الرسالة السادسة

 حبة

من نواتات ثمرة من ثمرات جنان القرآن

 حَبَّه مِى كُويَدْ

مَنْ شَاخِ دِرَخْتَمْ بُر أَزْ مَيْوَهءِ تَوْحِيدْ

يَگْ شَبْنَمَمْ أَزْيَمْ بُرَازْ لُؤْلُؤِ تَمْجِيدْ([1])


في (ط 1)

إفادة المرام

اعلم أنه قيل لي إن الناس يقولون: لا نفهم كثيرا مما في آثاره فتصير ضايعة.

فأقول: لا تضيع بإذنه تعالى. وسيجيء زمان يفهمها أكثرُ المتفكرين المتدينين إن شاء مَن بيده مقاليدُ كل شيء؛ إذ أكثر هذه المسائل أدويةٌ جربتُها في نفسي أعطانيها الفرقان الحكيم، لكن يمكن أن لا يفهمَها الناسُ كما أفهمُها بتمامها! لأن نفسي -بسوء اختيارها- من الرأس إلى القدم ملمّعةٌ بالجروح المتنوعة، فالسليمُ بحياة القلب لا يفهم درجةَ تأثير الترياق في السقيم بلدغ حية الهوى كما يفهمه هو…

وأيضا إني لا أتصرف في السانحات للتوضيح؛ عجزا من التحرير أوخوفا من التغيير. فأكتبها كما سنحت…

وأيضا أتكلم في مكاني، لا في مقام السامع المواجه لي -خلافا لسائر المتكلمين الذين يفرضون أنفسَهم في مقام السامعين- فيصير أمام كتابي (الذي) وجههُ إليّ، ومعكوسُه ومقلوبه إلى السامع، فكأنه يقرأ في المرآة فيتعسّر عليه؛ فإذا لا أذهب إلى مقامه، فليرسل هوخيالَه إليّ لأضيّفَه على عيني في رأسي، كي يرى كما أرى.

أدرجتُ في «نقطة وقطرة وذيلها وذرة وشمة وحبة» تفاريقَ حدسيات، وقطعات مرآة إذا جاء بإذنه تعالى من يركّبها، بتحرير وتصوير، تظهر مرآةٌ يظهر فيها وجهُ عين اليقين ويتحصل حدسٌ يزهر منه نورُ حق اليقين.. كيف لا، وهومن فيض القرآن المبين!

اَللَّهُمَّ أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعَه وأرنا الباطلَ باطلا وارزقنا اجتنابه..آمين


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لله عَلٰى دِينِ الإسْلَامِ وَكَمَالِ اْلإيمَانِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلٰى مُحَمَّدٍ الَّذِي هومَرْكَزُ دَائِرَةِ اْلإسْلَامِ وَمَنْبَعُ أنْوَارِ اْلإيمَانِ، وَعَلٰى آلِهِ وَصَحْبِهِ أجْمَعِينَ مَادَامَ الْمَلَوَانِ وَمَادَامَ الْقَمَرَانِ.

اعلم أنه بينما ترى العالَم كتابا كبيرا ترى نورَ محمد عليه الصلاة والسلام مِدادَ قلم الكاتب.. وبينما ترى العالَم يلبس صورةَ الشجرة ترى نورَه عليه الصلاة والسلام نواتَها أولا، وثمرتَها ثانيا.. وبينما ترى العالَم يلبس جسمَ الحيوان ترى نورَه «عليه الصلاة والسلام» روحَه.. وبينما ترى العالم تحوّل إنسانا كبيرا ترى نورَه عليه الصلاة والسلام عقلَه.. وبينما ترى العالم حديقةً مزهرةً ترى نورَه عليه الصلاة والسلام عندليبَه.. وبينما ترى العالم قصرا مزيّنا عاليا ذا سرادقات تتظاهر فيها شعشعةُ سلطنة سلطان الأزل وخوارقُ حشمته، ومحاسنُ تجليات جماله، ونقوشُ خوارق صنعته، إذا ترى نورَه عليه الصلاة والسلام نظّارا يرى لنفسه أولا، ثم ينادي بيا أيها الناس تعالَوا إلى هذه المناظر النـزيهة، وحَيهلوا على ما لَكُم فيه كل شيء من المحبة والحيرة والتنـزّه والتقدير، والتنوّر والتفكر، وما لا يحد من المطالب العالية. ويريها الناسَ، ويشاهِد ويشهَد لهم.. يتحير ويُحيِّرهم.. يُحب ويُحبِّبُ مالِكَه إليهم.. يستضيء ويُضيء لهم.. يستفيض ويفيض عليهم..

اعلم أن الإنسان ثمرةُ شجرة الخِلقة. والثمرةُ تكون أكملَ الأجزاء وأبعدَها من الجرثوم، وأجمعَها لخصائص الكل.. وهي التي من شأنها أن تبقى وتُسْتَبقى.

ومن الإنسان مَن هونواةٌ أنبتَ القديرُ جل شأنه منها تلك الشجرة.. ثم صيّر الفاطرُ جل جلالُه ذلك الإنسان ثمرةَ تلك الشجرة.. ثم جعل الرحمنُ تلك الثمرة النورانيةَ نواةً لشجرة الإسلامية.. وسراجا لعالمها.. وشمسا لمنظومتها..

وأنه لابد في الثمرة من نواةٍ تشتمل بالقوة على لوازمات شجرةٍ هي مثل أصلها. وأصغريةُ النواةِ لا تنافي أعظميةَ الشجرة، كنواة شجرة التينة..

وأن في الإنسان حبةً، لوكان الإنسان ثمرةً، لكانت تلك الحبة نواتَه، ألَا وهي القلب.. فقد رأيتُ فيه بواسطة الاحتياج علاقاتٍ إلى أنواع العالَم، بل إلى أجزائها.. وارتباطاتٍ إلى جميع أنوار الأسماء الحسنى باحتياج شديد وفقر عظيم لتجلي فردٍ فردٍ منها.. حتى كأن له حاجاتٍ عدَد أجزاء العالَم، وله أعداء ملءَ الدنيا.. فما يطمئن إلّا بمَن يقتدر أن يُغنيه عن كل شيء، ويحفظه من كل شيء..

ورأيت فيه أيضا قابليةً تمثل مجموعَ العالم كالخريطة والفهرستة والأنموذج والتمثال.. وأن المركز فيه لا يقبل إلّا الواحدَ الأحد.. ولا يرضى إلّا بالأبد والسرمد.. فهذه النواة -وهي حبة القلب- ماؤه الإسلام وضياؤه الإيمان فإن اطمأنتْ تحت تراب العبودية والإخلاص، وسُقيَت بالإسلام، وانتبهتْ بالإيمان، أنبتت شجرةً نورانيةً مثاليةً من عالم الأمر هي روحٌ لعالمه الجسماني، وإن لم تُسقَ بقت نواةً يابسةً منكمشة لائقةً للإحراق بالنار إلى أن تنقلبَ إلى النور.

وكم في النواة من أعصابٍ رقيقة وأشياءَ دقيقة لا يُبالَى بها، وتُرى أقلَّ من أن يُهتَمّ بها، إلّا أن لكلٍ منها -إذا انكشفت النواة- وظيفةً مهمةً بحشمة وعظمة.. كذلك لحبةِ القلب خدّام كامنة نائمة إذا انتبهتْ وانبسطتْ بحياة القلب، يجولون في بساتين الكائنات كطيور سيارة، وتنبسط بدرجة يقول المرء: الحمد لله على كل مصنوعاته، لأنها كلها لي نِعَمٌ.. حتى إنَّ الفرضَ أوالخيالَ الذي هومن أضعفِ خدَّام القلب وأهونِهم، له وظيفةٌ عجيبة، يَدخل به صاحبُه المتوكل -وهوفي السجن مقيد- في حديقةٍ نزيهة، ويضع رأس صاحبه المتنبّه وهويصلي في الشرق أوالغرب تحت «الحجر الأسود» ثم يُودع في الحجر الأسود شهادتَي صاحبه..

ومن المشهود أن «البيدر» يدور على رؤوس «الأثمار».. والثمرة هي التي تنتَقى وتُستبقى.. فبيدر الحشر ينتظر بني آدم.

اعلم أن لكل أحد من هذا العالم العام عالما خاصا، هوعين العام، لكن مركزه هوالشخص، بدلَ الشمس. فمفاتيحُ ذلك العالَم في نفس الشخص ومعلّقة بلطائفه.. ولونُ ذلك العالم وصفاؤهُ وحُسنهُ وقُبحهُ وضياؤه وظلمته تابعةٌ لذلك المركز. فكما أن الحديقة المرتسمة في المرآة تابعة في أحوالها من الحركة والتغيّر وغيرهما للمرآة، كذلك عالم الشخص تابعٌ لمركزه الذي هوالشخص كالظل والتمثال. فلا تحسبنّ صِغَر جِرمك سببا لصغر جُرمك؛ إذ ذرةٌ من قساوة قلبك، تكدّر عليك نجوم عالمك..

اعلم أن هذه ثلاثون سنة، لي مجادلةٌ مع طاغوتين وهما: «أنا» في الإنسان، و«الطبيعة» في العالم. أما هذا، فرأيتُه مرآةً ظليا حرفيا. لكنْ نظرَ الإنسانُ إليه نظرا اسميا قصديا بالأصالة، فتفرعن عليه وتَنَمرَدَ. وأما هذه، فرأيتُها صنعةً إلهيّة وصبغةً رحمانية.. لكنْ نظرَ البشرُ إليها بنظر الغفلة فتحولت لهم «طبيعةً» فتألّهتْ عند مادييهم. فأنشأتْ كفرانَ النِعَم المنجرّ إلى الكفر.

فلله الشكر والحمد وبتوفيق الأحد الصمد وبفيض القرآن المجيد أنتجت المجادلة قتلَ الطاغوتين وكسرَ الصنمين؛ بالنقطة، والقطرة، والذرة، والشمة، والحبة، والحباب.. فتكشَّفتْ الصنعةُ الشعورية الإلهية والشريعةُ الفطرية الربانية من حجاب الطبيعة الموهومة، وانسلختْ هي منها، أي نهارُها من ليلها. وتَكشّفَ «أنا» عن ظل «هو»، وانشقّ عنه فأشارت بـ«هو» إلى مَن: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِه شَيْءٌۚ  (الشورى:11) جلّ جلاله..

اعلم يا «أنا»! لك أمور تسعةٌ في دنياك تعاميتَ عن ماهيتها وعواقبها:

أما جسدُك؛ فكالثمرة المتزهرة المتزينة صيفا، المنكمشة المتفسخة شتاءً.

وأما حيوانيتُك؛ فانظر إلى جنس الحيوان كيف يُسرع فيهم الموتُ والزوال.

وأما إنسانيتُك؛ فمترددة بين الانطفاء والاصطفاء والزوال والبقاء، فاستحفِظْ على ما بقي بما من شأنه أن يبقى بذكر الدائم الباقي.

وأما حياتك؛ فكقامتك قصيرةٌ معيّنةُ الحدود لا تقدَّم ولا تؤخَّر، فلا تتألمْ ولا تحزن ولا تخَفْ عليها ولا تحمّلها ما لا طاقةَ لها به مما تطاول إليه طول الأمل.

وأما وجودك؛ فليس مُلكا لك، فله مالكٌ، الملكُ له وأشفقُ به منك؛ فمداخلتك بغيرِ ما أمركَ به، فكما أنها من الفضول وشُغل فضولي فكثيرا ما تضر؛ ألا ترى الحرص و(مرق) النوم كيف يفعلان ويجلبان الخيبة والسهر!

وأما مصائبك؛ فلا تمرُّ حقيقةً لأنها تَمُرُّ سريعا، بل تحلولأنها تُحول؛ فتَحوِّلُ وجهَكَ من الفناء في الفاني إلى البقاء بالباقي.

وأما أنت هنا الآن؛ فمسافرٌ ثم مسافرٌ، والمسافرُ لا يَعلّقُ قلبَه بما لا يتعلق به ويفارقه بسرعة. فكما ترتحل من هذا المنـزل في هذا المسجد البتة، كذلك تفارق هذه البلدة قطعا، إما إلى بطنها أوإلى خارجها.. فكما ستفارقها بالضرورة، كذلك تذهب بل تُخرَج وتُطرَدُ -شئتَ أم أبيتَ- من هذه الدنيا الفانية؛ فاخرجْ وأنت عزيز قبل أن تُطرد وأنت ذليل.

وأما وجودك؛ فافْدِهِ لمُوجدهِ الذي يشتريه بثمنٍ غالٍ، فسارعْ إلى البيع بل الفداء:

أولا: فلأنه يزول مجانا.

وثانيا: لأنه مالُه وإليه يؤول..

وثالثا: لأنه إن اعتمدتَ عليه سقطتَ في العدم، لأنه «بابٌ إليه»، وإذا فتحتَه بالتَرك وصلتَ إلى الوجود الثابت..

ورابعا: لأنه إذا تمسكتَ به كان في يدك نقطة وجودٍ فقط، ويحيط بك ما لا يتناهى من الأَعدام الهائلة.. وإذا نَفَضْتَ يدك منه استبدلتَ لمعةً بشمس فينقلب محيطُكَ إلى ما لا يتناهى من أنوار الوجود.

وأما لذائذ الدنيا؛ فقِسمتُكَ تأتيك، فلا تَطِشْ في طلبها.. ولزوالها بسرعة لا يليق بالعاقل تعليقُ القلب بها. وكيف ما كانت عاقبةُ دنياك فتركُ اللذائذ أولى؛ إذ إما إلى السعادة، وهي تستلزم تركها.. وإما إلى الشقاوة. ومَن ينتظرُ الصَّلبَ كيف يلتذُّ ويَستعذِبُ ما يزيد عذابَه من تزيينات آلات الصَلب؟ وإن توهمتَ بالكفر العدمَ -العياذ بالله- فأولى بالترك؛ إذ بزوال اللذة يُحِسُّ ذلك العدمُ الهائلُ ألَمه الأليم آنا فآنا في ضمن زوال اللذائذ، وهذا الألمُ أثقلُ بمراتبَ من لذة الوصال إن كنت تشعر..

اعلم أن مثلَك -وقد تصيب رأسَك المصائبُ المرماةُ «بالقدر»- كمثل أغنام مُرسَلة في المرعى، يراها الراعي قد تجاوزت، فيرمي الأحجارَ خلفَها لترجعَ، فيقول المُصابُ رأسُه بلسان الحال: نحن تحت أمر الراعي، وهوأعرفُ بنا منا فلنرجع.. فيرجع.. فيرجعون..

فلا تكوني يا نفسي أضلَّ من الغنم! فقولي عند المصيبة:

﴿اِنَّا لِلّٰهِ وَاِنَّٓا اِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ (البقرة:156).

اعلم أن من الدليل على أن القلب ما خُلق للاشتغال بأمور الدنيا قصدا؛ أنه: إذا تعلق بشيء تعلّق بشدةٍ، واهتمّ به اهتماما عظيما، ويتطلب فيه أبديةً ودواما.. ويفنى فيه فناءً تاما. وإذا مدّ يدَه يَمُدّ يدا تطيق أن تقبضَ على الصخور العظيمة وتَرفَعَها، مع أن ما يأخذه بتلك اليد من الدنيا، إنما هوتينةٌ أوتبنةٌ أوريشةٌ أوشعرةٌ أوهباءٌ أوهواءٌ..

نعم، القلب مرآةُ الصمد؛ فلا يقبل حجرَ الصنم بل ينكسرُ به. والعاشقُ المجازي يرى ظُلمَ معشوقه في الأكثر، بسرّ: أن المعشوق بفطرته -بلا شعور- يردّ ولا يرضى ما ليس له بحق، وهوليس بلائقٍ إسكانه في باطن قلب العاشق.

اعلم أن القرآن أُنزل وأُنزلت به مائدةٌ سماويةٌ، يوجد فيها كل أنواعُ ما تحتاج إليه طبقاتُ نوع البشر المتفاوتين في اشتهاء الأفهام.. في المائدة أطعمة مترتبة، قُدِّمَ أولا في وجهِ السُفرة الإلهية رزقُ الأكثر المطلق والجمهور الأعظم، أي العوام.. مثلا: ﴿اَنَّ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا﴾ (الأنبياء:30) الصفحة الأولى: أي هما رتقاوان، أما هذه فنقيةٌ صحوصافيةٌ. وأما تلك فميتة غبراء يابسة. فازدوَجَتا بإذنه تعالى فأولدت هذه أمطارا وتلك أثمارا. والدليل على هذه الصحيفة: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَٓاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّۜ﴾ (الأنبياء:30). وخلف هذه الصفحة والصحيفة انفصال السيارات مع شمسها من عجين المادة التي خُلقَت من نور سيّد الأنام ﷺ. والآية على هذه الصفحة حديث: «أول ما خلق الله نوري..الخ»..

مثلا: ﴿اَفَعَيينَا بِالْخَلْقِ الْاَوَّلِۜ بَلْ هُمْ في لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَديدٍ (ق:15) الصحيفة الأولى المقدمة في النظر، أنهم مع إقرارهم بخلقهم الأول الأعجبِ المشهودِ، يستبعدون الخلق الجديد الأهون؛ إذ له مثال سبق. وإن خلفَ هذه الصحيفة برهانا نيرا على كمال سهولة النشر.

أيها المنكرون للحشر.. تُحشَرون.. وتنشرون في عمركم مرات، بل في سَنتكم، بل في يومكم، تلبسون وتخلعون هذا الجسم كلباسكم صباحا ومساءً يتجدد عليكم جسمكم كلباسكم.([2])

اعلم فيا عجبا من بلاهة النفس! ترى في نفسها أثرَ المصنوعية والمملوكية والتربية من طرف ربّ مختار حكيم، ثم تنظر إلى أمثالها من سائر الأفراد والأنواع والأجناس، فيتظاهر سرُّ كلّيةِ القاعدة وشمولِ الفيض، وتحلُّبِ نوعِ إجماعٍ وتصديق فعلي، فكان لازما عليها أن تطمئن بتفطنِ سرِ: «كلية القاعدة ودستورية الحادثة». والحال أنها تتخيل ما يقوي تجليات الأسماء عليها من عموم تجلياتها في دائرة الآفاق سببَ الضعف وواسطة التستر وأمارة الإهمال وعلامةَ أنه لا رقيب عليها فتقول: اتسعَ فامتنع.. عَظُم فَعُدِم. فهذه مغلطة يخجل منها الشيطان أيضا.

اعلمي! أيتها النفس المتضجرة القلقة.. أن كل أحوالك في التعين، والنقش في جبهتك بقلم القَدر، كطلوع الشمس وغروبها. فإن أردتِ أن تضربي سندان القَدر برأسك العليل، فتضجّري. واعلمي يقينا، أن من لا يستطيع أن ينفذَ من أقطار السماوات والأرض، لابد أن يرضى رضاء محبةٍ بربوبيةِ مَن: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْديرًا (الفرقان:2).

اعلم لوكان صانعُ الشيء في الشيء لناسَبه، ولَتَنَوعَ بعدد الأشياء. وإذا لم يكن فيه فلا، كهذا الكتاب: يُكتب بقلم واحد مع أنه لا يُطبع إلّا بحديدات مصنوعة، موضوعة تحته عدد حروفه، ولوتَنَبَّتَتْ نقوش الصنعةِ المتقنة في شيء منه وتحلّبت ثمراتُها وترشحت حروفُها من نفسه وإمكانه، لانبثتْ وانتثرتْ وانتشرتْ ولخرجت عن الانتظام. لكن فيها استقرار تام وانتظام كامل فلم ينكتب نقشُ الشيء منه ولن ينكتبَ منه أبدا، بل يُكتب عليه بقلم القُدرة على مِسطَر القَدَر.

اعلم ومن الغرائب أن العقلَ الذي يتطاول إلى الإحاطة بالعالم والنفوذ إلى الخارج والخروج من دائرة الإمكان، يغرق في قطرة.. ويفنَى في ذرة.. ويغيب في شعرة.. وينحصر الوجود عنده فيما فني فيه.. ويريد أن يُدخلَ معه كلَّ ما أحاطَ به في النقطة التي بَلَعته.([3])

اعلم أنه لوكان المُلك لك لتنغّص عليك التنعمُ بتكلف التعهّد والتحفظ والتخوف. والمنعمُ الكريم يتعهد كل لوازمات النعمة.. وما يفوِّض إليك إلّا التنعمَ والتناول من سُفرة إحسانه، والشكرَ الذي يزيد لذةَ النعمة.. إذ الشكر؛ رؤيةُ الإنعام في النعمة. ورؤية الإنعام تزيل ألمَ زوال النعمة؛ إذ تزولُ النعمةُ حينئذٍ فلا تعطي موضعها للعدم حتى تُؤلِم، بل تُخلي الموقعَ لمجيء المِثل كالثمرة، فتعطيك لذةَ التجدد. ﴿وَاٰخِرُ دَعْوٰيهُمْ اَنِ الْحَمْدُ لِلّٰهِ رَبِّ الْعَالَمينَ (يونس:10) يدل على أن الحمدَ عينُ اللذة. نعم، إن سرَّ الحمد؛ رؤيةُ شجرةِ الإنعام في ثمرة النعمة. فيزول ألمُ تصوّر الزوال فيُلتَذ بنفس الحمد..

اعلم أن المعلومات الآفاقية لا تخلوعن الأوهام والوساوس. وأما إذا استندت إلى الأنفس واتصلت بالوجدانيات المشعورة بالذات، تصفّت عن الاحتمالات المزعجة. فانظر من المركز إلى المحيط، ولا تعكس فتنتكس.

اعلم أن هذه المدنية السفيهة المصيّرةَ للأرض كبلدة واحدة، يتعارف أهلُها ويتناجَون بالإثم وما لا يعني بالجرائد صباحا ومساءً، غَلُظَ بسببها وتكاثفَ بملاهيها حجابُ الغفلة، بحيث لا يُخرَق إلّا بصرفِ همةٍ عظيمة. وكذا فَتحتْ لروح البشر منافذَ غير محدودة نظّارة إلى الدنيا يتعذّر سدُّها إلّا لمن خصّه الله بلُطفه..

اعلم أن الذرة تسعُ الشمسَ بتجليها فيها بالمشاهدة ولا تسع تلك الذرةُ ذرتين بالذات بالبداهة، فذراتُ الكائنات ومركباتها -كقطرات المطر ورشاشاتها المتشمسة المتلألئة بتماثيل الشمس- قابلةٌ لأن تصير مظاهرَ للمعات تجليات القدرة النورانية الأزلية المطلقة المحيطة المستندة بل المتضمنة للعلم والإرادة الأزليين الغير المتناهيين.. ولا يمكن أن تكون ذرةُ حُجيرةِ عينك منبعا ومعدنا لقدرةٍ وشعور وإرادة تتحمل وظائفها العشرة من خَدَمتها في الأعصاب المحركة والحساسة والأوردة والشرايين والإبصار والتصوير وغيرها مما يتيه فيه الفكر.

فهذه الصنعة المتقنة العجيبة، والنقش المزين المنتظَم، والحكمة العميقة الدقيقة، تقتضي قطعا:

إما أن يكون كل ذرة وكل مركب في الكائنات معدنا ومنبعا ومصدرا لصفات محيطة مطلقة كاملة.

وإما أن يكون مظهرا ومعكِسا ومَجلَىً للمعاتِ تجلياتِ شمس الأزل الذي له هذه الصفات.

والشِق الأول فيه محالاتٌ بعدد ذرات الكائنات ومركباتِها؛ فمن جاز عنده أن يحمل على جناحَى نحلةٍ جبلي «سُبحانْ وآرارات» وأن ينبع من عيني بعوضة «النيل والفرات»، فليذهب إلى الشق الأول؛ فتشهد كلُّ ذرةٍ -بِعَجزها عن تحمّل ما لا طاقة لها به- أنه: لا موجدَ ولا خالقَ ولا رب ولا مالك ولا قيوم ولا إله إلّا الله. وكل ذرات الكائنات ومركباتها بألسنتها المختلفة ودلالاتها المتنوعة تتكلم بـ:

عِبَارَاتُنَا شَتَّى وَحُسْنُكَ وَاحِدٌ  وَكُلٌّ إلى ذَاكَ الْجَمَال يُشِيرُ

نعم، إن كل حرف من كتاب الكائنات، يدل على وجود نفسه بوجهٍ واحدٍ، وبمقدار حرف، لكن يدل على كاتبه وصانعه بوجوه كثيرة. وينشدُ من أسمائه المتجلية عليه قصيدةً طويلة:

تَأَمَّلْ سُطُورَ الْكَائِنَاتِ فَإِنَّهَا  مِنَ الْمَلإِ الأعلى إلَيكَ رَسَائِلُ

اعلم أن مرايا التجليات متنوعة منها: الزجاج، والماء، والهواء -لاسيما للكلمات- وعالم المثال، والروح، والعقل، والخيال، والزمان. وغيرها مما لا نعلم أولا تعلم.. وتماثيل الماديات الكثيفة في المرايا منفصلة حُكما، وأمواتٌ حقيقةً.. وليس لها خاصية الأصل.. وغيرٌ للأصل أيضا، بدليل انتقالها إلى الفطوغراف، دون النورانية الخالصة، وفي غير الخالصة تنتقل هويةُ صورتها المادية فقط.

وأما تماثيل النورانيات فمتصلةٌ حُكما، ومرتبطةٌ حقيقة، ومالكةٌ لخواص الأصل، وليستْ غيرا له. فلوجَعل الفاطرُ جلّ جلاله حرارةَ الشمس حياتها، وضياءها شعورَها، وألوان الضياء حواسَّها؛ لتكلمت الشمسُ معك في قلب مرآتك التي في يدك، كتلفونك ومرآة قلبك. إذ مثالها الذي في يدك له أيضا بمقدار استعداده حرارةُ حياةٍ، وضياءُ شعورٍ، وألوانُ حواسٍ. ومن هذا السر يطّلع النبي ﷺ الذي هوالنور النوراني على صلواتِ كلِّ مَن صلّى عليه في آن واحد. ومن هذا السر ينفتح مغلقات أسرار.


[1] [[الحبة تقول: إنني غصنُ شجرةٍ مثقلٌ بثمرة التوحيد وقطرةُ ندىً من البحر الزاخر بلؤلؤ التمجيد.]]

         طبعت هذه الرسالة لأول مرة بمطبعة «أوقاف إسلامية» بإستانبول سنة 1340هـ (1922م).

[2] تفصيله في إشارات الإعجاز في تفسير قوله تعالى:  ﴿ وَبِالْاٰخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾  (المؤلف).

[3] نعم، إن أكبر فلاسفة الأرض عقلا يغرق في قطرة من الألم، ويفنى في ذرة من المحبة، ويغيب في شعرة من السرور، وينحصر الوجود عنده في لحظة فناء باهتماماته، ويجهد أن يسحب معه كل معارفه الوجودية إلى عمق النقطة التي ابتلعته.