اعلم يا أيها الأوروبا!([1]) إنك أخذتَ بيمينك الفلسفةَ المضلة السقيمة، وبيسارك المدنية المضرة السفيهة، تدّعي أن سعادة البشر بهما. شُلّت يداك وبئست هَديتاك.

ألا يا ناشر الكفر والكفران! هل يمكن لمن أُصيب في قلبه وعقله ووجدانه وروحه بمصائبَ هائلة، السعادةُ بكونه في ذروة الرفاه والزينة بجسمه؟ ألا ترى أن مَن انكسر خيالُه أوخابَ من أمل وهميّ أوانقطع رجاؤه من أمر جزئي كيف يَمَرّ له الحلوويعذّبه العَذبُ اللذيذ وتضيق عليه الدنيا؟ فكيف بمَن أُصيب بشؤمك في أعماق قلبه وروحه باليُتم الروحي والضلالة التي فيها انقطاعُ كلِّ الآمال وانشقاقُ كل الآلام؟ فهل يقال لمَن روحُه مع قلبه في جهنم، وجسمُه في جنةٍ كاذبة زائلة: إنه مسعود؟

فاستمع أيها الروح المفسد لما يُتلى عليك، أَذكر لك واحدا فقط، من أُلوف المهالك التي أوقعت البشرَ فيها، وأُقدّم لإيضاحه مثالا.

مثلا: هاهنا طريقان؛ فذهبنا في هذه، فنرى في سيرنا بمد النظر في مدة السفر عند كل خطوة رجلا عاجزا يتهاجم عليه رجالٌ غُلَّبٌ يغتصبون مالَه ودوابَّه ويخرّبون بيتَه، وقد يجرحونه بحيث تبكي عليه السماء، فأينما نظرنا نرى الحال على هذا المنوال بحيث لا تسمع إلّا صيحات الظالمين ونياحات المظلومين، فطمّ عليهم المأتم العمومي. فبسر: «أن الإنسان يتألم بألم الغير» والحال أن الوجدان لا يتحمل التألم بهذه الدرجة، يضطر الناظرُ للتجرد عن الإنسانية والتزام نهاية الوحشة بتبطّن قلبٍ لا يبالي بهلاك الناس عند سلامته.

فيا أوروبا! أهديتَ بدهائك الأعور لروح البشر هذه الحالة الجهنّمية، ثم تفطنتَ لهذا الداء العضال دواءً لإبطال الحسّ في الجملة، وهوالملاهي الجذابة والهوسات الجلابة. فتعسا لكَ ولدوائك.

ثم ذهبنا في الطريق الأخرى؛ فترى في كل منـزل وفي كل مكان وفي كل بلاد عساكر موظفين منتشرين في الآفاق والطرق، فيجيء بعضُ المأمورين فيرخّصون بعضَهم من الوظيفة ويأخذون سلاحَهم ودوابهم ولوازماتهم الميرية ويعطون لهم تذكرة الإذن، فيفرحون بالترخيص وبالرجوع إلى المَلِك وزيارته باطنا، وإن حزنوا بترك المألوف ظاهرا. ونرى أنه قد يصادف المأمورون نفرا عجميا لا يعرفهم فيقول لهم: أنا عسكر السلطان وفي خدمته، وإليه أرجع، فإن جئتم بإذنه ورضائه فعلى الرأس والعين، وإلّا تَنَحوا عني لأقاتلنّكم وحدي ولوكنتم أُلوفا، لا لنفسي بل لحفظ أمانة مالكي، وحماية حيثية سلطاني وعزته. وهكذا نرى في مد طريقنا ومدة سفرنا تحشيدات بتهليل وسرور تسمى «تولدات»، و«ترخيصات» بتكبير وحُبور تسمى «وفيات». فالقرآن الحكيم أهدى للبشر هديةً لواهتدوا بها لسلكوا بها في مثل هذا الطريق.. ﴿لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (يونس:62).

فيا أوروبا! تزعم أن كل ذي حياة من أصغر السمك إلى أكبر المَلَك مالكٌ لنفسه ويعمل لذاته وإنما يسعى للَذته، له حق حياة وغايةُ همته حفظ البقاء. وما ترى فيما بينها من «التعاون» المأمور به من جانب خالقها: كإمداد النباتات للحيوانات والحيوانات للإنسان، تظنه «جدالا».. حتى حكمتَ بأن «الحياةَ جدال». فيا سبحان الله كيف يكون إمدادُ ذرات الطعام بكمال الشوق لتغذية حُجيرات البدن جدالا وخصاما؟ بل إنما الإمدادُ تعاونٌ بأمر رب كريم.

والدليل على أن ذا الحياةِ ليس مالكا لنفسه، هو: أنَّ أشرفَ الأسباب وأوسعَها «اختيارا» الإنسانُ. والحال أنه ليس في يدِ اختيارِه ودائرةِ اقتدارهِ من أظهر أفعاله الاختيارية -كالأكل والكلام والتفكر- من المائة إلّا جزء واحد منهم. فإذا كان الأشرف الواسع الاختيار هكذا مغلولَ الأيدي عن التملك والتصرف الحقيقي، فكيف بسائر البهيمات والجمادات؟

وما ورّطك في هذا الخطأ إلّا دهاؤك الأعور؛ إذ نسيَ ربّه الذي هوخالق كل شيءٍ، واستند بالطبيعة الموهومة وأسندَ الآثار إلى الأسباب، وقسَّم مالَ الله على الطواغيت. فعنده يضطر الإنسان وكل ذي حياة أن يصارعَ مع ما لا يُعد من الأعداء لتحصيل ما لا يحد من الحاجات، باقتدارٍ كذرة، واختيار كشعرة، وشعور كلمعة تزول، وحياة كشعلة تنطفئ، وعمرٍ كدقيقة تنقضي؛ مع أنه لا يكفي كلُّ ما في يده لواحد من مطالبه. فإذا أُصيب بمصيبة لا يستمد إلّا من أسباب صمّ وعمي: ﴿وَمَا دُعَٓاءُ الْكَافِرينَ اِلَّا في ضَلَالٍ﴾ (الرعد:14) فقَلَب دهاؤك المظلم نهارَ البشر ليلا متنورا بأنوار كاذبة مستهزية. وصَيَّر كلَّ ذي حياة في نظر تلاميذه كالرجل المسكين المبتلى بهجوم الظلمة كما رأينا في الطريق الأُولى.. ويرى في الدنيا مأتما عموميا، ويرى الأصواتِ نعياتِ الموت ونياحات اليتامى. وصيَّرَ تلميذَه الخاص: «فرعونا» لكن يعبد أخسَّ الأشياء، ويرى كلَّ سبب نافع أنه ربُّه.. «متمردا» لكن يتمسكن بنهاية الذلة للذَّته. ويقبّل رِجلَ الشيطان لمنفعة خسيسة.. و«جبارا» لكن لعدم نقطة الاستناد عاجزٌ في ذاته بغاية العجز.

وإن غايةَ همة تلميذك: بطنُه وفرجُه أومنفعةُ قومه، لا لقومه بل لأجل منفعة نفسه أوتطمين رقة الجنسية، أوتسكين حرصه وغروره. ولا يحب إلّا نفسَه، ويفدي لها كلَّ شيء.

وأما خالص تلميذ القرآن فـ«عبد» لكن لا يتنـزل للعبودية لأعظم المخلوقات ولا لأعظم المنفعة ولوكانت جنة.. و«ليّن هيّن» لكن لا يتذلّل لغير فاطره إلّا بإذنه.. و«فقير» لكن يستغني بما ادّخر له مالكه الكريم.. و«ضعيف» لكن يستند بقوة سيده الذي لانهاية لقدرته. ولا يرضى تلميذهُ الحقيقي حتى بالجنة الأبدية مقصدا وغايةً، فضلا عن هذه الدنيا الزائلة. فانظر إلى درجة تفاوت همة التلميذين.

وكذا، ما يرى أعظمَ الأشياء كالعرش والشمس إلا مخلوقا عاجزا مسخّرا مأمورا، ويرى في روحه علاقةً شديدة مع كل الصالحين من أهل السماوات والأرض، فيدعولهم من صميم قلبه، كما يدعوالمرء لأهل بيته.

فانظر التفاوتَ بين مروءة التلميذين؛ ذاك يفر من أخيه لنفسه، وهذا يرى كل العباد إخوانَه. والقرآن يعطي ليد تلاميذه بدلَ هذا التسبيح العادي أعدادَ ذرات الكائنات فيسبّحوا لله، وفي أيديهم بدل التسبيح الذي عدده تسعة وتسعون «سلسلةُ جميع ذرات الكائنات» فيقرؤون أورادَهم بذلك التسبيح العجيب، ويذكرون ربَّهم بأعداد ذلك، بل يزيدون.. فانظر إلى تلاميذ التنـزيل من الأولياء أمثال الكيلاني، والرفاعي، والشاذلي كيف أخذوا في أياديهم سلاسلَ الذرات والقطرات وأنفاس المخلوقات وغيرها كالتسبيح يذكرون الله بها، بل يستقلّونها فيمدون أيديهم إلى ما لا يتناهى من عدد معلومات «علام الغيوب»! انظر إلى هذا الإنسان الذي يصارعه أصغرُ مكروب ويصرعه أدنى كرب، كيف ترفَّع وانبسط لطائفُه بفيض إرشاد القرآن، حتى استصغر الدنيا أن تكون تسبيحا لوِرده، واستقل الجنةَ أن تكون غايةً لذكره! ومع ذلك لا يرى لنفسه فضلا على أدنى شيء من خلقه سبحانه.

وأما هَدي القرآن فيقول: يا أيها الإنسان إن ما في يدك أمانةٌ، ومُلكٌ لمالك قدير على كل شيء وعليم بكل شيء، رحيم بك، كريم يشتري منك مُلكَه الذي عندك ليحفظَه لك، لئلا يضيعَ في يدك، وأجَّل لك ثمنا عظيما وأنت مأمور وموظف كالعسكر فاعمل بحسابه وباسمه، وهوالذي يرزقك ما تحتاج إليه، ويحفظك مما لا تقتدرُ عليه. وغايةُ حياتك: مظهريتُك لتجليات أسمائه وشؤونه. فإذا أصابتك مصيبةٌ فقل: «إنّا لله وفي خدمته، فإن جئتِ أيتها المصيبة بإذنه ورضاه فمرحبا بك: إنّا إليه راجعون وإلى رؤيته مشتاقون. وسيعتقُنا من تكاليف الحياة يوما ما، فليكن على يدك وإن جئت بإرادته وأمره فقط ابتلاءً دون إذنه ورضاه فلا أُسلّم أمانته لغير الأمين ما استطعت».

فحقيقة الحال في الطرفين على هذا المنوال. لكن درجات الناس متفاوتة في الهداية والضلالة. ومراتب الغفلة مختلفة. لكن الغفلة أبطلت الحس بدرجة لا يحس المدنيّون بإيلام هذا الألم الأليم، ولكن بتزايد الحساسية العلمية وإيقاظات الموت تتشقق الغفلة. فويل ثم ويل لمن ضلّ بطواغيت الأجانب.

فيا شبان الترك! فهل بعد كل ما رأيتم من ظلم أوروبا معكم وعداوتهم لكم تتبعونهم في سفاهاتهم وأفكارهم بل تلتحقون بصفّهم بلا شعور؟.. ألَا إنكم تَكذبون في دعوى الحمية، إذ هذا الاتّباع استخفافٌ بالمليّة واستهزاء بالملة. هدانا الله وإياكم إلى الصراط المستقيم.

اعلم يا من يستكثر عددَ الكفار ويتزلزلُ باتفاقهم على إنكار بعض حقائق الإيمان!

أما أولا: إن القيمةَ ليست في الكمية، إذ الإنسان إذا لم يصر إنسانا انقلبَ حيوانا شيطانا، لأن الإنسان إذا ترقى في الاحتراصات الحيوانية كالمنكرين للأديان، فهوأشد حيوانية. وأنت ترى كثرةَ كميات الحيوانات بلا حد وقلةَ الإنسان مع أنه هو الخليفة.

وثانيا: إن الإنكار نفي، وألفُ نافٍ لا يرجَّحون على اثنين من أهل الإثبات.

فإن قلت: كافرٌ ما هو؟

قيل لك: فالكفار الذين لا دين لهم نوعٌ خبيث من حيوانات الله، خَلَقهم لعمارة الدنيا، وللنار.. وليكون واحدا قياسيا لدرجات نِعَمه تعالى على عباده المؤمنين. وأما اتفاقهم على إنكار حق ونفيه فلا قوةَ في اتفاقهم بسر النفي. إذ الكفر نفيٌ وإنكارٌ وجهلٌ وعدمٌ، ولوكان في صورة الإثبات. مثلا: لونفى كلُّ أهل إستانبول رؤية الهلال؛ وأثبت رؤيتَه شاهدان، ترجّحا على إجماعهم بسر تساندِ الإثبات، ونظرِ الإثبات إلى نفس الأمر، ونظر النفي إلى نفس النافي وعندَه.

مثلا: لوطبّق الغيمُ في وجه السماء فرفعنا رؤوسنا، فما رأى الشمس من جميع أهل المملكة إلا حزبٌ قليل، فهل يُقبَل منك أن تقول: إن النافين متواترون، والرائون أقلّ قليل فاتّباع الأكثر أولى؟ كلا.. إذ لمن لم يرَ أن يقول: لا شمس عندي، وفي رؤيتي، دون لا شمسَ في نفس الأمر وفي وجه السماء. وهكذا فلتعددِ المدّعَى بهذا الاعتبار بين النافين لا يقوَى حُكمُ بعض ببعض. فإجماعُهم في قيمة الفرد كالاجتماع لحل مسألة، أوالمرور في ثقبة ضيقة. خلافا للمثبتين الناظرين إلى نفس الأمر لاتحاد المدّعَى وتعاونِ القوى، كالتساند على رفع صخرة عظيمة.

اعلم يا من يشوّق المسلمين على الدنيا ويدعوهم إلى صنائعها وترقياتها ويضربهم بعصا التشويق! تمهّل وتأمّل في رقة بعضِ حبالهم المربوطين بها بالدين، واحذر أن ينقطعَ قسمٌ من حبالهم فيصيرون ضررا محضا في الحياة الاجتماعية، بسرّ أن المرتدّ لا حقّ له في الحياة لانفساده بالكلية، خلافا للكافر، فالشريعة تعطي له حقَّ حياة، وأن الفاسق خائن ومردودُ الشهادة، لانفساد وجدانه خلافا للذمي في مذهب الحنفية. فاعتبر! ولا تغتَر بكثرة الفساق؛ فإن الفاسق لا يرضى بالفسق، وما طَلبه بالذات بل وقع فيه.. وما من فاسق إلّا ويتمنى أن يكون متقيا وأن يكون آمرُه متدينا صالحا، إلّا إن ارتدّ، العياذ بالله!

أتظن أن المسلمين لا يحبون الدنيا ويحتاجون لأن يُنبَّهوا ولا ينسَوا نصيبهم من الدنيا؟ كلا! بل اشتدَّ الحرصُ.. والحرصُ في المؤمن سببُ الخيبة؛ إذ الدعاةُ إلى الدنيا في كل شخص بكثرة؛ كنفسه واحتياجه وحواسه وهواه وشيطانه، وأمثالِكم من رفقاء السوء، وحلاوةِ العاجلة وغيرِها، مع أن الداعي إلى الآخرة الباقية بقلّة. فمن الحَمية والهمة إمداد القليل.

أم تحسب أن فقرنا من زهدنا؟ كلا.. ألا ترى المجوس والبراهمة وسائر مَن تسلط عليهم الأوروبائيون أفقرَ منا؟ أم أنت أعمى لا ترى أن ما زاد على القوت الضروري لا يبقى في يد المسلمين في الأكثر، بل يغتصبه أويختلسه الكفار بدسائسهم؟ وإن أردتَ من تمدنِهم، تسهيلَ إدارتهم وحصولَ الأمن في المملكة؛ فقد أخطأتَ الطريق. لأن إدارة مائةٍ من الفاسقين الذين فسدت أخلاقهم وتزلزَلَ اعتقادُهم أصعبُ من إدارة أُلوفٍ من المتدينين. فأهل الإسلام لا يحتاجون إلى التشويق على الحرص على الدنيا، بل يحتاجون إلى تنظيم مساعيهم، والتعاون، والأمنية بينهم، وما هي إلّا بالتقوى..

اعلم أن الحق سبحانه بكمال كرمه أَدمج قسما من مكافأة الخدمة في نفس الخدمة، وأَدرج أجرةَ العمل في نفس العمل. حتى إن الموجودات ولوالجمادات تمتثل أوامره التكوينية بكمال الشوق والتلذذ، وبالامتثال تصير مَعاكسَ تجلياتِ أسماءِ نورِ الأنوار. كالحباب الحقير المظلم الذي يتوجه بقلبه الصافي إلى الشمس، فيتنور مبتسما في وجهك، بجعل قلبه سريرَ الشمس. وكيف لا تلتذ الذراتُ ومركباتها -بفرض شعورٍ فيها – بمظهريتها لتجليات أسماء ذي الجلال والجمال والكمال المطلق مع ارتقائها بالامتثال، مثل الحباب من نهاية الخمود والظلمة إلى نهاية الظهور والنور!

انظر إلى حواسك وأعضائك وخدَمتها التي تخدم لبقاء الشخص أوالنوع كيف تتلذذ بنفس خدمتها حتى يكونُ التَركُ عذابا لها.

ثم انظر إلى الحيوانات كيف تلتذ بوظائفها، ألا ترى الديكَ مثلا: كيف يؤْثر الدجاجات على نفسه في دعوتها إلى أكل ما رآه من الغذاء ولا يأكل هو؟ ويُرى من طوره أنه يفعل هذا بالشوق والتلذذ والافتخار. وهكذا الدجاجة الراعيةُ لأفراخها وهي صغيرة، التاركةُ لها إذا كَبرت كسائر الوالدات النباتية والأمهات الحيوانية غير الإنسان! فيظهر من هذه الحال أنها لا تعمل بحساب نفسها ولا لكمالها، بل بحساب من وظَّفها مُنعِما عليها برحمته بإلقاء لذةٍ في وظيفتها.

ثم انظر إلى النباتات والأشجار كيف تمتثل أوامرَ فاطرها بطورٍ يرمز بشوقٍ ولذة؛ إذ تزّيناتُها ونشرُ روائحها تُظهِر شوقَها، وفداؤها نفسَها لسنبلتها ولثمراتها تُعلن أن لذتَها في امتثال الأمر. إذ تُعِدّ وتُحضر وهي سائلة من باب الرحمة أطيَب الغذاء، فتطعِم ثمرتَها بإذن ربّها. ألا ترى شجرةَ التين كيف تُطعم التين لبنا خالصا تأخذه من خزينة الرحمة وهي لا تُطعم نفسها إلا الطين! وشجرة الرمان تسقي الرمان شرابا صافيا مما أعطاها ربُّها وهي لا تشرب إلّا الماء! وهكذا.

ثم انظر إلى الحبوبات تَرَ فيها اشتياقا ظاهرا للتسنبل كمثل المحبوس في أضيق المكان كيف يشتاق للخروج إلى البستان. ومن هذا السر الجاري في الكون بسنةِ الله يكون العاطلُ المستريح أشقى من الساعي المجدّ، إذ ذاك شاكٍ من عمره، وهذا شاكرٌ. واندمجت الراحةُ في الزحمة، والزحمة في الراحة.

ثم انظر إلى الجامدات تَرَ فيها أن ما «بالقوة» يجتهد لأن يصيرَ «بالفعل» ويسعى بسنة الله بطور يرمز إلى أن في المسألة شوقا ولذة. ألا ترى قطرةَ الماء كيف يشتمل قلبُها على شوق لامتثال أمر بارئها، بحيث اقتدر الماءُ بشدّة ذلك الشوق مع لطافة الماء وضعفه على شق الحديد مع قوة مقاومته عند سماع أمرِ: «توسَّع أيها الماء بإذن ربك» بواسطة لسان البرودة! وهكذا.

حتى إن جميعَ ما في الكون من السعي والحركة: من اهتزاز الذرات، إلى دوران الشمس إنما يجري على قانون القَدر، وإنما يصدر من يد القُدرة، وإنما يَظهر بالأمر التكويني المتضمن للعلم والأمر والإرادة، بل يتضمن القُدرةَ أيضا. حتى إن كل ذرة وكل مركب وكل ذي حياة كنفرٍ من العسكر له نَسَب في دوائر المركبات. وله وظائف لفوائد، بعدد نَسَبه فيها كذرة عينك في حُجيرة عينك، وفي عينك، وفي أعصاب وجهك، وفي شرايين بدنك.. لها في كل نسبةٍ وظيفةٌ لفائدة وهكذا.. فكل شيء يشهدُ على وجوب وجود القدير الأزلي بلسان عجزه عن تحمل ما لا طاقة له به، من وظائفه المحمولة عليه في نظام الكون وحفظ موازنة قوانينه؛ إذ «النظام والموازنة» بابان مهمان دقيقان من «الكتاب المبين». فأين الذرةُ والنحلة -مثلا- وأين قراءةُ ذلك الكتاب الذي هوفي يد مَن يطوي السماء كطي السجلّ للكتب! وكذا يشهد كلُّ شيء على وحدة واجب الوجود الحق سبحانه بعلاقته وهوفرد بالمركبات المتداخلة المتصاعدة ووظائفِه في مقاماتها ونَظَر نِسَبِه ووضعيته إلى نقوشها!

ثم إن الفاطر الحكيم أجملَ لكل شيء دساتيرَ بابَي «الكتاب المبين» في لذة خاصة واحتياج مخصوص بذلك الشيء، إذا عمل الشيء عليها صار ممتثلا من حيث لا يشعر لأحكام ذلك الكتاب. مثلا: إن البعوض في حين ما يجيء إلى الدنيا يخرج من بيته بلا توقف، فيهجم على وجه الإنسان فيضربه بعصاه فينفجر منه له ماءُ الحياة، فمَن علّمه بهذه الصنعة كرّا وفرا؟ وأعترفُ أني لوكنتُ في موقعه لما تعلّمتها إلا بتدرّس مديد وتدرب عديد. فقس على البعوضة والنحلة والعنكبوت الملهَمين كلَّ الحيوانات والنباتات، قد أعطى الجوادُ المطلق سبحانه ليدِ كل فرد منها «تذكرةً مكتوبة بمداد اللذة والاحتياج». فسبحانه سبحانه! كيف أَدرج سرائرَ ما في سطور بابَي «الكتاب المبين» في تذكرة مسطورة في رأس النحلة مثلا، مفتاحُها لذة خاصة بالنحلة المأمورة؟

وهكذا فيظهر مما سمعتَ مما مر بالحدس الإيماني سرٌ من أسرار: ﴿وَرَحْمَتي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ (الأعراف:156) وسرٌ من أسرار: ﴿وَاِنْ مِنْ شَيْءٍ اِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه وَلٰكِنْ لَا تَفْقَهونَ تَسْبيحَهُمْ﴾ (الإسراء:44) وسرٌ من أسرار: ﴿اِنَّمَٓا اَمْرُهُٓ اِذَٓا اَرَادَ شَيْـًٔا اَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴿82﴾ فَسُبْحَانَ الَّذي بِيَدِه مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَاِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ (يس:82، 83).

اعلم يا من يدعوالمسلمين إلى الدنيا، أخطأتَ! أتحسبُ أيها الغافلُ أن المطلوبَ بالذات من الإنسان عمارةُ الدنيا واختراعُ الصنايع وتحصيلُ الرزق وغيرُ ذلك مما يعود إلى الدنيا؟ والحال أن صاحب الملك الذي أمرُه بين الكاف والنون يقول بقولٍ يصدقّه الوجود والكون والواقع وتجهيزاتُ الفطرة الإنسانية: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْاِنْسَ اِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات:56).. ﴿وَكَاَيِّنْ مِنْ دَٓابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَاۗ اَللّٰهُ يَرْزُقُهَا وَاِيَّاكُمْ﴾ (العنكبوت:60). أم تزعم أن مَن صنعك ويصنعك دائما بتجديدِ وجودكَ في كل زمان يحتاجُ لما تصنعُ في نظام ملكه وإلى توسيطك في تصرفاته؟.. أترى كل مصنوعاتِ البشر تساوي خلقة نخلة أونحلة أوصنعة عين أولسان؟


[1] إن أوروبا اثنان: أحدهما: نافع للبشر باستفادته من الدين العيسوي والمدنية الإسلامية. أَظهَر -بإحسان الله- ما يستريـح به البشر في هذه الحياة.. وأوروبا الثاني: خَالَفَ الأديانَ السماوية واستند بالفلسفة الطبيعية المادية وغلبت سيئاتُ المدنية حسناتها، وصار سببا لمشقة أكثر البشر وشقاوتهم. فإني أخاطب هذا القسم الثاني (المؤلف). والمذكرة الخامسة للّمعة السابعة عشرة توضح المسألة أكثر.