اعلم أن «سبحان الله والحمد لله» يتضمنان التوصيفَ بصفات الله: الجلالُ بالأول.. والجمال بالثاني. فـ«سبحان الله» ينظر إلى بُعد العبد والممكن عن الله الواجب الوجود العلي العظيم. و«الحمد لله» ينظر إلى قُرب الله بالرحمة واللطف إلى العبد ومخلوقاته. فكما أن الشمسَ قريبةٌ منك تُوصل حرارتَها وضياءها إليك وتتصرف فيك بإذن خالقها، الذي صيّرها مرآةً لجلوة اسمه «النور» وظرفا لنِعَمه التي هي الحرارة والضياء مع أنك بعيدٌ عنها لا يصل يدُك إليها، وأنت بالنسبة إليها قابلٌ فقط لا فاعلٌ ولا مؤثر.. كذلك –﴿وَلِلّٰهِ الْمَثَلُ الْاَعْلٰى– إن الله جلّ جلاله قريبٌ منا فنحمده، ونحن بعيدون عنه فنسبّحه. فأحمدْه وأنت تنظر إلى قُربه برحمته. وسبّحه وأنت تنظر إلى بُعدك بإمكانك. ولا تخلط بين المقامين، ولا تمزج بين النظرين، لئلا يتشوش عليك الحقُّ والاستقامة. لكن يمكن لك -بشرط عدم الالتباس والمزج- أن تنظر إلى القرب في جهة البُعد.. وإلى وجه البُعد في جهة القرب.. وإلى الوجهين معا فتقول: «سبحان الله وبحمده»..

اعلم يا طالب الدنيا! لابد أن تتركها لأمور أربعة:

أولا: فلأنها سريعة الزوال، وألمُ الزوال مذلّ ومزيل للذة الوصال.

وأما ثانيا: فلأن لذائذَها منغَّصة بآلامٍ مقارِنة وأكدارٍ متعاقبة.

وأما ثالثا: فإن ما ينتظرك وأنت تذهب إليه بسرعة بلا انحراف من القبر الذي هوباب إلى الآخرة، لا يقبل منك مزيَّنات الدنيا هديةً، إذ تنقلب هناك قبائح.

وأما رابعا: فوازنْ بين سكونك ساعة في موقع بين الأعداء والمؤذيات والحشرات المضرة، وبين السكون في سنين كثيرة في موقع آخر قد اجتمع فيه كل أحبابك وكل عظمائك. ومالِك الملك أيضا يدعوك إلى ترك لذة تلك الساعة ليريحَك في تلك السنين مع أوِدّائكَ. فأجب داعيَ الله قبل أن تُساق إليه بالسلاسل.

فسبحان الله ما أعظمَ فضلَ الله على الإنسان يشتري بثمنٍ غالٍ من الإنسان مالا له وديعةً عند الإنسان ليحمله عنه.. ويبقيَه له.. ويحميَه مما يفسده. مع أن الإنسان إنْ تَملَّكَه ولم يبعْه وقع في بلاءٍ عظيم في تعهّده بقدرة لا تكفي -من ألوف مصالحه- بواحد.. ولوتحمله بنفسه على ظهره لأنقض ظهرَه. ولوأمسكه بنفسه لزال سريعا وذهب مجانا وفني مورثا لآثامه وأثقاله على مالكه الكاذب.

اعلم أنه إنني مصداق لما قيل:

وعيني قد نامت بليلِ شبيبتي ولم تنتبه إلّا بصُبح مَشيب

إذ أشدُّ أوقات انتباهي في شبيبتي، رأيته الآن أعمقَ طبقات نومي! فالمتنورون المتنبهون في عُرف المدنيين كانتباهي فيما مضى، مَثَلُهم كمثل مَن رأى في رؤياه أنه انتبه وقصَّ رؤياه على بعض الناس، والحال أنه بهذا الانتباه مرّ من طبقة النوم الخفيفة إلى الطبقة الكثيفة. فمَن كان هكذا نائما كالميت كيف يوقظ الحي الناعس، وكيف يُسمع الناعسَ ما يتكلم به من وراء حُجب نومه المضاعف!

أيها المتنبّهون النائمون! لا تتقرَّبوا إلى المدنيين بالمسامحة الدينية والتشبّه، ظنا منكم أنكم تَصيرون جسرا بيننا وبينهم، وتملأون الواديَ بيننا. كلّا، إن المسافة بين المؤمنين والكافرين غيرُ محدودة، والوادي بيننا في غاية العمق لا تملأونه، بل تلتحقون بهم أوتضلّون ضلالا بعيدا!

اعلم أن في ماهية المعصية -لاسيما إذا استمرت وكثرت- بذرَ الكفر.. إذ المعصية تُولِد أُلفةً معها وابتلاءً بها، بل تصير داءً، دواؤها الدائمي نفسُها، فيتعذر تركُها. فيتمنى صاحبُها عدَم عقابٍ عليها، ويتحرى بلا شعور ما يدل على عدم العذاب، فتستمر هذه الحال حتى تنجر إلى إنكار العذاب وردّ دار العقاب. وكذا إن خجالة المعصية -بغير الندامة والقلع- تُلجئ صاحبَها إلى إنكار كون المعصية معصيةً، وإنكار مَن يطلع عليها من حَفَظة الملائكة وغيرها.. فمِن شدة الخجالة يتمنى عدمَ الحساب.. فإن صادف وهما ينفيه، تلقّاه برهانا.. وهكذا إلى أن يسودّ القلبُ، العياذ بالله..

اعلم أن من لمعات معجزات القرآن كما في «اللوامع» المشتملة على الإشارة إلى أربعين نوعا من إعجازه، ومن كمال بلاغته: أنه جمع السلاسةَ الرائقة، والسلامةَ الفائقة، والتساندَ المتين، والتناسبَ الرصين، والتعاون بين الجمل وهيئاتها، والتجاوبَ بين الآيات ومقاصدِها بشهادة علم البيان وعلم المعاني، مع أنه نزل في عشرين سنة منجَّما لمواقع الحاجات نزولا متفرقا متقاطعا بتلاؤم كأنه نزل دفعةً.. ولأسباب نزولٍ مختلفة متباينة مع كمال التساند، كأن السببَ واحدٌ.. وجاء جوابا لأسئلة مكرّرة متفاوتة، مع نهاية الامتزاج والاتحاد، كأن السؤال واحدٌ.. وجاء بيانا لحادثاتِ أحكامٍ متعددة متغايرة، مع كمال الانتظام كأن الحادثة واحدة.. ونزل متضمنا لتنـزلات إلهية في أساليبَ تناسب أفهام المخاطَبين، لاسيما فهم المنـزَل عليه عليه السلام، بحالات في التلقي متنوعةٍ متخالفة، مع غاية التماثل والسلاسة، كأن الحالةَ واحدة.. وجاء متكلما متوجها إلى أصنافِ مخاطبين متعددةٍ متباعدة، مع سهولة البيان وجزالة النظام ووضوح الإفهام كأن المخاطَب واحد، بحيث يظن كلُ صنف كأنه المخاطَب بالأصالة.. ونزل مُهديا وموصلا لغاياتٍ إرشادية متدرجة متفاوتة، مع كمال الاستقامة والنظام والموازنة كأن المقصد واحد؛ تدور تلك المقاصد والغايات على الأقطاب الأربعة: وهي «التوحيد، والنبوة، والحشر، والعدالة». فبسر امتلائه من التوحيد، الْتَأَمَ وامتزج وانتظم واتّحد.

ومن كان له عين في بصيرته، يرى في التنـزيل عينا ترى كلَّ الكون، كصحيفة مبصَرة واضحة.. وقد جاء مكررا ليقرِّر.. ومردّدا ليحقق قصصا وأحكاما. مع أنه لا يُمِلُّ تكرارُهُ، ولا يُزيل عَوْدُهُ ذَوْقَه ولا يُسئِمُ تردادُهُ. كلما كرّر حقّق وقرّر، بل ما كررته تحلووتفوح أنفاسُ الرحمن منه «إن المسك ما كررته يتضوّع». وكلما استعدتَه استَلذْتَه؛ إن كان لك ذوق سليم بقلب غير سقيم. والسر فيه: أنه قُوتٌ وغذاءٌ للقلوب، وقوة وشفاء للأرواح. والقوتُ لا يُمِلُّ تكرارُه.. فمألوفُه آنَسُ وألَذّ، خلافَ التفكّه الذي لذتُه في تجدده، وسآمتُه في تكرره.

وكما أن الإنسان في حياته المادية يحتاج في كل آنٍ إلى الهواء، وفي كل وقتٍ إلى الماء، وفي كل يوم إلى الغذاء، وفي كل أسبوع إلى الضياء، في الأكثر.. فتتكرر هذه الأمور لتكررّ الحاجات، فلا تكون تكرارا.. كذلك إن الإنسان بجهة حياته الروحانية أيضا؛ يحتاج إلى أنواع ما في القرآن؛ فإلى بعضٍ في كل دقيقة بل في آنٍ سيال كـ: «هو.. الله» فبه يتنفس الروحُ.. وإلى بعضٍ في كل ساعة كـ: «بسم الله».. وإلى بعض في كل وقت.. وإلى بعض في كل زمان متدرجا بدرجات الاحتياج، فيكرر القرآن على ما تقتضي حياةُ القلب تكرارَه.

مثلا: «بسم الله» كالهواء النسيمي يطهِّر الباطن داخلا ويثمر خارجا في نَفْسِك كَنفَسِك في جسمك.. وأيضا في تكرار القرآن بعضَ الحادثات الجزئية إشارةٌ إلى أن الحادثة الجزئية تتضمن دستورا كليا، كما أشرتُ إلى بعضٍ من جمل قصة «موسى» عليه السلام التي هي أجدى من تفاريق العصا.

والحاصل: أنَّ القرآن الحكيم كتابُ ذكر، وكتابُ فكر، وكتاب حُكم، وكتاب علم، وكتاب حقيقة، وكتاب شريعة، وشفاء لما في الصدور، وهدىً ورحمةٌ للمؤمنين.

اعلم أن من أعاجيب فطرة الإنسان في وقت الغفلة، التباسَ أحكام اللطائف والحواس.كالمجنون الذي يصل نظرُه إلى شيء، فيمدّ يدَهُ إليه ظنّا منه -لمجاورة العين لليد- أن ما يحصل بتاك، يحصل بهذه أيضا. فالإنسان الغافل الذي لا يصل يدُ اقتداره إلى تنظيم أدنى جزء من أجزاء نفسه يتطاول بغروره وبوسعة خياله إلى الحكم والتحكم في أفعال الله في الآفاق..

وكذا من أعجب فطرة البشر أن أفراده، مع تقارب درجاتها في الصورة الجسمية، تتفاوت معنىً بدرجات، كما بين الذرة إلى الشمس إلى شمس الشموس خلافا لسائر الحيوانات؛ إذ هي مع تفاوت أفرادها في الصور الجسمية، كالسمك والطير، تتقارب في قيمة الروح؛ فكأن الإنسان الذي قام من «مخروط الكائنات» في حاق الوسط، منه إلى الذرة ومنه إلى شمس الشموس سواء؛ إذ لم يُحدَّد قواه ولم تُقيّدْ، أمكَنَ له أن يتنـزل ويتسفل «بالأنانية» إلى أن يكون هووالذرة سواء؛ وكذا جاز له أن يتجاوز بالعبودية وبترك «أنا» ويتصاعدَ بإذنه تعالى إلى أن يصيرَ بفضل الله كشمس الشموس مثل محمد عليه الصلاة والسلام.

اعلم أن الأصل في الشيء البقاء، حتى إن الأمورَ السيالة السريعةَ الزوالِ -كالكلمات والتصورات- لها أيضا مواضعُ أُخر يتحصنون فيها من الزوال. لكن يتطورون في الصور، حتى كأن الأشياء موظفون لحفظ الشيء إما بتمامه كالنوراني، أووجهٍ من الشيء، يسارعون بكمال الاهتمام لأخذه ووضعه في قلوبهم الشفافة.

والحكمة الجديدة تفطنت لهذا السر لكن بلا وضوح، فلهذا أخطأت بالإفراط فقالت: لا عدمَ مطلقا، بل تركُّبٌ وانحلال. كلا! بل تركيب بصُنعه تعالى.. وتحليل بإذنه.. وإيجادٌ وإعدام بأمره.. يَفعَلُ مَا يَشاءُ ويَحكُم مَا يُريدُ.

اعلم أيها السعيد الشقي! إن القبرَ بابٌ باطنه الرحمة، وظاهره من قبله العذاب.. وأَوِدَّاؤك ومَن تحبُّه، أكثرهم -حتى كلُّهم- ساكنون خلف هذا الباب. ألَمْ يأنِ لك أن تشتاق إليهم وإلى عالَمِهم.. فَتنظَّفْ، وإلّا استقذروك.

لوقيل لك مثلا: إن «الإمام الرباني أحمد الفاروقي» قُدس سره، ساكن الآن في الهند، لاقتحمتَ المهالك وتركتَ الأوطان لزيارته. مع أن تحت اسم أحمد فقط ألوفَ نجوم حول شمسِ مَن في الإنجيل اسمه «أحمد» وفي التوراة «أُحيد» وفي القرآن «محمد».. وتحت اسم محمّد ملايين.. وهكذا كلهم خلف باب القبر في رحمة الله ساكنون. فلابد أن يكون نصب عينك دائما «هذه الأساسات» وهي:

(1) إن كنتَ له تعالى كان لك كلُّ شيء، وإن لم تكن له كان عليك كلُّ شيء.

(2) وكلُّ شيء بِقَدَرٍ، فارضَ بما آتاك تزد يُسْرا على يُسْرٍ، وإلّا زدْتَ مرضا على مرض.

(3) المُلكُ له، ويشتريه منك ليبقيَه لكَ.. ويزولُ مجانا لوبقي عندك.

(4) وأنت فقيرٌ إليه من كُلِّ وجهٍ.

(5) وأنت مقيّدٌ بجهات أربع مسدودة. تُساق إلى باب القبر المفتوح لك.

(6) لا لذةَ للقلب حقيقةً فيما لا دوام فيه؛ تزول أنتَ، وتزول دنياك، وتزول دنيا الناس.

(7) وستُنْزَع من الكائنات هذه الصورة. وسيُخلَع عليها أخرى. كالثانية، والدقيقة، والساعة، واليوم.. كأن الكائنات ساعة كبرى، كما ذكر في «النكتة الرابعة من الكلمة التاسعة».

(8) فلا تهتم بما يبقى لك أثرا في الفاني ويفنى عنك في الباقي.

(9) ولا تنظر من بُعدِك وخستك ومن عظمته وعزته تعالى -ونقطة نظرك هذه الحيثية- إلى تصرفاته وتنـزّلاته برحمته ونعمته؛ إذ حينئذٍ لا يليق إلّا التسبيحُ.

(10) ولا تنظر من حيثية قربه وإحاطته بعلمه ورحمته، ومن مخلوقيتك ودخولك في عنايته وكرمه، إلى صفات جلاله، لئلا تستهوي بك الأوهامُ والأهواءُ.

فسبحان من تقدستْ وتنـزهتْ عن أن تحيط به الأفكارُ والعقول، والحمد لله الذي وسعت رحمتهُ كلَّ شيء.. لا إلهَ إلّا الله وَحْدَهُ لا شَريكَ لهُ، لهُ المُلكُ ولهُ الحمدُ يُحيي ويُميت بيدهِ الخَير وهوعلى كلِّ شيء قدير..

اعلم أن مَن في قلبه حياةٌ إذا توجه إلى الكائنات يرى من عظائم الأمور ما لا يحيط به ويَعجز عن إدراكه ويتحيّر فيه، فللتشّفي من ألم الحيرة يشتاق إلى «سبحان الله» كتعطش العليل الغليل إلى الماء الزلال.. ويرى من لطائف النِعم واللذائذ ما يُجبرهُ على إظهار تلذذه وتزييد تلذذه واستيزاد لذته بالدوام برؤية الإنعام في النعمة، والمنعِم في الإنعام بعنوان الحمد، فيتنفس بـ«الحمد لله» كما يتنفس المظفر السالم الغانم.

ويرى من عجائب المخلوقات وغرائبها ما لا يطيق مقاييسُ عقله وزنَها ويضيق ذهنُه عن محاكمتها، وحسُّ تجسس الحقيقة يُشغله بها، فينادي: «الله أكبر» فيستريح. أي خالقها أعظمُ وأكبرُ فلا يثقُل عليه خلقُها وتدبيرها، كمثل من يرى القمرَ يدور حوله فيغشاه ألمُ تعجب، أوخروجَ جبل بالزلزلة فيتدهش فيكبّر، فيلقى عن ظهره أثقالَ العَجب والتدهش على سفينة القدير القوي المتين جلّ جلاله..

اعلم أنك بسيئاتك لا تضر الله شيئا إنما تضر نفسك. مثلا: ليس في الخارج شريكٌ حتى تقوّيه باعتقادك فتؤثّرَ في كمال ملكهِ تعالى، بل في ذهنك وفي عالمك فقط. فيخرّب بيتك على رأسك..

اعلم أنه من توكّل على الله فهوحسبه.. فقل: «حسبي الله ونعم الوكيل»:

فأولا: لأنه الكامل المطلق، والكمالُ محبوب لذاته وتُفدَى له الأرواحُ.

وثانيا: لأنه محبوب لذاته وهوالمحبوب الحقيقي، والمحبة تقتضي الفداء.

وثالثا: لأنه الموجودُ الواجبُ.. وبقربه أنوارُ الوجود.. وببُعده ظلماتُ العَدَمات، وألمٌ أليم في أُفول آمال الروح الإنساني.

ورابعا: لأنه الملجأ والمنجا للروح الذي ضاقت عليه الأكوانُ، وآلمَته مزخرفات الدنيا، وعادَتْهُ الكائناتُ وأُنقض ظهرُه تحت الشفقة اليتمية والمرحمة المأتمية..

وخامسا: لأنه الباقي الذي به البقاء، وبدونه الزوال، وكلُّ العذاب في الزوال. وبدونه يتراكم على الروح آلامٌ بعدد الموجودات، وبه يتظاهر على المتوكل أنوارٌ بعددها..

وسادسا: لأنه المالك يحمل عنك مُلكه الذي عندك، إذ لا تُطيق حملَه، فبتوهم التملّك تقعُ في عذاب أليم أليم. فلبقائه ودوام إنعامه لا تغتمَّ بفناء ما في يدك، كما لا تحزن الحَباباتُ المتشمسة بالتحول والانحلال. فلإظهار تجددات تجليات الشمس يَفدي الحَبابُ صورتَه بكمال النشاط بل يموت وهويضحك. وكما لا تغتم الثمرات بفراق الشجرة ولا النواة بانحلال الثمرة ولا أنت بزوالها إذ تقولون فلتحيا الشجرة إذ في حياتها موتُنا حياةٌ.

يا هذا! أنت ثمرة إنعاماته بل مجسَّمُ إنعاماته.

وسابعا: لأنه الغني المغني وبيده مقاليد كل شيء، إذا صرتَ عبدا خالصا له، ثم نظرت إلى الكائنات تراها مُلكَ مالكك وحِشمته وحواشيه فتتنـزّه بها، كأنها مُلكٌ لك بل أعلى، بلا كلفة ولا ألم زوال.. إذ الخادمُ الخالص للمَلِك والفاني في محبته يفتخر بكل ما للمَلِك.

وثامنا: لأنه ربّ الأنبياء والمرسلين والأولياء والمتّقين وكلّهم مسعودون في رحمته، فعِلْمك بسعادتهم يعطيك في شقاوتك سعادةً ولذةً إن كنتَ ذا قلب.

اعلم أنه لا يليق بك إن كان لك عقلٌ سليم أن تهتم وتغتم وتغضبَ وتصخب لما يأتيك أويفوتُك من أمور الدنيا، لأن الدنيا تزول لاسيما دنياك، ولاسيما أنت؛ إذ لست بأبديّ هنا، ولستَ من حديدٍ ولا شجر حتى يطولَ بقاؤك، بل من لحمٍ متجدّد ودمٍ متردد وروابط في غاية رقة تتأثر بأدنى شيء. وقد تنقطع تلك، وينجمد هذا، ويتفسخ ذلك باختلال ذرتين، ولاسيما تَنفسَ فيك صبحُ المشيب وكَفّنَ نصفَ رأسك.. ولاسيما تضيّفَتْ بل توطنت فيك العللُ التي هي طليعة الموت، والأمراضُ التي هي مخالبُ هادم اللذات، مع أن أمامك عمرا أبديا ألقيتَه خلفك ظهريا، إنما ترتّبت راحته على سعيك هناك، مع أنك في حرصك وشَرهَك كمَن هوخالد وخَلُدَت له الدنيا خاصة.. فانتبه قبل أن تُنبّهك سكراتُ الموت..

اعلم أنك إذا توجهتَ إليه تعالى بعنوان المعلوم والمعروف يصير لك مجهولا ومنكرا، إذ هذه المعلومية والمعروفية نتيجةُ الأُلفة العُرفية والتسامع التقليدي، والتداول الاصطلاحي، وهي لا تغني من الحقيقة شيئا؛ بل ما يتراءى لك فيها مقيد لا يتحمل الصفات المطلقة. بل إنما هونوع عنوان لملاحظة الذات الأقدس..

وأما إذا توجهتَ إليه بعنوان الموجود المجهول، تكشّف لك عن أشعة المعروفية.. وعن بُروقِ شروقِ موصوفٍ لا تَثقل ولا تتعاظم عليه هذه الصفاتُ المطلقة المحيطة المتجلية في الكائنات، كما لا يثقل عليك حملُ قميصك من الحرير الرقيق ومنديلِك من الخز المنمنم.

اعلم كفاك فخرا بلا نهاية -لا كفخرك بكمال كبرائك- أن يكون لك مالكٌ قدير على كل شيء. ومن اقتداره -وهوهوالذي السماواتُ مطويات بيمينه، والأرضُ قبضته يوم القيامة- أنه يربيك بشفقةٍ أتمّ من شفقة أبويك، وأنت أنت: كقطرة في بحر، والبحر كنقطةٍ في صحراء، والصحراء كذرة بين عظائم مصنوعاته؛ إذ هونور الأنوار العالِمُ بالأسرار.. وليس من عظمة السلطان الإنساني عدم اشتغاله بتفاصيل جزئيات الأمور، بل من عَجزه وعدم اقتداره.. ومن عظمة سلطان الأزل أنه كما يكتب بقلم صُنعه على صحيفة السماء بمداد النجوم الدراري آياتِ ألوُهيته، كذلك يكتب بذلك القلم على صحيفة سواد العين بمداد الجواهر الفردة آياتِ ربوبيته…

فسبحان مَن هذه الأجرامُ العلوية والكواكب الدريَّة نيّراتُ براهين أُلُوهيته وعظمته، وهذه المصابيح المزينة والنجوم المتبسمة شعاعاتُ شواهد ربوبيته وعزته جلّ جلاله.

اعلم أن الأسماء الحسنى كلٌ منها يتضمن الكلَّ إجمالا، كتضمن الضياء للألوان السبعة.. وكذا كلٌّ منها دليل على كلّ منها، ونتيجةٌ لكلٍ منها، بينها تعاكسٌ كالمرايا. فيمكن ذكرُها كالقياس الموصولِ النتائجِ متسلسلا، وكالنتيجة المترتبةِ الدلائلِ. إلا أن الاسمَ الأعظم الواحدَ يتضمن الكلَّ فوق هذا التضمن العام. فيمكن للبعض الوصول إلى نور الاسم الأعظم بغيره من الأسماء الحسنى. فيتفاوت الاسم الأعظمُ بالنظر إلى الواصلين. والله أعلم بالصواب.


تضرّع و(نِياز)

إلهي لازمٌ عليّ أن لا أُبالي ولوفات مني حياةُ الدارين وعادَتْني الكائناتُ بتمامها؛ إذ أنت: «ربي وخالقي وإلهي».. إذ أنا مخلوقُك، ومصنوعُك، لي جهةُ تعلّقٍ وانتساب، مع قطع نهايةِ عصياني وغايةِ بُعدي لسائر روابط الكرامة. فأتضرع بلسانِ مخلوقيتي:

يا خالقي! يا ربي! يا رازقي! يا مالكي! يا مصوري! يا إلهي!

أسألك بأسمائك الحسنى واسمك الأعظم، وبفرقانك الحكيم وبحبيبك الأكرم، وبكلامك القديم، وبعرشك الأعظم، وبألفِ ألفِ ﴿قُلْ هواللّٰهُ اَحَدٌ﴾ ارحمني يا الله، يا رحمنُ، يا حنّانُ، يا منّانُ، يا ديّانُ.. اغفر لي يا غفّارُ، يا ستّارُ، يا توّابُ، يا وهّابُ.. أعفُ عني يا ودودُ، يا رؤوفُ، يا عفوّ، يا غفورُ.. اُلطف بي يا لطيفُ، يا خبيرُ، يا سميعُ، يا بصيرُ.. وتجاوز عني يا حليمُ، يا عليمُ، يا كريمُ، يا رحيمُ.. ﴿اِهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمَ..﴾ يا ربُ، يا صمدُ، يا هادي.. جُد عليَّ بفضلِكَ يا بديعُ، يا باقي، يا عدلُ، يا هو.. أحيِ قلبي وقبري بنور الإيمان والقرآن يا نورُ، يا حقُ، يا حيُّ، يا قيّومُ، يا مالكَ الملكِ يا ذا الجلال والإكرام، يا أوّلُ، يا آخرُ، يا ظاهرُ، يا باطنُ، يا قوّيُ، يا قادرُ، يا مولايَ، يا غافرُ، يا أرحمَ الراحمين.. أسألك باسمك الأعظم في القرآن.. وبمحمد عليه الصلاة والسلام الذي هوسِرُّكَ الأعظم في كتاب العالم أن تفتحَ من هذه الأسماء الحسنى كواتٍ مُفيضةً لأنوار الاسم الأعظم إلى قلبي في قالبي، وإلى روحي في قبري.. فتصير هذه الصحيفة كسقف قبري، وهذه الأسماء ككوات تُفيضُ أشعة شمسِ الحقيقة إلى روحي.إلهي أتمنى أن يكون لي لسانٌ أبدي ينادي بهذه الأسماء إلى قيام الساعة، فأقبلْ هذه النقوش الباقية بعدي نائبا عن لساني الزائل.

اَللَّهُمَّ صلِّ وسلِّمْ على سيدِنا محمدٍ صلاةً تُنجينا بها من جميع الأهوال والآفات، وتقضي لنا بها جميعَ الحاجات، وتُطهّرنا بها من جميع السيئاتِ، وتغفرُ لنا بها جميع الذنوب والخطيئات..

يا الله، يا مجيبَ الدعوات! اجعل لي في مدة حياتي وبعد مماتي، في كل آن أضعافَ أضعاف ذلك.. ألفَ ألفِ صلاةٍ وسلامٍ مضروبَين في مثل ذلك وأمثال أمثال ذلك، على سيدنا محمد وعلى آلِهِ وأصحابه وأنصاره وأتباعه.. واجعل كل صلاةٍ من كل ذلك تزيد على أنفاسيَ العاصية في مدة عمري.. واغفر لي وارحمني بكلِّ صلاةٍ منها برحمتك يا أرحمَ الراحمين.. آمين..