الرسالة الثالثة

لاسيَّما

[المقام الثاني العربي من الكلمة الثامنة والعشرين]

[وأساس «الكلمة العاشرة»]


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الذي شهدتْ على وجوب وجوده ووحدته ذراتُ الكائنات ومركباتُها بلسان عجْزها وفقرها. والصلاة والسلام على نبيّه الذي هوكشاف طلسمِ الكائنات ومفتاحُ آياتها، وعلى آله وصحبه وعلى إخوانه من النبيين والمرسَلين وعلى الملائكة المقربين، وعلى عباد الله الصالحين من أهل السماوات والأرضين.

اعلم يا من سَدَّت عليه الطبيعةُ والأسباب بابَ الشكر، وفتحتْ له باب الشرك! إنَّ الشرك والكفر والكُفرانَ تأسست على محالاتٍ غير محدودة، فانظر من تلك المحالات إلى هذا المحال الواحد:

وهوأن الكافر إذا ترك سُكْر الجهالة ونظر إلى كفره بعين العلم، يَضطر -للإذعان بكفره- أن يحمل على ظهر ذرةٍ واحدةٍ ألفَ قنطار، وأن يقبل في كل ذرةٍ ذرّةٍ ملايينَ مطبعاتٍ للطبيعة، واطلاعا -مع مهارة- على جميع دقائقِ الصنعة في جميع المصنوعات؛ إذ كلُّ ذرة من الهواء -مثلا- تصلُح أن تمرّ على كل نباتٍ وزهرة وشجرة وثمرة، وأن تعمل في بنيتها، فلابد لهذه الذرة والقوة البسيطة المستترة فيها -إن لم تكن مأمورةً، تعمل باسم مَن بيده ملكوت كل شيء- أن تعرف كيفيةَ جهازاتِ كلِ ما دخلت الذرةُ في بنيتها وكيفيةَ صنعته وتشكيله، مع أن الثمرة -مثلا- متضمنةٌ لمثال مصغر للشجر، وأن نواتها كصحيفةِ أعمال الشجر، وفيها تاريخُ حياتِه. فالثمرة تنظر إلى كل الشجرة بل إلى نوعها بل إلى الأرض أيضا. ومن هذه الحيثية فالثمرة -بعظمة صنعتها ومعناها- في جسامة صنعة الأرض بوجه، فمَن بناها بهذه العظمة المعنوية الصنعوية، لابد أن لا يعجزَ عن حمل الأرض وبنائها.

فيا عجبا للكافر المنكِر كيف يدّعي العقل والذكاوة مع أنه يتبطن -بكفره- في قلبه مثلَ هذا الحمق والبلاهة!

واعلم أن لكل شيء صورتين:

أما إحداهما: فمادية محسوسة كقميصة قُدّتْ على مقدار قامة الشيء بتقدير القَدَر بغاية الانتظام.

وأما الأُخرى: فمعقولة مركبة من أشتاتِ صُوَر الشيء في حركته في بحر الزمان، أومرور نهر الزمان عليه، كصورة الدائرة النورانية المخيَّلة الحاصلة من جولان الشعلة، فهذه الصورة المعنوية للشيء هي تاريخ حياة الشيء، وهي مدارُ القَدَر المشهور، وهي المسماة بـ«مُقدَّرات الأشياء». فكما أن الشيء -كالشجرة مثلا- في الصورة المادية، له نهايات منتظمة مثمرة، وله غايات موزونة متضمنة لمصالح حِكَمية، كذلك له في صورته المعنوية أيضا نهايات منتظمة متضمنة لمصالح، وله حدود معينة تعينت لحِكَم خفية. فكأن القُدرة في الصورة الأولى كالباني، والقَدَر كالهندسة، وفي الثانية كالمصدر، والقَدَر كالمِسطَر. فتَكتب القدرةُ كتابَ المعاني على رسوم مِسطَر القدر.

فيا أيها الكافر! تضطر في كفرانك وكفرك -عند المراجعة إلى العلم والحقيقة- أن تقبل في كل ذرةٍ وقوّتِها الجزئية الصغيرة معرفةَ صنعةِ خياطةٍ بدرجةٍ تقتدر تلك الذرةُ -وطبيعة السببية- على أن تقُدّ وتخيط ألبسةً وأقمصة مختلفة متنوعة بعدد أشتات الأشياء التي يمكن أن تذهب إليها الذرة، مع اقتدارها على تجديد الصور المتخرقة بأشواك الحادثات في مرور الزمان، مع أن الإنسان -الذي هوثمرةُ شجرة الخلقة وأقدر الأسباب -بزعمه- وأوسعُها اختيارا- لوجَمع كلَّ قابليةِ صنعةِ خياطته ثم أراد أن يخيط قميصا لشجرة ذاتِ أشواك على مقدار أعضائها، ما اقتدر. مع أن صانعَها الحكيم يُلبسها في وقتِ نَمائها أقمصةً متجددة منتظمة طرية لا تشففها الشمس، وحُللا خَضِرة متزينة موزونة، بكمال السهولة والسرعة بلا كُلفة ولا معالجة. فسبحان مَن: ﴿اِنَّمَٓا اَمْرُهُٓ اِذَٓا اَرَادَ شَيْـًٔا اَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴿82 فَسُبْحَانَ الَّذي بِيَدِه مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَاِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ (يس:82-83).

اعلم أن للأحد الصمد على كل شيء سِكّةً وخاتما وآيةً، بل آياتٍ تشهد بأنه له وملكُه وصُنعه. فإن شئت فانظر -مما لا يحد ولا يعد من سكاتِ أحديتِه وخواتمِ صمديتِه- إلى هذه السكة المضروبة على صحيفة الأرض في فصل الربيع بمرصاد هذه الفقرات الآتية المتسلسلة المتعانقة المتداخلة، لترى السكةَ كالشمس في رابعة النهار.

 وهي: أنا نشاهد في صحيفة الأرض إيجادا بديعا حكيما: في جُودٍ واسع عظيم في سخاوة مطلقة في إتقان مطلق، في سهولةٍ مطلقة في انتظام مطلق، في سرعة مطلقة في اتزان مطلق، في وُسعة مطلقة في حُسنِ صُنعٍ مطلق، في رخيصيةٍ مطلقة وقيمتُه في غلومطلق، في خِلطة مطلقة في امتياز مطلق، في بُعدةٍ مطلقة في اتفاق مطلق، في كثرة مطلقة في أحسن خلقة.

على أن كلا من هذه الفقرات بانفرادها تكفي لإظهار السكة؛

إذ نهاية السخاوة نوعا مع غاية الإتقان وحسنِ الصنعة في فردٍ فردٍ، تختص بمَن لا يُشغلهُ شيء عن شيء، وله قدرة بلا نهاية.

وكذا إن نهاية السهولة مع غاية الانتظام، تختص بِمَن لا يُعجزه شيء، وله علم بلا نهاية.

وكذا إن نهاية السرعة مع غاية الاتزان والموزونية، تختص بمن استسلم كلُّ شيء لقدرته وأمره.

وكذا إن نهاية وُسْعة التصرف -بانتشار النوع- مع غاية حسنِ صنعِ كل فردٍ فرد، تختص بمن ليس عند شيء، وهوعند كل شيء بقدرته وعلمه.

وكذا إن نهاية الرخيصية والمبذولية مع غاية غلوقيمة الفرد باعتبار الصنعة، تختص بمَن له غَناء بلا غاية وخزائن بلا نهاية.

وكذا إن نهاية الاختلاط والاشتباك -في أفراد الأنواع المختلفة- مع غاية الامتياز والتشخيص بلا مَرْج ومزج وبلا خلط وغلط، تختص بمن هوبصير بكل شيء، وشهيد على كل شيء لا يمنعه فعل عن فعل، ولا يختلط عليه سؤال بسؤال.

وكذا إنّ الفعالية؛ مع نهاية التباعد بين الأفراد المنتشرة في أقطار الأرض، مع غاية التوافق في الصورة والتشكيل والإيجاد والوجود، حتى كأن أفراد كل نوعٍ نوعٍ منتظرٌ أمرا يخصّها من مدبرٍ واحد، تختص بمن الأرضُ جميعا في قبضةِ تصرّفه وعلمه وحُكمه وحِكمته.

وكذا إن نهاية الكثرة في أفراد النوع مع غاية مُكَمَّليةِ خِلقةِ فردٍ فردٍ وحُسنِ إيجادِ جزءٍ جزءٍ، تختص بالقدير المطلق الذي تتساوى بالنسبة إليه الذراتُ والنجوم والقليل والكثير.

على أن في كل فقرة آيةً أخرى على صنع القدير المطلق وهي التضاد بين السخاوة والإتقان الاقتصادي، وبين السرعة والموزونية، وبين الرخيصية وغلوالقيمة، وبين الاختلاط الأطم والامتياز الأتم… وهكذا.

فإذا كان كل فقرة بانفرادها كافيةً لإظهار خاتم الأحدية، فكيف إذا اجتمعت متداخلة متآخذة في فعالية واحدة؟! ومن هذا ترى سرَّ ﴿وَلَئِنْ سَاَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللّٰهُ (الزمر:38) أي إنَّ المنكِر المتعنّد إذا سُئل منه -بتنبيه عقله- يضطر لأن يقول: «الله»..

اعلم أن بين الإيمان بالله والإيمان بالنبي والإيمان بالحشر والتصديق بوجود الكائنات تلازما قطعيا، وارتباطا تاما؛ للتلازم في نفس الأمر بين وجوب الألوهية وثبوت الرسالة، ووجودِ الآخرة وشهود الكائنات بدون غفلة.

إذ كما لا يمكن وجود كتاب -لاسيما إذا تضمن كلُّ كلمة منه كتابا وكل حرف قصيدةً منتظمة- بلا كاتب.. كذلك لا يمكن شهود كتاب الكائنات -بدون سُكر- بلا إيمان بوجوب وجودِ نقّاشه الأزلي.

وكما لا يمكن وجود بيت -لاسيما إذا اشتمل على خوارق الصنعة وعجائب النقوش وغرائب التزيينات حتى في كل حجر منه- بلا بانٍ وصانع، بلا منشئ وصاحب.. كذلك لا يمكن التصديق بوجود هذا العالم -بدون سُكر الضلالة- بلا تصديق بوجود صانعه.

وكما لا يمكن شهود تلمعات الحَبابات في وجه البحر، وتلألؤِ القطرات المائية وتشعشع الزُجيجات الثلجية في وسط النهار مع إنكار وجود الشمس، إذ يلزم حينئذ قبول وجود شُميسات بالأصالة بعدد الحبابات والقطرات والزجيجات الثلجية.. كذلك لا يمكن -لمن له عقل لم يفسد- شهودُ هذه الكائنات -المتحولة دائما في انتظام، المتجددة في انسجام- بلا تصديقٍ بوجوبِ وجودِ خالقها وبانيها، الذي أسس ذلك البيت المحتشم، والشجر المعظم، بأصول مشيئته وحكمته، وفصّله بدساتير قضائه وقَدَره، ونظّمه بقوانين عادته وسنته، وزيّنه بنواميس عنايته ورحمته، ونوّره بجلوات أسمائه وصفاته..

نعم، وبعدم قبول الخالق الواحد يُضطر إلى قبول آلهات غير متناهية بعدد ذرات الكائنات ومركباتها، بحيث يَقتدر إلهُ كلِّ واحدٍ على خلق الكل؛ بسرِّ أن كل جزئيٍ ذي حياة كأنموذج للكل؛ فخالقهُ لابد أن يقتدر على خلق الكل!

ثم إنه كما لا يمكن وجود الشمس بلا نشر ضياء.. كذلك لا يمكن الألوهية بلا تظاهر بإرسال الرسل..

ولا يمكن جمال في نهاية الكمال بلا تبارز وبلا تعرُّف بواسطة رسول معرِّف..

ولا يمكن كمال صنعةٍ في غاية الجمال بلا تشهير بواسطة دلّال ينادي عليه..

ولا يمكن سلطنة ربوبية عامة، بلا عبودية كلية، بإعلان وحدانيته وصمديته في طبقات الكثرة بواسطة مبعوثٍ ذي الجناحين..

ولا يمكن حُسنٌ لانهاية له، بلا طلب ذي الحسن، ومحبته لمشاهدة محاسن جماله ولطائف حسنه في مرآة، وبلا إرادته لإشهاد أنظار المستحسنين عليه وإراءته لهم بواسطة عبد حبيب يتحبب إليه، ورسول يحببه إلى الناس. أي هوبعبوديته مرآةٌ لشهود ذي الجمال جمالَ ربوبيته، وبرسالته مدارُ إشهاده..

ولا يمكن وجود كنوز مشحونةٍ بعجائب المعجزات وغرائبِ المرصعات، بلا إرادة صاحبِها ومحبته لعَرْضها على الأنظار وإظهارِها على رؤوس الأشهاد، لتبيِّن كمالاتِه المستورة بواسطة معرِّفٍ صرّاف ومُشهِّر وصّاف.

فإذ هذا هكذا، فهل ظهر في العالم أجمعُ لهذه الأوصاف من سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام؟ كلا، بل هوأجمعُ وأكملُ وأرفعُ وأفضلُ. فهوسلطان الرسل المظهرين المبلّغين المعرّفين المُشهّرين الدلّالين العابدين المعلنين المرشدين الشاهدين المشهدين المشهودين المحبوبين المحبين المحببين الهادين المهديين المهتدين، عليه وعليهم وعلى آلهم أفضل الصلوات وأجمل التسليمات، مادامت الأرض والسماوات.

* * *

ثم انظر إلى قوة حقانية الحشر والآخرة، وهي أنه:

كما لا يمكن سلطان بلا مكافأة للمطيعين وبلا مجازاة للعاصين:

لاسيما: إذا كان له كرمٌ عظيم يقتضي الإحسان، وعزةٌ عظيمة تقتضي الغيرة..

ولاسيما: إذا كان له رحمة واسعة تقتضي فضلا يليق بوسعة رحمته، وله جلالُ حيثيةٍ تقتضي تربيةَ مَن يستخف به، ولا يوقّره..

ولاسيما: إذا كان له حكمة عالية، تقتضي حمايةَ شأنِ سلطنته بتلطيف الملتجئين إلى جناحه، وله عدالة محضة تقتضي محافظةَ حشمةِ مالكيته بمحافظة حقوق رعيته..

ولاسيما: إذا كان له خزائن مشحونة مع سخاوة مطلقة، تقتضي وجود دارِ ضيافةٍ دائمة، وتقتضي دوامَ وجودِ محتاجين بأنواع الحاجات فيها. وكذا له كمالاتٌ مستورة تقتضي التشهير على رؤوس المشاهِدين المقدِّرين المستحسِنين. وكذا له محاسنُ جمال معنوي بلا مثل، وله لطائفُ حُسن مَخفيّ بلا نظير، تقتضي الشهودَ لحُسنه بنفسه في مرآة، والإشهادَ لغيره، والإراءةَ بوجود مستحسِنين متنـزِّهين ومشتاقين متحيرين بل دوامِ وجودهم؛ إذ الجمال الدائم لا يرضى بالمشتاق الزائل!

ولاسيما: إذا كان له شفقة رحيمة في إغاثة الملهوف وإجابة الداعي، بدرجةٍ يُراعي أدنى حاجةٍ مِن أدنى رعية، تقتضي تلك الشفقة اقتضاءً قطعيا يقينا أن تُسعِفَ أعظمَ الحاجة من مقبول السلطان، وبالخاصة إذا كانت الحاجة عامة مع أنها يسيرة سهلة عليه، ومع اشتراك العموم في تضرع مقبول السلطان.

ولاسيما: إذا شوهد مِن إجراآته آثارُ سلطنته في نهاية الاحتشام، مع أن ما يُرى من رعيته إنما اجتمعوا في منـزلٍ مُعَدٍّ للمسافرين، يُملأ ويُفرغ في كل يومٍ، وحضروا في ميدانِ امتحانٍ يتبدل في كل وقت، وتوقفوا قليلا في مَشهَر قد أُعدّ لإراءة أنموذجِ غرائبِ صنعةِ المَلِك، ونموناتِ إحساناته؛ وهذا المشهر يتحول في كل زمان. فهذه الحالة تقتضي بالضرورة أن يوجَد خلفَ هذا المنـزل والميدان والمشهر وبعدَها قصورٌ دائمة، ومساكن مستمرة، وخزائن مفتحة الأبواب، مشحونة بجيّداتِ أصول الأنموذجات المغشوشات.

ولاسيما: إذا كان الملك في نهاية الدقة في وظيفة الحاكمية، بحيث يكتب ويستكتب أدنى حاجة وأهونَ عمل وأقل خدمة، ويأمر بأخذ صورةِ كلِّ ما يجري في ملكه، ويستحفظ كل فعل وعمل. فهذه الحفيظية تقتضي المحاسبة، وبالخاصة في أعظم الأعمال من أعاظم الرعية.

ولاسيما: إذا كان الملك قد وعد وأوعد مكررا، بما إيجادُهُ عليه هيّن يسير، ووجودُهُ للرعية في نهاية الأهمية، وخُلفُ الوعدِ في غاية الضدية لعزّة اقتداره.

ولاسيما: إذا أخبر كلُّ مَن ذهب إلى حضور ذلك الملك، أنه أعدّ للمطيعين والعاصين دار مكافأة ومجازاة، وأنه يَعِد وَعدا قويا ويُوعِد وعيدا شديدا، وهوأجلّ وأعز من أن يذِل ويتنـزل بخُلف الوعد، مع أن المخبِرين متواترون، قد أجمعوا على أن مدار سلطنته العظيمة إنما هوفي تلك المملكة البعيدة عنا. وما هذه المنازل في ميدان الامتحان إلّا مؤقتة، سيبدّلها –البتة- بقصور دائمة؛ إذ لا يقوم مثل هذه السلطنة المستقرة المحتشمة على هذه الأمور الزائلة الواهية المتبدلة السيالة.

ولاسيما: إذا أظهر ذلك المَلِكُ في كل وقت في هذا الميدان المؤقت، كثيرا من أمثال ذلك الميدان الأكبر ونموناته. فيُعلَم من هذه الكيفية، أن ما يُشاهَد من هذه الاجتماعات والافتراقات ليست مقصودة لذاتها، بل إنما هي تمثيل وتقليد لتؤخذ صورُها، وتُركَّب وتُحفظ نتائجها، وتُكتب لتدوم، وتدور المعاملة في المجمع الأكبر والمشاهدة في ذلك المحضر عليها، فتثمر الفانيةُ صورا ثابتة وأثمارا باقية.

ولاسيما: إذا أظهر ذلك الملك في تلك المنازل الزائلة والميادين الهائلة والمشاهر الراحلة آثارَ حكمة باهرة، وعناية ظاهرة، وعدالة عالية، ومرحمة واسعة، بدرجةٍ يَعرِف باليقين مَن له بصيرة أنه لا يمكن أن يوجَد أكملُ من حكمته، وأجملُ من عنايته، وأشملُ من مرحمته، وأجلُّ من عدالته. فلولم يكن في دائرة مملكته أماكنُ دائمة عالية ومساكنُ قائمة غالية، وسواكنُ مقيمة خالدة لتكون مظاهرَ لحقيقة تلك الحكمة والعناية والمرحمة والعدالة، لَلَزم حينئذ إنكار هذه الحكمة المشهودة، وإنكار هذه العناية المبصَرة، وإنكار هذه المرحمة المنظورة، وإنكار هذه العدالة المرئية؛ وللزم قبول كون صاحب هذه الأفاعيل الحكيمة الكريمة سفيها لعّابا وظالما غدارا. فيلزم انقلاب الحقائق بأضدادها، وهومحال باتفاق جميع أهل العقل غير السوفسطائي الذي ينكر وجود الأشياء حتى وجودَ نفسه.

وهكذا مما لا يعد ولا يحصى من دلائلَ، أنه سينقل رعيته من هذه المنازل المؤقتة إلى مقر سلطنته الدائمة، ومما لا يحد ولا يستقصى من أماراتٍ، تبديلُه هذه المملكةَ السيارة بتلك المملكة المستمرة.

كذلك لا يمكن -بوجه من الوجوه قطعا وأصلا- أن يوجِد هذا العالَمَ ولا يوجِد ذلك العالَمَ، وأن يبدع الفاطر هذه الكائناتِ ولا يُبدعَ تلك الكائنات، وأن يخلق الصانعُ هذه الدنيا ولا يخلقَ تلك الآخرة؛ إذ شأن سلطنة الربوبية يقتضي المكافأة والمجازاة.

ولاسيما: يُعلَم بالآثار أن لصاحب هذه الدار كرما عظيما، ومثلُ هذا الكرم يقتضي كمال الإحسان وحسنَ المكافأة. وأن له عزة عظيمة تقتضي كمالَ الغيرة وشدة المجازاة؛ مع أن هذه الدار لا تفي بعُشر مِعشار عَشير ما يقتضيه ذلك الكرم وتلك العزة..

ولاسيما: أن لصاحب هذا العالم رحمةً وسعت كلَّ شيء، ومن لطائف تلك الرحمة شفقةُ الوالدات مطلقا، حتى النباتاتِ على أولادها، وسهولةُ أرزاق أطفال الحيوانات وضعفائها، وهذه الرحمة تقتضي فضلا وإحسانا يليقان بها. انظر أين مقتضى هذا الرحمة، ثم أين هذه التنعمات الزائلة المنغّصة في هذه الدنيا الفانية -في هذا العمر القصير- التي لا تفي بقطرة من بحر تلك الرحمة؟ بل الزوال بلا إعادة يصيّر النعمةَ نقمةً، والشفقةَ مصيبةً، والمحبة حرقة، والعقل عقابا، واللذة ألما، فتنقلب حقيقةُ الرحمة. فتلزم المكابرة بإنكار الرحمة المشهودة، كإنكار الشمس مع شهود امتلاء النهار من ضيائها. وكذا يُعلم من تصرفات صاحب هذا العالم أن له جلالَ حيثيةٍ وعزةٍ، يقتضيان تأديب من لا يوقّره وقهرَ من يستخف به، كما فعل بالقرون السالفة في هذه الدنيا، ما يدل على أنه لا يهمل وإن أمهل. وكذا يُفهم من إجراآته أن له غيرةً عظيمة على استخفاف أوامره ونواهيه.

نعم، ومن شأن من يتعرف إلى الناس بأمثال هذه المصنوعات المنظومات، ويتودد إليهم بأمثال هذه الأزاهير الموزونات، ويترحّم عليهم بأمثال هذه الثمرات المزينات، ثم لا يعرفونه بالإيمان، ولا يتحببون إليه بالعبادة، ولا يحترمونه بالشكر إلّا قليل.. أن يُعِدّ لهم في مقر ربوبيته الأبدية دارَ مجازاة ومكافأة.

ولاسيما: أن لمتصرِّف هذا العالم حكمةً عامةً عالية، بشـهاداتِ رعاية المصالح والفوائد في كل شيء، وبدلالات الانتظامات والاهتمامات وحسن الصنعة في جميع المخلوقات. فهذه الحكمة الحاكمة في سلطنة الربوبية، تقتضي تلطيف المطيعين الملتجئين إلى جناحها.

وكذا يشاهد أن له عدالة محضة حقيقية بشهادات وضعه كل شيء في الموضع اللائق، وإعطاء كل ذي حق حقه الذي يستعد له؛ وإسعاف كل ذي حاجة حاجته التي يطلبها -لوجوده أوحفظ بقائه- وإجابة كل ذي سؤال سؤاله. وبالخاصة: إذا سُئِل بلسان الاستعداد أوبلسان الاحتياج الفطري أوبلسان الاضطرار.. فهذه العدالة تقتضي محافظة حشمة مالكيته وربوبيته، بمحافظة حقوق عباده في محكمةٍ كبرى؛ مع أن هذه الدار الفانية أقل وأحقر وأضيق وأصغر من أن تكون مَظهرا لحقيقةِ تلك العدالة؛ فلابد حينئذ لهذا الملِك العادل والرب الحكيم ذي الجمال الجليل والجلال الجميل من جنة باقية وجهنم دائمة.