اعلم أن ما يشاهَد من الجُود بلا حساب في تكثير أفراد الأنواع، لاسيما في صغار المخلوقات مع كمال الإتقان وحسن الانتظام، يشير بل يصرّحُ بعدم التناهي في تجليات الصانع، وبمباينة ماهيته، وبتساوي الأشياء بالنسبة إلى قدرته، وبوجوبه.

نعم، ما هذا الجُودُ والإيجاد إلَّا من ذلك الوجوب ومن برهانه. والجُودُ في النوع جلالي، والإتقانُ في الفرد جمالي.

اعلم أن الصنعة الإنسانية تسهُل على الصانع بدرجة علمه بها، وتَعسر بمقدار جهله، لاسيما في المصنوعات اللطيفة الدقيقة الجهازاتِ. فكلما كان أعلم كانت عليه أيسرَ وأسهلَ. فما يُشاهَد من السهولة بلا حدّ في السرعة المطلقة والوسعة المطلقة في خلق الأشياء المنتظَمة، يدل قطعا وحدسا على أن لصانعها علما لا نهاية له. كما تشير إلى تلك السهولة آيةُ ﴿وَمَٓا اَمْرُنَٓا اِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (القمر:50).

اعلم أنه كما أن مَن لفَّ على مصنوعٍ أومصنوعات لفائفَ مصنوعة، وألبَس مكنونةً مزينةً أومكنوناتٍ أقمصةً نُسجت من جنس مادتها -كالجلود- وأدرج متولداتٍ منحوتات من بطونٍ متراكمة في أجوافها، لا شك ولا ريب أن المظروفَ كالظرف، والمحاطَ كالمحيط صنعُ واحدٍ ومالُه وملكُه.

كذلك لا شك ولا ريب أن من لفَّ لفائف الوحدة الاتصالية والنوعية على الكثرة، كوحدة الكل والكلي والظرف.. وكذا ألبَس على قامات جماعاتِ هذه المصنوعات المنثورة أقمصةَ هذه العناصر التي كأمهاتها.. وكذا أدرج هذه المخلوقات لاسيما الحيوانات التي هي تماثيلُ مصغرةٌ لهذه العوالم الكبيرة في أجواف تلك العوالم اللواتي هن كأبنية متداخلة ضُربت على موجودات هن كثمراتها أونواتاتها، ما هوإلا واحدٌ أحدٌ صمدٌ يتجلى على المحيط بالواحدية، وعلى المحاط بالأحدية.

اعلم أنه كما أن للسلطان عنواناتٍ متنوعةً لحاكميته في دوائر حكومته وطبقات رعيته ومراتب سلطنته ووظائف أميريته، كأنه موجودٌ حاضرٌ ومشهودٌ ناظرٌ في كل دائرةٍ وخلفَ كلِّ حجابٍ بممثله وقانون نظامه، كذلك مثلا: –﴿وَلِلّٰهِ الْمَثَلُ الْاَعْلٰى– إن مَن له الأسماء الحسنى، له تجلٍ في عالَمٍ عالَمٍ بعنوان اسمٍ من أسمائه الحسنى ويستتبع ذلك الاسمُ في دائرة سلطنته سائرَ الأسماء بل يتضمنها.. وكذا يتصرف في كل طبقةٍ طبقةٍ كلًّا وجزءا، كليا وجزئيا بتجلٍّ خاص في ربوبية خاصة بجلواتِ اسم خاص، أي يتجلى عليه بخصوصيةٍ كأنه يخصّه، مع أنه يعمُّ ويحيط.

وله سبحانه في مراتب ربوبيته شؤوناتٌ متناظرة.. وله في سرادقات ألوهيته أسماء متعاكسة.. وله في مرايا حشمته تمثيلاتٌ متفاوتة.. وله في تصرفات قدرته عنوانات متنوعة.. وله في تجليات صفاته ظهورات متزاهرة. وله في جلوات أفاعيله تصرفات متظاهرة.. وله في تنويع مصنوعاته ربوبيات متدائرة على تجلي الأحدية على جزئيات محاط الواحدية، كما أشار إلى هذه الحقيقة العظيمة الواسعة ترجمانُ لسانِ القِدم في مناجاته في «الجوشن الكبير» وهذه المناجاة مشتملةٌ على تسعة وتسعين عقدة، وصَدَفُ، كلٍّ منها متضمنةٌ لاثني عشر من جواهر التوحيد صريحا أوضمنا؛ إذ إذا نودي أحدٌ بوصفٍ مطلق في مقام التعيين يدل على انحصار الوصف فيه. مثلا: «يا دائم» أي يا من لا دائمَ في العالم إلّا هو. فله سبحانه حجُب نورانية إلى سبعين ألفا، كما روي.. ولوجود المنافذ في الحجب والتناظر في الشؤونات والتعاكس في الأسماء، والتداخل في التمثيلات، والتمازج في العنوانات، والتشابه في الظهورات، والتساند في التعرفات، والتعاضد في الربوبيات، وتجلي الأحدية في إحاطة الواحدية، لزم البتةَ لمن عرفه سبحانه في واحد مما مرّ، أن لا يستنكرَه في سائر ذلك، بل يفهم بالبداهة أنه هو هو.

﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْاِنْسَانَ فٓي اَحْسَنِ تَقْويمٍ﴾ (التين:4).

اعلم أن من عجائب جامعية فطرة الإنسان، أن أدرج الفاطرُ الحكيمُ في هذا الجِرم الصغير موازينَ لا تُعدّ، لوزن ما لا يُحدّ من مدخرات رحمته. وأدمج فيه آلاتٍ لا تُحصى جهازاتُها المعنوية لفهمِ ما لا يتناهي من مكنونات كنوز أسمائه الحسنى.

انظر إلى حواسك العشرةِ كيف أحاطت بألوان عوالم المسموعات والمبصَرات والمذوقات وغيرها.. وكذا أعطاه جزئياتِ صفاتٍ وأحوالٍ من الإرادة والعلم والسمع وغيرها لفهم صفاته المحيطة وشؤونه الواسعة.. وكذا لفّ على أنانيته لفائفَ بعدد العوالم وألوانها، ليعرفَ حالها بتلك اللطائف.. وكذا ألبس على قامة ماهيته أقمصةً بعدد حُجب الربوبية ليترقى فيها بقطعها.. وكذا أودع فيه لطيفةً مُدرِكة، بصورة عجيبة، بحيث تصير الحافظة التي هي في صغر الخَردلة كعالَمٍ واسع، تسير تلك اللطيفة في تلك الخردلة دائما، ولا تصل إلى ساحلها. ومع ذلك قد يضيق على تلك اللطيفة هذا العالمُ الكبير، فتحيط هي بهذا العالم، وتحيط بها وبجميع ميادين جولانها ومكاتيب مطالعتها هذه الخردلة. فسبحان من صغّرها بلا غاية في عين كبرها بلا نهاية. ومن هذا السر، تتفطن لتفاوت مراتب الإنسان؛ فمن الإنسان من يغرق في ذَرّة، ومن الإنسان من تغرق فيه الدنيا.

ثم إن الإنسان قد يَفتح بمفتاحٍ من مفاتيحه الموهوبة عالَما واسعا من أبسط ما انتشرت إليه الكثرة، فيضل فيها فلا يصل إلى الوحدة والتوحيد إلّا بعُسر عظيم. فللإنسان في معناه وسَيره الروحي طبقاتٌ؛ ففي طبقة يتيسر له باليسر والسهولة الحضورُ والتوحيد، وفي طبقة أخرى تستولي الغفلةُ والأوهام، وقد تتسع عليه الضيقةُ بحيث يغرق في الكثرة غرقا تاما، فينسى الوحدة رأسا. وإن المدنيين الذين توهموا السقوطَ ترقيا، والجهلَ المركب يقينا، والانغماس التام في النوم انتباها، هم في هذه الطبقة السفلى. فهم أبعد بدرجات من البدويين من درْك الحقائق الإيمانية.

اعلم أن الواحدية تدل على أن الاسمَ يحيط بكل شيء، وأن الأحدية تدل على أن كلَّ شيء حيٍّ يشير إلى كل اسم له تعلّقٌ بالكون، فالتجلي بالواحدية بإحاطته بكل الأشياء، وبالأحدية بإراءة كل شيء لكل الأسماء.

اعلم أن أكثر مظاهر الجلال تجلي الأسماء على الكل والكليات والأنواع والجماعات. والجودُ المطلق في النوع من تجلي الجلال. وأن أغلب مرايا الجمال المتجلي نقوشُ جزئيات الموجودات، وجمال أشخاصها مع تزايد الحسن، وجلاء المرآتية بتلاحق الأمثال في تكثير الأفراد، والإتقان والانتظام الأجمل في شخصٍ شخصٍ من تجلي الجمال.. وكذا يظهر الجلال من تجلي الواحدية؛ ويظهر الجمال من تجلي الأحدية. وقد يتجلى الجمالُ من الجلال كما يتجلى الجلالُ من الجمال.. فما أجملَ الجلالَ في عين الجمال، وما أجملَ الجمالَ في عين الجلال!

اعلم أن شهود البصر للمصنوع المصنّع المرصّع مع عدم شهود البصيرة لصانعه ليس إلّا؛ إما لعدم البصيرة أوعماها، أوضيقِها من عظمة تصور المسألة، أوللخذلان. وإلّا فهو أنكرُ من إنكار شهود البصر، كالسوفسطائي بل أشنع وأكمه.

اعلم أنه كما أن من زرع بذرا في مزرعة، وعمّتها حبّاتُ البذر ولومنمنمة، تكون المزرعةُ محميّةً له، ومصونةً من تصرف الغير بالزرع مرة أخرى، حتى كأن البذر سورٌ معنوي.. كذلك كل نوع من أنواع النباتات والحيوانات المزروعة المبثوثة في مزرعة الأرض والمنثورة المنشورة في أكثر وجهها، سورٌ يمنع الشركة، وحارسٌ يطرد الغير، وحامٍ يردّ الأوهام. فكيف بتساند المجموع، وتعاضد الجميع بتلاحق الشواهد وتعانق الأفراد؟!

اعلم أنه كما أن من يُحب أن يشاهِدَ في رياض جنته وحديقته المنتظمة صورةَ القِفار الغير المنتظمة، ومثالَ أحجارها الموحشة، وتماثيلَ اعوجاجاتها المشوشة؛ لإظهار لطافةِ تنظيماته، قد يصنع فيما بين منظومات بستانه صخورَ الكهف بتنحيتاتٍ مشوشة، فكمالُ انتظامها هنا في عدم انتظامها. لكن يتفطن المدققُ أن تنظيمَ هذا بعدم الانتظام إنما هوبقصدِ ناظمٍ حكيم؟

كذلك إن ما يُشاهَد فيما بين المخلوقات المنظومة والمصنوعات الموزونة، من القفار المختلفة الأشكال المشوشة، ومن الجبال والآكام المتفاوتة الأحجار البعيدة عن النظام؛ بدرجة تتوهم النظرةُ الحمقاء الظاهرية أنْ لعبَت بها يدُ التصادف، ما هي إلّا منتظمةٌ بعدم التنظيم، ومشوشيتُه السطحية بقصدِ صانعٍ حكيم وفاطر عليم، بشهادة إحاطة المنظومات والموزونات بها وفرشها عليها، كنظم الدرر المنظومة على نحور الجواهر المنثورة لإظهار شعشعة الصنعة المنتظمة، وكإراءة شدة الظلمة لتلك النيّرات. فانظر إلى الأشجار ذوات الأشواك، وإلى النباتات المجهزة برماح أشواكها لدفع آكل النباتات، حتى ترى انتظاما عجيبا في عدم انتظامها، ولطافةً ظريفةً في خشونتها الموحشة. ومن أمارات كون عدم الانتظام -كالانتظام- بقصدِ صانعٍ حكيم؛ عدمُ توافق شكل بعضٍ لبعضٍ بدرجةٍ كأن كل فرد من نوعٍ مستقلٍ منحصرٌ في ذلك الشخص، مع اتحاد النوع وتآخذ أسباب التوافق. فعدم التوافق دليل عدم الاتفاقي وعدم التصادف.

اعلم أن من مزايا جامعية فطرة الإنسان، ومن مميزاته على سائر الحيوان، فهمَه لتحيّات ذوي الحياة لواهب الحياة. أي أنه كما يفهم كلامَ نفسه، يفهم بسمع الإيمان جميعَ كلمات ذوي الحياة المسبّحات، بل الجمادات. فكلٌّ منها يفهم كلامَ نفسه فقط -على ما يظهر- كمتكلّمٍ أصمَّ من هذه الجهة. وأما الإنسان فمتكلمٌ سميعٌ يسمع في وسعة البصر، أي يمكن له أن يسمعَ في وقتٍ بلا مزاحمةٍ ما تتكلم به الموجودات من أدلّات الأسماء الحسنى. فقيمة كلٍ منها بمقدار نفسه؛ وقيمة الإنسان المؤمن بمقدار الكل. فهوفردٌ كنوعٍ، بل كأنواع.. والله أعلم بالصواب..

اعلم أن الحقيقةَ تشبه الظاهر في الصورة، مع عظمة بُعْدِ ما بينهما في نفس الأمر. مثلا: التوحيد العامي الظاهري يَثْبُتُ بأن لا يُثبَتَ ولا يُسنَد شيءٌ من الأشياء إلى غيره تعالى، وهذا النفي سهل بسيط. وأما التوحيد لأهل الحقيقة فإنما يَثْبُتُ بأن يُثْبِتَ كلَّ شيء مما يشاهَد من الأشياء ويسندَه إليه سبحانه، ويرى فيه سكّته ويقرأ عليه خاتمه جلّ جلاله. وهذا الإثبات يُثبت الحضورَ وينافي الغفلة.

اعلم أن من حكمة إمهال الكافر المتوجّه بالمعنى الاسمي والقصد الذاتي إلى هذه الحياة الدنيوية؛ خدمتَه لتظاهر ألوان نعَمه تعالى الحاصلة بالتركيب الصُنعي، وإن لم يشعر هو..

وكذا تنظيمُه لمحاسنِ جميلاتِ مصنوعاته تعالى، وإن لم يفهم هو.. وكذا تشهيره -بطرزٍ جالبٍ للنظر- لغرائب صنعته سبحانه، وإن لم يتفطن هو.. كالساعة تعلّمُك عدد الساعات وهي لا تعلم ما تعمل هي.

اعلم أنه يمكن أن يذهبَ الموفَّق من الظاهر إلى الحقيقة بلا مرور على برزخ الطريقة؛ وقد رأيتُ من القرآن طريقا إلى الحقيقة بدون الطريقة، أي المشهورة. وكذا رأيت طريقا موصلا إلى العلوم المقصودة بدون المرور على برزخ العلوم الآلية.. نعم، ومن شأن الرحمة الحاكمة أن تُحسِن لأبناء هذا الزمان -السريعِ السيرِ- طريقا هكذا قصيرا سليما.

اعلم أنه كما أن وجودَ الشيء وحياتَه برهانٌ باهر على وجوب وجود موجده وصفاته، وآيةٌ نيّرة على أنه وحده، أي له كل شيء، وحجةٌ قاطعة لأيدي الأسباب.. كذلك فناءُ الشيء وموته في تجدد الأمثال برهانٌ ظاهر على بقاء المبدئ المعيد الوارث الباعث، ودليلٌ واضح على أنه لا شريك له -أي ليس لشيءٍ من الأشياء شيءٌ من الأشياء من جهة الخلق والإيجاد- وحجة قاطعة لأيدي أنفَس الأشياء من التأثير في أنفُسها.

الحاصل: أن الحياة تقول: «لا إله إلّا هو وحده»، وتردّ الأسبابَ.. وأن الموتَ يقول: «لا إله إلَّا هو لا شريك له»، ويردّ الأنفس.

اعلم أن من وظائف حياة الإنسان؛ شهودَه لتحيات ذوي الحياة لواهب الحياة. ثم الشهادةَ عليها، أي يشاهِد عبادةَ الكل فيشهَدُ عليها ويُعلنها كأنه ممثلُ الكلِّ ولسانُهم، يخبر الكلَّ بعمل الكلِّ في الإعلان لدى سيدهم.

اعلم أن القرآن والمنـزَل عليه القرآنُ يبحثان عن مسائلَ عظيمة، ويثبتان حقائقَ جسيمةً. ويبنيان أساساتٍ واسعةً؛ كأمثال إثبات وحدانية مَنْ يطوي السَـماء ﴿كَطَيِّ السِّجل لِلْكُتُبِ (الأنبياء:104).. ﴿وَالْاَرْضُ جَميعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيٰمَةِ وَالسَّمٰوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمينِه (الزمر:67).. ﴿وَمَٓا اَمْرُ السَّاعَةِ اِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ (النحل:77) بالنسبة إليه. و﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمٰوَاتُ السَّبْعُ وَالْاَرْضُ وَمَنْ فيهِنَّۜ (الإسراء:44) و﴿خَلَقَ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضَ في سِتَّةِ اَيَّامٍ (الأعراف:54).. ﴿وَيُحْيِ الْاَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا (الروم:19) ويحشر في تلك الأحياء أزيد من ثلاثمائة ألف حشر ونشر وقيامات، بإحياء أنواع النباتات والحيوانات، وكتابتِها على صحيفة الأرض في نهاية الاختلاط والاشتباك، مع غاية التمييز بلا خبط ولا غلط. مع أنّ حشر واحد من تلك القيامات المشهودة ليس بأهونَ من حشر طائفة الإنسان، إذ يزيد عددُ طائفةٍ واحدة من طوائف الذباب الذي يوجد في عمر سنة على عدد الإنسان في عمر الدنيا. وكذا يقولان: ﴿اَللّٰهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍۘ وَهو عَلٰى كُلِّ شَيْءٍ وَكيلٌ ﴿62 لَهُ مَقَاليدُ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ (الزمر:62- 63) و﴿خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (الصافات:96).. ﴿وَاَعَدَّ لِلْكَافِرينَ عَذَابًا اَليمًا (الأحزاب:8) ويقولان: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (الزلزلة:8).. وهكذا من عظائم المسائل المبرهنة المهمة، فليس نظرُهما في الكائنات كنظر الفنون الفلسفية والعقول الإنسانية، بل مَثَلُهما كمثل من يعرّفك صنعةً لتعريف صانعه، والمصنوعُ في قبضته يقلّبه، ويريك باطنَه وصحائفه وتلافيفَه وغاياتِ جهازاته عند صانعه، ويعلّمك كتابا بمعانيه وإشاراته.. ومَثلُ الإنسان وفلسفته كمثل من يعرّفك مصنوعا بعيدا من يدكما  ومن فهمكما -وإنما يصل نظركما إلى سطحه ولا ينفذ إلى باطنه- فيلقمك مسائلَ سطحيةً كوساوسَ شطحيّةٍ لا تسمن ولا تغني، وكمثل أجنبي أعجمي لا يعرف من العربية كلمةً، لكن له معرفة بمناسبات النقوش والصور، فشرع يعلمك كتابَ الفصوص المذهّب ببيان مناسبات نقوش الحروف، وكيفية صورها ووضعية بعض إلى بعضٍ. وهكذا، من سفاسفَ واهيةٍ صورية.

فإذا كان هذا هكذا؛ فلا تجعلْ مقاييسَ العلوم الإنسانية محكّا لحقائقهما، ولا تزنهما بميزانها؛ إذ لا توزَن الجبالُ الراسيات بميزان الجواهر النادرات، ولا تَطلب تزكيتَهما بها بجعل دساتيرها الأرضية مصداقا على تلك النواميس السماوية. فلا تظنن التزلزلَ بتحريك الأهواء الضالة لبعض التفرعات الجزئية، فأهمية الشيء بقدر قيمته.

اعلم أيها المصاب ببليةٍ دامت من مدة! لا توزّع من جنود صبرك وقوّته، في مقابلة ما مضى إلى يومك هذا، بل إلى ساعتك هذه؛ إذ التحقتْ تلك الأيامُ الأليمة الخالية إلى صف جنودك بانقلابها لذائذ معنوية وحسناتٍ أخروية. وكذا لا توزِّع من صبرك في مقابلة ما يأتي بعد يومك هذا، بل ساعتِك هذه. إذ هوعدمٌ ومعدومٌ وفي يد المشيئة. فأجمِع جميعَ قوة صبرك وجنودِه على هذا اليوم، وفي هذه الساعة، مع تقوّي قوتك المعنوية بالتحاق جنود البلايا الأعداء إلى جنودك بانقلابها أحبابا ممدّةً، مع الاستمداد من التوكل على المالك الكريم الرحيم الحكيم في مقابلة ما يأتي. فإذا فعلت هكذا، يكفي أضعفُ صبرك لأعظم مصيبتك.

اعلم أنه كثيرا ما يُتوهَّم -بقصور الفهم- ما هومن منابع الحقيقة ومعادن الحق أنه من مخايل المبالغة ومظانّ المجازفة.

مثلا: روي: «لو وزنت الدنيا عند الله جناح بعوضة، ما شرب الكافرُ منها جرعة ماء» أوكما قال.. المراد لا يساوي ما تمثّل في مرآة حياتك الفانية ووُسعة عمرك الزائل من هذه الدنيا الخارجية، مقدارَ جناح بعوضة من عالم البقاء. كما أن حبةً باقيةً بالتنبّت تُرجَّح على بيدر من تبنٍ يفنى بالتفتت.. فلكلِّ أحدٍ من هذه الدنيا -التي هي مظاهرُ الأسماء الحسنى ومزرعةُ الآخرة- دنيا، فإنْ نظر إلى دنياه بالمعنى الحرفي، واستعملها للباقي كانت لها قيمة عظيمة؛ وإلّا -فلفنائها- لا توازي ذرةً باقية، وقس عليها بعضَ ما ورد في ثواب بعض الأذكار مما لا يجري في مقاييس العقل.

اعلم أن مما يدل على أن دستورَ الحياة هوالتعاونُ دون الجدال -كما توهمَتْه الفلاسفة الضالة المضلة- عدمَ مقاومة التراب الصلب ولا الحجر الصلد لسيَران لطائف رقائق عروق النباتات اللينة اللطيفة، بل يشق الحجرُ قلبَه القاسي بتماسِّ حريرِ أصابعِ بناتِ النبات، ويفتح الترابُ صدرَه المصمّتَ لسرَيان رائد النباتات.

نعم، تجاوبُ أعضاء الكائنات بشمسها وقمرها لمنفعة الحيوانات، وتسارعُ النباتات لإمداد أرزاق الحيوانات، وتسابقُ مواد الأغذية لترزيق الثمرات، وتزيّنُ الثمرات لجلب أنظار المرتزقات، وتعاون الذرات في الإمداد لغذاء حجيرات البدن؛ دليلٌ قاطع ساطع على أن الدستور العام هوالتعاونُ وما الجدال إلَّا دستورٌ جزئي بين قسم من الحيوانات الظالمة.

اعلم أن مِن أظهر براهين التوحيد، السهولةَ المطلقةَ المشهودة. مع أن في الشركة يستلزم كلُّ شيء -لاسيما حي- كلَّ ما يلزم للكل. ففي كل فرد من الكلفة كلفةُ ما في الكون، لاستلزام الفرد في الانفراد كلَّ كلفة الكل، كميةً.

اعلمي أيتها النفس الأمارة! أنكِ متهَمةٌ في أحسن مطالبك؛ إذ قد تشتاقين إلى أمور الآخرة، لكن بالمعنى الحرفي، أي لئلا تتنغصَ الدنيا عليكِ بفنائها، فشوقُ الآخرة للتسلي من ألَم الفناء. فأُفّا وتُفا لهمّتكِ الدنية، كيف تُصيّر السلطان الدائمي خادما لحقير دنىٍ زائل؟ وتعمل خانا لسكن بعض الحيوانات في ليلة، بعَمَد مرصعةٍ بالجواهر تأخذُها من تحت قصرٍ سلطاني مستمرٍ.. فتخربين القصر على رأسكِ، وتأكلين ثمرات الجنة الباقية قبل بدُوصلاحها في هذا البستان الكاذب.

اعلمي أيتها النفس العاشقةُ لنفسها، المستندةُ على ظهور وجودها! أنك اكتفيتِ بقطرة سراب عن بحر ماء الحياة، وبلمعةٍ ضعيفةٍ في ليلةٍ مدلهمّة عن الشمس في رابعة النهار.

أما ظهورُ وجودِك بالنسبة إلى ظهور وجود فاطرك؛ فكنسبة عدد نفسِك الواحدة، إلى ضرب جميع الموجودات في ذراتها. إذ نفسُك تدل على وجود نفسك بوجه واحد، وبمقدار جرمك.. وتدل على وجود موجِدها بوجوه لا تعد، مع دلالة كل من الموجودات على ظهور وجود موجِدك بوجوهٍ لا تعد أيضا إفرادا وتركيبا، فلابد أن يكون ظهورُ وجوده عندك أظهرَ من وجودكِ بدرجةِ أعظميةِ العالم على صغرك.

وأما حبُّك لنفسك، لأنها مخزنٌ لذّتك ومركزُ وجودك ومعدنُ نفعك وأقربُ إليك. فقد التبس عليك ظل الظليل الزائل، بأصل الأصيل الكامل. فإن تحبَّ نفسَك لِلذةٍ زائلة؛ فلابد أن تحبَّ من يفيدك لذائذَ باقيةً بلا نهاية، ويفيضُ على جميع من تلتذ بسعاداتهم لذائذَ تُسعِدُهم.

وإن كانت نفسُك مركزَ وجودك؛ فربُّك موجِدكَ، وقيّومُ وجودك مع وجودات كل من لك علاقة بوجودهم.

وإن كانت نفسك معدنَ نفعك؛ فرازقُك هوالذي بيده الخيرُ كله، وهوالنافع الباقي، وعنده نفعُك ونفعُ كلِّ مَن لك نفعٌ في نفعهم.

وإن كانت نفسُك أقربَ إليك؛ ففاطرُها أقربُ منها إليها، إذ تصل يدُه منها إلى ما لا تصل يدُها ولا شعورُها ولا حبُّها إلى ذلك الشيء الذي هوفي بحبوحة نفسها، فلابد أن تجتمع جميعُ المحبات المنقسمةِ على جميع الموجودات مع محبتك لنفسك فتهديها إلى جناب المحبوب الحقيقي.