الرسالة الثانية

رشحات من بحر معرفة النبي صلى الله عليه وسلم

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

تنبيه

إنَّ ما يُعرّف لنا ربَّنا لا يعد ولا يحد، ولكن البراهين الكبيرة والحجج الكلية ثلاثة:

إحداها: هذه الكائنات، وقد سمعتَ بعض آيات هذا الكتاب الكبير.

وثانيتها: الآية الكبرى من هذا الكتاب، وهي خاتم ديوان النبوة، ومفتاح الكنوز الخفية عليه الصلاة والسلام.

وثالثتها: مفسر كتاب العالم، وحجة الله على الأنام، أي القرآن الحكيم.

فلابد أن نعرف هذا البرهان الثاني الناطق ثم نستمع إليه.. فنذكر من بحر معرفته رشحات:

الرشحة الأولى

اعلم أن ذلك البرهان الناطق له شخصية معنوية عظيمة.

فإن قلت: ما هو؟ وما ماهيته؟

قيل لك: هوالذي لعظمته المعنوية صار سطحُ الأرض مسجدَه، ومكةُ محرابَه، والمدينةُ منبرَه.. وهوإمامُ جميع المؤمنين يأتمّون به صافّين خلْفَهُ.. وخطيبُ جميع البشر يُبين لهم دساتير سعاداتهم.. ورئيسُ جميع الأنبياء، يزكّيهم ويصدّقهم بجامعية دينه لأساسات أديانهم.. وسيدُ جميع الأولياء، يرشدهم ويربّيهم بشمس رسالته.. وقطبٌ في مركز دائرةِ حلقةِ ذكرٍ تركّبَتْ من الأنبياء والأخيار والصديقين والأبرار المتفقين على كلمته الناطقين بها.. وشجرةٌ نورانية عروقُها الحيوية المتينة هي الأنبياء بأساساتهم السماوية، وأغصانُها الخضرة الطرية وثمراتُها اللطيفة النيرة، هي الأولياء بمعارفهم الإلهامية. فما من دعوىً يدّعيها إلّا ويشهد لها جميعُ الأنبياء مستندين بمعجزاتهم، وجميعُ الأولياء مستندين بكراماتهم. فكأن على كل دعوى من دعاويه خواتمَ جميع الكاملين؛ إذ بينما تراه قال: «لا إله إلّا الله» وادعى التوحيدَ، فإذا نسمع من الماضي والمستقبل من الصفَّين النورانيين (أي شموسِ البشر ونجومِه القاعدين في دائرة الذكر) عينَ تلك الكلمة؛ فيكررونها، ويتفقون عليها، مع اختلاف مسالكهم وتباين مشاربهم. فكأنهم يقولون بالإجماع: «صَدَقْتَ وبالحَق نَطقتَ».

ولا حدّ للوَهم أن يَمُدّ يدَه لردّ دعوىً تأيدتْ بشهاداتِ مَن لا يُحدّ من الشاهدِين الذين تزكّيهم معجزاتُهم وكراماتُهم.

الرشحة الثانية

اعلم أن هذا البرهان النوراني الذي دلَّ على التوحيد وأرشد البشرَ إليه، كما أنه يتأيد بقوة ما في جناحَيه: نبوةً وولايةً من الإجماع والتواتر.. وكذا تُصدّقه إشاراتُ الكتب السماوية من بشارات التوراة والإنجيل والزبور وزُبُر الأولين.. وكذلك تصدّقه رموزاتُ الإرهاصات الكثيرة المشهودة.. وكذا تصدّقه بشاراتُ الهواتف الشائعة المتعددة.. وكذا تصدّقه شهادات أهل الكهانة المنقولةُ بالتواتر.. وكذا تصدقه دلالات ألفِ معجزات من أمثال شق القمر، ونَبَعانِ الماء من الأصابع كالكوثر، ومجيءِ الشجر بدعوته، ونزولِ المطر في آن دعائه، وشِبَع الكثير من طعامه القليلِ، وتكلُّمِ الضب والذئب والظبي والجمل والحجر.. إلى ألفٍ مما بيّنَه الرواةُ الثقاة والمحدّثون المحققون.. وكذا تصدّقه شريعته الجامعةُ لسعادات الدارين.

وقد سمعتَ ورأيت في الدروس السابقة شعاعاتٍ من شمس شريعته المفيضة للسعادات. فيكفيك إنْ لم يكن على عينك غين وفي قلبك رَين، فلا نطوّل هنا.

الرشحة الثالثة

اعلم أنه كما تصدّقه الدلائلُ الآفاقية، كذلك هوكالشمس يدل على ذاته بذاته، فتصدّقه الدلائل الأنفسية؛ إذ اجتماع أعالي جميع الأخلاق الحميدة في ذاته بالاتفاق.. وكذا جمعُ شخصيته المعنوية في وظيفته أفاضلَ جميع السجايا الغالية والخصائلِ النـزيهة.. وكذا قوة إيمانه بشهادة قوة زهده وقوة تقواه وقوة عبوديته.. وكذا كمال وثوقه بشهادة سِيَره وكمال جدّيته وكمال متانته..وكذا قوةُ أمنيته في حركاته بشهادة قوة اطمئنانه، تصدّقه في دعوى تمَسُّكِه بالحق وسلوكه على الحقيقة، كما تصدّق الأوراقُ الخضرة والأزهار النضرة والأثمار الطرية حياةَ شجرتها.

الرشحة الرابعة

اعلم أنَّ للمحيط الزماني والمكاني تأثيرا عظيما في محاكمات العقول.. فإن شئت فتعال، نخلع هذه الخيالات الزمانية والعصرية والمحيطية، ونتجرّد من هذا اللباس الملوّث؛ ثم نخوض في بحر الزمان السيال، ونَسبَح فيه إلى أن نخرج إلى عصر السعادات التي هي الجزيرة الخضراء فيما بين العصور والدهور، فلننظر إلى جزيرة العرب التي هي المدينة الشهباء في تلك الجزيرة الزمانية، ولنلبس ما نسَجَ لنا ذلك الزمانُ، وخاطه لنا ذلك المحيط، حتى نزور -ولو بالخيال- قطبَ مركزِ دائرةِ الرسالة، وهو على رأس وظيفته يعمل.

فافتح عينيك وانظر! فإن أول ما يتظاهر لنا من هذه المملكة: شخصٌ خارقٌ، له حسنُ صورةٍ فائقة، في حُسن سيرة رائقة؛ فها هو آخذ بيده كتابا مُعجزا كريما، وبلسانه خطابا موجزا حكيما يبلّغ خطبة أزلية ويتلوها على جميع بني آدم، بل على جميع الجن والإنس، بل على جميع الموجودات.

فيا للعجب! ما يقول؟ نعم، يقول عن أمرٍ جسيم، ويبحث عن نبأٍ عظيم؛ إذ يشرح ويحل المعمّى العجيبة في سرّ خِلقة العالم، ويفتح ويكشف الطلسم المغلق في سر حكمة الكائنات، ويوضح ويبحث عن الأسئلة الثلاثة المعضلة التي أشغلت العقولَ وأوقعتها في الحيرة؛ إذ هي الأسئلة التي يَسأل عنها كلُّ موجود، وهي: مَن أنت؟ ومِن أين؟ وإلى أين؟

الرشحة الخامسة

انظر إلى هذا الشخص النوراني، كيف ينشر من الحقيقة ضياءً نَوّارا، ومن الحق نُورا مضيئا! حتى صيّر ليل البشر نهارا وشتاءَه ربيعا، فكأن الكائنات تَبدَّل شكلُها فصار العالم ضاحكا مسرورا بعدما كان عبوسا قمطريرا.

إذ إذا لم نستضئ بنوره نرى في الكائنات مأتما عموميا، ونرى موجوداتها كالأجانب والأعداء، لا يعرف بعضٌ بعضا، بل يعاديه، ونرى جامداتها جنائز دهّاشَة، ونرى حيواناتها وأناسيّها أيتاما باكين بضربات الزوال والفراق، ونرى الكائنات بحركاتها وتنوعاتها وتغيّراتها ونقوشها مَلعَبةَ التصادف مُنجرّةً إلى العبثية مهملةً لا معنى لها، ونرى الإنسان قد صار -بعَجزه المزعج وفقره المعجِز وعقله الناقل لأحزان الماضي ومخاوف المستقبل إلى رأس الإنسان- أدنى وأخسرَ من جميع الحيوانات. فهذه هي ماهية الكائنات عند مَن لم يدخل في دائرة نوره.

فانظر الآن بنوره، وبمرصاد دينه، وفي دائرة شريعته، إلى الكائنات كيف تراها؟ انظر! قد تبدل شكلُ العالم، فتحول بيتُ المأتم العمومي مسجدَ الذكر والفكر، ومجلسَ الجذبة والشكر.. وتحوَّل الأعداء الأجانب من الموجودات أحبابا وإخوانا.. وتحوَّل كلٌّ مِن جامداتها الميتة الصامتة حيا مؤنسا مأمورا مسخرا، ناطقا بلسان حاله آياتِ خالقه.. وتحوَّل ذووالحياة منها -الأيتامُ الباكون المشتكون- ذاكرين في تسبيحاتهم، شاكرين لترخيصاتهم عن وظائفهم.. وتحوَّلت حركات الكائنات وتنوعاتها وتغيراتها من العبثية والمُهمَليّة وملعبةِ التصادف إلى صيرورتها مكتوباتٍ ربانية وصحائفَ آيات تكوينية ومرايا أسماءٍ إلهية، حتى ترقّى العالمُ وصار كتابَ الحكمة الصمدانية.

وانظر إلى الإنسان كيف ترقّى من حضيض الحيوانية العاجزة الفقيرة الذليلة إلى أوج الخلافة، بقوة ضعفه، وقدرة عجزه، وسَوق فقره، وشوق فاقته، وشوكة عبوديته، وشعلة قلبه، وحشمة إيمان عقله. ثم انظر كيف صارت أسبابُ سقوطه من العجز والفقر والعقل أسبابَ صعوده بسبب تنورها بنور هذا الشخص النوراني!

ثم انظر إلى الماضي، ذلك المزارِ الأكبر في ظلماته، كيف استضاء بشموس الأنبياء وبنجوم الأولياء! وإلى الاستقبال تلك الليلةِ الليلاء في ظلماته، كيف تنوّر بضياء القرآن وتكشّف عن بساتين الجنان!

فعلى هذا؛ لولم يوجَد هذا الشخص لسقطت الكائناتُ والإنسانُ وكلُّ شيء إلى درجة العدم، لا قيمة ولا أهمية لها، فيلزم لمثل هذه الكائنات البديعة الجميلة مِن مِثل هذا الشخص الخارق الفائق المعرِّف المحقق، فإذا لم يكن هذا فلا تكنِ الكائناتُ، إذ لا معنى لها بالنسبة إلينا. فما أصدقَ ما قالَ مَنْ ﴿قَوْلُهُ الْحَقُّۜ وَلَهُ الْمُلْكُ (الانعام:73) «لولاكَ لَولاكَ لَما خَلقتُ الأفلاكَ».

الرشحة السادسة

فإن قلت: مَن هذا الشخص الذي نراه قد صار شمسا للكون، كاشفا بدينه عن كمالات الكائنات، وما يقول؟

قيل لك: انظر واستمع ما يقول! ها هويخبر عن سعادة أبدية ويبشّر بها، ويكشف عن رحمة بلا نهاية، ويعلنها ويدعوالناس إليها. وهودلّالُ محاسنِ سلطنةِ الربوبية ونَظّارُها، وكشّافُ مخفيات كنوز الأسماء الإلهية ومعرِّفها.

فانظر إليه من جهة وظيفته؛ تَـرَه برهانَ الحق وسراجَ الحقيقة وشمس الهداية ووسيلة السعادة.

ثم انظر إليه من جهة شخصيته تَـرَه مثالَ المحبةِ الرحمانية، وتمثالَ الرحمة الربانية، وشرفَ الحقيقة الإنسانية، وأنورَ أزهرِ ثمراتِ شجرة الخلقة.

ثم انظر، كيف أحاط نورُ دينه بالشرق والغرب في سرعة البرق الشارق، وقد قَبِل بإذعان القلب قريبٌ من نصف الأرض ومن خُمس بني آدم هديةَ هدايته بحيث تفدي لها أرواحها.

فهل يمكن للنفس والشيطان أن يناقشا بدون مغالطة في مدَّعَيات مثل هذا الشخص، لاسيما في دعوىً هي أساس كل مدّعَياته وهو«لا إله إلّا الله» بجميع مراتبه؟!

الرشحة السابعة

فإن شئت أنْ تَعرف أن ما يحرّكه إنما هوقوّة قدسية، فانظر إلى إجراآته في هذه الجزيرة الواسعة! ألا ترى هذه الأقوام الوحشيةَ في هذه الصحراء العجيبة، المتعصبين لعاداتهم، المعاندين في عصبيتهم وخصامم، القاسيةَ قلوبُهم بدرجة يدفِن أحدُهم بنتَه حيةً بلا تأثّر! كيف رفع هذا الشخصُ جميع أخلاقهم السيئة والوحشية، وقلَعَها في زمان قليل! وجهّزهم بأخلاق حسنة عالية، فصيّرهم معلِّمِي العالمِ الإنساني وأساتيذَ الأمم المتمدنة. فانظر، ليست سلطنته على الظاهر فقط، بقوة الخوف كسائر الملوك، بل ها هويفتح القلوب والعقول، ويسخِّر الأرواح والنفوس حتى صار محبوبَ القلوب ومعلِّم العقول ومربي النفوس وسلطان الأرواح.

الرشحة الثامنة

من المعلوم أن رفعَ عادةٍ صغيرة كـ«التتون» مثلا، من طائفة صغيرة بالكلية قد يَعسُرُ على حاكم عظيم بهمّة عظيمة، مع أنّا نرى هذا الذات ها هوقد رفع بالكلية عاداتٍ عظيمة كثيرة، من أقوام عظيمة متعصبين لعاداتهم، معاندين في حسياتهم، بقوة جزئية، وهمةٍ قليلة وفي زمان قصير، وغَرسَ بدلها برسوخ تام في سجيتهم عاداتٍ عاليةً، وخصائل غالية. فانظر إلى «عمر» رضي الله عنه قبل الاهتداء وبعده، تَرَه نواةً قد صار شجرةً باسقة. وهكذا يتراءى لنا من خوارق إجراآته الأساسيةِ ألوفُ ما رأينا، فمن لم يَرَ هذا العصر نُدخل في عينه هذه الجزيرة! فليجرّب نفسه فيها. فليأخذوا مائة من فلاسفتهم وليذهبوا إليها وليعملوا مائةَ سنة هل يتيسر لهم أن يفعلوا بالنسبة إلى هذا الزمان جزءا من مائة جزءٍ مما فعل سيدُنا في سنةٍ بالنسبة إلى ذلك الزمان؟!

الرشحة التاسعة

اعلم -إنْ كنت عارفا بسجية البشر- أنه لا يتيسر للعاقل أن يدّعيَ في دعوى فيها مناظرة كذبا يخجل بظهوره، وأن يقوله بلا حجاب وبلا مبالاة وبلا تأثر يشير إلى حيلته، وبلا تصنّع وتهيّج يُوميان إلى كذبه، في أنظار خصومه النقادة، ولوكان شخصا صغيرا، ولوفي وظيفة صغيرة، ولوبحيثية حقيرة، ولوفي جماعة صغيرة، ولوفي مسألة حقيرة. فكيف يمكن تداخل الحيلة ودخول الخلاف في مدَّعَيات مثل هذا الشخص الذي هوموظف عظيم، في وظيفة عظيمة، بحيثية عظيمة، مع أنه يحتاج لأَمنية عظيمة، وفي جماعة عظيمة، وفي مقابلة خصومة عظيمة، وفي مسألة عظيمة، وفي دعوى عظيمة؟ وها هويقول ما يقول بلا مبالاة بمعترضٍ، وبلا تردّد وبلا حجاب وبلا تخوف وبلا تأثر، وبصفوةٍ صميمية، وبجدية خالصة، وبطرزٍ يحرِّك أعصاب خصومه بتزييف عقولهم وتحقير نفوسهم وكسر عزّتِهم، بأسلوب شديد عُلوي. فهل يمكن تداخل الحيلة في مثل هذه الدعوى من مثل هذا الشخص في مثل هذه الحالة المذكورة؟ كلَّا ﴿اِنْ هواِلَّا وَحْيٌ يُوحٰى (النجم:4).

نعم، إن الحقَّ أغنى من أن يُدلِّس، ونظر الحقيقة أعلى من أن يُدلَّس عليه! نعم، إن مسلكه الحق مستغنٍ عن التدليس، ونظرهُ النَقَّاد منـزّه من أن يلتبس عليه الخيال بالحقيقة.

الرشحة العاشرة

انظر واستمع ما يقول! ها هويبحث عن حقائقَ مدهشة عظيمة، ويُنذر البشر ويبحث عن مسائل جاذبة للقلوب، لازمةٍ جالبة للعقول إلى الدقة فيبشّر البشر. ومن المعلوم أن شوقَ كشفِ حقائق الأشياء قد ساق الكثيرين من أهل «المَرَق» إلى فداء الأرواح. ألا ترى أنه لوقيل لك: إن أفديتَ نصفَ عمركَ أونصف مالك، لَنـزل من القمر أوالمشتري شخصٌ يخبرك بغرائب أحوالهما ويخبرك بحقيقة استقبالك، أظنك ترضى بالفداء؟ فيا للعجب! ترضى لدفع «مَرَقِك» بترك نصف العمر والمال، ولا تهتم بما يقول هذا ويصدِّقه إجماعُ أهل الشهود وتواترُ أهل الاختصاص من الأنبياء والصديقين والأولياء والمحققين؛ فيبحث عن شؤون سلطانٍ: ليس القمرُ في مملكته إلّا كذبابٍ يطير حول فَراشٍ، يطير ذلك الفراشُ حول سِراجٍ من القناديل التي أسرجَها في منـزلٍ أعدّه لضيوفه المسافرين من ألوفِ منازله! وكذا يخبر عن عالمٍ هومحل الخوارق والعجائب، وعن انقلاب عجيب، فرضا لوانفلقت الأرضُ وتطايرت جـبـالُها كالسحاب ما ساوتْ عُشر معشار عَشِير غرائبِ ذلك الانقلاب.

فإن شئت فاستمع من لسانه أمثالَ ﴿اِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْۙ﴾ و﴿اِذَا السَّمَٓاءُ انْفَطَرَتْ﴾ و﴿اِذَا زُلْزِلَتِ الْاَرْضُ زِلْزَالَهَا﴾ و﴿اَلْقَارِعَةُ﴾.. وكذا يخبر بتحقيقٍ عن استقبالٍ ليس الاستقبالُ الدنيوي بالنسبة إليه إلّا كقطرةِ سرابٍ بلا طائلٍ بالنسبة إلى بحر بلا ساحل.. وكذا يبشّر عن شهودٍ بسعادةٍ ليست السعادةُ الدنيوية بالنسبة إليها إلا كبرقٍ زائل بالنسبة إلى شمسٍ سرمدية.

نعم، تحت حجاب هذه الكائنات -ذاتِ العجائب- عجائبُ، تنتظرنا وتنظر إلينا. ولابد لإخبار تلك العجائب والخوارق [من] شخصٍ عجيب خارق يشاهِد ثم يشهَد، ويُبصِر ثم يُخبر.

نعم، نشاهد من شؤونه وأطواره أنه يشاهِد ثم يشهَد، فينذر ويبشّر. وكذا يخبر عن مرضيات رب العالمين ومَطالبه منّا وهكذا.. من عظائم مسائل لا مفرّ منها، وعجائبِ حقائقَ لا منجا منها، ولا سعادة بدونها.

فيا حسرةً على الغافلين! ويا خسارةً على الضالين! ويا عجبا من بلاهة أكثر الناس! كيف تَعامَوا عن الحق وتصامّوا عن هذه الحقيقة! لا يهتمون بمثل هذا الذات في عجائبه، مع أن من شأن مثله أن تُفدى له الأرواحُ ويُسرع إليه بترك الدنيا وما فيها.

الرشحة الحادية عشرة

اعلم أن هذا الشخص، المشهودَ لنا بشخصيته المعنوية، المشهور في العالم بشؤونه العلوية؛ كما أنه برهانٌ ناطقٌ صادقٌ على الوحدانية، ودليلٌ حقٌّ بدرجة حقانية التوحيد.. كذلك هوبرهان قاطع ودليل ساطع على السعادة الأبدية؛ بل كما أنه بدعوته وبهدايته سببُ حصولِ السعادة الأبدية ووسيلةُ وصولها.. كذلك هوبدعائه وعبوديته سببُ وجود تلك السعادة ووسيلةُ إيجادها.

فإن شئت فانظر إليه وهوفي الصلاة الكبرى، التي بعظمة وُسعَتها صيّرت هذه الجزيرة -بل الأرضَ- مصلين بتلك الصلاة الكبرى.. ثم انظر، إنه يصلي تلك الصلاة بهذه الجماعة العظمى، بدرجةٍ كأنه هوإمام في محرابِ عصره واصطفّ خلفَه مقتدين به جميعُ أفاضل بني آدم، من آدم إلى هذا العصر إلى آخر الدنيا، في صفوف الأعصار مؤتَمّين به ومُؤَمِّنين على دعائه.. ثم استمع ما يَفعل في تلك الصلاة بتلك الجماعة؛ فها هويدعولحاجةٍ شديدةٍ عظيمةٍ عامةٍ بحيث يشترك معه في دعائه الأرضُ، بل السماء، بل كلُّ الموجودات، فيقولون بألسنة الأحوال: «نعم يا ربَّنا تقبل دعاءه، فنحن أيضا نطلبه، بل مع جميع ما تجلى علينا من أسمائك، نطلب حصول ما يطلب هو..». ثم انظر إلى طوره في طرز تضرعاته كيف يتضرّع بافتقارٍ عظيمٍ في اشتياق شديد وبحزن عميق في محبوبية حزينة، بحيث يهيّج بكاءَ الكائنات فيُبكيها فيُشركُها في دعائه.. ثم انظر، لأيّ مقصدٍ وغاية يتضرع؛ ها هويدعولمقصدٍ لولا حصول ذاك المقصد لسقط الإنسان بل العالم بل كل المخلوقات إلى أسفل سافلين لا قيمة لها ولا معنى. وبمطلوبه تترقى الموجوداتُ إلى مقاماتِ كمالاتها.. ثم انظر، كيف يتضرع باستمدادٍ مديد، في غياث شديد، في استرحام بتودد حزين، بحيث يُسمع العرشَ والسماوات، ويهيّج وجدَها، حتى كأنه يقول العرشُ والسماوات: «آمين اَللَّهُمَّ آمين».. ثم انظر، ممّن يطلب مسؤولَه؟ نعم، يطلب من القدير السميع الكريم ومن العليم البصير الرحيم، الذي يَسمع أخفى دعاءٍ من أخفى حيوانٍ في أخفى حاجة، إذ يجيبه بقضاء حاجته بالمشاهدة، وكذا يبصر أدنى أملٍ في أدنى ذي حياة في أدنى غاية؛ إذ يوصله إليها من حيث لا يحتسب بالمشاهدة، ويُكرم ويَرحم بصورة حكيمة، وبطرز منتظم؛ لا يبقى ريب في أن هذه التربية والتدبير مِن سميعٍ عليم ومن بصير حكيم.

الرشحة الثانية عشرة

فيا للعجب! ما يطلب هذا الذي قام على الأرض وجمَعَ خلفَه جميعَ الأنبياء، أفاضلِ بني آدم، ورَفَع يديه متوجها إلى العرش الأعظم، ويدعودعاءً يُؤمِّن عليه الثقلان، ويُعلَم من شؤونه أنه شرفُ نوعِ الإنسان، وفريدُ الكون والزمان، وفخرُ هذه الكائنات في كل آن؛ ويَستشفع بجميع الأسماء القدسية الإلهية المتجلية في مرايا الموجودات، بل تدعووتطلب تلك الأسماءُ عينَ ما يطلب هو. فاستمع! ها هويطلب البقاءَ واللقاء والجنة والرضاء. فلولم يوجَد ما لا يُعد من الأسباب الموجبة لإعطاء السعادة الأبدية من الرحمة والعناية والحكمة والعدالة المشهودات -المتوقفِ كونُها رحمة وعناية وحكمة وعدالة على وجود الآخرة، وكذا جميع الأسماء القدسية، أسبابٌ مقتضية لها- لكفى دعاءُ هذا الشخص النوراني لأن يبني ربُّهُ له ولأبناء جنسه الجنةَ، كما يُنشئ لنا في كل ربيع جِنانا مزينة بمعجزاتِ مصنوعاته.

فكما صارت رسالته سببا لفتح هذه الدار الدنيا للامتحان والعبودية، كذلك صار دعاؤه في عبوديته سببا لفتح دار الآخرة للمكافأة والمجازاة.

فهل يمكن أن يتداخل في هذا الانتظام الفائق، وفي هذه الرحمة الواسعة، وفي هذه الصنعة الحسنة بلا قصور، وفي هذا الجمال بلا قبح، بدرجةٍ أنطق أمثال الغزالي بـ«ليس في الإمكان أبدع مما كان».. وأن تتغير هذه الحقائق بقبحٍ خشين، وبظلم مُوحش، وبتشوش عظيم؛ إذ سماعُ أدنى صوت في أدنى خلق في أدنى حاجة وقبولُها بأهميةٍ تامة، مع عدم سماع أرفَع صوتٍ ودعاءٍ في أشد حاجة، وعدمُ قبولِ أحسنِ مسؤول، في أجمل أمل ورجاء؛ قبحٌ ليس مثله قبح، وقصورٌ لا يساويه قصور، حاشا ثم حاشا وكلّا.. لا يَقبل مثلُ هذا الجمال المشهود بلا قصور مثلَ هذا القبح المحض، وإلّا لانقلبت الحقائقُ بانقلاب الحُسن الذاتي قبحا ذاتيا.

الرشحة الثالثة عشرة

يا رفيقي في هذه السياحة العجيبة، ألا يكفيك ما رأيت؟ فإن أردتَ الإحاطة فلا يمكن، بل لوبقينا في هذه الجزيرة مائة سنة ما أحطنا ولا مَلِلْنا من النظر بجزءٍ واحد من مائة جزء من عجائب وظائفه، وغرائب إجراآته.. فلنرجع قهقريا، ولننظر عصرا عصرا، كيف اخضرّت تلك العصور واستفادت من فيض هذا العصر؟

نعم، نرى كلَّ عصرٍ نمرُّ عليه قد انفتحت أزاهيرُه بشمس عصر السعادة، وأثمَر كلُّ عصرٍ من أمثال أبي حنيفة، والشافعي، وأبي يزيد البسطامي، والجنيد البغدادي، والشيخ عبد القادر الكيلاني والإمام الغزالي، ومحيي الدين بن عربي، وأبي الحسن الشاذلي، والشاه النقشبند، والإمام الرّبّاني ونظائرهم ألوفَ ثمراتٍ منورات من فيض هداية ذلك الشخص النوراني.

فلنؤخر تفصيلات مشهوداتنا في رجوعنا إلى وقت آخر.

ونصلي ونسلم على هذا الذات النوراني، ذي المعجزات، أعني سيدنا محمدا عليه الصلاة والسلام:

اَللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلٰى هٰذَا الذَّاتِ النُّورَانِىِّ الَّذِى أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ الْحَكِيمُ
مِنَ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ مِنَ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، أعْنِي سَيِّدَنَا مُحَمَّدا
ألْفَ ألْفِ صَلَاةٍ وَألْفَ ألْفِ سَلَامٍ بِعَدَدِ حَسَنَاتِ أمَّتِهِ.

عَلٰى مَنْ بَشَّرَ بِرِسَالَتِهِ التَّوْرَاةُ وَاْلإنْجِيلُ وَالزَّبوُرُ وَبَشَّرَ بِنُبُوَّتِهِ اْلإِرْهَاصَاتُ وَهواتِفُ الْجِنِّ وَأوْلِيَاءُ اْلإنْسِ وَكَوَاهِنُ الْبَشَرِ، وَانْشَقَّ بِإشَارَتِهِ الْقَمَرُ..
سَيِّدِنَا وَمْوْلاٰنَا مُحَمَّدٍ ألْفُ ألْفِ صَلَاةٍ وَألْفُ ألْفِ سَلَامٍ بِعَدَدِ أنْفَاسِ أمَّتِهِ.

عَلٰى مَنْ جَاءَتْ لِدَعْوَتِهِ الشَّجَرُ، وَنَزَلَ سُرْعَةً بِدُعَائِهِ الْمَطَرُ، وَأظَلَّتْهُ الْغَمَامَةُ مِنَ الْحَرِّ، وَشَبِعَ مِنْ صَاعٍ مِنْ طَعَامِهِ مِئاٰتٌ مِنَ الْبَشَرِ، وَنَبَعَ الْمَاءُ مِنْ بَيْنِ أصَابِعِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ كَالْكَوْثَرِ، وَسَبَّحَ فِي كَفَّيْهِ اْلحَصَاةُ وَالْمَدَرُ، وَأنْطَقَ الله لَهُ الضَّبَّ وَالظَّبْي وَالذِّئْبَ وَالْجِذْعَ وَالذِّرَاعَ وَالْجَمَلَ وَالْجَبَلَ وَالْحَجَرَ وَالشَّجَرَ صَاحِبِ الْمِعْرَاجِ وَمَا زَاغَ الْبَصَرُ… سَيِّدِنَا وَمَوْلَانَا وَشَفِيعِنَا مُحَمَّدٍ ألْفُ ألْفِ صَلَاةٍ وَألْفُ ألْفِ سَلَامٍ بِعَدَدِ كُلِّ الْحُرُوفِ الْمُتَشَكِّلَةِ فِي اْلكَلِمَاتِ الْمُتَمَثِّـلَةِ بِإذْنِ الرَّحْمٰنِ فِي مَرَايَا تَمَوُّجَاتِ الْهواءِ عِنْدَ قِرَاءَةِ كُلِّ كَلِمَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ قَارِئٍ مِنْ أوَّلِ النُّزُولِ إلٰى آخِرِ الزَّماَنِ وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا يَا إلٰهَنَا بِكُلِّ صَلَاةٍ مِنْهَا آمِينَ آمِينَ آمِينَ.

* * *