اعلم أن التلقيح والتولد مع التربية الشفيقة وظيفتان عامتان نافذتان ساريتان إلى أصغر الأشياء. لهما مكافأة عاجلة هي اللذة المودعة فيهما. فعموم جود المحسن الكريم، مع شدة شوق كل الأشياء (المزدوجة) في إيفاء هاتين الوظيفتين بالمشاهدة؛ يدلان على أن النباتات والأشجار والمعادن بل الجامدات أيضا لها حصة من هذه النعمة واللذة بوجهٍ يليق بها. فمراعاة المكافأة والرحمة والعدل بهذه الدرجة، وسرُّ ﴿وَرَحْمَتي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ (الأعراف:156) وكثرة الروايات المؤيدات للمكافأة والقصاص في الحيوانات في الحشر؛ تشير إلى بقاء أرواح الحيوانات ومكافأتها على وظائفها التي امتثلوها بكمال الإطاعة والانقياد. وأما المنقلب ترابا بعد الحشر فهوأجسادُهم. إلّا أنه يجوز أن يجتمع تمامُ نوعٍ منه -مجتمعا، أوفردا فردا- في جسد شخص مبارك، كالناقة المذكورة في القرآن، والكبش والكلب والهدهد والنملة وغيرها.

اعلم أيها السعيد المسكين الحريص على بقاء الوجود، في هذه الدنيا الفانية، فرغمًا على أنفك تفنى إلّا ما أبقاه الباقي. ويزول وجودُك إلّا ما تَوجَّه إلى جهته سبحانه. وتنطفئ حياتُك، إلّا ما أفنيته في سبيله.

فما دام هذا هكذا.. فقل: حسبي من البقاء أن الله المالك الباقي.. وحسبي من لذة البقاء علمي بأنه معبودي الباقي.. وحسبي من غاية البقاء معرفتي بأنه ربي الباقي.. وحسبي من البقاء وكمالِه إيماني بأنه موجدي الباقي.. حسبي من الوجود كوني أثر واجب الوجود.. حسبي من قيمة الوجود أني صنعة مَن فَطر السماوات والأرض.. حسبي من غاية الوجود، علمي بأني صبغةُ من زيّن السماء بمصابيح، والأرض بأزاهير.. حسبي من لذة الوجود، علمي بأني مصنوعُه ومخلوقُه وهوربي ومُوجدي.. حسبي من الحياة، مَظهَريّتي لتجليات أسماء خالق الموت والحياة.. حسبي من الحياة وحقوقها وغاياتها، إظهاري على رؤوس الأشهاد، وتشهيري بين ذوي الإدراك من إخواني الكائناتِ، وإعلاني في سُوق العالم -بسرِّ جامعيةِ وجودي- لغرائب آثار تجليات أسماء خالق السماوات والأرض.. حسبي من غاية الحياة كوني أنموذجا وفهرستةً لآثار تجليات أسمائه الحسنى.. حسبي من الحياة وكمالِها إظهاري بلسان أحوالي لتجليات أسماء مَن قامت السماوات بأمره، واستقرت الأرض بإذنه.. حسبي من لذة الحياة علمي بأني مملوكُه ومصنوعُه ومخلوقه وعبده وفقيره، وهوخالقي وإلهي وربي وفاطري ومالكي ورحيمٌ بي ومنعِمٌ عليّ.. حسبي من الكمال، الإيمان بالله.. وحسبي من كل شيء «الله».

اعلم أن في التوحيد، وإسناد الأشياء إلى الواحد سهولةً بلا نهاية، إلى درجة الوجوب، وقيمةً غالية بلا نهاية.. وأن في الشرك، وإسنادِ المصنوعات إلى الكثرة صعوبةً بلا نهاية إلى درجة الامتناع، وسقوطَ قيمة، وذلّةً نازلة بلا غاية، كما مرَّ مرارا.. ألَا ترى كيف يتعاظم ما في يد الجندي مما يُنسب إلى السلطان ويعزّ منه ما هوفي أمر السلطان، ويغلوكلامُه الذي هوبحساب السلطان قيمةً وأهميةً. ويتيسر بكمال السهولة «تدارُك كل لوازمات الحياة» من خزائن الملِك وماكيناته. وكيف يتساقط ما ذُكر هباءً منثورا إن انقطع الربط بعصيان الجندي!

اعلم أن الضرَّ -كالنفع- منه.. وكذا الشر -كالخير- منه.. والموت -كالحياة- بقدرته وقدره؛ إذ في موت شيء حياةُ آخَرَ أومبدَؤها. أوهوهي. وكذا الشر والضر.

اعلم أن في روح الإنسان قابليةً -بوجهين- لِلَذّاتٍ غير متناهية وآلام غير محصورة من جهة جامعية ماهيته وكثرة جهازاته بلا حد، ومن جهة تلذذه بتنعمات أولاده وإخوانه من أبناء نوعه أوجنسه أوإخوانه من أجزاء الكائنات، وتألّمه بتألماتها.

اعلم أني قد شاهدتُ أن النظر إلى الغير مع نسيان النفس يقلب الحقائق، كالنظر في الماء يريك الأشياءَ المعنوية معكوسةً منتكسة. فمع أنك تجهل تعتقد أنك تعلم.

اعلم أن ما اقتضى «تكرار بعض أجزاء القرآن» ما اقتضى تكرار الأذكار والأدعية؛ إذ القرآن كما أنه كتابُ حقيقة وشريعة وكتاب معرفة وحكمة، كذلك هوكتاب ذكر ودعاء ودعوة.. والذكرُ يردَّد، والدعاء يُكرَّر، والدعوة تؤكّد.

اعلم أن من مزيّات علوالقرآن إيرادَ مذكِّرات الوحدة خلفَ مباحث الكثرة، والإجمال عقيب التفصيل، وترديف بحث الجزئيات بدساتير الربوبية المطلقة، ونواميسِ الصفات الكمالية العامة الشاملة بذكر فذلكات كالنتائج أوكالتعليلات في أُخريات الآيات، لأجل أن لا يتغلغل ذهنُ السامع في ذلك الجزء الكوني المذكور، فيَنسى «عظمةَ مرتبة الألوهية المطلقة». حتى يخلّ بلوازم آداب العبودية الفكرية لذي العظمة والهيبة والكبرياء. وكذا ليبسُط ذهنَك من ذلك الجزئي إلى أمثاله وأشباهه.. وكذا يريك القرآنُ بهذا الأسلوب، ويفهّمك أنّ في كل جزئي -ولوحقيرا وزائلا- سبيلا واضحا، وصراطا مستقيما، ومحجةً بيضاء إلى معرفة سلطان الأزل والأبد، وإلى شهود جلوات أسماء الأحد الصمد.

مَثلُ القرآن في هذا الأسلوب كمثل من يريك قطرةَ ماء فيها شُميسة، أوزهرةً فيها تجلي ألوانِ ضياء الشمس. فيريك بلا مهلةٍ «الشمسَ» في رابعة النهار بحشمتها، ويرفع رأسك إليها، لئلا تتشوش عليك الحال، فتتصاغرَ عندك الشمس فتصيرَ تنكرُ لوازم عظمتها.

مثلا في سورة يوسف: ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذي عِلْمٍ عَليمٌ (يوسف:76) خلف أمر جزئي.. وكذا في سورة الحج: ﴿مَا قَدَرُوا اللّٰهَ حَقَّ قَدْرِهۜ (الحج:74) وفي سورة النور: ﴿وَاِذَا بَلَغَ الْاَطْفَالُ إلى ﴿وَاللّٰهُ عَليمٌ حَكيمٌ (النور:59). وفي سورة العنكبوت: ﴿وَاِنَّ اَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِۢ لَو كَانُوا يَعْلَمُونَ (العنكبوت:41) وأمثالها.

اعلم أن همّةَ الأولياء ومدَدَهم، وأفاعيلَهم المعنوية بالإفاضات نوعٌ من الدعاء، حاليٌّ أوفعليٌّ. والهادي هوالله وهوالمغيث المعين. ولقد تلمّع لي شيءٌ، لكن ما تشخص واضحا؛ وهوأن في الإنسان لطيفةً وحالة، إذا دعا الإنسانُ -ولوكان فاسقا- بلسانها استُجيب له قطعا. نعم هي لطيفةٌ إذا أقسمَت على الله أبرَّها.

اعلم يا مَن يتيقن الماضي، ويشك في الآتي! اذهب بنفسك إلى عصرين من قبل، وافرض نفسَك جدَّك الذي هوفي وسط شجرة نَسَبك. ثم انظر إلى أجدادك الذين هم موجودات ماضوية. ثم إلى أولادك المتسلسلين منك إليك، الذين هم ممكنات استقبالية، هل ترى تفاوتا بين الجناحين؟ كلا لا ترى، لا في الانتظام، ولا في شيء يوهم وجودَ التصادف. بل كما أن الأول مصنوعٌ بعلم وإتقان يراه صانعُه، كذا الثاني سيُصنَع كذلك وهومشهودٌ لصانعه قبل كونه. فإعادةُ أجدادك ليست بأغربَ من إيجاد أولادك. بل هوأهون منه. كما قال سبحانه: ﴿وَهو اَهونُ عَلَيْهِ (الروم:27). فقس على هذا الجزءِ الجزئي، الكلَّ الكلّي. لترى كل الوقوعات الماضية معجزاتٍ تشهد على أن صانَعها قدير على كل الممكنات الاستقبالية وعليمٌ بتفاصيلها ومحيطٌ وبصيرٌ بها.

نعم، كما أن هذه الموجودات الجلية والأجرام العلوية في بستان الكائنات؛ معجزاتٌ تشهد وتنادي على أن خلّاقها على كل شيء قدير وبكل شيء عليم. كذلك هذه النباتات المتلونة المتزهرة المنثـورة، وهـذه الحيوانات المتنوعة المتزينة المنشورة في حديقة الأرض، خوارقُ صنعةٍ تشهد بأعلى صوتها على أن صانعها على كل شيء قدير وبكل شيء عليم. تتساوى بالنسبة إلى قدرته الذراتُ والشموس، ونشرُ أثمار الشجر، وحشرُ أبناء البشر.. نعم، ليس إنشاء أزهار شجرة منشورةٌ على أغصانها الرقيقة الدقيقة بأهونَ من إنشاء أبناء نوع الإنسان على عظامهم الرميمة المتفرقة.

اعلم أنه كم من نعمة كقطرة معصورة بنظام رقيق، وميزان دقيق من كل الكون كالثمرة من الشجرة. فإن كانت معصورة محلوبة على الحقيقة مع غاية البُعد، فما المنعِم إلّا مَن في قبضته كل الكون يعصره كيف يشاء، كما هوالظاهر الحق المشهود. فما المُنعِم إلّا الذي خزائنهُ بين «الكاف والنون». فما من نعمة إلّا مِن الذي صيّر «كن» مصدرَ الكون. وما المنة والشكر إلّا له سبحانه.

اعلم أن مما أُفيض على قلبي من فيض القرآن من كثرة ذكره إحياءَ الأرض، وجلبِه أنظار البشر إلى التراب؛ أن الأرض قلبُ العالم، والترابَ قلبُ الأرض. وأن أقرب السُبل إلى المقصود يذهب في التراب، من باب التواضع والمحوية والفناء. بل هوأقرب من أعلى السماوات إلى خالق السماوات؛ إذ لا يُرى في الكائنات شيء يساوي التراب في تجلي الربوبية عليها وفعاليةِ القدرة فيها وظهورِ الخلّاقية منها والمظهرية لجلوات اسمَي الحي القيوم.

وهكذا، فكما أن «عرش الرحمة» على الماء، كذلك إن «عرش الحياة والإحياء» على التراب، والترابُ أجمعُ المرايا وأتمّها. إذ مرآة الكثيف كلما كان ألطفَ وأشفّ؛ تريك صورةَ الكثيف أوضحَ وأظهر وأتم. لكن مرآة اللطيف النوراني كلما كان أكثفَ؛ كان التجلي بالأسماء عليها أتم. ألا ترى الهواء لا يأخذ من فيض الشمس إلّا ضياءً ضعيفا. والماء وإن أراك الشمس بضيائها، لكن لا يفصل ألوانه. مع أن التراب يريك بأزاهيره مفصلَ كلِّ ما اندمج في ضيائها من الألوان السبعة ومركباتها. مع أن هذه الشمس قطرةٌ متلمعة كثيفة بالنسبة إلى نور شمس الأزل. وتَزَيُّن التراب وتبرّجه في الربيع بما لا يُحد ولا يُعد من لطيفات الأزاهير، وجميلاتِ الحيوانات المنادية على كمال ربوبيته، شاهدٌ مشهود. فإن شئت فانظر إلى هذه الواحدة المسماة بالتركي «هرجائي منَـكشه» كيف تتصرف يدُ الصانع الحكيم في تلويناتها وتزييناتها وهي واحدة. لكن تظهر وتنظر إليك متبسمة، لا بل متعبسة في عشرين صورة.

فسبحان من يتعرف إلينا بلطيف صنعه، ويعرِّف الخلائقَ قدرته بعجائب تصرفه في التراب. ومما يرمز إلى هذا السر حديثُ «أقربُ ما يكون العبدُ من ربه وهوساجد».

فإن كان هذا هكذا؛ فلا تتوحشْ من التراب وذهابِك فيه، ولا تتدهش من القبر وسكونك فيه.

اعلم أن عقلي قد يرافق قلبي في سيره؛ فيعطي القلبُ مشهودَه الذوقي ليد العقل، فيُبرزه العقلُ على عادته في صورة المبرهَن التمثيلي. ومن تلك الحقائق أن الفاطر الحكيم كما أنه بعيد بلا نهاية، كذلك قريب بلا غاية. وكما أنه في أبطن البطون، كذلك فوق الفوق. وكما أنه ليس داخلا، كذلك ليس خارجا.

فإن شئت فانظر إلى آثار رحمته المنثورة على سطح كرة الأرض، وإلى معمولات قدرته المنشورة في دوائر صحائف الأرض لتشاهد هذا السر متلمعا من سطورها؛ إذ لابد لصانعِ ذرتين أوزهرتين أوثمرتين أونحلتين في مكانين في آن واحد، من بُعْدٍ أزيد من البعد بينهما. وإذا كانتا في الكرة والدائرة، مع تخللِ أعظم القوس بينهما، فحينئذٍ لابد للمقابلة التامة -على التساوي الضرورية المشهودة- من بُعدٍ بلا حدّ.. هذا في وجه الظاهر وفي جانب المُلك. وأما في وجه الباطن وفي جهة الملكوت؛ فلابد لتساوي المقابلة -بلا كيفية- المشهودة، في كمال سهولة الإيجاد وسرعته، مع الجود المطلق، في الإتقان المطلق من قرب بلا نهاية، لا كقرب المركز لتفاوت نسبِ نقاط الدوائر المتداخلة بالنسبة إلى المركز. مع أنه لا تفاوت بالنسبة إلى «الموجِد» الذي أتقن كل شيء صنعا، وأحسن كل شيء خلقه.

نعم، هذا السر من خصائص دائرة الوجوب والتجرد، ومن خواص الإطلاق، ومن خصوصيات تجلي الأحدية في الوحدة، ومن لوازم مباينة ماهية الفاعل الأصلي للمنفعل الظلي.

مثلا:﴿وَلِلّٰهِ الْمَثَلُ الْاَعْلٰى﴾-: إن لِذات الشمس قُربا بلا حد من تماثيلها في المرايا والأزاهير. إذ ذات الشمس قيّوم التماثيل، وأقربُ إليها من لصيقها، بل من أنفسها. وكذا لها بُعد بلا حد من تلك الظلال؛ إذ لا يتيسر-بل لا يمكن- قطع المسافة المتخللة بين الظل المتمكن في مرآتك، وبين الأصل.

فسبحان من تقدس عن الأشباه ذاتُه، وتنـزهتْ عن مشابهة الأمثالِ صفاتُه. هوالأول والآخر والظاهر والباطن وهوبكل شيء عليم.

اَللَّهُمَّ يا عدل، يا حكم، يا عليم، يا حكيم، إنه ليس في الرياح مَرّةٌ، ولا في السحاب قطرةٌ، ولا في الرعود زجرةٌ، ولا في البروق لمعةٌ، ولا في الرياض زهرة، ولا في الجنان ثمرة، ولا في الهواء نحلة، ولا في النبات صبغة، ولا في الحيوان صنعة، ولا في الوجود زينة، ولا في الكون ذرة، ولا في الخلق نظام، ولا في الفطرة ميزان، ولا في العرش شيء، ولا في الكرسي شأن، ولا في السماء نجم، ولا في الأرض آية؛ إلّا وهي لك أدلة شهدتْ، وآيات تشهد على أنك واجب، واحد، أحد، صمد. وبراهين نيّرة شاهدات على أنك أنت الله، وأنت علام الغيوب مُخرجُ الحبوب، مسخّر القلوب. جميع الخلق مقهورون تحت قدرتك، قلوبُهم في قبضتك، نواصّيهم بيدك، مقاليدُهم لديك. لا تتحرك ذرةٌ إلّا بإذنك.

يا إله الأولين والآخرين، يا رب محمّد عليه الصلاة والسلام
وإبراهيم وجبرائيل وميكائيل عليهم السلام!

أسألك باسمك العظيم، وبنور وجهك الكريم، وبدينك القويم، وبصراطك المستقيم، وبالسبع المثاني، وبالقرآن العظيم، وبألفِ ألفِ ﴿قُلْ هو اللّٰهُ اَحَدٌ﴾ وبألف ألف «فاتحة الكتاب»، وبأسمائك الحسنى، وباسمك الأعظم، وبالحجر الأسود، وببيتك المكرم، وبليلة القدر، وبرمضان المعظم، وبأنبيائك المكرمين، وبحبيبك الأكرم ﷺ؛

أن ترحم أمة محمد، واشرح صدورهم للإيمان والإسلام، وسلّمنا من شر الملاحدة وسلّم ديننا، ونوّر برهان القرآن، وعظّم شريعة الإسلام.

آمين يا أرحم الراحمين..

* * *

[بارك الله فيكم ألف ألف مرة ووفقكم الله]