الرسالة العاشرة([1])

القطعة الثالثة من

شَمَّة

من نسيم هداية القرآن 


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ومن الله التوفيق لأقوم الطريق.

سبحانك يا من أنطق السماءَ بحمده وتسبيحه بكلمات النجوم والسيارات.

ويا من أنطق الأرضَ بحمده وتسبيحه بكلمات الأشجار والنباتات.

وأنطق النبات والشجر بكلمات الأزهار والثمرات..

وأنطق الزهر والثمر بكلمات البذور والنواتات.

وأنطق النواة والبذر بلسان السنابل وكلمات الحبّات.

سبحانك يا من يسبح بحمدك الضياءُ بأنواره، والهواءُ بأعصاره، والماءُ بأنهاره،
والأرض بأحجاره، والنبات بأزهاره، والشجر بأثماره، والجوبأطياره،
والسحاب بأمطاره، والسماء بأقماره.

والصلاة والسلام على سيدنا محمد نبراس الأنبياء، وزبرقان الأصفياء ونيّر
 الأولياء، وشمس الثقلين، وضياء الخافقين. وعلى آله نجوم الهدى،
وأصحابه مصابيح الدجى.


اعلم يا من يضيق ذهنُه عن فهم سرّ ﴿وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطينِ (الملك:5) أن للصعود إلى سماء هذه الآية سلّما ذا درجات سبعة:

الأولى: أن للسماوات سكانا يناسبونها يسمَّونَ بالملائكة، إذ امتلاء الأرض -مع حقارتها بالنسبة إلى السماء- من ذوي الحياة والإدراك، يشير بل يصرّح بامتلاء السماوات ذات البروج -تلك القصور المزينة- من ذوي الإدراك.

وكذا إن تزيينَ الكائنات بجميع هذه التزيينات والمحاسن والنقوش مستلزمةٌ لوجود أنظار متفكرين مستحسنين بالحيرة والتقدير؛ إذ لا يُظهَر الحُسن إلّا لعاشق، كما لا يُعطى الطعامُ إلّا لجائع، مع أنه لا يكفي الجن والإنسُ لعُشر معشار عَشِير هذه الحشمة والوظيفة، بل لا تقوم بها إلّا ما لا يُعد من أنواع الملائكة والروحانيات.

الثانية: أن للأرض علاقةً مع السماء ومعاملةً معها وارتباطا يجيء منها إليها أشياء، من الضياء والحرارة والبركات وغيرها. فبالحدس القطعي نعلم أن للأرضيّين طريقا يصعدون فيها إلى السماء، إذا خَفّوا بوضع أثقالهم وخلع أجسادهم كالأنبياء والأولياء والأرواح.

الثالثة: أنَّ سكونةَ السماء وسكوتها وانتظامها واطّرادها تدل على أن أهلَها ليسوا كأهل الأرض التي فيها اضطرابٌ وتذبذب واختلافات وامتحان بمشاجرات، بسبب اختلاط الأشرار بالأخيار واجتماع الأضداد، بل كلُّ أهل السماء مطيعون يفعلون ما يؤمَرون.

الرابعة: أنَّ لمالك يوم الدين ولرب العالمين أسماءً متغايرةً أحكامُها، فالاسم الذي اقتضى إنـزالَ الملائكة للمحاربة في صف الصحابة مع الكفار، يقتضي وقوعَ المحاربة بين الملائكة والشياطين؛ أي السماويين الأخيار والأرضيين الأشرار. ألا ترى السلطان كيف يفعل؟ إذ قد يقتضي شأنُ سَطوته واسمُ حشمته تشهيرَ استحقاق المكافأة والمجازاة على رؤوس الأشهاد، أوإعلانَ تعظيم بعض خدامه، بأن لا يعامِلهم بعِلْمِه بهم فقط، وبتَلَفُونه الخاص، بل يأمر الوزيرَ فيحشّد الناسَ لميدان مبارزة محتشَمة، وامتحان عُلوي، واستقبال سياسي.

الخامسة: أنه لابد أن يقلِّد أشرارُ الروحانيات أخيارَهم في تشبث الذهاب إلى مملكة السماء للطافتهم، ولابد أن لا يقبَلَهم أهلُ السماء، بل يطردونهم لشراراتهم. ولابد في حكمة سلطنة الربوبية أن يكون لهذه المبارزة المعنوية والمعاملة المهمة علامةٌ وإشارةٌ في عالم الشهادة لإشهاد الإنسانِ الذي أهمُّ وظيفته المشاهدةُ والشهادةُ مع أنه لا يَرى فيما بين الحادثات السماوية أنسبَ من إعلان هذه المبارزة العلوية من رمي الشُهب المشابِهة للمنجنيقات المُرماةِ من بروج الحصون الرفيعة، مع أنه لا يرى لهذه الحادثة حكمةً تناسبها غيرَ هذه الحكمة المشهورة المشهودة لجميع أهل الحقيقة، خلافَ سائر الحادثات.

السادسة: أنَّ القرآن الحكيم المعجز يرشد البشرَ ويزجرُه من العصيان بأسلوب غال ومثَل عال.. فانظر إلى إنذارِ ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْاِنْسِ اِنِ اسْتَطَعْتُمْ اَنْ تَنْفُذُوا مِنْ اَقْطَارِ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ فَانْفُذُواۜ لَا تَنْفُذُونَ اِلَّا بِسُلْطَانٍ (الرحمن:33). الآيةُ في تعجيز الثَقلين، وإعلان عجزهما في جنبِ وُسعةِ سلطنة الربوبية، كأنّهُ يقول: أيها الإنسان الحقير الصغير العاجز! كيف تعصي سلطانا يطيعه الشموسُ والأقمارُ والنجوم والملائكة الذين يرجمون الشياطينَ ببنادقَ كأنها جبالٌ بل أعظم! وكيف تتجاسر على العصيان في مملكةِ سلطانٍ؛ مِن جنوده مَن يقتدر أن يرميَ في وجه الأعداء بنجومٍ في عظمة أرضكم كما ترمي جَوزَك وبندقتك.

السابعة: أنَّ النجم كالمَلك والسَمَك له أفراد في غاية الصغر وفي غاية الكبر. فكل ما يضيء في وجه السماء فهونجم، فمن هذا النوع ما يُزَيّن به السماء كالجواهر والأثمار والأسماك، ومنه ما يُرجم به الشياطين كالمنجنيقات المرماة للطرد، أوللإشارة إلى وجود الحارسين المتيقظين المطيعين المجتنبين عن اختلاط العاصين، أوللرمز إلى جريان قانون المبارزة في أوسع الدوائر.. ولله الحجة البالغة والحكمة القاطعة.

اعلم أن الآيات المصرِّحة بكتابة الأشياء قبل كونها وبعد كونها كثيرةٌ، كأمثالِ ﴿وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ اِلَّا في كِتَابٍ مُبينٍ﴾ (الأنعام:59). ويصدّقها منظوماتُ مكتوباتِ كتابِ الكائنات وموزوناتُ آياتها، لاسيّما آياتُ النظام والميزان والانتظام والتصوير والتزيين والامتياز.

أما قبل الكون، فالدليلُ جميعُ المبادي والبذور وجميعُ المقادير والصور، إذ ما البذور إلا صُنيدقات لطيفةٌ أُودعت فيها فهرستةُ ما رسمَه القَدر، فتبني القدرةُ وتستخدم الذرات على هندسته. وما المقادير إلّا مكتوباتٌ قدَرية منظومة، وقوالبُ علمية موزونة؛ إذ الذرات الصم العمي الجامدة تتحرك في نموالأشياء ثم تتوقف عند حدود معوجّة، توقفَ سميعٍ بصير بمظانّ الفوائد والثمرات. وهكذا فقس كثرة براهين الكتابة قبل الكون.

وأما الدليل على الكتابة بعد الكون؛ فمن العالَم جميعُ الثمرات التي هي كمطوياتِ صحائفِ أعمالِ الأشجار والأزهار، تَنشرُ على رأس الأشهاد ما جرى على رؤوس أُصولها، إذا دُفنت في الأرض وحُشرت في الربيع. ومن الإنسان قوّّته الحافظة التي هي في محل كالخردلة في الصغر، وما هي إلّا كسَنَدٍ استنسخته يَدُ القدرة بقلم القَدر من صحيفة الأعمال، وأعطَتْه ليد الإنسان ليتذكّر به وقتَ المحاسبة، وليطمئن أن خلفَ هذا الهَرج والمَرج والفناء والزوال مرايا للبقاء رَسَم فيها القديرُ هويّات الزائلات، وألواحا يكتب فيها الحفيظُ العليم معانيَ الفانيات.

اعلم أنه كما أن الساعة غيرُ ثابتة بل متزلزلة مضطربة الآلات، كذلك الدنيا التي هي ساعة كبرى أيضا متزلزلة؛ فبإدراج الزمان فيها صار «الليلُ والنهار» كميلين يعدّان ثوانيها، و«السنة» إبرةً تعدّ دقائقَها، و«العصر» كإبرة تعد ساعاتها. وبإدراج المكان فيها صار «الجو» بسرعةِ تغيره وتحوله وتزلزله كمِيل الثواني، و«الأرضُ» بتبدل وجهها نباتا وحيوانا موتا وحياةً كميل الدقائق، وبتزلزل بطنها وتولد «جبالها» كميل الساعات. و«السماء» بتغيراتها بحركات أجرامها وظهور ذوي الأذْناب والكسوفات والشهابات كالميل الذي يعد الأيام.

فالدنيا المبنية على هذه الأركان السبعة -مع أنها واصفةٌ لشؤونات الأسماء ولكتابة قلم القدرة والقَدر- فانيةٌ هالكة متزلزلة راحلةٌ كالماء السيال في الحقيقة. لكن تجمّدت -صورةً- بالغفلة، وتكدّرت بالطبيعة فصارت حجابا عن الآخرة.

فالفلسفة السقيمة والمدنية السفيهة تزيدان جمودَتها وكُدورَتَها بالتدقيقات الفلسفية والمباحث الطبيعية. وأما القرآن فينفش الدنيا كالعهن المنفوش بآياته، ويشفّفها ببيّناته، ويذيبها بنيّراته، ويمزّق أبديتَها الموهومة بنعياته، ويفرّق الغفلةَ المولدة للطبيعة برعداته. فحقيقةُ الدنيا المتزلزلة تَقرأ بلسان حالها المذكورة آيةَ

﴿وَاِذَا قُرِئَ الْقُرْاٰنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَاَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ (الأعراف:204).

اعلم أن مميّز الإنسان عن الحيوان شمولُ علاقته بالماضي والمستقبل، وكليةُ إدراكه بالأنفس والآفاق.. وكشفُه لترتب العلل الظاهرية في إنشاء الأشياء الظاهرية. فأعظمُ وظيفته وأقدمُها، وأتم جهازاته وألزمُها؛ التسبيحُ والتحميد بالجهاز المخلوق لهما، فيسبّح الإنسانُ صانعَه بلسان الماضي والحال والمستقبل، وبألسنة الأنفس والآفاق. وبسر مشاهدته لتسبيحات المخلوقات وشهادته عليها يُثني على صانع الأشياء بقراءة أسمائه المكتوبة بالترتيب والترتب في حكمة صُنع الأشياء. فـ«سبحان الله» يتضمن معنى الحيرةِ والتقدير، ومعنى التعجب والاستحسان، ومعنى التنـزيه والتقديس، ومعنى الهَيبة مع المحبة، ومعنى المجهولية للعظمة.

اعلم أن لله عطايا وقضايا ومقدرات.. ينفذ العطاءُ في القضاء، والقضاءُ في القدَرَ. أي يخرق العطاءُ قانونَ القضاء. كما تنخرق صلابةُ الحجر والتراب عند مرور العروق اللينة، وتنكسر مقاومةُ الحديد للمَيل اللطيف من الماء اللطيف عند الانجماد، ويُخرق لسهم القضاء قانونُ القَدر كما ينخرق القانونُ الكلي الذي هوقَدَرُ النوع بشذوذ الجزئيات الخارقة المخصّصة للإشارة إلى أنه سبحانه فاعلٌ مختار، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، ويَحْكُمُ ما يريدُ، لا مانع لما أعطى، ولا رادّ لما قضى.. فنسبة العطاء إلى القضاء كنسبة القضاء إلى القَدر، أي العطاء شذوذٌ عن قانون القضاء كما يقول العارف بحقيقة الحال: «يا إلهي إن حسناتي من عطائك، وسيئاتي من قضائك. لولا عطاؤك لكنت من الهالكين». أي استعداد النفس الأمارة بالسوء قانونُ شر وهلاك.

اعلم أن السر في تختيم الآيات بفذلكات متضمنة للأسماء الحسنى كأمثال آية الملك، أوبعين الأسماء كما في كثير من الآيات، هوأن القرآن الحكيم ببيانه الإعجازي يبسط الآثار للنظر، ثم يستخرج منها الأسماء، كأمثال آيةِ ﴿وَهو الَّذي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ وَهو اَهونُ عَلَيْهِۜ وَلَهُ الْمَثَلُ الْاَعْلٰى فِي السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِۚ وَهو الْعَزيزُ الْحَكيمُ (الروم:27).

وكذا ينشر للبشر منسوجاتِ صُنعه، ثم يطويها في الأسماء.

وكذا يفصّل أفاعيلَه ثم يَجْملها بأسمائه.

وكذا يرتّب المخلوقات ويشفّفها بإراءة النظام والميزان والفوائد، ثم يريك فيها الأسماء كأن تلك المخلوقاتِ ألفاظٌ، وهذه الأسماء معانيها أوماؤها أونواتها إيجادا وخلاصتها علما.

وكذا يذكر الجزئيات المادية المتكيفةَ المتغيرة، ثم يُجمِلها بالأسماء الكلية النورانية الثابتة.

وكذا يفرش الكثرةَ المتوسعة المنتشرة، ثم يضع عليها مظاهرَ الوحدة كجهة الوحدة.

وكذا يُظهِر بإظهار غاياتِ المسبَّبات بُعْدَ ما بين الأسباب والمسبَّبات المتصلتين في الظاهر، كما يُرى تماسُّ الأفق بالسّماء في ظاهر النظر، مع أن ما بينهما مسافة مدهشة. إذ لا طاقة لأعظم الأسباب بذاته على حَمل أخف المسبَّبات، فيُظهر القرآنُ بإظهار هذا البُعد محلَّ ظهور الأسماء ومَطَالِعها.

وكذا قد يذكر أفاعيلَ الخلق فيهدّد، ثم يسلّي بأسماءٍ تشير إلى الرحمة.. وقد يذكر مقاصدَ جزئيةً، ثم يقررها بأسماء هي كالقواعد الكلية والبراهين عليها.

اعلم أن العجز كالعشق طريقٌ موصلٌ إلى الله بل أقرب وأسلم. ثم إن أهلَ السلوك سلكوا في طرق الخفاء على اللطائف العشرة، وطرق الجهر على النفوس السبع.. وهذا العاجز استفاد من القرآن طريقا قصيرا، وسبيلا سويا هوأربع خطوات:

الخطوة الأولى: ما أشارت إليها آيةُ ﴿فَلَا تُزَكُّٓوا اَنْفُسَكُمْ (النجم:32).

والثانية: ما أشارت إليها آية ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذينَ نَسُوا اللّٰهَ فَاَنْسٰيهُمْ اَنْفُسَهُمْ (الحشر:19).

والثالثة: ما أشارت إليها آيةُ ﴿مَٓا اَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّٰهِۘ وَمَٓا اَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ (النساء:79).

والرابعة: ما أشارت إليها آيةُ ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ اِلَّا وَجْهَهُ (القصص:88).

وإيضاحه: أن الإنسان بحسب جبلّته محبٌّ لنفسه، بل لا يحب بالذات -في الأول- إلّا ذاتَه، فيمدح نفسَه مدحا لا يليقُ إلّا بالمعبود، ويدافع عن نفسه بشدة وينـزّهها عن المعايب ولا يقبل القصورَ لها ما أمكنه، حتى كأنه يصرفُ الجهاز المخلوق فيه لحمد معبوده وتسبيحه إلى نفسه، كـ ﴿مَنِ اتَّخَذَ اِلٰهَهُ هوٰيهُ (الجاثية: ٢٣). فلابد من تزكيتها هنا بعدم تزكيتها.

والثانية: نسيانُ النفس في مقام الكُلفة والخدمة، وشدةُ التزامها في مقام أَخذ الأُجرة والحظوظات. فتزكيتُها عكسُ هذه الحالة أي عدم النسيان في عين النسيان.

والمرتبة الثالثة: لا يرى من نفسه إلّا القصورَ والنقص والعجز والفقر، ويرى كلَّ المحاسن نِعَما من جانب فاطره تقتضي الحمد لا الفخر، فتزكيتُها في هذه المرتبة؛ علمُها بأن كمالَها في عدم كمالِها، وقدرتَها في عجزها، وغناها في فقرها.

والخطوة الرابعة: دركُ أنه في نفسه وبالمعنى الاسمي فانٍ مفقودٌ حادثٌ معدومٌ، وبالمعنى الحرفي -والمرآتيةِ لأسماءِ صانعه- شاهدٌ مشهودٌ وواجدٌ موجودٌ. فتزكيتُها هنا معرفةُ أن عدَمَها في وجودِها، ووجودَها في عدمِها، ووِردُها: «له الملك وله الحمد».

وكذا إن مشرب أهل وحدة الوجود يذهب إلى إعدام الكائنات بنفي وجودها، ومشرب أهل وحدة الشهود يذهب إلى حبس الموجودات في سجن النسيان المطلق.. وأما ما أَفهمُ من منهاج القرآن فهوعفوها عن الإعدام والحبس، بل استخدامُها في وظائفِ إعلان الأسماء الحسنى بالمظهرية والمرآتية؛ بالمعنى الحرفي وبحسابه تعالى، وعزلُها عن الخدمة بالمعنى الاسمي وبحساب نفسها.

ثم إن الإنسان في وجوده دوائرُ متداخلةٌ ومصنوعات متراكبة؛ إذ هونبات، وحيوان، وإنسان، ومؤمن.. فالمعاملة للتزكية قد تقع أولا في الطبقة الرابعة الإيمانية. ثم تتنازل إلى النباتية التي هي شديدة المقاومة، وقد تقع المعاملة في الكل في اليوم والليلة. ومما غَلِط فيه الإنسانُ عدمُ الفرق بين تلك المراتب فيقول: خُلق لنا ما في الأرض جميعا؛ فأولا يغلط بظن انحصار الإنسانية في معدته النباتية أوالحيوانية، ثم يغلط بانحصار غايات الأشياء في ما يؤول إلى نفسه. ثم يغلط بتقدير قيمة الأشياء بمقياسِ مقدار منفعته منها، فلا يشتري نجم الزهرة بزهرةٍ مشمومة.

اعلم أن العبوديةَ نتيجةُ النعمة السابقة وثمنُها، لا مقدمةُ المكافآت اللاحقة ووسيلتها.

أيها الإنسان! أخذتَ أجرتك؛ إذ صنَعك هكذا في أحسن تقويم ثم تَعرَّفَ إليك بإعطاء الإيمان.

نعم، كما أنه بإعطاء المعدة أنعمَ عليك بجميع المطعومات.. كذلك بإعطاء الحياة صيَّر لك عالمَ الشهادة سُفرةً مملوءَةً من النِّعم. فانظر إلى تفاوت السُفرتين. وكما أنه بإعطاء النفس الإنساني جعل لهذه المعدة عوالمَ المُلك والملكوت مائدةً مشحونة بالنِّعم.. كذلك بإعطاء الإيمان فرشَ لك مع الموائد المزبورة موائدَ مدخراتِ كنوز أسمائه.. وبإعطاء محبته فَتَح لك ومنَحك ما لا يوصف، فإذا أخذتَ مثل هذه الأجرة، فعليك بالخدمة. فإذا أعطاك بعد العمل نعمةً أخرى فما هي إلّا من محض الفضل.


[1] هذه الرسالة بكاملها غير موجودة في الطبعة الأولى، وإنما هي في المخطوط وفي الطبعة التالية وهى رسالة مستقلة في الترجمة التركية. تضم خلاصة لكثير من مباحث رسالة «المدخل إلى النور» والتي فصّلت في «الكلمات».