اللمعة الخامسة

انظر! كما أن كل حرف من كتاب يدل على نفسه بمقدار حرف وبوجه واحد، لكن يَدُلّ على كاتبه بوجوه ويعرِّفُ نَقّاشَه بمقدار سطر..؛ كذلك كلُّ حرف مجسمٍ من كتاب الكائنات يدل على نفسه بمقدار جِرمه ويُظهر ذاتَه بمقدار صورته، لكن يدل على صانعه بوجوه كثيرة، إفرادا وتركيبا بدخوله في المركبات، ويُظهر أسماءَ صانعه ويُنشد في بيانها بمقدار قصيدة طويلة.

فعلى هذا لوتحَمَّقَ أحدٌ كـ«هبنّقة» فأنكر نفسه وأنكر الكائنات، ينبغي أن لا يتجاسر بإظهار نهاية البلاهة على إنكار الصانع.

اللمعة السادسة

انظر! كما أن الصانع سبحانه وضع على كل جزئيٍ جزئيٍ خاتمَه الخاص، وضرَب على كل جزءٍ جزءٍ سكّته المخصوصة -كما مرّ-؛ كذلك وَضَع على كلّ نوعٍ نوعٍ وعلى كلِّ كُلٍّ كُلٍّ خاتمه الخاص، وخَتم أقطار السماوات والأرض بخاتم الواحدية، وضرب على مجموع العالم سكةَ الأحدية بصورة جلية واضحة.

فانظر إلى خاتمه الذي أشارت إليه آيةُ ﴿فَانْظُرْ اِلٰٓى اٰثَارِ رَحْمَتِ اللّٰهِ كَيْفَ يُحْيِ الْاَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَاۜ اِنَّ ذٰلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتٰىۚ وَهوعَلٰى كُلِّ شَيْءٍ قَديرٌ﴾ (الروم:50)، إذ في كيفية إحياء الأرض حشرٌ عجيب، ونشر غريب، يُحشَرُ في إحيائها أزيدُ من ثلاثمائة ألف نوع، تُساوي أفرادُ نوعٍ واحد -من كثير من تلك الأنواع- في السنة مجموعَ أفراد الإنسان في الدنيا؛ لكن لحكمة خفية لا تعادُ في الأكثر بأعيانها، بل بأمثالها بمثليةٍ كالعينية! وكيفما كان فلا بأس في دلالتها على سهولة حشر البشر، وفي كونها أمثلةَ النشر وإشاراتِ الحشر.

فإحياء تلك الأنواع الكثيرة المختلطة المشتبكة في نهاية الاختلاط والاشتباك بنهاية الامتياز، وإعادتُها في كمال التمييز، بلا خطأ ولا خلط، بلا غلط ولا سقط، خاتمٌ خاص بمَن له قدرة بلانهاية وعلم محيط.

وكذا كتابةُ ثلاثمائة ألف كتاب مختلفة بل أزيدَ في صحيفة سطح الأرض؛ مختلطةً لكن في نهاية الانتظام بلا سهوولا مزج، ومشتبكةً لكن في نهاية الانتظام بلا نقص ولا بخس، وممتزجةً لكن في نهاية التمييز والتشخيص بلا قصور ولا فطور.. سكةٌ خاصة بمن بيده ملكوت كل شيءٍ، وبيده مقاليد كل شيء، ولا يُشغله شيءٌ عن شيءٍ.

فيا مَن يَستبعد الحشرَ مستنكرا له! انظر كيف ترى في كيفية إحياء الأرض مائة ألف أمثلته وإشاراته في ستة أسابيع! فمَثَلُك في استبعادك الإنكاري، كمَثَل: مَن يرى ذاتا ذا معجزات يكتب في آن واحد في صحيفة واحدة كتبا كثيرة مندرِسةً بقيت في حافظته، أويؤلفها جديدةً أمثال المندرسة، فقيل له: سيَكتب هذا الكاتبُ كتابك الذي هوألّفه فمَحاه الماءُ، في صحيفة في طرفة عين. فقال: كلّا، كيف يمكن كتابة كل ما اندرس من حروفاته في آن واحد؟! فقاس الكاتبَ الحفيظَ القديرَ ذا الإعجاز على نفسه الجاهلة العاجزة.

ومَنْ يقول لمن يرفع الجبال -بالإشارة- لإظهار عظمته أوسلطنته: هولا يرفع هذه الصخرة العظيمة التي سَدّت الطريق على المسافرين الذين دعاهم إلى بستان نِعَمِهِ.. ما هوإلّا مجنون أبله.

نعم، للربوبية في هذا التصرف العظيم الربيعيّ خاتمٌ عالٍ عظيم دقيق النقش، هوالإتقان المطلق في الانتظام المطلق، في الجود المطلق في الوُسعة المطلقة، في السرعة المطلقة في السهولة المطلقة، في الامتياز المطلق مع الاشتباك المطلق. فهذا الخاتم يختص بمن لا يمنعه فعلٌ عن فعل، ولا يغيب عنه شيءٌ، ولا يثقل عليه شيء.

نعم، نشاهد في الربيع في وجه الأرض فعالية حكيمة بصيرة كريمة، وصنعة خارقة في آن واحد، في كل مكان، بطرزٍ واحد، في كل فرد، وبإتقان ممتاز، في جُود مطلق، بانتظام مكمّل، في سرعة مطلقة، بإبرازِ خوارقَ منتظمةٍ، في سهولة مطلقة، في وُسعة مطلقة، فما هذه الفعالية إلّا خاتمُ مَن «كما أنه ليس في مكانٍ، هوفي كل مكان، حاضرٌ ناظر بقدرته وعلمه لا يؤوده شيء ولا يستعين بشيء».

اللمعة السابعة

انظر! كما يُشَاهَدُ على صحيفة الأرض، ويُتراءى على أقطار السماوات والأرض خاتمُ الأحد الصمد، كذلك يشاهَدُ على «مجموع العالم» خاتم التوحيد واضح النقش بدرجة كُبره؛ إذ هذا العالم كالقصر المحتشم، كـ«الفَابْرِيقَة» المنتظمة، كالبلد المكمّل، فيما بين أجزائه -كأجزائها وأفرادها- معاوَنةٌ حكيمة ومجاوبة كريمة؛ إذ يُسرع بعض الأجزاء لمعاونة بعض، في الطرق الطويلة المعوَجّة بلا انحراف وبانتظام، وفي وقت الحاجة، ومن حيث لا يحتسب. فانظر تَرها قد مدَّ بعضٌ يَدَ المعاونة لحاجة بعض، وفي هذا التعاون تجاوبٌ بـ: «لبيك، لبيك!» بألسنة الأحوال لأسئلة الأغيار والأمثال.. قد أخذ بعضٌ يَدَ بعضٍ، فيسعَون ويعملون بالانتظام يدا في يد، ويَخدمون ذوي الحياة رأسا مع رأس، ويتوجهون إلى غاية، ويطيعون مدبّرا واحدا كتفا بكتف.

فانظر إلى دستور «التعاون» كيف يجري من الشمس والقمر ومن الليل والنهار ومن الصيف والشتاء، إلى سعى النباتات لإمداد الحيوانات بحمل أرزاقها وأخذِها من خزينة الرحمة.. ثم إمداد الحيوانات للبشر للخدمة، حتى النحلُ والدود يأخذان العسلَ والحرير من خزينة الرحمن، ويوصلانهما إلى الإنسان.. ثم إمداد الذّرات الغذائية للثمرات، مع تخالف أغذيتها، وإمداد المواد الطعامية لتغذيةِ حُجَيْرات البدن بكمال الانتظام والعناية والحكمة!

فمظهرية هذه الأشياء لاسيّما الجامدة لهذا التعاون الحكيم المنتظَم الكريم المكمَّل دليلٌ واضح وبرهان ساطع على أنها خدّامُ مربٍّ حكيم وعَمَلة مدبرٍ كريمٍ يتحركون بأمره وإذنه وقوته وحكمته.

اللمعة الثامنة

انظر! إن ما يشاهَد من «الرزق» المُوزَّع على المرتزقين على قدر حاجاتهم، بطرزٍ يناسب كل واحدٍ واحدٍ منهم.. وهذا الرزق العامُّ في هذه الرحمة الواسعة المشهودة المتضمنة للتودد والتعرّف.. وهذه الرحمة الواسعة في هذه العناية التامة المتضمِّنة للتلطيف والإكرام.. وهذه العناية المشهودة في هذه الحكمة العامة المتضمنة للقصد والشعور.. وهذه الحكمة المشهودة في هذا الانتظام المشهود.. وهذا الانتظام في ضمن هذه المسخّرية المشهودة.. وهذه المسخرية في ضمن هذا التعانق مع التجاوب.. وفي ضمن هذا التساند مع التعاون فيما بين أجزاء الكائنات.. خاتمٌ خاص بمَن هوربّ كل شيء ومربّى كل شيء ومدبّر كل شيء.. وسكة مخصوصة بمَن الشمسُ والقمر والنجوم مسخّراتٌ بأمره: ﴿اَلَّذٓي اَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ (السجدة:7). ﴿اِذَٓا اَرَادَ شَيْـًٔا اَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ (يس:82).

اللمعة التاسعة

فكما رأيتَ خاتم الأحدية على الجزئيات، وعلى الأرض، وعلى العالم؛ فانظر ترَ ذلك على الأنواع المنشورة، وعلى العناصر المحيطة.

فكما أن زرعَ بذرٍ في مزرعة يدل على أن المزرعة في تصرّف صاحب البذر، وأن البذر لمتصرف المزرعة؛ يشهد هذا لذاك، وذاك لهذا.. كذلك، إن هذه العناصر التي هي مزرعة المصنوعات، بلسان واحديّتها وبساطتها في كليتها وأحاطتها بطرز متعيِّنٍ بعلمٍ، وبصورة مُحكمة بحكمة.. وإن هذه المخلوقات التي هي ثمرات الرحمة ومعجزات القدرة وكلمات الحكمة، بلسان انتشارها الحكيم، مع المماثلة في الأشخاص، وبلسان توطنها في الأطراف المتباعدة، بتوزيعٍ عجيب حكيم مع المشابهة في الأفراد.. تشهدان على أن المحيط والمحاط والمزارع والبذور، في قبضةِ تصرفِ صانعٍ واحد. فكل نوع وكل عنصر يشهد لكلٍّ وللكل؛ بأنكم مالُ مَنْ أنا مالُهُ! فيصير كل زهرة وكل ثمرة وكل حيوان وحُوينة سِكةً ناطقة وخاتما متكلما وطرةً متلفظة بلسان انتظام الحال وحكمة المآل؛ بأن هذا المكان: مُلك مَنْ أنا مُلكه! وصُنعُ مَنْ أنا صنعُه! ومكتوبُ مَنْ أنا حرفه! ونسجُ مَن أنا نقشه!

فعلى هذا، فكما أن التصرف الحقيقي في أدنى مخلوق، والربوبيةَ على أضعف موجود يختصان بمَن دَخَل في قبضة تصرفه جميعُ العناصر.. كذلك إن تدبير أي عنصر كان وتدويرَه، يختص بمَن يربّي جميع الحيوانات والنباتات ويدبّرها ويأخذها في قبضة ربوبيته سبحانه! فهذا خاتم توحيدٍ يُبصره مَن لم يكن في عينه غين وعلى قلبه رَين.

أيها المتَفَرْعِن! جرّب نفسك، هل تقدر أن تملك شيئا من الكون؟ فاذهب واستمع ما يقول كل فرد جزئيٍ. إذ يقول بلسان المِثليةِ: مَن تَملَّك مجموع نوعي يمكن أن يَدّعي التملُّكَ عَليّ وإلّا فلا.. ثم اذهب إلى النوع تَر كُلَّ نوعٍ يقول بلسان الانتشار: مَن تملّك الأرض ظهرا وبطنا يمكن له أن يَدّعي التملك عليَّ وإلّا فلا.. ثم اذهب إلى الأرض تَرَها تقول بلسان التساند بينها وبين أختها السماءِ: مَن تملَّك مجموع الكائنات يمكن له أن يدّعي التملك عليَّ وإلّا فلا.

اللمعة العاشرة

فإذا رأيتَ ما أشرنا إليه من بعض خواتم التوحيد المضروبة على الجزء والجزئي والكل والكلي، وكل العالم، وعلى الحياة وذي الحياة والإحياء، فانظر إلى سكةٍ واحدة مما لا تعد من سِكات الوحدانية المضروبة على «الأنواع والكليات».

نعم، كما أن كميةَ كلفةِ تربيةِ الشجرةِ المثمرة تساوي كلفةَ ثمرة واحدة في السهولة؛ لوحدة التربية واتحاد التدبير، إذ لاتّحاد المركز ووحدةِ القانون ووحدانيةِ التربية تخففت الكلفةُ والمشقةُ والمصرف، وتسهّلت بدرجةٍ لا فرق بين الشجرة ذاتِ الثمراتِ الغير المعدودة وهي في يد الوحدة، وبين الثمرة الواحدة وهي في يد الكثرة. فالشركة والكثرة وتعدُّد المركز تحتاج -لتربيةِ ثمرة واحدة- إلى كل ما يحتاج إليه تمامُ الشجرة بأثمارها من جهة كمية الجهازات، ولا فرق إلّا في الكيفية. كما أن كل الفَابْرِيقَات والماكينات التي تَعمل لاستحصال الجهازات العسكرية للجيش العظيم تلزم بتمامها لتجهيزاتِ نفرٍ واحدٍ والفرقُ في الكيفية فقط. وكما أن أُجرَةَ طبعِ أُلوفِ نسخٍ في المطبعة التي طَبَعت كتابك تساوي-بل أقل من الأجرة التي أعطيتها- لطبعِ نسخةٍ واحدة، وإذا تركتَ المطبعة الواحدة وذهبتَ إلى الكثرة اضطُرِرتَ إلى إعطاءِ أُلوفِ أُجَرٍ.

الحاصل: إذا تركتَ إسناد الكثرة الغير المحدودة إلى الواحد -فمع أنك تضطر لإسناد شيء واحد إلى الكثرة الغير المحدودة- تتزايد الكلفةُ بعدد الأفراد. فما يشاهد في إنشاء كل نوعٍ منتشرٍ من السهولة الخارقة فإنما هي من يُسر الوحدة والتوحيد.

اللمعة الحادية عشر

كما أنّ توافُقَ كل أفراد النوع وتشابُهَ كل أنواع الجنس في الأعضاء الأساسية، يدلّان على اتحاد السكة ووحدة القلم، الشاهدَين على أن جميع المتوافقات والمتشابهات صُنْعُ واحدٍ.. كذلك هذه السهولة المطلقة المشهودةُ وخفّة الكلفة، تستلزمان بدرجة الوجوب أن يكون الجميع آثار صانعٍ واحد؛ وإلّا لَذَهَبَت الصعوبةُ الصّاعدة إلى درجة الامتناع بذلك الجنس وبذلك النوع إلى العدم. فكما يمتنع شريكُ ذاتهِ سبحانه، -وإلّا لفسد العَالمُ بالخروج عن الانتظام..- كذلك يمتنع شريكُه في فِعْله، وإلّا لانعَدَم العالمُ ولم يوجد.

اللمعة الثانية عشر

انظر! كما أن الحياة برهان الأحدية، ودليل وجوب الوجود، فالموت دليل السرمدية والبقاء. إذ كما أن ظهور قطرات النهر الجاري وحَبابات البحر المتمّوج وشفافات وجه الأرض المتجددة شاهداتٌ على الشمس بإراءة تماثيلها وضيائها، وأن زوال تلك القطرات والحبابات والشفافات وغروبَها وأفولَها وفَناءها وموتها مع استمرار تجلي الضياء على أمثالها الآتية عقيبها، ودوامِ جلوات التماثيل على كل قافلةٍ سيارةٍ خلفها، شاهداتٌ على بقاء الشمس في تجلياتها ودوامِ الضياء في جلواتها وعلى أن كل هذه التماثيل والأَشِعّاتِ آثارُ شمسٍ واحدة، فيظهرون وجودها بوجودهم وبقاءها ووحدتها بعدمهم، مع انعدام أسبابهم الظاهرية معهم.

كذلك هذه الموجودات تشهد بوجودها على وجوب وجود الواجب الوجود، وتشهد بزوالها مع أسبابها ومجيء أمثالها عقيبها على أزليته وسرمديته وواحديته؛ إذ إن تجدّد المصنوعات الجميلة وتبدلَ الموجودات اللطيفة وغروبَها في طلوع أمثالها وأفولَها في ظهور أشباهها عند اختلاف الليل والنهار وعند تحول الفصول وتبدل العصور، تَشهَدُ شهادةً قاطعةً على وجود ذي جمالٍ مجردٍ سرمدي عالٍ دائم التجلي، وعلى بقائه ووحدته.. وإن زوال الأسباب السفلية مع المسبَّبات في الانقلابات السنوية والعصرية، ثم إعادة أمثال المسبَّبات مع الأسباب، يشهد قطعا على أن الأسباب كالمسبّبات عاجزة مصنوعة قورنَت بينها وبينها لِحكَمٍ دقيقة، بل تدل على أن كل هذه المصنوعات اللطيفة السيّالة وهاتيك الموجودات الجميلة الجوّالة إنما هي صَنْعَةٌ متجددةٌ للذات الأحدية ذي الجلال والجمال -الذي جميعُ أسمائه قدسية جميلة- ونقوشُه المتحولة ومراياه المتحركة وسكاتُه المتعاقبة وخواتمه المتبدلة.

اللمعة الثالثة عشر

انظر! إن كل شيء، من الذرات إلى السيارات، ومن النفوس إلى الشموس؛ بلسان عجزه في ذاته، يدل على وجوب وجود خالقه، ويشهد بلسان حَمله -مع عجزه- وظائف عجيبة في النظام العمومي على وحدة خالقه.

ففي كل شيء له شاهدان على أنه واجب واحد.. وفي كل حي له آيتان على أنه أحد صمد.

ولقد فهمتُ من فيض القرآن الحكيم أن كل جزءٍ من أجزاء الكائنات يشهد للواجب الوجود الواحد الأحد الصمد بقريب من خمسة وخمسين لسانا فذكرتُها إجمالا في رسالة عربية تسمى «قطرة». فإن شئتَ فراجعها.

اللمعة الرابعة عشر

اعلم أن هذه الموجودات كما تشهد على وجوبه ووحدته سبحانه.. كذلك تشهد على جميع أوصافه الجلالية والجمالية والكمالية.. وكذلك تشهد على كمال ذاته، وعلى أنه لا نقص ولا قصور لا في ذاته ولا في شؤونه ولا في صفاته ولا في أسمائه ولا في أفعاله؛ إذ إن كمال الأثر يدل على كمال الفعل بالمشاهدة، وكمال الفعل يدل على كمال الاسم بالبداهة، وكمال الاسم يدل على كمال الصفة بالضرورة، وكمال الصفة يدل على كمال الشأن الذاتي بالحدس اليقيني، وكمال الشأن يدل على كمال الذات بحق اليقين.

فكما أن مُكمَّليةَ نقوشِ تزييناتِ قصرٍ بلا قصورٍ، تُظهر لك مكمليةَ أفعال الصانع المهندِسِ المستترةِ تلك الأفعالُ تحت النقوش، والمتحركة تحت التزيينات.. ومكمليةَ تلك الأفعال تصرّح لك بمكمليةِ أسماء ذلك الفاعل، أي هوصانع ماهر، ومهندسٌ عليم، ونَقّاش حكيم، وهكذا.. ومكملية أسمائه تُفصح لك عن مكمّلية صفات المسمى، أي له علم وحكمة وصنعة وهندسة.. ومكملية صفاته تشهد على مكملية شؤون ذاته، أي له قابلية فائقة واستعداد جيد.. ومكملية الشؤون تكشف عن وجهِ مكملية ذاتِ ذلك النقاش بوجه يليق به ويناسب مقامه.. كذلك إن مكملية هذه الآثار المشهودة في هذه الكائنات بلا قصور ولا فطور، تشهد بالمشاهدة الحدسية على مكملية أفعالٍ مستترة خلفها.. ومكملية هذه الأفعال التي هي كالمشهودة، تشهد بالبداهة على كمال أسماء ذلك الفاعل.. وكمالُ تلك الأسماء، يشهد بالضرورة على كمال الصفات؛ إذ الأسماء ناشئة من نسب الصفات.. وكمالُ الصفات يكشف باليقين عن كمال الشؤون الذاتية التي هي مبادئ الصفات القدسية.. وكمال الشؤون يشهد بحق اليقين على كمال الذات بما يليق بجنابه سبحانه. بل مجموع ما في الكائنات من الكمال والجمال إنما هوظل ضعيف مفاض بالنسبة إلى كماله عزّ كمالُه، وإلى جمالِه جلّ جمالُه.

* * *