ذيل الشعلة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله والصلاة على نبيه.

اعلم أنه لا يتستر عن النور المحض المحيط شيءٌ من الأشياء، وكذا لا يخرج أمرٌ من الأمور عن دائرة القدرة الغير المتناهية؛ وإلّا لزم تناهي غير المتناهي بالتحديد بالمتناهي، وهومحال بوجوه.

وكذا إن الحكمة تعطي كلَّ شيء الفيضَ بقدَره، كما يقال: [كلٌّ بقدره].. وإنّ بقَدر الظرف يُغترف من البحر، وإن المقدِّر القدير الحكيم لا يَشغله صغيرٌ عن كبير، ولا خطيرٌ عن حقير. وإن المحيط الظاهر الباطن المجرد عن المادة لا يواري الأكبرُ عنه الأصغرَ. ولا النوعُ الفردَ. وإن الصغير مادةً قد يكون كبيرا من جهة الصنعة. وإن نوع الصغير عظيمٌ كثير كبير. وإن العظمة المطلقة لا تقبل الشركة أصلا ولا تتحملها.

وإن ما يشاهَد من الجود المطلق في السهولة المطلقة، في السرعة المطلقة، في الإتقان المطلق، مع إرادة التعرّف التام، مع محبة ذي الجمال مشاهدةَ جمالِه المطلق وكماله المطلق وتشهيرهما، ومع الرحمة المطلقة، والغَناء المطلق بشهادة الآيات التكوينية، ومع وجودِ ما لا يحد ولا يعد من الناظرين المتفكرين المشاهدين المعتبِرين.. يقتضي -بهذه الأسباب- بلا شك وجودَ أنواع الحوينات والطويرات أيضا، بل أَولى، إذ الصغيرُ الأدق أقربُ إلى الوجود، وإلى القدرة النورانية.

اعلم يا «أنا»، إذا كان نفسُك أحبّ إليك، لأنها أقربُ إليك من كل شيء؛ فلابد أن يكون ربُّك أحب إليك منك؛ إذ هوأقرب إليك من نفسك. ألَا ترى أن ما لا يصل اختيارُك وخيالُك إليه من أسرار ما رُكّب فيك، هوحاضر مشاهَد لربك.

اعلم أنه لا تصادف؛ فانظر إلى الرياض واستمع كيف تقرأ على الناظر بنهاية الانتظام في غاية الاختلاط، وكمال الامتياز في كمال امتزاج أشتات الأشياء.. آياتِ حكمة الصانع العليم المحيط.

اعلم أنك إن لم تُوَحِّدْ بنسبة كلِّ شيء إلى الواحد، تضطر إلى فرض وجود آلهة بعدد تجليات الله على جميع أفراد الأنواع في العالم. كما إذا أغمضتَ عينيك عن الشمس، وتغافلت عنها، وقطعت عنها نسبةَ الشُميسات المتلمعات في قطرات وجه البحر بتجليها، اضطررتَ إلى قبول وجود شموس بالأصالة فيها بعدد تلك القطرات. مع أن القطرة لا تسع أصغر مصباح، فكيف بسراج العالم!

اعلم أنه يشاهَد للمدقق أن طوائف المخلوقات وأصناف المصنوعات تتسابق بالرقابة والاشتياق إلى التبرّج والتزين، للعرض والظهور، لنظرِ شاهدٍ جليل يشاهدها كلَّها، ودائما، وبجميع دقائق محاسنها؛ إذ المصنوعات تُظهِر بالمشاهدة هيئةً تتضمن ما لا يتناهى من لطائفِ إتقان الصنعة الجالبة لنظر الدقة، والاستحسان والحيرة. فما هذا التهالك بالمسابقة للظهور، متزينة إلّا لأجل العرض لنظر لا يتناهى. وما هوإلّا نظر الشاهد الأزلي الذي خَلَقَ الخلق ليشاهِد في مرايا أطوارها جلواتِ أنوارِ جماله وجلاله وكماله.. ثم يستشهدَ عليها شهداء تعرّفَ إليهم، بإراءة ذلك الكنـز الخفي. فأعلى غاياتِ وجود الشيء وأغلى حقوقِ حياة الحي هوالمشهودية والظهور لنظر فاطره، بمظهريته لآثار أسمائه. وألذُّ لذائذ هذه الحياة هوالشعور بهذا الشهود.

وأما الظهور لأنظار إخوانه من المخلوقات فهوأيضا غاية، لكن نسبتها إلى الغاية الأولى كنسبة المتناهي إلى غير المتناهي.

وأما ما اشتهر بين الناس من «حق الحياة» -وهوحفظ الحياة مع نوع راحة- فأقلُّ وأصغر وأدنى وأحقر من أن يكون جزءا من ملايينِ أجزاءِ «حق الحياة»، تلك الحياة التي هي من أعلى وأغلى وأعجبِ وأغربِ وألطف وأشرف معجزاتِ قدرة الحي القيوم الأحد الصمد. بل ما هوإلّا وسيلة، وإنما يتشرف ما بقي وسيلةً، فإذا ترقى إلى المقصِدية، سقط بالزوال هباءً منثورا.

أتظن -أيها الغافل- أن غايةَ عجيبِ صنعةِ الرمانة مثلا، هي أكلُك ومضغك في دقيقة بغفلة.. كلا، بل إنما هي كلمةٌ أفادت معناها للمكوِّن سبحانه، وللكون؛ فوفّتْ فتوفّتْ فدُفنتْ مِن فيكَ فيك، ويكفي من الزمان والبقاء لهذه الغاية آنٌ سيال.. فلا عبثية.

وكذا فاعلم أن من له جمال فائق، فلذتُه الحقيقية في المشاهدة لجماله شهودا بالذات، وشهودا بإراءة مصنوعاته لمخلوقاته فيشهدونها.. فيشهد أيضا في شهودهم بشهودهم. وأما لذة التفوق بملاحظة الغير فغيرُ ذاتيةٍ، بل عرضيةٌ ضعيفة، ومشوبة مخصوصة بالأمور النسبية.

وأما ذوالكمال الذاتي والجمال الحقيقي المجرد السرمدي، المحبوبُ لذاته لذاته، الذي له المثل الأعلى، فقد أخبرنا على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام «أنه خَلق الخلق ليُعرف».. أي صوّر مرايا ليشاهِد فيها تجلياتِ جماله المحبوبِ لذاته بذاته.

اعلم أيها الفاني، كفاك بقاءً أنك مشهودُه في علمه ومعلومُه في شهوده بعد فنائك من بعض الوجوه. «يا هو» أعطِ كل شيء لصاحبه الحقيقي وانسبه إليه. وخذه باسمه. ثم استرِح، وإلّا اضطررت إلى قبول آلهة بعدد تجليات الله كما مرَّ آنفا. بل بعدد ذرات الكائنات كما مر مرارا أيضا. وكذا بعدد أجزاء التراب.. إذ أيّ جزء من التراب تراه، يصلح لحصول ما لا يعد من المصنوعات المنتظَمة المتنوعة.

فسبحان من تنـزّه عن الأشباه ذاتُه. وتقدست عن مشابهة الأمثال صفاتُه. ودلّت على وحدانيته مصنوعاتُه. وشهِدت بربوبيته آياتُه. وأحاط بكل شيء علمُه وقدرتُه.
جلّ جلالُه. ولا إله إلّا هو.