بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿وَمَا هٰذِهِ الْحَيٰوةُ الدُّنْيَٓا اِلَّا لَهو وَلَعِبٌۜ وَاِنَّ الدَّارَ الْاٰخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ﴾ (العنكبوت:64).

اعلم أيها السعيد المسافر إلى الشيب، إلى القبر، إلى الحشر، إلى الأبد! إن ما أعطاك مالكُك من العمر لتحصيل لوازمات الحياتين بقدر الطول والقصر، قد ضيعتَه كلَّه في هذه الحياة الفانية التي هي كقطرة سرابٍ بالنسبة إلى البحر، فإن كان لك عقل فاصرف نصفَه أوثلثه لا أقل عُشرَه للباقية. ومن العجائب أن يقال لمثلك مِن أحمق الناس هوعاقل ذوفنون.

مثلا: هل تَرى أحمقَ من عبدٍ أعطاه سيدُه أربعة وعشرينَ دينارا وأرسله من «بوردور»، إلى «أنطالية»، إلى «الشام»، إلى «المدينة»، إلى «اليمن». وأمره أن يصرف تلك الدنانير في لوازمات سفره، لكن إلى «أنطالية»، يمشي راجلا له نوع اختيارٍ، لولم يصرف شَيئا لوصل أيضا. ومنها إلى سائر منازله لا اختيار له، إن اشترى وثيقةً لركب سفينةً أو«شمندوفرا» أوطيارةً وقطع مسافة شهرٍ في يومٍ. وإلا لذهب ماشيا طريدا تائها وحيدا. مع أن ذلك السائح الأبله صرف ثلاثة وعشرين دينارا في مسافة يومين! فقيل له: فلا أقلَّ فاصرف الواحد لِزاد السفر الطويل، يمكن أن يرحمك سيدُك. فقال: لا أصرف لاحتمال عدمِ الفائدة. فقيل له: فيا للعجب لبلاهتك إلى هذه الدرجة! كيف يفتيك عقلُك أن ترمي نصفَ مالك في قمار «البيانكو» وهوثمانية وأربعون دينارا، مع اشتراكِ ألفِ إنسان برجاء الظفر بألفِ دينارٍ، باحتمالٍ واحد من ألفِ احتمالٍ. فكيف لا يفتيك هذا العقلُ بأن تعطي جزءً واحدا من أربعة وعشرين جزءً من مالكَ لتظفر بكنوزٍ لا نفاد لها بتسعمائة وتسعة وتسعين احتمالا بشهادات ملايين من أهل الخبرة والاختصاص. مع أنه يُهتم في مثل هذه المنفعة الجسيمة بإخبارِ واحدٍ عامي، فكيف بإخباراتِ شموس البشر ونجومه المتواترين، وأهلِ الشهود الذين يُرجَّح اثنان من مثبتي أهل الشهود على ألوف النافين المنكرين، كما يرجَّح شاهدان لهلال رمضان على ألوف المنكرين لرؤيته.

أما العبد المسافر فأنت. وأما «بوردور» فدنياك. وأما «أنطالية» فالقبر. وأما «الشام» فالبرزخ. وأما «اليمن» فما بعد الحشر. وأما الدنانير الأربعة والعشرون، فأربعٌ وعشرون ساعة في عمر اليوم، تَصرِف ثلاثا وعشرين ساعةً لمصالح الحياة الفانية؛ وتتهاونُ في صرفِ ساعةٍ واحدةٍ في أداء خمس صلوات التي هي مِنْ أَلْزَمِ الزاد في السفر الطويل!

هذا التمثيل لبيان سر من أسرار الآية الكريمة:

﴿وَاُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقينَۙ ﴿90﴾ وَبُرِّزَتِ الْجَحيمُ لِلْغَاوينَ﴾ (الشعراء:90-91).

اعلم يا أيها الغافل التارك للدين في طلب الدنيا! أحكي لك حكايةً تمثيليةً، فيها مثالُ قِسم من حقائق الدنيا والدين.

كان فيما غبرَ من الزمان أخوَان، فذهبا إلى أن انقسم الطريق طريقين: في أحداهما كلفةُ اتّباع القوانين، وفي الأخرى لا كلفةَ في الظاهر.. فذوالخُلق الحَسن اختار جانب اليمين مع الكلفة الخفيفة. وذوالخُلق السيئ اختار جانب اليسار مع الخفة الثقيلة. فذهب ذوالشمال فيما بين القِفار إلى أن دخل صحراءَ خالية فسمع صوتا هائلا، فرأى أسدا مدهشا يهجم عليه، ففرّ إلى أن صادف بئرا عميقا بستّين ذراعا، فرمى نفسه فيه، فسقط ثلاثين ذراعا فوصل يدُه إلى شجرة في جداره، ولها عِرقان؛ قد تسلطت عليهما فأرتان: بيضاء وسوداء تقطعان العرقين. فنظر فيما تحته فرأى ثعبانا عظيما رفع رأسه إلى قرب رجله، وسعةُ فمه كفم البئر. ونظر في جوانبه فرأى حشرات مضرّة مؤذيةً. فنظر إلى الشجرة فرآها شجرة التين، لكن أثمرت أنواعا متباينةً من ثمرات الأشجار المختلفة، فبينما ضجت لطائِفُه من دهشة الوضعية، إذ تجاهلت نفسُه بالتغافل مع أنيناتِ لطائفِه، فحسِبَ -بالمغالطة- أنه في بستانٍ، فبسرّ حديثِ: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي» هكذا ظنَّ، فهكذا عُومِلَ. فبقى أبدا بين هذه الأهوال لا يموت ولا يحيى. فهذا المسكين -بسوء فهمه- لم يتفطن أنه لا يمكن التصادف في هذه الأمور المطلسمة.

فلنرجعْ ونترك هذا المشؤوم في عذابه؛ ولنذهب خلف الأخ الميمون المتيامن. فهذا يذهب مستأنسا بحُسن ظنه الناشئ من حُسن سيرته. انظر كيف استفاد بحُسن نَظره مما لم يستفد منه أخوه، إذ صادف في طريقه بستانا فيه أثمارٌ وأزهار، مع مستقذراتٍ وميتات. فتنـزّه بالمستحسنات ولم يلتفت إلى الملوَّثات كأخيه. ثم ذهب حتى دخل في صحراء خالية فسمع صوتَ الأسد الهاجم، فخاف لكن لا بدرجة أخيه، باحتمالِ أن الأسدَ مأمورُ سلطانِ الصحراء، ففرّ فصادف بئرا بستين ذراعا فطرح نفسه فيه، فتعلق في نصفه بشجرة لها عِرقان، تسلطت عليهما فأرتان تقطعانهما، فنظر فوقه فرأى الأسد؛ ونظر تحته فرأى ثعبانا عظيما -فمه كفم البئر- تقرُب إلى رجليه، فتدهّش من الخوف لكن أدنى بمراتب من دهشة أخيه. لأنه تفطّن بحُسن ظنِّه وفهمه من تناظر هذه الأمور العجيبة أن فيه طلسما، وأنها تحت أمر حاكم ناظر إليه يجرّبه. فتولّد من خوفه «مَرَقُ» معرفَةِ مَن هوالذي يتعرّف إليَّ ويسوقنى إلى أمرٍ من عنده. فتولد من «مرقه» محبةُ صاحب الطلسم. فنظر إلى رأس الشجرة فإذا هي تينة أثمرت أثمارا متباينةً فزال خوفه بالكلية، وتيقن أنه تحت حُكم طلسم، إذ لا يمكن أن تثمر التينة ثمراتِ سائر الأشجار. فما هي إلا إشاراتٌ إلى ألوانِ الأطعمة التي أعدّها ذلك الملِك الكريم لضيوفه. فتولد من محبته له طلبُ ما يفتح به الطلسم ويرضى به الطلسم، فأُلهِمَ المفتاحَ، فنادى: تركتُ الكلَّ لك، وتوكلتُ عليك! فانشقّ الجدار، فانفتح بابٌ إلى جنانٍ نـزيهة. فرأى الأسد والثعبان انقلبا خادمَين يدعوانه إلى الدخول..

فانظر إلى تفاوت حال الأخوين: ذاك ينتظر الدخولَ في فم الحية، وهذا يُدعى إلى الدخول في باب البستان المنوّر المزهر المثمر.. وذاك في دهشة أليمةٍ وخوف يتفطّر منه أعماقُ قلبه، وهذا في عبرة لذيذة وخوف تتقطر منه محبةٌ وحرمة ومعرفة.. وذاك في وحشةٍ ويأسٍ ويُتمٍ، وهذا في أُنسيةٍ ورجاء واشتياق.. وذاك في هدفِ تَهاجُمِ الأعداء الموحشة، وهذا ضيف يستأنس بخدام المُضيف.. وذاك يعجِّل عذابَه بأكل الثمرات اللذيذة التي أُذن في طعمها لاشتراء ما هي من أنموذجها لا إلى أكلها، إذ في بعضها سمٌّ، وهذا يؤجّل الأكلَ ويلتذ بالانتظار..

فإذا تفهّمتَ دقائق التمثيل فاعرف أوجُه التطبيق: أما الأخَوَان فالروحُ المؤمن والكافر، والقلبُ الصالح والفاسق. وأما الطريقان فطريق القرآن والإيمان، وطريق العصيان والطغيان. وأما الصحراء فالدنيا. وأما الأسد فالموت. وأما البئر فالبدن والحياة، وأوسط العمر ستون. وأما الشجر فالعمر. وأما الفأرتان البيضاء والسوداء فالنهار والليل. وأما الثعبان فالبرزخ الذي فمه القبر.. وأما الحشرات المضرة فالمصيبات.. وأما الثمرات فالنعم الدنيوية المشابهة المذكِّراتُ لثمرات الجنة.. وأما المسمومة منها فالمحرّمات. وأما الطلسم فسر حكمة الخلقة.. وأما المفتاح فـ ﴿اَللّٰهُ لَٓا اِلٰهَ اِلَّا هوۚ اَلْحَيُّ الْقَيُّومُ (البقرة:255) (أي يا الله أنت معبودي ورضاك مطلوبي) و«لا إله إلا الله». وأما تبدّلُ فم الثعبان بباب البستان؛ فلأن القبرَ لأهل القرآن والإيمانِ بابٌ إلى رحمة الرحمن في دهليز الجنان، ولأهل الضلالة والطغيان باب إلى ظلمات الوحشة والنسيان في برزخ كالزندان كبطن الثعبان. وأما تبدلُ الأسد المفترس فرسا مونسا؛ فلأن الموتَ للضال فراقٌ أبدى عن جميع محبوباته، وإخراجٌ له من جنته الكاذبة الدنيوية إلى زندان القبر في الانفراد. وأما للهادي فوصالٌ إلى أحبابه، ووصولٌ إلى أوطانه، وخروج من زندان الدنيا إلى بستان الجنان لأخذ أُجرة الخدمة من فضل الحنّان، المنّان الديّان الرّحمن. جل جلالُه ولا إله إلا هو.

اعلم أيها السعيد المغرور المفتخر بما لم تفعل! أنه لا حقَّ لك في الفخر والغرور؛ إذ ليس منك في نفسك إلا القصور والشر. وإن كان خيرا فهوجزئي كجزئك الاختياري، لكن بجزئك الاختياري تفعل شرّا كليا، إذ بقصورك تُسقِط ثمراتِ سائر الأسباب المتوجهه إلى مقصودك، فتستحق خسارة كليةً وخجالةً عامةً، لكن عكستَ القضية فَتَفَرْعَنت..

مثَلُك في هذا، كمثل مغرورٍ أحمق صار شريكا لجماعةٍ في التجارة بسفينةٍ، ففعل كلُّ واحد وظيفته، فترك هووظيفته التي بها تتحرك السفينة حتى غرقت فخسروا ألف دينارٍ، فقيل له: الحقُّ أنّ كلَّ الخسارة عليك، فقال: لا، بل تنقسم علينا فعليَّ بمقدار حصتي. ثم في سفر آخر، فعلَ كما فعلوا فربحوا ألف دينار؛ فقيل له: فليُقسم الربحُ على رأس المال، فقال: لا، بل كل الربح لي، إذ قلتم أولا كل الخسارة عليك، فإذن كل الربح لي. فقيل له: أيها الجاهل! «الوجودُ» يتوقف على وجود كل أجزاء الموجود والشرائط. فثمرةُ الوجود تُعطى للكل، والربح وجود. وأما الخسارة فثمرةُ العدم مع أن الكلَّ ينعدم بعدم جزء واحد وبفَقد شرطٍ.

فيا أيها السعيد اسما، والشقي جسما! تُرجَع ثمرةُ العدم على من صار سببا للعدم، فلا حقَّ لك في الفخر والغرور.

أما أولا: فلأن الشرَّ منك والخير من ربك.

وأما ثانيا: فلأن شرَّك كلي وخيرَك جزئي.

وأما ثالثا: فلأنك أخذتَ أُجرة عملك الخير قبل العمل، بل لا تساوي جميعُ حسناتك لعُشر معشار عشير ما أَنعم عليك مَن جعلك إنسانا مسلما. ومن هذا السر تكون الجنة من محض الفضل، وتكون جهنم عين العدل؛ إذ قد يعمل البشر بشرّه الجزئي الآنيّ جنايةً كليةً دائمةً.

وأما رابعا: فلأن الخير إنما يكون خيرا إن كان لله. فإذا كان له، فالتوفيق منه، فالمنّة له.. فالحقُّ «الشكرُ» لا «الفخر» بالإراءة والرياء الذي يصيّر الخيرَ شرا.. فمن جهلك بهذه الحقيقة صرتَ مغرورا في نفسك، غَرورا لغيرك.. فتُسند حسنات الجماعة إليه فيتفرعنُ في نظرك، بل تقسِّم مالَ الله وفعلَه على الطواغيت.

وكذا من هذا الجهل إسنادُك سيئاتك التي هي منك -بالنص- إلى القدَرَ فرارا من المسؤولية، وتملّكُك للحسنات التي هي من فيضِ فضلِ فاطرك -بالنص- إلى نفسك، لتُحمَد بما لم تفعل.. فتأدّبْ بأدب القرآن: ﴿مَٓا اَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّٰهِۘ وَمَٓا اَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ (النساء:79) فالتزم ما لَك، ولا تغصِب ما ليس لك. وكذا تأدّب بآداب القرآن؛ بجعل جزاءِ السيئة مثلَها.. والحسنةِ عشرَ أمثالها.. فلا تُعدّي عداوتَك من المسيء بصفةٍ إلى أقاربه وإلى سائر صفاته، وتجاوزْ بمحبتك من المحسن إلى أنسابه مع الصفح عن عيوبه.

اعلم  أيها السعيد الغافل الفضولي! إنك تترك وظيفتَك، وتشتغل بوظيفة ربِّك. فمِن ظلمك وجهلك تركُك لوظيفة العبودية الخفيفة التي هي في وسعتك.. وحملُك على ظهرك ورأسك وقلبك الضعيف وظيفةَ الربوبية التي تختص بمن ﴿اَلَّذي خَلَقَكَ فَسَوّٰيكَ فَعَدَلَكَۙ ﴿7 فٓي اَيِّ صُورَةٍ مَا شَٓاءَ رَكَّبَكَ (الانفطار:7،8) فالتزم وظيفتَك، وفوّض إليه وظيفته لتسعدَ وتستريح.. وإلّا صرت عاصيا شقيا وخائنا غويا. مثلُك كمثل نفرِ عسكرٍ له وظيفة أصلية هي التعليم المخصوص، والحرب والجهاد، والسلطان مُعينُه في هذه الوظيفة بإحضار لوازماتها، ولسلطانه وظيفةٌ مخصوصة هي إعطاء أرزاق ذلك النفر وتعييناته ولباسه حتى دوائه.. لكن قد يَستخدم النفرَ في وسائل هذه الوظيفة، لكن بحساب الدولة.

ومن هذا السر؛ إذا قلتَ لنفر يطبخ طعامه: ما تفعل؟ يقول: أفعل سُخرةً «وعنقرةً» للدولة، ولا يقول أعمل لرزقي.. لعلمه أنه ليس من وظيفته، بل على الدولة حتى أن تُدخل اللقمةَ في فمه، إن لم يقتدر بالمرض مثلا. فالنفر المشتغل بالتجارة لتَدارُك رزقه جاهلٌ شقيّ يُزيَّف ويؤدّب.. والتارك للتعليم والجهاد خائن عصيّ يُضرَب ويُعنَّف.

فيا سعيد الشقي! أنت ذلك النفر، وصلاتُك هي تعليماتك. وتقواك -بترك الكبائر ومجاهدتُك مع النفس والشيطان- هي حربُك. فهذه هي غاية فطرتك لكن الله هوالموفِّق المعين. وأما رزقُك وإدامةُ حياتك وما يتعلق بك من الأموال والأولاد، فهي من وظيفة فاطرك، لكنه قد يستخدمك في وسائلِ قرعِ أبوابِ خزائنِ رحمته بالسؤال الفعلي أوالحالي أوالقالي، وقد يستعملك في الذهاب في المسالك التي توصلك إلى مطابخ نعمته، فتطلب بلسان الاستعداد أوالاحتياج أوالفعل أوالحال أوالقال ما عيّن وَقدّر لك.. فما أجهلَك في اتهامك -في حق رزقك- مَن رزقك أطيب الرزق، وأنت طفل صغير بلا اختيار ولا اقتدار ويرزق كل دابة لا تحمل رزقها وهوالسميع العليم القدير الغني الذي جعل الأرض في الصيف مطبخةً لضيوفه يفيض فيوضه في ظروف الرياض، ويملأ أواني الأشجار بلذيذات الأطعمة.. فاعمل بحسابه وباسمه وبإذنه فيما استعملك فيه بعد إيفاء وظيفتك الأصلية.. فإذا تعارضا فعليك بوظيفتك فتوكل عليه، وقُلْ: حَسْبِيَ الله ونِعْمَ الوَكيلُ، نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصير.

* * *

 

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿وَاِذَا سَاَلَكَ عِبَادي عَنّي فَاِنّي قَريبٌۜ اُجيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ اِذَا دَعَانِ﴾ (البقرة:186)

وكذا ﴿ادْعُونٓي اَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ (غافر:60)

وكذا ﴿قُلْ مَا يَعْبَؤُ۬ا بِكُمْ رَبّي لَوْلَا دُعَٓاؤُ۬كُمْ﴾ (الفرقان:77).

اعلم يا مَن يدّعي أنه يدعوولا يُجاب! إن الدعاء عبادةٌ. وثمرةُ العبادة في الآخرة. وأما المقاصد الدنيوية فأوقاتُ تلك الأدعية التي هي عبادات مخصوصة.

فكما أن الغروبَ وقتُ صلاة المغرب. والخسوف والكسوف وقتُ صلاة الكسوفين لا غايةٌ لهما، وانقطاعَ المطر؛ وقتُ صلاة الاستسقاء، لا أن الصلاة وُضعت لنـزول المطر، بل هي عبادةٌ لوجه الله تدوم مادام لم ينـزل، وإذا نـزل المطر انقضى وقتُها.

وكذا، تسلّطُ الظالمين ونـزولُ البلايا أوقاتٌ لأدعيةٍ مخصوصة تدوم مادامت هي، فإن رُفعت بها فنورٌ على نور، وإن لم تُرفَع لا يُقال: لم يُقبَل الدعاء، بل: لم ينقضِ وقتُ الدعاء.

وأما وعد الإجابة في ﴿ادْعُونٓي اَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ فالإجابة غيرُ قبول الدعاء بعينها، بل الجوابُ دائمي، وإسعافُ الحاجة تابعٌ لحكمة المُجيب.

مثلا: تقول لطبيبك: يا حكيم! فيقول: لبيك مجيبا.. فتقول: أعطني هذا الطعامَ أوالدواء. فقد يعطيك عينَ ما طلبت أوأحسنَ منه، وقد يمنعُك بضرورةٍ في مرضك. ومن أسباب عدم قبول الدعاء ظنُّ كونٍ الدعاء لهذه المقاصد الدنيوية. مثلا: يُظن صلاةُ الاستسقاء موضوعةً للمطر فلا تكون خالصةً فلا تُقبل.

اعلم أن بالانقلاب ينفرجُ وادٍ معنويّ بين الطرفين، فلابد من جسر ممدود فيه مناسبة بين العالَمين ليمرَّ عليه بالتعريّ والتلبّس من هذا العالم إلى ذلك العالم. لكن الجسر له أشكالٌ متخالفة، وماهيات متباينة وأسماءٌ متنوعة باعتبار أجناس الانقلابات وبُعد مقام المنقلَب إليه عن نوع المنقلِب. فالنومُ جسرٌ بين عالم اليقظة والمثال. والبرزخ جسر بين الدنيا والآخرة.

والمثال جسر بين العالم الجسماني والروحاني. والربيع جسر بين الشتاء والصيف. وأما في الحشر فليس فيه واحد، بل تندمج فيه انقلاباتٌ كثيرة عظيمة فجسرُها أعجبُ وَأعوج وأغرب!

اعلم أن في إكثار ذكر القرآن لمآل ﴿اِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ (الأنعام:60) ﴿ثُمَّ اِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (البقرة:28) ﴿وَاِلَيْهِ الْمَصيرُ (المائدة:18) ﴿وَاِلَيْهِ مآبِ (الرعد:36) بشارةً عظيمة، وتسليةً جسيمة -وإن تضمنت للعاصي تهديدا- إذ تقول هذه الآياتُ للناس: إن الموتَ والزوال والفناء والفراق من الدنيا ليست أبوابا للعدم والسقوط في ظلمات الفناء والانعدام، بل هي أبوابٌ للقدوم والذهاب إلى حضور سلطان الأزل والأبد. فهذه الإشارة تُنجي القلبَ من دهشة ألَمِ تصوُّر تَمزُّقِهِ مع جميع محبوباته بين أيدي عدَمَات هائلة غير متناهية، والتفرّق بين أنيابِ فراقات مدهشة. فانظر إلى دهشة جهنّمَ المعنويةِ المندمجة في الكفر! إذ بسرِ: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي» ظنَّ الكافرُ هكذا.. فصَوَّرَ فاطرُه ظنَّه عذابا أبديا عليه.. ثم انظر إلى درجةِ تفوّق لذة اليقين بلقاء الله حتى على الجنة، ثم بعدَه مرتبةُ الرضاء، ثم بعده درجة الرؤية، حتى إن جهنم الجسمانية للمؤمن العارف العاصي كالجنة بالنسبة إلى جهنم المعنوية للكافر الجاهل بخالقه. ولولم يكن من البراهين الغير المحصورة للبقاء ووسائله، إلا «تضرّعاتُ حبيب المحبوب الأزلي» وقد اصطف خلفَه في تلك الصلاة الكبرى صفوفُ الأنبياء وصفوفُ الأولياء مؤمِّنين على دعَواته ومناجاته، لكَفَتْ وسيلةً وبرهانا. أيمكن أن يوجد في هذا الحُسن الأبدع الأجمل، والجمال الأبرع الأكمل هذا القبحُ الأعجَبُ والنقصُ الأغرب؟ أي بأن لا يَسمعَ مَن يَسمع أخفى هواجسِ الحاجات، لِأخفى المخلوقات بدليل قضائها في أوقاتها اللائقة، وأن لا يَقبلَ أرفعَ الأصوات الصاعدة من الفرش إلى العرش، وأحلى المناجاة، وأعظمَ الدعوات، في أشد الحاجات..؟ كلا ثم كلا.. هوالسميع البصير.

نعم، هذه المعاملة من أوسع مراتب شفاعته عليه الصلاة والسلام وكونه رحمةً للعالمين.

اعلم أنه كثيرا ما أُصادف الغافلين وهم يتحججون بمسألة القَدر، ويتعمقون في مسألة الجزء الاختياري، وخَلق الأفعال.. مع أنهم بلسان غفلتهم ينكرون القدر رأسا ويعطون الأزمّة ليد التصادف، يتوهمون أنفسَهم فاعلين على الإطلاق، ويقسّمون مالَ الله وصُنعَه على أبناء جنسه وعلى الأسباب. فالنفسُ الكافرة أوالغافلة في وقت الغفلة تسلب الكلَّ باطنا وإن أثبتت ظاهرا. والمؤمنةُ العارفة تثبت الكلَّ له إيمانا وإذعانا؛ فهاتان المسألتان في الكلام، غايتان لحدود التوكّل والإيمان، ولمراقي التوحيد والإسلام، لأهل الصحووالحضور من العارفين، وبرزخٌ حاجز. فأين أنتم أيها الغافلون المتفَرعنون في أنانيتكم، وأين التحقق بهاتين المسألتين؟ فإن ترقيتَ في المَحويّة والعبودية إلى درجة نفي الجزء الاختياري، وإلى مقام إحالة كل شيء على القَدرَ، فلا بأس عليك، إذ فيك نوعٌ من السُكر؛ إذ هما حينئذٍ من المسائل الإيمانية الحالية، لا العلمية التصورية.

اعلم أن التواضعَ قد ينافي تحديث النعمة. وقد ينجرُّ تحديثُ النعمة إلى الكِبر والغرور، فلابد من الدقة والإمعان وترك الإفراط والتفريط.

وللاستقامة ميزان وهوأن لكل نعمةٍ وجهين: وجهٌ إلى المُنعَم عليه فيزيّنه ويميّزه ويتلذذ به، فيفتخر، فيقع في السُكر فينسى المالك، فيتملّك، فيظن الكمالَ بمُلكه الذاتي، فيتكبر بما لا حقّ له فيه.. ووجهٌ ينظر إلى المنعِم فيظهر كرمَه، ويُعلن رحمته، وينادي على إنعامه، ويُشهد على أسمائه. وهكذا مما يتلومن آيات جلواته في إنعامه. فالتواضع إنما يكون تواضعا إذا نظر إلى الوجه الأول، وإلّا تضمن كفرانا. وتحديثُ النعمة إنما يكون شكرا معنويا وممدوحا إذا نظر إلى الوجه الثاني، وإلا تضمن تمدحا وغرورا.

يا يوسف الكشرى! إذا تلبستَ بلباس فاخر غالٍ لأخيك يوسف الكيشي، فقال لك سعيد: ما أحسَنك! فقل: الحُسن للّباس، لا لي، فتصيرَ متواضعا في التحديث.