 (18) وإن «بساطةَ الأسباب» الظاهرية كالخبز واللبن، ومحدوديتَها وحصرَها وانضباطها وعرَضيةَ بعضها وفقرَها وضعفها وموتَها وجمودها في ذاتها وعدم شعورها وعدم إرادتها بالمشاهدة، واعتبارية القوانين، وموهوميتَها، وعدمَ تعيّنها إلّا بمقنِّنها، وعدم وجودها الموهوم إلّا بعد رؤيتها، وعدمَ رؤيتها إلّا بعد وجود المسبّب «مع خوارق نقش المسبَّبات» وأعجبيةَ صنعتها كتشكيلات نُسُج حجيرات البدن بسببية أكل الخبز، وكتابةِ النقوش الغير المحدودة المنتظمة المكتوبة في خردلة الحافظة، كأن تلك الخردلة سند استنسختها يدُ القدرة من صحيفة الأعمال، وأعطتها ليد الإنسان ليتذكّر به وقتَ المحاسبة، وليطمئن أن خلْفَ هذا الهَرْجِ والمَرْجِ الوجودي مرايا للبقاء، يرسُم العليمُ فيها الأشياءَ بانتظام بلا اختلاط -ولوكانت الأشياء كثيرة مختلطة- وكان المُرسَم فيه أضيقَ الأشياء بسببية وضعية التلافيف وتشكيلات الحروف والصور الذهنية في التكلم والتفكّر، بسببية قرع اللها وحركة الذهن المقتضية هذه المسببات بالضرورة… لقدرة غير متناهية؛ بل علم وإرادة غير متناهيين. فتستلزم هذه الحقيقةُ أنه لا مؤثر في الكون على الحقيقة إلّا خالقٌ قدير لانهاية لقدرته بوجه من الوجوه. وما الأسباب إلّا «بهانات» وما الوسائط إلّا حجابات ظاهرية، وما الخاصيات والخواص إلّا أسماء وعنوانات وزُجيجات جامدة لِلَمعاتِ تجلياتِ القدرة الأزلية النورانية الغير المتناهية، المستندة، بل المتضمنة للعلم والإرادة الأزليين الغير المتناهيين. إذ التّماس مع تلك القدرة بأدنى شيء أعظمُ وأجلّ وأكبر من جبال الأسباب. إذ تفعل لمعةُ تلك القدرة بأمثال الخيوط الدقيقة الجامدة اليابسة أمثالَ العناقيد تلك الخوارقَ الحيوية الطرية، لوأُحيلَت على الأسباب واجتمعت الأسباب والوسائط على أن يأتوا بمثله ما فعلوا ولوكانَ بعضُهُم لبعضٍ ظَهيرا. وتستلزم هذه الحقيقة أيضا أنّ ما يسمى بالقوانين والنواميس إنما هي أسماء وزُجيجات لتجليات مجموع العلم والأمر والإرادة على الأنواع. وما القانون إلّا أمرٌ ممدود أوأوامر مسرّدة. وما الناموس إلّا إرادة مطولة أوتعلقات منضّدة.. فتفتح هذه الحقيقةُ مشكاةً نظّارةً في الإمكان إلى مرتبة الوجوب تشهد الكائنات بلسان كلِ مسبَّب من مسبباتها
مناديةً: الله لا إله إلّا هو.

 (19) وإن «عدمَ تناهي خوارق نقش صنعة الكائنات وإتقانها» والاهتمام بها، تستلزم قدرةً غير متناهية، بل كل جزء منها أيضا يستلزم تلك القدرة. فإذن تستلزم وتقتضي وتدل بالضرورة على أن لهذه الكائنات خالقا قديرا، له قدرة كاملة لانهاية لتجليات تلك القدرة بوجه من الوجوه. فإذن استغنَى عن الشركاء بالقطع فلا حاجة إليها بالضرورة، مع أن الشركاء الموهومة المُستَغنيَ عنها بالقطع والضرورة ممتنعةٌ بالذات. لا يمكن أن يوجد فرد منها؛ وإلّا لزم تحديد القدرة الكاملة الغير المتناهية من كل وجه، وانتهاؤها في وقت عدم التناهي بالمتناهي بلا ضرورة، بل مع الضرورة في عكسه وهومحال بخمس مراتب بالضرورة. فمن هنا يكون الاستقلال والانفراد خاصيتين ذاتيتين للألوهية. مع أنه لا محلَّ ولا موضعَ ولا مكان للشريك إلَّا في الفرض الوهمي؛ إذ ما نزل سلطانٌ قط ولا احتمالٌ عن دليل، ولا إمكانا ذاتيا ولم يوجد أمارة ما قط على وجود الشريك في جهة من جهات الكائنات. وإلى أي جهة روجع واستُفسر عن الشريك، أُعطى جوابُ ردٍّ بإراءة سكة التوحيد، مع أنه لا مؤثر في الكون على الحقيقة إلاّ واحد أحد؛ بسرّ أنّ أشرف الكائنات وأوسع الأسباب اختيارا الإنسانُ، مع أنه ليس في يد البشر مِن أظهرِ أفعاله الاختيارية كالأكل والكلام من مائة جزء إلّا جزءٌ واحد مشكوك فيه. فإذا كان الأشرفُ والأوسعُ اختيارا هكذا مغلولَ الأيدي فكيف بالأسباب الجامدة الميتة؟ فكيف يكون المنديل والظرف الذي لَفَّ فيه السلطانُ هديتَه، شريكا للسلطان أومعينا له؟.. فتتحدس من هنا قطعا بأن الأسبابَ حجابُ القدرة فقط؛ ومناطُ الحكمة، ليس إلاّ.. فتفتح هذه الحقيقة أيضا مرصادا ناظرا إلى الوجوب والوحدة؛ فتشهد الكائنات فيه بهذا اللسان منادية: الله لا إله إلّا هو..

 (20) وإن «تساند الأسماء المتجلية» في الكائنات، مع شمول بعض الأسماء كلَّ شيء بظهور أثرها فيه كالعليم، وتَشاركَها وتشابُكَها حتى في ذرة واحدة، وتعاكسَها كلا في كلٍ، وتمازجَها كالألوان السبعة في ضياء الشمس، تدل هذه الأحوال مع وحدة أثرها على أن مسمّاها واحد أحد فرد صمد؛ فتفتح مشكاةً نظارةً إلى الواجب الوجود الواحد الأحد، تشهد الكائنات فيها بهذا اللسان النوراني: الله لا إله إلّا هو..

 (21) وإن ما يتظاهر في مجموع الكائنات كلا وأجزاء: من «الحكمة العامة» المتضمنة للقصد والشعور والإرادة والاختيار، الدالة على وجوب وجودِ حكيم مطلق؛ لامتناع الفعل بلا فاعل، ولامتناع أن يكون جزء المفعول المنفعل الجامد فاعلا لهذا الفعل العام الشعوري..

 (22) وما يتلألأ على وجه الكائنات من «العناية التامة» المتضمنة للحكمة واللطف والتحسين، الدالة بالضرورة على وجوبِ وجودِ خلاق كريم؛ لامتناع الإحسان بلا محسن..

 (23) وما انبسط على وجه الكائنات من «الرحمة الواسعة» المتضمنة للحكمة والعناية والإحسان والإنعام والإكرام والتلطيف والتودد والتحبب والتعرف، الدالة على وجوب وجود الرحمن الرحيم؛ لامتناع الصفة بلا موصوف ولامتناع أن يُلبس هذه الحُلّةَ التي تسع السماوات والأرض غيرُه تعالى. إذ أين قامة هذه الأسباب الجامدة الميتة القصيرة الحقيرة، وأين قيمة هذه الحُلة الغير المحدودة؟..

 (24) وما وزع على ذوي الحياة -على تنوّع حاجاتها- من «الرزق العام» المتضمن للحكمة والعناية، والرحمة والحماية، والمحافظة والتعهد، والتعمد والتودد والتعرف الدال بالضرورة على وجوب وجود رزاق رحيم؛ لامتناع الفعل بلا فاعل، وامتناع أن يكون جزء المفعول فاعلا لهذا الفعل العام..

 (25) وما انتثر وانتشر في الكائنات من «الحي والحياة» المتضمنتين للحكمة والعناية والرحمة والرزق والصنعة الدقيقة والنقش الرقيق والإتقان والاهتمام المترشحة بتجليات قصد وشعور وعلم وإرادة تامة عليها، الدالة تلك الحياة على وجوب وجود قادر قيوم محيٍ مميت واحد؛ ولأن كلَّ شيءٍ واحدٌ فخالقُه واحد؛ إذ «الواحد لا يصدر إلّا عن الواحد» فخالق الكل واحد خلافا لقاعدة الفلسفة الكاذبة المشركة القائلة: «الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد».

فهذه الحقائق الخمسة الممتزجة كالألوان السبعة في الضياء وكالدوائر المتداخلة المتحدة المركز، تدل بالبداهة على أن لهذه الكائنات ربا، قديرا، عليما حكيما، كريما، رحيما، رحمانَ، رزاقا، حيَّا، قيوما، متصفا بأوصاف الكمال.. فتفتح هذه الخمسة الممتزجة بضياء واحد مشكاة نظارة إلى الحدس الصادق المنظم إلى نور الإسلام، المنظّم إلى التسليم لطور النبوة، المنظّم لنور الإيمان بأنه: هوالله الواجب الوجود الواحد الأحد. فتشهد الكائنات في تلك المشكاة بهذا اللسان ذي النغمات الخمس منادية. الله لا إله إلّا هو..

 (26) وكذا إن ما يتلمع على وجه الكائنات من «الحُسن العَرَضي، والتحسين» المشيرَين إلى وجوب وجود مَن له الحسن الذاتي والإحسان..

 (27) وما يُرى في خد الكائنات من «الجمال الحزين» المنعكس المرمِز إلى وجوب وجود ذي الجمال المجرد..

 (28) وما يُرى في قلبها من «العشق الصادق» المنادي على المحبوب الحقيقي.

 (29) وما يُحَسّ به في صدرها من «الانجذاب والجذبة» الملوِّحين بالحقيقة الجاذبة التي تنجذب إليها الأسرار..

 (30) وما «يُسمع من كل الكُمَّلين من شهادتهم» بمشاهدتهم كونَ كل الأكوان ظلالَ أنوار ذاتٍ واحد..

آيات نيرات.. فهذه الحقائق الخمس تدل بالضرورة على أن لهذا الكون ربَّا واجب الوجود، متصفا بأوصاف الجلال والجمال والكمال. فتفتح كوة نظارة أيضا تشهد الكائنات فيها بهذا اللسان ذي النغمات الخمس: الله لا إله إلّا هو..

 (31) وكذا إن ما يُرى في جزئيات أنواع الكائنات، من «التصرفات المتناظرة» والتصرف لمصالح الدال بالبداهة على وجوب وجود متصرفٍ حكيم واحد؛ لامتناع الفعل بلا فاعل، وامتناع أن يكون جزء المفعول المنفعل الجامد فاعلا لهذا الفعل العام الشعوري المتلاحظ..

 (32، 33) وما يُرى في أجزاء الكائنات من أنواع النباتات والحيوانات من «التبديل لفوائد، والتحويل لحِكَم» الدالَّين على وجوب وجود رب مدبر حكيم..

 (34) وما يُرى في أعضاء الكائنات ككرة الأرض بلَيلها ونهارها من «التغيير لغايات» الدال على وجوب وجود فاعل مختار، فعالٍ لما يريد؛ لامتناع الفعل بلا فاعل، ولامتناع أن يكون مصدرُ هذه الأفاعيل المتناظرة، غيرَ قدرة الواجب..

 (35) وما يُرى في العالم من «التنظيم لكمالات» الدال بالبداهة على وجوب وجود القادر القيوم؛ لامتناع التنظيم بلا ناظم، وامتناع أن يكون جزء الكثير الممكن المنفعل فاعلا لهذا الفعل المحيط الشعوري. وأين يدُ العنكبوت من نسجِ حُلّةٍ قُدّت على مقدار قامة الكائنات؟ بل أين الأعمى الأشل الجامد وأين نسجُ قميص مطرَّز لهذا العالم؟

أيضا آيات على وجوب الوجود والوحدة..

وهذه الحقائق الخمسة في الفعالية كالألوان السبعة في الضياء، وكالدوائر المتداخلة المتحدة المركز، تدل بالبداهة على أن لهذه الكائنات ربا متصرفا حكيما مدبرا فاعلا مختارا فعّالا لما يريد قادرا قيّوما متصفا بأوصاف الكمال. فتفتح هذه الحقائق الخمسة أيضا بضياء واحد كوة نظّارة إلى مرتبة الوجوب والوحدة، فتشهد الكائنات بهذا اللسان ذي الأصوات الخمسة منادية: الله لا إله إلّا هو..

 (36) وكذا إن «حدوث الكائنات» كُلّا وجزءا يستلزم مُحدِثا قديما.. وإنّ تردد الكائنات مجموعا وأجزاءً بين «الإمكانات» الغير المحدودة ذواتٍ وصفاتٍ وكيفياتٍ بمقدار تخصصها تتزايد الإمكانات. ثم أخذَها هذا الشكل المنتظم المتقَن المحكم من بين تلك الطرق العقيمة يستلزم ذلك التردد، ويدل بالضرورة على وجوب وجود رب عليم حكيم قدير.

 (37) وإن «احتياجات الكائنات» كلّا وأجزاءً وجودا وبقاءً مادة ومعنى، حياة وفكرا، مع فقرها وضعفها في ذاتها وقِصَر يدِها عن أدنى حاجاتها، ثم قضاءَ حاجاتها -على تنوعها- من حيث لا يُشعَر في أوقاتها المناسبة؛ تستلزم وتقتضي وتدل على وجوب وجود رب مدبر رزاق كريم رحمان رحيم..

 (38) وإن «افتقارات الكائنات» مجموعا وأجزاءً وجودا وبقاء مادة ومعنىً، مع ضعفها في ذاتها وقِصَر يدها عن أدنى مطالبها، ثم إغناءَ مطالبها من حيث لا يُحتَسب في الأوقات اللائقة؛ تستلزم وتقتضي وتدل على وجوب وجود رحيم كريم فياض لطيف ودود.

 (39) وإن «ضعفها في ذاتها» كالشجر والأرض اليابسين في الشتاء «مع تظاهر الاقتدار المطلق» في معدن ضعفها كحياتهما في الربيع، يدل على وجوب وجود القدير المطلق الذي تتساوى بالنسبة إليه الذراتُ والشموس.

 (40) وإن فقر الكائنات لذاتها، مع تظاهر آثار «الغناء المطلق» كظهور الأرزاق من التراب اليابس، يدل على وجوب وجود الغني المطلق الذي من حجيرات خزائن رحمته: الشمسُ والشجر، ومن مسيلات حوض رحمته: الماء والضياء.

 (41) وإن «موتَها في ذاتها مع تظاهر أنوار الحياة» يدل على وجوب وجود الحي القيوم المحيي المميت.

 (42) وإن «جمودها وجهلها مع تظاهر آثار الشعور المحيط» وإن ذا هذا الشعور سميع بصير، يدلان على وجوب وجود عليم خبير.

 (43) وإن «فناءها وتغيرَها على الدوام بالانتظام» يدلان بالحدس القطعي على وجوب وجود المغير، الغير المتغير الدائم الباقي.

 (44) وإن ما لذوي الأرواح من «العبادات النورانية» المقبولة المثمرة المتضمنة للمشاهدات والمكالمات والفيوضات والمناجاة، تدل على وجوب وجود معبود حقيقي.

 (45) وإن «تسبيحات الكائنات» القاليّة والحالية، تدل على وجوب وجود مَن ﴿يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ (الحشر:24) إذ دلالة الفطرة صادقة، وشهادتها الفذة لا تُرد.. فكيف بدلالاتٍ غير متناهية وشهادات غير محصورة، قد اتفقت كالدوائر المتداخلةِ المتحدةِ المركز، على وجوب وجود مَن ﴿يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ بألسنة أقوالها وأحوالها وبنقوش جباهها؟.

 (46) وإن «أدعية ذوي الحاجات» المقبولة والمستجابة، والمؤثرة والمثمرة، تدل بالضرورة على وجوب وجود مَن يجيب المضطر إذا دعاه.

 (47) وإن «التجاآت ذوي البلايا» شعوريا وغير شعوري عند الاضطرار إلى حاميها المجهول، بل خالقها، تدل على وجوب وجود ملجأ الخائفين، وغياث المستغيثين.

 (48) وإن «مشاهدة كل الكُمّلين» العابرين من الظاهر إلى الباطن، واتفاقَهم بالكشف والشهود والذوق والمشاهدة على أن كل الأكوان ظلالٌ لأنوارِ ذاتٍ تدل على وجوب وجود شمس الأزل الذي هذه الأكوانُ ظلالُ أنواره.

 (49) وكذا إن ما يُعلَم بل يُتحدَّس بل يُحَسّ بل كأنه يُرى ويُشاهد مِلءَ الكون والفضاء، قد توضعت على مثل الذرة أمثالُ الجبال من «الأفاعيل المتجلية، وتجليات الأسماء» السيالة الهابطة من مرتبة الوجوب والوحدة، تدل بالضرورة على أن مبدأ هذه الأفاعيل ليس مرتبةَ الإمكان، بل هي أشعة مرتبة الوجوب، وتدل على وجوب وجود ذاتٍ مقدس فاعلٍ لهذه الأفاعيل، ومسمىً لهذه الأسماء.

 (50) وإن «اضطرابات الأرواح» من الاستبعاد والاستغراب والحيرة والكلفة المنجرة إلى الاستنكار ثم إلى محالات متسلسلة في تفويض الأكوان إلى أنفسها وأسبابها تلجئ العقول والأرواح، للخلاص من مرض الاضطراب والتشفي منه إلى امتثال أمر: ﴿فَفِرُّٓوا اِلَى اللّٰهِ (الذاريات:50).. ﴿اَلَا بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (الرعد:28).. ﴿وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمُورُ (فاطر:4) الذي بقدرته يحصل الإيضاح لكل مشكل وبذكره تطمئن القلوب. نعم، لا مؤثر في الكون حقيقةً إلا الله..

 (51) وكذا إن ما يُرى من «القَدر بالضرورة» في المحسوسات، و«بالنظر» في غيرها، يدلان على وجوب وجود مَن خلق كل شيء وقدّره تقديرا؛ إذ عالَم الشهادة مجموعا وأجزاءً، لكل شيء منه غاياتٌ منتظمة، ونهاياتٌ مثمرة وحدود كأنها آجال منتظمة، التي تسمى بالمقادير التي لا تحصل إلَّا بقوالب؛ وما هي إلّا القضاء والقدر، التي هي قوالب القدَر قُدّتْ على مقدارِ قامات الأشياء، تعينت أولا فبنيت الأشياء على هندستها. فإن شئت مثالا فانظر إلى بدنك باعوجاجاته ويدك بأصابعها.. فيُنتَقل بالحدس الصادق، من هذا القَدر الضروري إلى القَدَر النظري في المعنويات والأحوال؛ إذ لها أيضا نهايات وغايات مثمرة وحدود وآجال منتظمة، هي مقاديرها، هي قوالبها ترسّمت بيد القضاء والقدر، فكتبت القدرةُ كتابَ المعاني على مِسطر القَدَر. فالقُدرة مصدرٌ، تنظر إلى مِسطَر القدر. فهذان القَدران يدلان بالضرورة على وجوب وجود مَن هذه الكائناتُ خطوط قلم قضائه وقدره. آمنّا!

 (52) وكذا إن «جامعية استعداد الإنسان» تخبرنا بأن البشر ثمرةُ شجرةِ الخلقة، فيكون أكملَ وأبعدَ، فوجههُ الشفاف متوجهٌ إلى الظلمة وفضاءِ العدم الذي هوباطن الدنيا. وما في جامعية الاستعداد من قابلية العبادة، تخبرنا بأن الإنسان ما خُلق هكذا، ليكون منكوس الرأس يخلد إلى الفاني، بل قابلية العبادة لصرف وجهه الشفاف من الظلمة إلى النور، ومن فضاء العدم إلى الوجود، ومن المنتهى إلى المبدأ، ومن الفاني إلى الباقي، ومن الخلق إلى الحق. كأن العبادةَ حلقة اتصال بين المنتهى والمبدأ في دائرة الخلقة. فتشهد الفطرة بهذا اللسان على وجوب وجود مَن خَلق الخلق ليُعْرَف، وخلَق الجنَّ والإنس ليُعْبَد. آمنّا..

 (53) وكذا إن ما يُشاهد في الكون من مرتبة «الإمكان والكثرة والانفعال» يستلزم بالبداهة الأَولَوية مرتبةَ الوجوب والوحدة والفاعلية، فيدل بالضرورة على وجوب وجود الواجب الوجود الواحد الأحد الفعال لما يريد. آمنا..

 (54) وكذا يُشاهَد في الكائنات أن «الأشياء تتحرك قبل الوصول إلى نقطة الكمال لها» ثم تسكن بعد الوصول وتستقر. فيتحدس من هنا بأن الوجود يقتضي الكمال؛ والكمال يقتضي الثبات، فوجود الوجود بالكمال، وكمال الكمال بالدوام، فالواجب السرمدي، هوالكامل المطلق. فكل كمالات الممكنات ظلالٌ لتجليات أنوار كماله. فتدل هذه الحقيقة على أن الله هوالكامل المطلق في ذاته وصفاته وأفعاله. آمنا..

 (55) وكذا إن «ألْطفية باطن الشيء من ظاهره» كما يدل على أن صانعه ليس خارجا بعيدا منه، كذلك «محافظته لِنِسَب النظام والموازنة» مع سائر الأشياء يدل على أنه ليس داخلا في الشيء أيضا. فالنظر إلى المصنوع في ذاته كما يدل على أن صانعه عليم حكيم.. فالنظر إليه مع الغير يدل على أن صانعه سميع بصير، فوق الكل يراه مع الغير يرسم بهما نقشا لمصلحة. فتدل هذه الحقيقة على وجوب وجود الصانع الذي ليس داخلا في العالم ولا خارجا، كما هوفي أبطن البطون كذلك فوق الفوق، كما يرى شيئا يرى معه كل الأشياء. آمنا..

فهذه الحقائق العشرون المتمازجة كألوان القوس القُزح وكالدوائر المتداخلة المتحدةِ المركز، آياتٌ نيّرات تدل بالضرورة على أن لهذه الكائنات ربَّا، قديما واجب الوجود، عليما، حكيما، مريدا، قديرا، رحمانَ، رحيما، رزاقا، كريما، قادرا، غنيا، حيا، قيوما، عليما، خبيرا، دائما، باقيا، معبودا ﴿يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ (الحشر:24).. ﴿يُجيبُ الْمُضْطَرَّ اِذَا دَعَاهُ (النمل:62) ملجأ الخائفين، غياث المستغيثين، الذي هذه الكائنات ظلال أنواره وتجليات أسمائه وآثار أفعاله.. الذي بذكره تطمئن القلوب.. وإليه ترجع الأمور.. خلق الجن والإنس ليعبدوه.. نظّم الكائنات بقوانين قضائه وقدره.. وهوالواجب الوجود الواحد الأحد.. الكامل المطلق في ذاته وصفاته وأفعاله.. وهواللطيف الخبير السميع البصير..

فتفتح هذه العشرون من الحقائق المتمازجة، بأنوار مخططة كواتٍ نظارةً بوجوهٍ وجهاتٍ ومراتبَ إلى الحدس الصادق المنظم لنور الإسلام المنظم إلى التسليم لطور النبوة المنظم إلى الإيمان؛ بأنه هوالله الواجب الوجود الواحد الأحد. فتشهد الكائنات بهذا اللسان ذي النغمات العشرين منادية: الله لا إله إلّا هو.

 واعلم أن «الله لا إله إلا هو» بكل دلائله المزبورة مثبت «لا حولَ ولا قُوّةَ إلا بالله».

وكذا فاعلم أن «لا إله إلا الله» بكل براهينه المذكورة، يستلزم «محمد رسول الله». فمحمد رسول الله كما يتضمن من الإيمان خمسة أركانه، كذلك هومظهرٌ ومرآةٌ لصفة الربوبية. فبهذا السر صار قرينا موازيا لـ«لا إله إلا الله» في ميزان الإيمان، فتأمل. ولأن النبوة مظهر لصفة الربوبية تكون جامعةً وكليةً، والولاية خاصة وجزئية، فنسبتها إليها كنسبة صفة «رب العالمين» إلى «ربي»… ونسبة العرش إلى القلب.. ونسبة المعراج الممتد من الأرض إلى ما فوق العرش المار على طوائف المُلك والملكوت إلى معراج المؤمن في سجوده.. بالوجه الخاص..

تنبيه

اعلم أن هاتيك البراهين على هذا المطلب العالي، كالدائرة المحيطة بالمركز، وكلُّ نقطة من المحيط كمنفذ ينظر بلونه المخصوص إلى المركز، وبين النقاط تساندٌ يزيل ضعفَ الأفراد الخصوصية، ويتولد من مجموع البراهين حدسٌ صادقٌ ينظَّم إلى نور الإسلام، ثم يُنَظَّم إلى التسليم لطور النبوة، ثم يُنظَّم لنور الإيمان القيوم للمطلوب. وما البراهين إلا منابع لتحلُّب هذا الحدس، فضعفُ الفرد يزول بسرّ التساند.. ومع فرض عدم زواله لا يسقط الفردُ عن الجزئية وعن الاعتبار، بل عن الاستقلالية والبرهانية.. ومع فرض إبطال الفرد لا تبطل الدائرةُ بل تتصاغر.. وبفرض إبطالها لا يزول الحدسُ الصادق.. وبفرض زواله فلا بأس أيضا.. إذ نور الإسلام قائم، وبعدَه التسليمُ لطور النبوة لا يتزلزل.. وبعدَه نور الإيمان الموهوب قيومٌ. فطلبُ قوةِ وضوحِ المطلوب المترتب على مجموع البراهين من كل فردٍ على حدة بجزئية الذهن من مرض النفس، الذي يزيد مرضَها ويلقنها ملَكةَ الرد والإنكار.. اَللَّهُمَّ احفظنا! فالبرهان الواحد أولا يُنظر به إلى المطلوب، ثم يتشرب أنموذج المجموع فتتساقط عنه الأوهام.

اعلم أيضا أن من البراهين ما هوكالماء، ومنها ما هوكالهواء، ومنها ما هوكالضياء، لابد من التوجه بلطفٍ ووُسعةِ نظرٍ في لينة؛ وإلّا فبالحرص والتعمق والجسّ بأصابع التحري يسيلُ ويزولُ ويختفي.

 ثم اعلم أن النظر إلى شجرة ذات أغصان وفروع وثمرات لمعرفة حياتها وطعمها ودرجة قوتها على قسمين:

نظرٌ من طرف الأصل والجُرثوم، فهذا نظر سهل وبسيط مستقيم متين.

والثاني: من طرف الثمرات والفروعات، فهذا النظر بدون النظر الأول سقيم موصلٌ إلى الضلالات.

كذلك إن شجرة الإسلامية جُرثومها في السماء، أغصانها منتشرة في آفاق الكثرة، فلمعرفتها نظران؛ وللدخول في دائرتها طريقان:

فالنظر الأول: هوالنظر من جانب الأصل، فإذا نظر الموفَّقُ إلى الجُرثوم يرى فيها حوضا عظيما منبعُه الصافي هوالوحي المحض، فتزايدَ الحوضُ بتحلّب الآيات الآفاقية والأنفسية. فمِن ذلك الحوض الممتزج مادةُ حياة الثمرات وغذائها. فإثباتُ حياةِ ثمرة واحدة تكفي لإثبات سائر أخواتها، بل -وكذا- تدل على حياة شجرتها، مع أن إثبات حياة الثمرة سهلٌ سريع يحصل برؤية الاتصال فقط، وإبطالَها وزوالها عسير بطيء، لا يقتدر على إبطالها مع بقاء الاتصال وعلى منبع سريان الحياة إليها ما لا يقتدر على قلع الأصل. ولوصادف هذا النظر بين الثمرات ميتةً يابسة حَكَمَ بأنها دخيلةٌ ويُحيل موتَها على الأسباب الخارجية. هذا النظر هوالنظر الإيماني والإسلامي والمستقيم السهل والمنقاد لطور النبوة.. اَللَّهُمَّ ارزقنا وثبتنا عليه.

والنظر الثاني: السقيم الذي هومنشأ الضلالات ومعدن الاضطرابات، هوالنظر من جانب الثمرات بنظر تنقيدي.. وفي هذا النظر يحتاج في كل ثمرة إلى الإثبات والذوق، لفقد الاتصال هنا، مع أن إثبات ثمرةٍ فردةٍ وإيصالَ مادةِ غذائها عسيرٌ يحتاج إلى ما يحتاج إليه تمامُ الأصل، مع أن زوالها وبطلانَها سريع يحصل بأدنى شيء. ولوصادف بينَها ميتةً يابسة أحالَها على موت الأصل.. أعاذنا الله من هذا النظر، لكن لوكان هذا النظر تابعا للنظر الأول كان حَسنا وسببا لاطمئنان النفس.

سعيد النُّورْسِيّ

* * *