ذيل الزهرة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله على نعمته بإنزال القرآن، وعلى رحمته بإرسال سيد الأنام، عليه وعلى آله الصلاة والسلام.

اعلم أن الفاطر الحكيم جل جلاله جعل النباتات والحيوانات -لا سيما صغارهما- من أوسع ميادين تصرفات قدرته، ومن أكثر مظاهر تجليات صفاته، ومن أغلب مرايا جلوات أسمائه؛ لأسرارٍ غالية وحكمٍ عالية:

منها: أن النبات كالنواتات للأرض، وأن الحيوان ثمرةُ العالم. والنواة أنموذج مصغّر للشجرة، والثمرة مثال مصغر لها. فكل ما يتجلى عليها يتجلى عليهما أيضا.

فما دام أن غايات الخلقة والحياة هي المظهرية لتجليات أسماء ذي الجلال والجمال والكمال المطلق، تكون العناية بتكثير جزئيات النبات والحيوان، لاسيما دقائقهما هي الأوفق للحكمة الأزلية.

روي أن موسى عليه السلام اشتكى إلى الله من كثرة البعوضات الهاجمة عليه، وسأل: «ما الحكمةُ في تكثيرها؟.. فأوحى إليه: أن البعوض يَسأل: لِمَ خلقت هذا الإنسان بهذه الجسامة، وهويغفل عنك؟ ولوخلقت رأسه بعوضاتٍ لبلغت مائة ألف مسبحين بحمدك في عالمهم، وذاكرين لك بين إخوانهم، مظهرين لجلوات أسمائك ونقوش صنعتك بلسان قالهم وحالهم».

نعم، إن القرآن المعنوي المكتوب بمداد النجوم على صحائف طبقات السماوات، إذا قَرَأَ على الأنظار آيات العظمة والجبروت التكوينية، يقرأ معه -رأسا برأس- القرآنُ المكتوب بمداد الجواهر الفردة على جزء لا يتجزأ في حُجيرة عينك: آياتِ العلم والحكمة.

فإذا سمعت من ذاك: سبحانه ما أعظمَ شأنه! سمعت من هذا أيضا: سبحانه ما أدق حكمته وما ألطف صنعته! فإذ تساوى القرآنان، واقتضت الحكمةُ تكثيرَ نسخ أحدهما -وتكثيرُ نُسَخ الكبير لا يفيد الناظرين- فلا بد من تكثير نسخ الصغير للمطالعين المتفكرين الغير المحدودين، من المَلَك والجن والإنس وغيرهم. وفي تكثير النسخ لا يبقى الكتاب كتابا واحدا، بل تتنوع الكتب وتتفاوت الفوائد وتتعدد المفاهيم، فتتلاحق الأمثالُ فيتزايد الحُسن والجزالة. ولولا إدراجُ كثير من سور الكتاب الصغير ونُسَخه في بعض حروفات القرآن الكبير لفاق الصغير على الكبير بدرجة صغره!

ومنها أيضا: أن أتم التجليات؛ تجلي الأحدية. وأكملَ الصنعة؛ إدراجُ الأكبر بتمام نقوشه في الأصغر. وأن الثمرة والنواة بالنسبة إلى النبات، وأن النبات والحيوان بالنسبة إلى الأرض، وأن الإنسان والنبي بالنسبة إلى العالم. وأن القلب والسر بالنسبة إلى الإنسان..أنموذج مختصٌر جامعٌ مُظهِرٌ لجميع الأسماء المتجلية على الأصل والكل والمحيط.

وأن الثمرة -مثلا- كما أنها «جزء» من الشجرة وهي «كلُّها»، فتشير من هذه الجهة إلى الواحدية.. كذلك كـ«الجزئي» لها تشتمل على تمام الشجرة وهي «كلّيها» فترمز بهذه الجهة إلى الأحدية.. فالواحدية شاهدة الوحدة عند تجلي الأحدية في مرايا الكثرة والجزئيات.

مثلا، –﴿وَلِلّٰهِ الْمَثَلُ الْاَعْلٰى-: إن الضياء المحيطَ في النهار مثالُ الواحدية، وتمثال الشمس في كل ذرة شفافة وقطرةٍ وحوضٍ وبحرٍ ونجوم سيارة مثال لتجلي الأحدية. فإذا رأيت الشمسَ في مرآتك بلَون مرآتك، وبما تقتضيه وضعيتّها، ثم رأيتَها في مرايا أخرى، فتنظر إلى الضياء، فيشهد لك بالوحدة، وأن لا كثرةَ في المتجلّي، كما تتوهم. وتنشد الكثرة والمرايا:

عِبَارَاتُنَا شَتَّى وَحُسْنُكَ وَاحِدٌ  وَكُلٌّ إلى ذَاكَ الْجَمَال يُشِيرُ

فيُتحدس من هذه الأسرار، أن الفاطر الحكيم -جلّت حكمته، ودقّت صنعته- متوجهٌ بألطف قدرته وأتمّ عنايته وأكمل رحمته وأدق حكمته من العالم إلى الأرض، ومنها إلى ذوى الحياة، ومنهم إلى الإنسان، ومن فرد الإنسان إلى قلبه، ومن نوع الإنسان إلى ما هوقلبُ النوع وقلبُ العالَم ونواتُه التي خُلق العالَمُ عليها، وثمرتُه المنوّرة التي انتهى إليها مخلوقا لأجلها، وتمثال محبة فاطر العالم، ومثال رحمته.. وما ذلك القلب العالي الغالي المطهّر المنـزّه إلّا سيدنا وسيد الأنام محمد عليه صلوات وتسليمات بعدد ثمرات شجرة العالم.

اعلم يا من يتوهم الإسرافَ والعبثيةَ في بعض الموجودات! أن كمالَ النظام والميزان في إنشاء كل موجودٍ يطرد هذا الوهم؛ إذ النظامُ خيط نُظم فيه الغايات المترتبة على الأجزاء الجزئية والتفاصيل الفرعية. ومن المحال أن يراعي أحدٌ كلّ غايات تفاصيل قصرٍ -بدلالة انتظام بنائه- ويترك غايةَ المجموع التي بها تصير الغاياتُ الجزئية غاياتٍ.

فإن شئت التحقيقَ فاستمع يا من له قلب شهيد وسمعٌ حديد!: إن لكل شيء غاياتٍ دقيقةً كثيرةً تعود منها إلى الحي القيوم المالك بمقدار مالكيته وتصرفه بمظهرية الشيء لأنواع تجليات أسمائه، وما تعود إلى الحي إلّا بدرجة تلبّسه الجزئي.

وإن كلَّ شيء من الأشياء يصير هدفا مشتركا بين ذوي العقول، فلا يصير عبثا أصلا؛ إذ إذا لم يطالعه هذا هنا الآن، طالعه هؤلاء، ومع أن وجوه استفادة كل أحدٍ من كل شيء في غاية الكثرة، وأن جنودَ الله لا تُحصى ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ اِلَّا هو﴾ (المدثر:31). فلا شيء في الكون إلّا ويتزاحمُ عليه -بلا مزاحمةٍ- أنظارُ مَن لا يُحصى من الملائكة المسبّحين المقدّسين بأجناسهم وأنواعهم المالئين للكون، ومن الجان المتحيرين المتفكرين باقتسامهم وأصنافهم، ومن الأرواح المكبّرين المهللين بطوائفهم، وقبائلهم وغيرهم ممن لا يمنعهم كثيفاتُ الأشياء عن رؤية ما في أجوافها، ولا يشغلهم شهودُ شيء عن شيء، وفوق الكل رؤيةُ صانعِ الكلِّ لصنعته.. وكذا كثير من الناس المؤمنين المتنبهين، بل وكذا الحيوانات المتحسسات المتأثرات بحواسهم.

فإن قلتَ: أيةُ آياتِ كتابِ الكائنات تدل على وجود معتبِرين ومتحيرين ومتفكّرين ومسبحّين من غير الإنسان؟ وأي سطرٍ من ذلك الكتاب يشير إليه؟.

قيل لك: آيةُ النظام في سطر الميزان من صحيفة الحكمة؛ ألا ترى أنك إذا ذهبتَ إلى دار تمثيل -مثلا- فرأيتَ في تلك الدار أنواعا كثيرة من الغرائب التي تتحير فيها الأنظارُ، وأصنافا من الملاهي التي تستحسنها الأسماعُ، وأقساما متنوعة من السحر والشعبذة التي تتلذذ بها العقول والخيال. وهكذا من كل ما يتلذذ به ما لا يحد من لطائف الإنسان وحواسه وحسياته، ثم نظرتَ في ساحة محل التمثيل، فما رأيت إلّا صبيانا صما عميا مفلوجي الحواس والحسيات إلّا قليلٌ منهم. فبالضرورة العرفية تتفطن وتتيقن بأنّ خلفَ هذه الحُجُب والأستار المرسَلة على وجوه الجدار عقلاءَ مختلفين في الأذواق والمشارب لهم حواسُ سليمة جاءوا للتنـزّه، يشتاقون لكل ما أُبدع وشُهِر في ذلك المجلس، ويرونك والتمثيلَ من حيث لا ترونهم.

فإذ تفطنت لسر التمثيل، فانظر من دار الدنيا إلى هذه المصنوعات؛ فمنها كزرابي مبثوثة، وفُرُشٍ مرفوعة، وحللٍ ملبوسة، وحلية منثورة، وصحائفَ منشورة.. ومنها أزاهير وثمرات اصطفت؛ تدعوبألوانها وطعومها وروائحها ذوى الحياة وأصحابَ الحاجات، وتدعوبنقوشها وزينتها وصنعتها أُولي الألباب وذوى الاعتبار.. ومنها نباتات شَمّرت عن ساقاتها لوظيفة خلْقَتها، وحيواناتٌ قامت على أرجلها لوظيفة عبوديتها، وأكثرها لا تشعر بما أُودع في أنفسها من المحاسن الرائقة واللطائف الفائقة، فليست تلك اللطائفُ والمحاسن لِحَمَلَتَها البُهْمِ العُجْمِ، بل ما هي إلّا لغيرها السميع البصير.. ومنها إلى ما لا يحد ولا يعد.

فمع كل هذه الحشمة الجلابة والزينة الجذابة، وأنواع التلطيفات والتوددات، وأنواع التحببات والتعرفات، وأقسام التعهدات والتعمدات وأصناف التزينات والتبسمات وأشكال الإشارات والجلوات، وغير ذلك من ألسنة الحال التي كادت أن تنطقَ بالقال مع أنه لا نرى ظاهرا في ساحة الدنيا من ذوي الاعتبار والابتصار إلّا هؤلاء الثقلين اللذين صيرت الغفلةُ أكثرَهم كصبيانٍ صمٍ عميٍ فلج في ظلمات طاغوت الطبيعة يعمهون.

فبالحدس الصادق وبالضرورة القطعية وبالبداهة العقلية، لابد أن يكون الكون مشحونا من ذوي الأرواح المعتبِرين المسّبحين مما عدا الثقلين. كما قال مَن قولُه القول:

﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمٰوَاتُ السَّبْعُ وَالْاَرْضُ وَمَنْ فيهِنَّۜ وَاِنْ مِنْ شَيْءٍ اِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه وَلٰكِنْ لَا تَفْقَهونَ تَسْبيحَهُمْۜ ﴾ (الإسراء:44).

اعلم أن بمقدار توسع تصرف القدرة في الجزئيات وتزييدِ الأمثال تتقوى العناية بالفرد. فلا تقل: أنا قطرة في بحر، فيُنسيني البحرُ. كلا! بل البحر شاهدٌ على أنك بنسبة محاطيتك به محفوظ أبدا بنظام قوي نافذ بقوته في جميع أمثالك؛ إذ بدرجة الصغر والخفاء والمُحاطية يتزايد الاهتمامُ به، والمصونيةُ من الإهمال، والمحفوظيةُ من مداخلة الغير، ومن لعب التصادف، ويزيد ظهورُ المخلوقية والمجعولية.

ألا ترى أن المركز أصونُ من تسلط الغير والمهاجمات، وأن النواة أحصنُ من لعب التصادفات وتعجيز العاصفات، وأن الاهتمامَ بالنواة أشد؟

أيها الإنسان! أنت نواة الأرض والأرضُ بيضة العالم. ومن هذا السر يُكثر القرآن ذكرَ خلق السماوات والأرض ويجعله عنوانا لخلق كل شيء.

اعلم وانظر إلى كمال النعمة في كمال الحكمة، وكمال الحكمة في كمال النظام، وكمال النظام في كمال الميزان، في صنعة الحواس الخمسة الإنسانية؛ إذ فطَرها فاطرُها بوضعيةٍ وجهّزها صانعُها بجهازاتٍ، يحس الإنسان بها ويُذَوِّقُ صاحَبَها خصوصياتِ جميع أنواع الثمرات والأزهار والأصوات والروائح وغيره، حتى إن في حاسة الذائقة حسياتٍ رقيقةً دقيقةً منتظمة بعدد طعوم جميع أجناس الثمرات وأنواعها وأصنافها.. وهكذا حاسة السمع لخصوصيات ما لا يحد من الأصوات. وقس سائرَ الحواس الظاهرة، ولاسيما الباطنة التي هي أكثرُ غناءً وجهازا.

ومن هذا السر؛ بلغت جامعيةُ فطرة الإنسان إلى درجةٍ صيّرَت هذا الإنسانَ: مظهرا لما لا يحد من أنواع تجلياتِ أسماءِ فاطره جلّ شأنه، وذائقا لما لا يعدّ من ألوان نِعمه، عمّ نواله.

مَثَلك أيها الإنسان، كمثل المركز العمومي للتلفون، فكما أن فيه لمخابرة كل موقع في الولاية مفتاحٌ خاص، كذلك فيك لحسِّ ذوقِ جميع أنواع نِعَمه، ولذوق لذة مظهريتك لما لا يحد من أقسام تجلياته مفاتيحُ مخصوصة عُلّقت برأسك ولطائفك، فاستعملْها كما يرضى به بارئُها، بالحركة بميزان شريعته.

ومن هذا السر: يمكن التفاوت بلا نهاية بين مراتبِ لذائذِ شخصين هما في عين جنةٍ وفي عين مكانٍ. وبشارةُ: «المرءُ مع مَن أحبَّ» قد تجمع بين الأدنى والأعلى.

اعلم أن ما يُرى عند اختلاط أشتات الأشياء وأوباشها من المُشوَّشيّة المنافية للنظام والميزان، فليس مما لعب به التصادفُ، بل خرج من صورة النظام إلى نقش الكتابة، لكن تلك الكتابة غير مقروءة بالسهولة للنظر الظاهري الأمي الناظر إلى معكوسها في مرآة الوهم!

ألا ترى أن تلك الأشتاتَ لوكانت بذورا، إذا تنبتت، تكشّفت عن نظام تام. فالجمع بينها كتابةٌ غريبةٌ لقلم القدر.

اعلم أن الحُجةَ القاطعة على خاتمية النبوة الأحمدية، إيصالُها حدودَ الدين في كل قاعدةٍ منه إلى حدٍ لا يُتَعَقَّل أوسعُ ولا أكملُ ولا أتمُّ منه.

مثلا، في مسألة التوحيد والربوبية، يقول:

﴿بِيَدِه مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ (يس:83)

﴿مَا مِنْ دَٓابَّةٍ اِلَّا هو اٰخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا﴾ (هود:56)

 ﴿وَالسَّمٰوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمينِه﴾ (الزمر:67)

﴿هوالَّذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْاَرْحَامِ كَيْفَ يَشَٓاءُ﴾ (آل عمران:6)

﴿هوالْاَوَّلُ وَالْاٰخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُۚ وَهوبِكُلِّ شَيْءٍ عَليمٌ﴾ (الحديد:3)

﴿وَمَا تَشَٓاؤُ۫نَ اِلَّٓا اَنْ يَشَٓاءَ اللّٰهُ﴾ (الإنسان: 30)

﴿وَنَحْنُ اَقْرَبُ اِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَريدِ﴾ (ق:16).

وكذا يحكم ذلك الدين بأن نهاياتِ ما تنقسم إليه المادة وتنبسط وتصل إليه حدود الماديات من الجواهر الفردة والذرات، وأعظمَ ثمراتِ العالم من الشموس والسيارات، متساويةُ الأقدام كتفا بكتف في امتثال أمرِ خالقها المنـزّهِ عن صفاتها، المقدس عن حدودِها ولوازماتها.

وفي مسألة الحشر والتوحيد، وصلَ إلى مرتبةٍ لا حدّ فوقها بالبداهة.

وهكذا في كل مسألةٍ مسألةٍ، فلا يمكن فيه الإكمالُ والإتمام بآخرَ. فحقُّه الأبديةُ والدوامُ إلى يوم القيام.

اعلم أن قلبي قد يبكي في خلال أَنِينَاته العربية بكاءً تركيا، بتهييج المحيط الحزين التركي، فأكتب كما بكيت:

[لا أُريد من كان زائلا لا أُريد

أنا فانٍ، مَنْ كان فانيا لا أُريد، أنا عاجز، من كان عاجزا لا أُريد

سلّمت روحي للرحمن، سواه لا أُريد

بل أُريد،

حبيبا باقيا أُريد.

أنا ذرةٌ، شمسا سرمدا أُريد.

أنا لا شيء ومن غير شيء، الموجوداتِ كلَّها أُريد.

* * *

لا تَدْعُني إلى الدنيا، فقد جئتُها ورأيت الفساد.

إذ لمّا حجبَت الغفلةُ أنوارَ الحق،

رأيتُ الأشياء والدنيا أعداءً ضارّين.

ذقت اللذائذ، ولكن وجدتُ الألم في زواله.

أما الوجودُ، فقد لبستُه،

آهٍ لا تسل كم عانيتُ من الألم في العدم.

إن قلتَ: الحياة، فقد رأيتُها عذابا في عذاب.

نعم، لما استتر نورُ الحق عني،

إذا بالعقل يتحول عقابا، ورأيت البقاء بلاء، والكمالَ هباء،

والعمر ذهب أدراج الرياح.

نعم، بدونه، انقلبت العلومُ أوهاما.

وأصبحت الحِكَمُ أسقاما، والأنوارُ ظلماتٍ، والأحياءُ أمواتا،

والأشياءُ أعداءً.

ولمستُ الضرَّ في كل شيء.

والآمالُ انقلبت آلاما.

والوجودُ هوالعدم بعينه. وصار الوصال زوالا.

والألم يعصرني مما لا بقاء فيه.

نعم، إن لم تجد اللّه فالأشياء كلُّها تعاديك؛

أذىً في أذىً، بل هوعينُ الأذى.

وإن وجدتَ اللّه،

فلن تجده إلّا في ترك الأشياء.

فرأيت بذلك النور: الجنةَ في الدنيا،

وبدت الأمواتُ أحياءً.

ورأيت الأصواتَ أذكارا وتسابيح.

والأشياء مؤنسةً، واللذائذَ في الآلام نفسِها.

والحياةَ أصبحت مرآةً تعكس أنوارَ الحق.

والبقاءَ رأيتُه في الفناء.

والذراتِ تلهج بالذكر.

يقطُر من ألسنتها وتتفجر من عيونها؛

شَهْدُ شهادة الحق.]

وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ  تَدُلُّ عَلى أَنَّهُ وَاحِدٌ

اعلم يا من يتوهم اللذةَ والسعادةَ الدنيوية في الغفلة وفي عدم التقيد بالدين!

أني جرّبتُ نفسي مرةً فرأيتُني على جسر امتدّ من رأس جبلٍ إلى رأس جبل شاهقَين، وتحتَهما وادٍ عميق في غاية العمق، وقد أظلم علينا الدنيا بما فيها.

فنظرت في يميني الماضي، فما رأيت إلّا ظلماتٍ عدَميّة مدهشة.. ثم في يساري المستقبلي، فما رأيت إلّا غياهب مهدِدة دهاشة.. ثم إلى تحتي، فرأيت عمقا إلى أسفل السافلين.. ثم إلى فوقي، فما رأيت إلّا غيما بُكما صُما يمطر الغمَّ واليُتمَ واليأس والبأس.. ثم في أمامي فرأيت في خلال الظلمات عفاريتَ وعقاربَ وليوثا وذئاباَ كاشرةً أسنانَها للافتراس.. ثم في خلفي، فما رأيت مددا ولا مغيثا ولا معينا.

فبينما أنا مدهوش مأيوس نادم من تجربتي! إذ نبهتْني الهدايةُ الربانية، فرأيت وقد طلع على الأنام قمرُ الإسلام وأشرقت شمسُ القرآن، فرأيت جسرَ الحياة: طريقا تمر بين جنان النِّعم السبحانية وتنتهي إلى جنة الرحمة الرحمانية.. ويميني الماضي: بساتينَ مزهرةً بالصُلَحاء، منورةً مثمرة بالأنبياء والأولياء تجري من تحتهم أنهارُ الدهور، وهم في البقاء خالدون.. ويساري: فراديسَ تزهر فيها الآمالُ والأماني برحمة الحنان المنان.. وفوقَنا: سحائبَ الرحمة تفيضُ علينا ماءَ الحياة، وفي خلالها تبتسم الشمس بأنوار الهداية والسعادة الأبدية.. وأما ما في أمامي من الكائنات، فإخواني وأحبابي وأنعامٌ مؤنسات، صوّرتْها ظلمةُ الضلالة وحوشا موحشات، فقرأت علينا هذه الواقعة: ﴿اَللّٰهُ وَلِيُّ الَّذينَ اٰمَنُواۙ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ اِلَى النُّورِۜ وَالَّذينَ كَفَرُٓوا اَوْلِيَٓاؤُ۬هُمُ الطَّاغُوتُۙ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ اِلَى الظُّلُمَاتِ (البقرة:257).

يا نورَ النور بحق اسمك النور أخرجنا من الظلمات إلى النور.. آمين..

اعلم أيها السعيد المجنون المحزون! إن مَثلَك كمثل صبي أبله قعد على ساحل البحر يبكي دائما لزوال الحبابات المتشمسة. كلما زال واحدٌ بكى عليه، ظنا منه انطفاءَ الشُميسة المتبسمة في الحباب بزوال الحباب وتحوله، وقد يبكي لتكدر ما في الحباب وتشوهه باختلاط موادَّ كثيفةٍ به، ولا يرفع رأسَه حتى يتفطن لتنـزّه الذات -التي هذه التماثيل جلواتُ أنوارها المتجددة على وجه البحر وخدود الأمواج وعيون القطرات- عن الزوال بزوال مرايا تجلياته، بل ليس في ما ترى زوالٌ مؤلم ولا فراقٌ أليم.

أما الجمال بمحاسنه وجلواته فثابتٌ بكمال حشمته في تجدد شؤونه وتعدد مراياه. وأما المرايا والمظاهر فتظهر لوظيفتها وهي راقصةٌ، فإذا تمت الوظيفةُ استترت وهي ضاحكة.

كذلك أنت، قاعد على ساحل بحر الدنيا تتألم باكيا على أُفول ذوي الكمال والجمال والحسن، وعلى زوال ثمرات النِّعم عند انقضاء أوانها، تزعم بالغفلة أن الجمالَ مِلكُ ذي الجمال والثمرات مال الشجرة، وتغتصبهما منهما عاصفات التصادفات فتلقيهما في ظلمات العدمات. أفلا تعقل أن من نوّر ما تحبه بنور الحُسن هوالذي نوّر كلَّ أزاهير بستان الكائنات وشوّق عليها قلوب البلابل العاشقين.

إلى كم تبكي أيها المسكين على زوال ما في يدك من الثمرة! فانظر إلى تواتر نِعَم فالق الحب والنوى في إبقاء شجرة تلك الثمرة.. ثم إلى دائرة إنعاماته في أقطار الأرض من أمثال تلك الشجرة إن عقمت.. ثم إلى دائرة تجدد إحساناته في تجدد الفصول والسنين إن صارت سنتُك شهباء.. ثم إلى دائرة إدامة إحسانه حتى في عالم المثال والبرزخ بأمثال ما شاهدتَ في عالم الشهادة.. ثم إلى دائرة إنعاماته الواسعة الأبدية في عالم الآخرة بأشباه ما استأنستَ به في حديقة الأرض، ثم.. و.. ثم.. وهكذا! فلا تنظر إلى النِّعمة بالغفلة عن الإنعام حتى تحتاجَ إلى التشفي بالبكاء، بل انظر من النِّعمة إلى الإنعام ودوامِه، ومن الإنعام إلى المُنعِم ووسعةِ فيضه وكمالِ رحمته، فاضحك شاكرا له، وبفضله فافرح.

وحتى متى تدمع عينُك ويجزع قلبُك على فراق جمالٍ زالَ! فانظر إلى كثرةِ ووسعة الدوائر المتداخلة المحيطة بما تحبه؛ تنسيك ألمَ فراقه بإذاقة لذةِ تجدُّد أمثاله وترادفِ أشكاله. وتلك الدوائرُ المتفاوتة صغرا وكبرا إلى أصغرَ من خاتمِك وأكبرَ من منطقة البروج، وزوالا وبقاءً إلى آنٍ ودقيقة وإلى دهر وأبدٍ؛ مظاهرُ ومرايا ومعاكسُ ومجاري لجلواتِ ظلالِ أنوارِ جمال ذي الجلال والإكرام الأزلي الأبدي السرمدي القيوم الباقي المقدَّس عن الحدوث والزوال المنـزّه عن التغيّر والتبدل. فلا تظنن أن ما في المرآة مُلك للمرآة، كي لا تبكي على ما في المرآة بموتها وانكسارِها، فارفع رأسَك عن الدنيا بخفضه إلى منظار قلبك لترى شمسَ الجمال، فتعلمَ أنّ كلَّ ما رأيتَ وأحببت إنما هومن آياته نِعَمٌ.. ومن آيات جماله أنْ زيّن السماء بمصابيحها والأرضَ بأزاهيرها.. ومن آيات حُسنه أنْ خلق الإنسانَ في أحسن تقويم.. وأن كتبَ العالَم في أبدع ترقيم.. ومن آيات بهائه أن أشرق أرواحَ الأنبياء ونوّر أسرارَ الأولياء وزيّن قلوبَ العارفين بأنوار جماله المجرد. جلّ جلاله.

اعلم يا أنا! أراك أنك لا ترى تناسبا بينك -وأنت عجزٌ مطلق وفقر مطلق، قد تضايقتْ عليك الحدود والقيود حتى صرت كذَرَّة غابت في رمال الجزئيات وكنملة تراكمت عليها جبال الحادثات، وكنحلة تفاقمت عليها العاصفات- وبين مَن لا نهاية لقدرته وغنائه، ولا حدَّ ولا قيدَ لتجليات أسمائه وصفاته، وجميعُ الخلق في قبضة قدرته، والسماوات مطوياتٌ بيمينه، لا تتحركُ ذرةٌ في الكون إلّا بإذنه، لا شريك له في مُلكه وألوهيته، ولا منازعَ له في جبروته وربوبيته، ولا إله إلّا هو.

نعم، لوكانت وظيفتُك في الدنيا الاشتراكَ مع فاطرك في ربوبيته سبحانه، لكانت المناسبة لازمة في المعاملة معه، لكن هيهات! أين يدُ البعوضة من نسجِ قميصاتٍ مطرّزات قُدّت على مقدارِ قامات هذه العوالم، بل وظيفتُك في فطرتك وغايةُ كمالك في استعداد ماهيّتك إنما هي: العبوديةُ التي على المحوية تنبّتَت، ومنها ابتدأت وإلى المحبوبية انتهت، وإياها أثمرت. والعبوديةُ ضد الربوبية والمالكية. فعدم المناسَبة هي المناسِبة. فبدرجة علمك ببعدك عن الربوبية والمالكية تصير عبدا محبوبا مرحوما.

وإن العبوديةَ مرآةُ الربوبية بالضدية ككتابة الحروف النورية على صحيفة الظلمة، فكلما تقربَت إلى العدم تراءت منها أعالي مراتبِ جلواتِ الوجود للواجب الوجود جل جلاله ولا إله إلّا هو..

اعلم يا من يتوهم المبالغة في بعض ما ورد في فضائل الأعمال! مثلا: قد يُروى: من فعل هذا مثلا كان له مثلُ ثواب الثقلين.. حتى قال بعض: إن المرادَ الترغيب فقط، وبعض: مطلق الكثرة. وقد انكشف لي في ما مضى أن القضيةَ في تلك المتشابهات مطلقةٌ وقتية يكفي في صدقها وجودُ الحُكم في بعض الأفراد، في بعض الأوقات، فليست تلك القضايا كلية؛ إذ لصحتها شرائطُ غيرُ مذكورة معروفةٍ. فإن كانت كليةً فهي قضيةٌ ممكنة، وكذا ليست دائمة، لتقيّدها بالإخلاص وبالقبول.

وقد انكشف لي الآن، أن الثوابَ فضلُ الله وفيضُه، ونظرُ العبد لا يحيط بما يعطي مَن لا نهاية لتجليات فيضه لعبده الذي لا نهاية لاحتياجه في دارِ بقاء لا نهاية لدوامها. فما من فيضٍ -إذا نظرتَ إليه من جانب الله-، إلّا وفيه جهةٌ من عدم التناهي لووزِنَ بجميع ما أحاط به علمُ العبد لزاد عليه. مثلا روي: من قرأ هذا أُعطي له مثلُ ثواب موسى وهارون عليهما السلام. المراد أن ما ترونَه وتتصورونه بنظركم المتناهي في هذا العالم المتناهي من ثوابهما لا يزيدُ على ثواب قراءة آيةٍ في نفس الأمر وبالنظر إلى الله بشرط القبول والإخلاص.

وكذا إن التشبيه في الكمية دون الكيفية، فللقطرة المتشمسةِ أن تقول للبحر لا يزيدُ وجهُك على عيني في أخذ فيض الشمس من ضيائها وألوانه.

نعم، إن الثواب ينظر إلى عالم الإطلاق، وذرةٌ من ذلك العالم تسعُ عالَما من هذا العالم، كما تسعُ ذرةٌ من زجاج عالمَ السماء بنجومها.

وكذا قد يتيسر لأحد فتحُ خزينةٍ من رحمة بكلمة طيبة في حالةٍ قدسية، فيقيس الناسَ على نفسه فيعبر عن القضية الشخصية بالمطلقة الموهِمة كليةً، والعلم عند علام الغيوب ومقلّب القلوب جل جلاله.

* * *