرآنُ بالعبادة كأنه سُئل: كيف نعرف أنه أمرُ الله حتى يجب الامتثال؟ فقيل له: إن ارتبتَ فجرِّب نفسك لتتيقن أنه أمرُ الله.

ومن وجوه النظم أيضاً أن القرآن لما أثنى على نفسه بجملةِ ﴿ذٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فيهِ هُـدًى لِلْمُتَّقينَ﴾ ثم استتبع مدحه مدح المؤمنين، ثم استطرد مدح المؤمنين ذمّ الكافرين والمنافقين، ثم استعقب الأمر بالعبادة والتوحيد.. عاد القرآنُ إلى الأول بالنظر إلى ﴿لَا رَيْبَ فيهِ﴾ أي أما القرآن فليس قابلاً للشك والريب؛ فما ريوبكم إلّا مِن مرض قلوبكم وسقامةِ طبعكم. كما:

قَدْ يُنْكَرُ ضَوْءُ الشَّمْسِ مِنْ رَمَدٍ    وَيُنْفَرُ طَعْمُ اْلماءِ مِنْ سَقَمٍ

وأما نظمُ ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِه﴾ فاعلم أن هذه جزاءُ الشرط، وجزاءُ الشرط يلزم أن يكون لازماً لفعل الشرط. ولمّا كان الأمر تعجيزياً استلزم تقديرَ «تشبثوا»، ولما كان الأمر إنشاءً والإنشاء لا يصير لازماً، يلزم أن يكون لازمُ الأمر جزاءً، وهو الوجوب الذي هو من أصول معاني الأمر، ثم وجوبُ التشبث أيضاً لا يظهر لزومُه للريب فاقتضى تقديرَ جُمَل مطويةٍ تحت إيجاز الآية. فالتقدير: «إن كنتم في ريب أنه كلام الله، يجب عليكم أن تتعلموا إعجازه، فإن المعجِز لا يكون كلامَ البشر ومحمّدٌ عليه السلام بشر، وإن أردتم ظهورَ إعجازه فجرِّبوا أنفسكم ليظهر عجزُكم، فيجب عليكم التشبث بإتيان سورةٍ من مثله».

فللّه درُّ التنـزيل ما أوجزَه وما أعجزَه!

وأما نظم: ﴿وَادْعُوا شُهَدَٓاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ﴾ فبثلاثة أوجه:

أحدها: أنهم يقولون عجزُنا لا يدلّ على عجز البشر.. فأفحمَهم بقوله: ﴿وَادْعُوا شُهَدَٓاءَكُمْ﴾ أي كبراءكم ورؤساءكم.

والثاني: أنهم يزعمون: أنّا لو عارضنا فمَن يلتزمنا ويدافع عنا؟ فألقمَهم الحجرَ بأنه ما من مسلك إلّا وله متعصبون، ولو عارضتم لظهر لكم شهداءُ يذبّون عنكم.

والثالث: أن القرآن كأنه يقول: لما استَشهد النبيُّ عليه السلام الله تعالى صدّقه الله وشَهِد له بوضع سِكّةِ الإعجاز على دعواه، فإن كان في آلهتكم وشهدائكم فائدةٌ لكم فادعوهم. وما هذا إلا نهاية التهكّم بهم.

وأما نظمُ ﴿فَاِنْ لَمْ تَفْعَلُوا﴾ فظاهر، إذ التقدير: «فإن جربتم فانظروا، فإن لم تقدروا ظهر عجزكم، ولم تفعلوا».

وأما نظمُ ﴿وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾ فكأنه لمّا قال لم تفعلوا.. قيل من جانبهم: «عدمُ فعلِنا فيما مضى لا يدل على عَجز البشر فيما سيأتي». فقال: ﴿وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾ ، فرَمَزَ إلى الإعجاز بثلاثة أوجه.

أحدها: الإخبار بالغيب وكان كما أخبر. ألا ترى أن الملايين من الكتب العربية مع التمايل إلى تقليد أسلوب التنـزيل وكثرةِ المعاندين -لو فتشتَها-؛ لم يوافقه شيءٌ منها. كأن نوعَه منحصر في شخصه. فإما هو تحت الكلِّ وهو باطل بالاتفاق. فما هو إلّا فوق الكل.

والوجه الثاني:  أن القطع والجزمَ بعدم فعلِهم -مع التقريع عليهم وتحريك أعصابهم في هذا المقام المُشْكِل وفي هذه الدعوى العظيمة- علامةٌ صادقة على أنه واثقٌ أمين مطمئن بمالِه ومقالِه.

والوجه الثالث: أن القرآن كأنه يقول: «إذا كنتم أمراءَ الفصاحة وأشدَّ الناس احتياجاً إليها ولم تقتدروا لم يقتدر عليه البشر». وكذا فيه إشارةٌ إلى أن نتيجة القرآن التي هي الإسلاميةُ كما لم يقتدر على نظيرها الزمانُ الماضي؛ كذا يعجز عن مثلها الزمانُ المستقبل.

وأما نظم: ﴿فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾: فاعلم أن تعقيب ﴿فَاِنْ لَمْ تَفْعَلُوا﴾ بـ ﴿فَاتَّقُوا﴾ يقتضي في ذوق البلاغة تقديراً هكذا: «إن لم تفعلوا ولن.. ظهر أنه معجِز، فهو كلام الله، فوجبَ عليكم الإيمان به وامتثال أوامره… ومن الأوامر: يا أيها الناس اعبدوا لتتقوا النار… فاتقوا النار». فأوجَز فأعجزَ.

وأما نظم: ﴿الَّتي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ فاعلم أن المقصد من ﴿فَاتَّقُوا﴾ هو الترهيب، ومعنى الترهيب إنما يؤكد بالتهويل والتشديد فهوّله بـ ﴿وَقُودُهَا النَّاسُ﴾ إذ النار التي حطبها كان إنساناً أَخْوَفُ وأدهشُ.. ثم شدّده بعطف الحجارة؛ إذ ما تحرق الحجرَ أشدُّ تأثيراً.. ثم أشار إلى الزجر عن عبادة الأصنام: أي لو لم تتمثلوا أمر الله، وعبدتم أحجاراً لدخلتم ناراً تأكل العُبّادَ ومعبوداتهم.

وأما نظم: ﴿اُعِدَّتْ لِلْكَافِرينَ﴾ فهو أنها توضيحُ وتقريرُ لزوم جزاء الشرط لفعله؛ أي هذه المصيبة ليست كالطوفان وسائر المصائب التي لا تصيب الظالمين خاصة، بل تعمُّ الأبرارَ والأخيار؛ فإنما هذه تختص بالجانين، يجرّها الكفرُ، لا سبيل للنجاة إلّا امتثال القرآن.

ثم اعلم أن ﴿اُعِدَّتْ﴾ إشارة إلى أن جهنم مخلوقةٌ موجودة الآن، لا كما زعَمت المعتزلة.

ثم إن مما يدلّك ويفيد حدساً لك على أبدية جهنم أنك إذا تفكرت في العالم بنظر الحكمة ترى النار مخلوقةً عظيمة مستولية غالبة، كأنها عنصرٌ أساس في العُلويات والسفليات.

وتفهّمتَ وجودَ رأسٍ عظيم وثمرةٍ عجيبة تدلّت إلى الأبد. ألا ترى أن من رأى عِرقا ممتداً تفطّن لوجود بطيخ مثلاً في رأسه؛ وكذلك من رأى الخلقة النارية تفطن لانتهائها إلى حنظلةِ جهنم. وكذا من رأى النعم والمحاسن واللذائذ يحدس بأن مصبّها ومَخلصها وروضَها الجنةُ.

فإن قلت: إذا كانت جهنم موجودة الآن فأين موضعُها؟

قيل لك: نحن معاشر أهل السنة والجماعة نعتقد وجودَها الآن لكن لا نعيّن موضعَها.

فإن قلت: إن ظواهر الأحاديث تدل على أنها تحت الأرض. وفي حديث: إن نارها أشدّ وأحرّ من نار الدنيا بمائتي دفعة. وأن الشمس أيضاً تدخل في جهنم؟

قيل لك: إن «تحت الأرض» عبارة عن مركزها، إذ تحتَ الكرة مركزُها. وقد ثبت في نظريات الحكمة أن في مركزها ناراً بالغة في الشدة إلى مقدار مائتي ألف درجة. إذ كلما تحفر الأرض ثلاثة وثلاثين ذراعاً بذراع التجار تتزايد -تقريباً- درجةُ حرارة. فإلى المركز تصير -تقريباً- مائتي ألف درجة. فهذا النظريّ مطابقٌ لمآل الحديث الذي يقول: إنها أشدّ من نار الدنيا بمائتي درجة. وأيضاً في الحديث: أن قسماً من تلك النار زمهرير تحرق ببرودتها. وهذا الحديث مطابق لهذا النظري؛ إذ النارُ المركزية مشتملةٌ على المراتب النارية كلِّها إلى السطح. وقد تقرر في الحكمة الطبيعية: أن للنار مرتبةً تجذب دفعةً حرارةَ مجاوِرها فتحرقه بالبرودة وتصير الماء جَمَداً.

فإن قلت: ما في جوف الأرض ومظروفُها صغير فكيف تسع جهنمَ التي تسع السماوات والأرض؟

قيل لك: نعم باعتبار المِلك والمطوّيّة وان كانت مظروفةً للأرض لكن بالنظر إلى العالم الأُخروي بالغةٌ في العظمة إلى درجة تسع أُلوفاً من أمثال هذه الأرض. بل إن عالَم الشهادة كحجاب مانعٍ لارتباط تلك النار بسائر أغصانها. فما في جوف الأرض إلّا مركزُها وسرُّها أو قلبُ عفريـتِها. وأيضاً لا تستلزم التحتية اتصالها بالأرض، إذ شجرةُ الخلقةِ أثمرتْ أغصانُها الشمسَ والقمرَ والنجومَ وأرضَنا وأرَضينَ أخرى. فما تحت الثمرةِ يشمل ما بينَ الأغصان أين كان. فمُلك الله تعالى واسع، وشجرة الخلقة منتشرةٌ فأينَ سافرتْ جهنمُ لا تُرَدُّ. وفي حديثٍ: «إنَّ جَهَنَّمَ مَطْوِيَّةٌ» فيمكن أن تكون بيضة لأرضنا الطيارة متى يمتزق حجابُ المُلك ينفتق تلك البيضة وتتظاهر هي كاشرةً أسنانَها لأهلِ العصيان. ويحتمل أن ما ثبط أهل الاعتزال وأوقعهم في الغلط بعدم وجودها الآن إنما هو هذه المطوِيَّتِيَّة.

وأما نظم هيئاتِ وقيودِ جملةٍ جملةٍ:

فاعلم أن جملة: ﴿وَاِنْ كُنْتُمْ في رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلٰى عَبْدِنَا﴾

الواو فيها -بناءً على المناسبة بين المتعاطفَين- تومئ إلى: تقديرِ: «كما علّمكم القرآن»..

وإيرادُ ﴿اِنْ﴾ التردديةِ في موضعِ «إذا» التي هي للقطع، مع أن ريبَهم مجزومٌ به إشارةٌ إلى أنه لأجل ظهور أسباب زوال الريب شأنُه أن يكونَ مشكوكَ الوجود، بل من المحال يُفرَض فرضاً. ثم إن الشك في ﴿اِنْ﴾ بالنظر إلى الأسلوب لا بالقياس إلى المتكلم تعالى.

وإيرادُ ﴿كُنْتُمْ في رَيْبٍ﴾ بدلَ «ارتبتم» مع أنه أقصرُ إشارةٌ إلى أن منشأ الريب طبعُهم المريض وكونُهم… وظرفيةُ الريب لهم مع أنه مظروفٌ لقلبهم إيماءٌ إلى أن ظلمةَ الريب انتشرت من القلب فاستولت على القالب، فأظلم عليه الطُّرُق..

وتنكير ﴿رَيْبٍ﴾ للتعميم، أي أيُّ نوع من أنواع الريب ترتابونه فالجواب واحد وهو: أن هذا معجِز وحقٌّ، فتخطئتُكم بالنظر السطحيّ خطأ، فلا يلزم لكلِّ ريبٍ جوابٌ خاص. ألا ترى أن من رأى رأسَ عينٍ وذاقَه عذباً فراتاً لا يحتاج إلى ذوقِ كلِ جدولٍ وفرعٍ قد تشعّب منه.

و«مِن» في ﴿مِمَّا نَزَّلْنَا﴾ إيماء إلى تقدير لفظِ: «في شيء مما».

ولفظُ ﴿نَزَّلْنَا﴾ إشارة إلى أن منشأ شبهَتِهم هو صفةُ النـزول. فالجواب القاطع إثباتُ النـزول فقط.

وإيثار ﴿نَزَّلْنَا﴾ الدالِّ على النـزول تدريجاً على «أنزلنا» الدالِ عليه دفعةً إشارة إلى أن ما يتحجّجون به قولَهم: «لولا أُنزل عليه دفعة، بل على مقتضى الواقعات تدريجاً؛ نوبةً نوبةً، نجماً نجماً، سورةً سورةً..»

وإيثار العبد على «النبي» و«محمد» إشارةٌ إلى تعظيم النبي، وإيماءٌ إلى علو وصف العبادة، وتأكيدٌ لأمرِ ﴿اعْبُدُوا﴾، ورمزٌ إلى دفع أوهامٍ بأن النبيّ عليه السلام أَعبدُ الناس وأكثرُهم تلاوةً للقرآن… فتفكَّرْ!

وأن جملة: ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِه﴾ :

الأمرُ في ﴿فَأْتُوا﴾ للتعجيز، وفيه التحدِّي والتقريعُ والدعوة إلى المعارضةِ والتجربةِ ليظهرَ عجزُهم.

ولفظ ﴿بِسُورَةٍ﴾ إشارة إلى نهايةِ إفحامٍ، وشدّةِ تبكيتٍ، وغايةِ إلزامٍ؛ إذ:

أول طبقات التحدِّي هو: أن يُقال: فأتوا بمثل تمام القرآن بحقائقه وعلومِه وإخباراته الغيبية مع نظمه العالي من شخص أُمّي!

وثانيتها: أن يقال: إن لم تفعلوا كذا فأتوا بها مفترَياتٍ لكن بنظم بليغ مثله.

وثالثتها: أن يقال: إن لم تفعلوا هكذا أيضاً فأتوا بمقدار عشر سور.

ورابعتها: أنه إن لم تقتدروا عليه أيضاً فلا أقلّ من أن تأتوا بقدر سورة طويلة.

وخامستها: أنه إن لم يتيسر لكم هذا أيضاً فأتوا بمقدار سورةٍ مطلقاً ولو أقصر كـ ﴿اِنَّٓا اَعْطَيْنَاكَ ﴾ من شخص أُميّ مثله.

وسادستها: أنه إن لم يمكنكم الإِتيان من أُميّ فأتوا من عالم ماهر وكاتب حاذق.

وسابعتها: أنه إن تعسّر عليكم هذا أيضاً فليعاون بعضكم بعضاً على الإتيان.

وثامنتها: أنه إن لم تفعلوا فاستعينوا بكافة الإِنس والجن واستمِدوا من مجموع نتائج تلاحق أفكارهم من آدم إلى قيام الساعة. ونتائجُ أفكارهم هي ما بين أيديكم من هؤلاء الكتب على الأسلوب العربي مع شوقِ التقليد وعنادِ المعارضة؛ ففضلاً عن أهل التحقيق لو تصفّحها مَنْ له أدنى مُسكَةٍ -ولو جاهلاً-، لقال: ليس فيها مثلُه. فإما هو تحت الكلِّ وهو باطل بالاتفاق، وإما فوق الكلِّ وهو المطلوب كما مرَّ آنفاً. نعم، لم يعارَض في ثلاثة عشر عصراً، هكذا مرّ الزمان، وهكذا يمرّ إلى يوم القيامة.

وتاسعتها: أن يقال لا تتحجّجوا بأن ليس لنا شهداءُ وأنتم لا تشهدون لنا. ألَا فادعوا شهداءَكم والمتعصبين لكم فليراجعوا وجدانَهم هل يتجاسرون على تصديق دعواكم المعارَضة.

وإذا تفهمتَ هذه الطبقات فانظر إلى القرآن كيف أعجزَ بأنْ أوجز فأشار إلى هذه المراتب، فألقمَهم الحجرَ وأرخى لهم العِنانَ.

ثم اعلم أن عجز البشر عن معارضة أقصر سورة إنِيَّـتُهُ بدهية. وأما لِمِيَّتُهُ فقيل هي: أن الله تعالى صرَف القوى عن المعارضة. والمذهب الأصح في اللِّمِيَّة ما عليه «عبد القاهر الجرجاني» و«الزمخشري» و«السكاكي» وهو: أنّ قدرة البشر لا تصل إلى درجة نظمِه العالي. ثم إن «السكاكي» اختار: أن الإعجاز ذوقيٌّ لا يعبّر عنه ولا يُشرح بل يُذاق ذوقاً. وأما صاحب دلائل الإعجاز فاختار أنه يمكن التعبير عنه. ونحن على مذهبه في هذا البيان.

وإيثار ﴿سُورَة﴾ على نجم أو طائفةٍ أو نوبةٍ إشارة إلى إلزامهم في منشأ شبهتهم وهي: لولا أُنزل عليه دفعة واحدة؟ أي فهاتوا أنتم ولو بنوبةٍ فذّة. وأيضاً إيماء إلى تضمّن تسوير التنـزيل سورةً سورةً لفوائد جمّة بيّنها «الزمخشري»، وإلى تضمّن هذا الأسلوب الغريب للطائف.

ولفظ ﴿مِنْ مِثْلِهۖ ﴾ فيه معنيان أي بمثل المنـزَل، أو من مثل المنـزَل عليه.

اعلم أن حق العبارة على الأول «مثل سورة منه» لكن عُدِل إلى ﴿مِنْ مِثْلِهۖ ﴾ للإيماء إلى ملاحظة الاحتمال الثاني، أي إنما تكون معارضتكم مبطلةً لدعواه لو جاءت من مثله في عدم التعلّم.. وكذا إشارة إلى أن المعارضة إنما تُبطل الإعجازَ لو كان المعارَض به من مجموع مثل.. وكذا رمزٌ إلى توجيه الأذهان إلى أمثال القرآن في النـزول من الكتب السماوية ليوازِن ذهنُ السامع بينها فيتفطّنَ لِعلُوّه.

وأن جملة: ﴿وَادْعُوا شُهَدَٓاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ ﴾

إيثارُ ﴿ادْعُوا﴾ فيها على «استعينوا» أو «استمدوا» إيماء إلى أن من يلبّيهم ويذُبّ عنهم لا يفقدهُم بل حاضرٌ لا يحتاجون إلّا إلى ندائه.

ولفظ ﴿شُهَدَاءَ﴾ جامع لثلاثة معانٍ: أي كبراءكم في الفصاحة.. ومن يشهدُ لكم.. وآلهتكم. فنظراً إلى الأول؛ إلزامٌ لهم؛ يقطع تحجُّجَهم بأن عدمَ قدرتِنا لا يدل على عدم قدرةِ كبرائنا. ونظراً إلى الثاني؛ إفحامٌ لهم، يقطع تعلُّلهم بأن ليس لنا شهداءُ، بأنه لا مسلك إلّا له ذابّون وشهداءُ. ونظراً إلى الثالث؛ تبكيتٌ لهم وتهكّم بهم بأن الآلهة التي ترجون منها النفعَ ودفعَ الضرّ كيف لا تُعينكم في هذا الأمر الذي يهمّكم.

وإضافة «شُهَدَاءَ» إلى «كُمْ» المفيدةِ للاختصاص تقوّي عضد المعنى الأول؛ بأن الكبراء حاضرون معكم، وبينكم اختصاصٌ لو اقتدروا لعاونوكم البتة. وتصل جناح المعنى الثاني بأنّا نقبل شهادة من يلتزمكم ويتعصب لكم فإنهم أيضاً لا يتجاسرون على الشهادة على بدهيّ البطلان. وتأخذ بساعد المعنى الثالث مع التقريع بأن الآلهة التي اتخذتموها معبوداتٍ كيف لا تمدّكم؟!

ولفظ ﴿مِنْ دُونِ اللهِ﴾ نظراً إلى الأول إشارة إلى التعميم أي كلّ فصيح في الدنيا ما خلا الله تعالى. وكذا إلى أن إعجازه ليس إلّا لأنه من الله.. ونظراً إلى الثاني إشارة إلى عجزهم ومبهوتِيَّـتِهم بقولهم: «الله شاهد، الله عليم إنّا نقتدر». لأن ديدَن العاجز المحجوج الحلفُ بالله والاستشهاد به على ما لا يقتدر على الاستدلال عليه.. ونظرا إلى الثالث إشارة إلى أن معارضَتهم مع النبيّ عليه الصلاة والسلام ليست إلَّا مقابلةَ الشرك بالتوحيد والجمادات بخالق الأرض والسماوات.

وأن جملة: ﴿اِنْ كُنْتُمْ صَادِقينَ﴾ إشارةٌ إلى قولهم: لو شئنا لقلنا مثلَ هذا.. وكذا تعريضٌ بأنكم لستم من أهل الصدق إلّا أن يُفرَض فرضاً، بل من أهل السفسطة، ما وقعتم في الريب من طريق طلب الحق بل طلبتم فوقعتم فيه.. ثم إن جزاء هذا الشرط محصَّلُ ما قبله أي فافعلوا.

أما جملة: ﴿فَاِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ…﴾ إلخ.

فاعلم أن ﴿اِنْ كُنْتُمْ صَادِقينَ﴾ احتجاجُ القرآن عليهم بقياس استثنائيٍ؛ استثنى نقيضَ التالي لإنتاج نقيضِ المقدَّم.

تلخيصه: «إنْ كنتم صادقين تفعلوا المعارضة وتأتوا بسورةٍ، لكن ما تفعلون ولن تفعلوا»، فأنتج: «فلم تكونوا صادقين، فكان خصمُكم وهو النبيّ عليه السلام صادقاً، فالقرآن معجِز، فوجبَ عليكم الإيمان به لتتّقوا من العذاب». أُنظر كيف أوجزَ التنـزيل فأعجزَ. ثم إنه ذكرَ موضعَ استثناءِ نقيضِ التالي وهو «لكن ما تفعلون» لفظَ ﴿فَاِنْ لَمْ تَفْعَلُوا﴾ مشيراً بتشكيك ﴿اِنْ﴾ إلى مجاراة ظنّهم، وبالشرطية إلى استلزام نقيضِ التالي لنقيضِ المقدَّم. ثم ذكر موضعَ النتيجة وهي نقيضُ المقدَّم أعني: «فلم تكونوا صادقين» علة لازمِ لازمِ لازمِها وهي قوله: ﴿فَاتَّقُوا النَّارَ﴾ لتهويل الترهيب والتهديد. (حاشية) قد استعمل المنطق هنا استعمالاً حسناً. 

أما ﴿إِنْ لَمْ تَفْعَلُوا﴾ الماضي بالنظر إلى ﴿لَمْ﴾ والمستقبلُ بالقياس إلى ﴿اِنْ﴾ فلتوجيه الذهن إلى ماضيهم كأنه يقول لهم:«انظروا إلى خطبكم المزيّنة ومعلقاتكم المذهّبة أتساويه أو تدانيه أو تقع قريبا منه؟».

وإيثار ﴿تَفْعَلُوا﴾ على «تأتوا» لنكتتين:

إحداهما: الإيماءُ إلى أن منشأ الإعجاز عجزُهم ومنشأ العجز الفعل لا الأثر.

والثانية: الإيجاز، إذ «فَعَل» كما أنه في الصَّرف ميزانُ الأفعال وجنسُها؛ كذلك في الأساليب مصدر الأعمال وملخص القصص كأنه ضمير الجمل كناية عنها.

أما: ﴿وَلَنْ تَفْعَلُوا فاعلم أن التأكيد والتأبيد في ﴿لَنْ﴾ إيماءٌ إلى القطعية، وهي إشارة إلى أن القائل مطمئن جدّي لا ريب له في الحُكم. وهذا رمز إلى أنْ لا حيلةَ.

أما ﴿فَاتَّقُوا﴾ بدلَ «تجنبوا» فللإيماء إلى ما نابَ عنه الجزاءُ مِن «آمِنوا واتقوا الشركَ الذي هو سبب دخول النار».

أما تعريف ﴿النَّارَ﴾ فللعهد، أي النارَ التي عُهِدَت واستقرّت في أذهان البشر بالتسامع عن الأنبياء من آدم إلى الآن.

وأما توصيفُها بـ ﴿الَّتي﴾ الموصولةِ مع أن من شأنها أن تكون معلومةً أوّلاً؛ فلأجل نزولِ ﴿نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ (التحريم:6) قبل هذه الآية، فالمخاطبون قد سمعوا تلك، فالموصولية في موقعها.

وأما ﴿وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ فالغرض كما مرَّ آنفاً الترهيبُ، والترهيب يؤكَّد بالتهويل والتشديد. فهوّلَ بلفظ ﴿النَّاسُ﴾ كما قرعَ به، وشدّد بـ ﴿وَالْحِجَارَةُ﴾ كما وبّخ بها. أي ما ترجون منه النفعَ والنجاة وهو الأصنامُ يصير آلةً لتعذيبكم.

وأما جملةُ ﴿اُعِدَّتْ لِلْكَافِرينَ﴾ فاعلم أن الموضع موضعُ «أعدت لكم»، لكن القرآن يذكر الفذلكة والقاعدةَ الكلية في الأغلب في آخر الآيات ليشير إلى كبرى دليلِ الحُكم؛ إذ أصل الكلام: «أُعدّت لكم إن كفرتم، لأنها أُعدّت للكافرين». فلهذا أُقيم المَظهرُ مقام المضمر..

وأما ماضيّة ﴿اُعِدَّتْ﴾ فإشارة كما مرَّ إلى وجود جهنم الآن.

* * *