الرسالة الرابعة

قطرة من بحر التوحيد

مفتاح حل هذه الرسالة المستفادة من فيض القرآن

إنما يحصلُ بعد مطالعتها بتمامها مرةً بدقة.


إفادة المرام

اقرأ بدقة تَقَرَّ عينُك بإذن الله

اعلم

يا أيها الناظرون! إنى قد ساقني القدر الإلهي إلى طريق عجيب، صادفتُ في سيري فيه مهالك ومصائب وأعداء هائلةً. فاضطربتُ، فالتجأت بعجزي إلى ربي.. فأخذت العنايةُ الأزلية بيدي، وعلّمني القرآنُ رشدي، وأغاثتني الرحمة فخلصتني من تلك المهالك. فبحمد الله صرتُ مظفرا في تلك المحاربات مع النفس والشيطان اللذين صارا وكيلين فضوليين لأنواع أهل الضلالات..

فأولا: ابتدأَت المشاجرةُ بيننا في هذه الكلمات المباركة وهي:

سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلّا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.. فوقع تحت كلٍ من هذه الحصون الحصينة ثلاثون حربا. فكلُّ جملة، بل كل قيد في هذه الرسالة نتيجة مُظفَّريةٍ لحرب لم يبقَ للعدوفي شيء منها مطمَعٌ وأدنى ممسكٍ.. فما كتبتُ إلّا ما شاهدتُ.. بحيث لم يبق لنقيضه عندي إمكانٌ وهمي. فأُشيرُ بعضا إلى حقيقة طويلة مع دليلها بقيدٍ أوصفة اندمج دليلُ الحُكم فيهما، يُعرف بالدقة. وما صرّحتُ ليُحسَّ بالمرام من احتاج ولا يشتغلَ مَن لم يحتج فيحتاج..

أظن أن جريان هذا الزمان يلقي العقولَ والقلوبَ في المهالك التي أمَرَّني القدرُ عليها. فهذا الأثرُ يمكن أن يكون نافعا بإذنه تعالى لبعض المصابين. ومن الله التوفيق..

سعيد النُّورْسِيّ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله والصلاة على نبيه

فهذا الأثر على أربعة أبواب وخاتمة ومقدمة.

المقدمة

اعلم أني حصّلتُ في أربعين سنة في سفر العمر، وثلاثين سنة في سير العلم: أربع كلمات، وأربع جمل. سيجيء تفصيلها. أشيرُ هنا إلى الإجمال..

أما الكلمة فهي:

المعنى الحرفي، والمعنى الاسمي، والنية، والنظر.

أعني: أن النظر إلى ما سواه تعالى، لابد أن يكون بالمعنى الحرفي وبحسابه تعالى، وأن النظر إلى الكائنات بالمعنى الاسمي أي بحساب الأسباب خطأٌ. ففي كل شيء وجهان: وجهٌ إلى الحق، ووجه إلى الكون. فالتوجه إلى الوجه الكوني لابد أن يكون حرفيا وعنوانا للمعنى الاسمي الذي هوجهةُ نسبتِه إليه تعالى؛ مثلا: لابد أن يُرى النعمةُ مرآةً للإنعام، والوسائطُ والأسباب مرايا لتصرف القدرة..

وكذا، إن النظر، والنيّة يغيّران ماهيات الأشياء، فيَقلبان السيئاتِ حسناتٍ. كما يقلب الإكسيرُ الترابَ ذهبا، كذلك تَقْلب النيةُ الحركاتِ العاديةَ عباداتٍ. والنظرُ يقلب علومَ الأكوان معارفَ إلهية.. فإن نُظر بحساب الأسباب والوسائط فجهالات، وإن نُظر بحساب الله فمعارف إلهية..

وأما الكلام:

فالأول: «إني لست مالكي» وإن مالكي هومالك الملك ذوالجلال والإكرام… فتَوهَّمْتُني مالكا، لأفهم صفات مالكي بالمقايسة. ففهمت بالمتناهي الموهومِ الغيرَ المتناهي. فجاء الصباح وانطفأ المصباح المتخيَّل..

الثاني: «الموت حق» فهذه الحياة وهذا البدن ليسا بقابلين لأن يصيرا عمودَين تُبنى عليهما هذه الدنيا العظيمة؛ إذ ما هما بأبديين ولا من حديد ولا حجر بل من لحم ودم وعظم. ومتخالفات توافقوا في أيام قليلة هم على جناح التفرق في كل آن.. فكيف يُبنى بالآمال قَصْرٌ يسع الدنيا على هذا الأساس الرخوالفاسد والعمود المدَوّد الكاسد..

الثالث: «ربي واحد»: كل السعادات لكلِّ واحدٍ هوالتسليمُ لرب واحد. وإلّا لاحتاج إلى الأرباب المتشاكسين من مجموع الكائنات؛ إذ لجامعية الإنسان، له احتياجات إلى كل الأشياء، وعلاقات معها، وتألمات وتأثرات، شعوريا وغير شعوري بكل منها، فهذه حالة جهنميّة. فمعرفة الرب الواحد الذي كل هذه الأرباب الموهومة حجابٌ رقيق على يد قدرته هي حالة فردوسية دنيوية..

الرابع: إن «أنا» نقطة سوداء، وواحد قياسي، التفّ على رأسه خطوط الصنعة الشعورية، تشاهَد فيها أن مالكه أقربُ إليه منه..

سيجيء تفصيل هذه الجمل في خاتمة الباب الأول.


الباب الأول

في

لا إله إلّا الله

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحَمدُ لله ربِ العاَلمينَ والصّلاةُ والسّلامُ عَلى سيّد المرسَلين، وعلى آله وصَحبه أجمعين.

أُشهِدُ كلَّ شاهدٍ ومشهود بأنّي أشهَدُ أنْ لا إلهَ إلّا الله الذي دلّ على وجوب وجوده، ودلّ على أوصاف كماله، وشهد على أنه واحد أحد فرد صمد:

الشاهدُ الصادق المصدَّق والبرهانُ الناطق المحقَّقُ.. سيدُ الأنبياء والمرسلين.. الحاملُ لسر إجماعهم وتصديقهم.. وإمامُ الأولياء والعلماء المتقين.. الحاوي لسر اتفاقهم وتحقيقهم.. ذوالآيات الباهرة والمعجزات القاطعة المحققة المصدّقة.. والسجايا السامية والأخلاق العالية المكملة المنـزّهة.. مهبط الوحي الرباني.. سيّارُ عالم الغيب والملكوت مُشاهدُ الأرواح ومُصاحبُ الملائكة.. مرشد الجن والإنس.. أنموذج كمال الكائنات بشخصيته المعنوية المشيرة إلى أنه نصبَ عين فاطر الكون.. ذوالشريعة التي هي أنموذج دساتير السعادات، المرمزَة بأنها نظام ناظم الكون سيدنا ومهدينا إلى الإيمان: محمّد بن عبد الله بن عبدالمطلب عليه أفضل الصلوات وأتم التسليمات.. فإنه يشهد عن الغيب في عالم الشهادة على رؤوس الأشهاد بشيرا ونذيرا ومناديا لأجيال البشر خلف الأعصار والأقطار بأعلى صوته، وبجميع قوته وكمال جديته، وغاية وثوقه ونهاية اطمئنانه وكمال إيمانه بأنه:

لا إلهَ إلّا الله الذي دلَّ على وجوب وجوده، وصرّح بأوصاف جلاله وجماله وكماله، وشهد على وحدانيته:

الفرقانُ الحكيم المتضمن لسرِّ إجماع كلِّ كتبِ الأنبياءِ المختلفةِ الأعصارِ، وكلِّ كتب الأولياء المختلفة المشارب، وكلّ كتب الموحدين المبرهنين المختلفةِ المسالكِ. فقد أجمع الكلُّ -أي العقول والقلوب في هؤلاء- على تصديق حُكم القرآنِ الكريم المنوَّرِ جهاتُه الستُّ: كلام الله، المحافظ لياقتَه لهذا الاسم على مر الدهور.. محض الوحي بإجماع مهبط الوحي وأهل الكشف والإلهام.. عين الهداية بالبداهة.. معدن الإيمان بالضرورة.. مَجمَع الحقائق باليقين.. موصلٌ إلى السعادة بالعيان.. ذوالثمرات الكاملين بالمشاهدة.. مقبول الملك والإنس والجان بالحدس الصادق المتولدِ من تفاريق الأمارات.. المؤيَّد بالدلائل العقلية باتفاق العقلاء الكاملين.. المصدَّق بشهادة الفطرة السليمة عن الأمراض باطمئنان الوجدان.. المعجزة الأبدية بالمشاهدة.. لسان الغيب يشهد في عالم الشهادة شهادات مكررة جازمة بـ ﴿فَاعْلَمْ اَنَّهُ لَٓا اِلٰهَ اِلَّا اللّٰهُ (محمد:19) الذي دَلَّ على وجوب وجوده ودَلَّ على أوصاف جلاله وجماله وكماله، وشهد على وحدانيته:

العالمُ، أي هذا الكتاب الكبير بجميع أبوابه وفصوله وصُحفه وسطوره وجُمله وحروفه، وهذا الإنسان الكبير بجميع أعضائه وجوارحه وحجيراته وذراته وأوصافه وأحواله. أي هذه الكائنات بجميع أنواع العوالم تقول: لا إله إلّا الله.. وبأركان تلك العوالم: لَا خالِق إلّا هو.. وبأعضاء تلك الأركان: لا صانع إلّا هو.. وبأجزاء تلك الأعضاء، لا مدبّر إلّا هو.. وبجزئيات تلك الأجزاء: لا مُربّيَ إلّا هو.. وبحجيرات تلك الجزئيات: لا متصرف إلّا هو.. وبذرات تلك الحجيرات: لا خالِقَ إلّا هو.. وبأثير تلك الذرات: لا إله إلّا هو.. فتشهد الكائنات على أنه هوالواجب الوجود الواحد الأحد بجميع أنواعها وأركانها وأعضائها وأجزائها وجزئياتها وحجيراتها وذراتها وأثيرها، إفرادا وتركيبا، متصاعدا بتركيبات منتظمة، رافعاتٍ أعلامَ الشهادة على وجوب وجود الصانع الأزلي.. ومتنازلا بنقوش غريبة، شاهدات على وجوب وجود النَّقَّاش الأزلي.. والكائناتُ كلُّ واحد من مركباتها وأجزائها تشهد بخمس وخمسين لسانا بأنه واجب الوجود الواحد الأحد..

سيجيء تفصيل تلك الألسنة.

أما إجمالها فهي: تنادي بألسنة إفرادها وتركيباتها المنتظمة.. وفقرها وحاجاتها المَقْضِيَّة.. وأحوالها المنتظمة.. وصورها المكمَّلة العجيبة اللائقة.. ونقوشها المزينة الغريبة الفائقة.. وحِكَمها العالية.. وفوائدها الغالية.. وبتخالفاتها الخارقة المتلاحظة.. وتماثلاتها المنتظمة المتناظرة.. وبألسنة نظامها وموازنتها جزءا وكلا.. وبانتظامها واطرادها.. وبإتقان الصنعة الشعورية وكمالها في كل شيء.. وبتجاوب المتخالفات الجامدات بعضٍ لحاجة بعض.. وتساند المتباعدات المتفاوتات.. وبلسان الحكمة العامة.. والعناية التامة.. والرحمة الواسعة.. والرزق العام.. والحياة المنتشرة.. وبلسان الحُسن والتحسين.. والجمال المنعكس الحزين.. والعشق الصادق.. والانجذاب والجذبة.. وظليّة الأكوان.. وبلسان التصرف لمصالح.. والتبديل لفوائد.. والتحويل لحِكَم.. والتغيير لغايات.. والتنظيم لكمالات.. وبألسنة إمكانها وحدوثها.. واحتياجاتها وافتقاراتها.. وفقرها.. وضعفها.. وموتها..وجهلها.. وفنائها.. وتغيرها.. وعباداتها.. وتسبيحاتها.. ودعواتها.. والتجاآتها..

فالكائنات -مركباتها وأجزاؤها- بكل هذه الألسنة شاهدات على وجوب وجود خالقها القديم القدير.. ودالّات على أوصاف كماله -كالدوائر المتداخلة المتحدة المركز- شاهدات على وحدانيته تعالى.. وذاكرات تاليات لأسمائه الحسنى..ومسبّحات بحمده تعالى..ومفسّرات لآيات القرآن الحكيم.. ومصدقات لإخبارات سيد المرسلين..ومولّدات لحدس صادق منظّم إلى نور الإسلام، المنظم إلى التسليم لطور النبوة، المنظّم لنور الإيمان بواجب الوجود الواحد الأحد. فإجماع الكائنات بكل ألسنتها تحت أمر الكلام القديم، ورياسة سيد الأنام والمرسلين، قائلاتٌ ناطقات: ﴿اَللّٰهُ لَٓا اِلٰهَ اِلَّا هوۚ اَلْحَيُّ الْقَيُّومُ (البقرة:255).

فاستمع تفصيل هذه الفقرات المذكورة:

 (1،2) إذ ما يتراءى ويتظاهر في الكائنات مجموعا وأجزاءً من نوع «التنظيمات» المتلاحظة والنظامات المتناظرة و«الموازنات» المتساندة، الدالة على وجوبِ وجودِ مَن هذه الكائناتُ في تصرفِ قبضَتَيْ «نظامه وميزانه»، والشاهدة بالتلاحظ والتناظر والتساند على أن المقنِّن والأستاذ والنَظّام واحد.. يفتحان مَنفذا نَظارا إلى المطلوب: أي وجوب الوجود والوحدة، تشهد الكائنات فيه بهذا اللسان: الله لا إله إلّا هو..

 (3،4) وإن ما في بيت الكائنات من «الانتظام والاطراد» الدالَّين على عدم تداخل الأيدي المتعددة، وأن الصنعة والنقش والمُلك لواحد.. يفتحان كوةً نظارةً بطرزٍ آخر أيضا، تشهد الكائنات فيها بهذا اللسان: الله لا إله إلّا هو..

 (5،6) وإن «إتقان الصنعة الشعورية، وكمالَها» في كل شيء بما تسعه لياقةُ قابليته المجعولة بقلم القَدَر من يد الفياض المطلق الدالَّين على اتحاد القلم، وأن كاتبَ صحيفةِ السماء بنجومها وشموسها هوكاتبُ صحيفةِ النحل والنمل بحُجيراتها وذراتها.. يفتحان مشكاة نظّارةً بطور آخر أيضا، تشهد الكائنات فيها بلسان كل مصنوع مناديةً: الله لا إله إلّا هو..

 (7،8) وإن «تجاوب الأشياء المتخالفة» الجامدة في الطرق الطويلة المعوجة، بعضٍ لحاجة بعض؛ كمادة غذاء الحجيرات والثمرات «وتساندَ الأشياء المتباعدة المتفاوتة» كالسيارات التي هي ثمرات الشمس، الدالَّ ذلك التجاوبُ والتساند على أن الكل خُدّامُ سيدٍ واحد، وتحت أمرِ مدبّرٍ واحدٍ، ومرجعُهم مربٍّ واحدٌ.. يفتحان منفذا نظارا أيضا بمرتبة أخرى، تشهد الكائنات فيه بهذا اللسان: الله لا إله إلّا هو..

 (9،10) وإن «تشابُهَ الآثار» المنتظمة المتناظرة، كنجوم السماوات، «وتناسُبَ الآثار المتلاحظة» كأزاهير الأرضين، الدالَّين على أن الكلَّ مالُ مالكٍ واحد، وتحت تصرّفِ متصرف واحد، ومصدرُهم قدرةُ واحدٍ.. يفتحان منفذا نظارا أيضا، تشهد الكائنات فيه بهذا اللسان: الله لا إله إلّا هو..

 (11) وإن «مظهرية كل حي لتجليات أسماء كثيرة شعورية» مختلفة الآثار والجمال، المتساندة في التأثير، والمتشابهة المتشاركة حتى في حجيرةٍ واحدة، والمتعاكسة كلٌّ في كلٍّ، والمتمازجة كالألوان السبعة في ضياء الشمس الدالة هذه الأحوال مع وحدة أثرها، على أن مسمّاها واحد، تدل بالضرورة على أن خالقَ الحيّ هوبارئُه، ومصوّره، والمنعم عليه، ورزاقه، وأن رزاقه هوخالقُ منابع الرزق، وخالقها هوالحاكم على الكل.. فتفتح هذه الحقيقة منفذا نظارا أيضا إلى مرتبة الوجوب والوحدة، تشهد الكائنات فيه بلسان كل حي: الله لا إله إلّا هو..

 (13،12) وإن «ارتباط» أمثال عين النحل والنمل ومعدتهما بالشمس ومنظومتها، مع «المناسبة» في الجزالة الكيفية والتلاحظ والتناظر، الدال ذلك الارتباطُ والمناسبة على أنهما: كلاهما نَقْشَا نقاشٍ واحد.. فيفتحان منفذا نظارا أيضا، تشهد الكائنات فيه مناديةً: الله لا إله إلّا هو..

 (14) وإن «أخوّة الجاذبةِ» المكتوبة المنسوجة المنقوشة بين الذرات والجواهر الفردة «للجاذبة العمومية» المكتوبة المنسوجة الممددة بين النجوم والشموس، الدالة على أنهما: كلاهما كتابةُ قلمٍ واحدٍ ومدادِه ونَسْجَا نسّاجٍ واحدٍ وأسدائه، وشعاعا شمس واحدٍ وفيضِه.. تفتح مرصادا نظارا أيضا إلى الوجوب والوحدة، تشهد الكائنات فيه بهذا اللسان الدقيق والعُلوي: الله لا إله إلّا هو..

 (15) وإن «نِسَب كلّ ذرةٍ في المركبات» المتداخلة المنتظمة الموظفة تلك الذرةُ كالنفر في كل نسبة له وظيفة لفائدة، كذرة العين في مركبات الأعصاب المحركة والحساسة والأوردة والشرايين والباصرة. فتدل بالضرورة على أن خالق عين العين والعين، وعين العالم -أي الشمس- وواضعَها موضعَها اللائق هوخالق كل المركبات.. فتفتح هذه الحقيقة أيضا مشكاةً نظارةً، تشهد الكائنات فيها بلسان كل ذرة من ذراتها: الله لا إله إلّا هو.

 (16) وإن «وُسعَة تصرف القدرة في النوع الواحد» الذي لا يصدر إلّا عن الواحد بالبداهة، مع شمول بعض الأنواع أكثر الكائنات -كالحيات والملَك والسمك- يُتحدس منه بأن خالق الفرد هوخالقُ النوع؛ مثلا: إن القلم الذي رَسَم تشخُّص وجهِ «زيد» لابد بالضرورة أن يكون كلُّ أفراد البشر منظورا له دفعةً، لمخالفة تعيّنه لكلِّ فرد، وإلّا لوقَع التوافق بالتصادف، وخالقُ النوع بهذا السرّ هوخالق الأجناس.. فتفتح هذه الحقيقة أيضا منفذا نظارا، تشهد الكائنات فيه: الله لا إله إلّا هو..

 (17) وإن «ما يُتوهم -بقصور النظر- من الاستبعاد والاستغراب والحيرة والكلفة» المنجرَّة إلى الاستنكار في إسناد كل شيء إلى الواجب الوجود الواحد الأحد.. فتلك الاستبعاد والاستغراب والحيرة والكلفة والمعالجات تنقلب حقيقيةً عند عدم الإسناد إلى صاحب مرتبة الوجوب والوحدة، بل تتضاعف تلك الأمور عند إسناد الآثار إلى جانب الإمكان والكثرة والأسباب وأنفسِها، عددَ أجزاء الكائنات.. فما يُتوهم في إسناد الكل إلى الواجب يتحقق في إسناد جزء واحد إلى غيره تعالى. بل الأولُ أسهلُ وأيسر؛ إذ صدور الكثير عن الواحد أقلُّ كلفةً من صدور الواحد عن الكثير المتشاكسين العُمي الذين اجتماعهم يُزيدهم عَمىً؛ إذ النحلة لولم تخرج من يد قدرة الواجب، لزم اشتراك ما في الأرض والسماوات في وجودها! بل تترقى الكلفة والمعالجة في الجزء الواحد من الذرة بالنسبة إلى الوجوب إلى أمثال الجبال، ومن الشعرة إلى أمثال الحبال، لوأُحيل على الأسباب.. إذ الواحد بالفعل الواحد يحصّل وضعيةً ومصلحة للكثير لا يصل إلى عين تلك الوضعية والنتيجة الكثيرُ إلّا بفعل كثير؛ كالأمير بالنسبة إلى نَفَراته، والفوّارة إلى قطراتها، والمركز إلى نقاط دائرته. فبفعل واحدٍ تصل هذه الثلاثة إلى تحصيل وضعيةٍ للكثير، ونتيجةٍ لا تصلُ النفرات والقطرات والنقاط لوأحيلت عليها إلّا بأفعال كثيرة وتكلُّفات عظيمة. بل الاستغراب والاستبعاد الموهومان في طرف الوجوب، ينقلبان هنا إلى محالات متسلسلة.

من بعض المحالات: فرض صفات الواجب في كل ذرة بضرورة اقتضاء النقش الكامل والصنعة المتقنة.. وكذا، توهُّمُ شركاءَ غيرِ متناهية في الوجوب الذي لا يقبل الشركة أصلا.. وكذا، فرض كل ذرة حاكما على الكل ومحكوما لكلٍ من المجموع، وللكلِ معا، بضرورة اقتضاء النِظام والانتظام.. وكذا، فرض شعورٍ محيط، وعلمٍ تام في كل ذرةٍ، بضرورة اقتضاءِ التساند والموازنة.

فإسناد الأشياء إلى الأسباب في جانب الإمكان والكثرة يستلزم التزامَ هذه المحالات المتسلسلة، والممتنِعات العقلية، والأباطيل التي تمجّها الأوهام.. وأما إذا أُسند إلى صاحبها الحقيقي، وهوصاحب مرتبة الوجوب والوحدة، لا يلزم إلّا أن تكون الذرة ومركباتها -كقطرات المطر المتشمِّسة المتلمعة بتماثيل الشمس- مظاهرَ للمعاتِ تجليات القدرة النورانية الأزلية الغير المتناهية المتضمنة للعلم والإرادة الأزليين الغير المتناهيين، فلمعتُها المالكة لخاصيتها أجلُّ من شمس الأسباب تأثيرا بسبب التجزؤ والانقسام في جانب الإمكان والكثرة دون الوجوب والوحدة. فالتّماس مع تلك القدرة في أقلَّ من ذرة أكبر تأثيرا من أمثال الجبال في جانب الكثرة، بسبب أن جزء النوراني مالكٌ لخاصية الكل، كأن الكلّ كلي، والجزءَ جزئيٌ ولوكان النور ممكنا، فكيف بنور الأنوار المتنور من جانب الوجوب؟.. وكذا لا كلفة ولا معالجة بالنسبة إلى تلك القدرة؛ إذ هي ذاتية للذات محالٌ تداخلُ ضدِّها فيها، فتتساوى بالنسبة إلى لمعتها الذراتُ والشموس والجزء والكل والفرد والنوع، بسر الشفافية والمقابلة والموازنة والتجرد والإطاعة والانتظام بل بالحدس والمشاهدة، إذ تلك القدرة تفعل بأمثال الخيوط الدقيقة الجامدة أمثالَ العناقيد، تلك الخوارق الحيوية.. لوأُحيلت على الأسباب؛ لاحتيج لتصنيع عنقود واحد -لوأمكن- إلى ملايين قنطارٍ من تلك الكلفة والمعالجات! وكذا إن تلك القدرة تتجلى بجلوات الوجود المنعكس من ظل الوجوب في سَمِّ الخياط، على صفحات الشفافات بالتماثيل البرزخية.. لوأحيلت على الأسباب لامتنعت أواحتيجت إلى ما لا يحد من المعالجات.

اعلم أن الحياةَ والوجود والنور -لشفافية وجهَي المُلكِ والملكوتِ فيها- ما استترت القدرةُ عند إيجادها تحت الوسائط الكثيفة. فيترقق السببُ الظاهري فيها بحيث يتراءى تحتَه تصرفُ القدرة. فمن أمعن النظر في أطوار الحياة والأنوار، يشاهِد تصرفاتِ القدرة تحت الأسباب؛ إذ تلك القدرة لا تَصرِفُ لتصنيع عنقودِ العنب إلّا غصنا دقيقا جامدا، ولترسيم شُميسة في زجيجة إلاّ إمرارَ النور في سَمِّ الخياط، ولتنوير البيت إلّا توسيطَ شَعرةٍ في زجاجة.

وكذا إن الأرواحَ والعقول في اضطرابات مزعجة ناشئة من أمراض وضلالات ناشئة من الاستنكارات الناشئة من الاستبعاد والاستغراب والحيرة في إسناد الأشياء إلى أنفسها وأسبابها الإمكانية. فتُجبر الاضطراباتُ الأرواحَ للخلاص والتشفي إلى الفرار إلى الواجب الوجود الواحد الأحد الذي بقدرته يحصل إيضاحُ كل مُشكل، وإرادتُه مفتاح كل مغلق، وبذكره تطمئن القلوب. فلا ملجأ ولا منجى ولا مناص ولا مخلص، إلّا الالتجاء والفرار إلى الله والتفويض إليه. كما قال الله تعالى: ﴿فَفِرُّٓوا اِلَى اللّٰهِ﴾ (الذاريات:50) ﴿اَلَا بِذِكْرِ اللّٰهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ (الرعد:28) فتفتح هذه الحقيقة أيضا مشكاةً نظارة إلى الحدس الصادق، المنظّم إلى نور الإسلام، المنظّم إلى التسليم لطور النبوة، المنظّم لنور الإيمان بواجب الوجود الواحد الأحد، فتشهد الكائنات بلسان كل جزء من أجزائها: الله لا إله إلّا هو..