اعلم أن عِرقَ الرقابة والغبطة والحسد إنما يتحرك عند أخذ الأجرة وتوزيع المكافأة وملاحظتِها. وأما عند الخدمة وفي وقت العمل فلا، بل الأضعفُ يحبُّ الأقوى، والأدنى يميل إلى الأعلى، ويستحسن تفوّقَه عليه، ويحب زيادته في الخدمة عليه؛ لأنه يتخفف عنه ثقلُ الخدمة وكلفةُ العمل. فإذ كانت الدنيا دار خدمة وعمل فقط للأمور الدينية والأعمال الأخروية، لابد أن لا يتداخل فيها الرقابةُ والحسدُ، وإذا تداخلت فيها الرقابة يظهر عدمُ الإخلاص، وأنّ العامل في تلك الأعمال يلاحظ مكافأةً دنيوية أيضا، وهوتقديرُ الناس واستحسانُهم. ولا يعرف المسكينُ أنه بهذه الملاحظة أبطلَ عملَه -بدرجةٍ- بعدم الإخلاص بتشريك الناس برب الناس في إعطاء الثواب، وأضعفَ قوتَه بتنفير الناس عن معاونته.

اعلم أن معنى الكرامة مباينٌ لمعنى الاستدراج، إذ الكرامةُ كالمعجزة فعلُ الله.. ويتفطّن صاحبُها أنها منه سبحانه، وليس من نفسه، ويطمئن بأنه حامٍ له رقيبٌ عليه يختار له الخير. فيزداد يقينا وتوكلا. فقد يشعر بتفاصيل الكرامات بإذن الله، وقد لا يشعر وهذا أولى وأسلمُ. كأنْ أنطقه الله بما في قلب أحدٍ، أومثّله له يقظةً لهدايته، وهولا يعلم ما يفعل الله به لعباده.

وأما الاستدراج فينكشف له صورةُ الأشياء الغائبة وهوفي غفلة، أويعمل أفعالا غريبة، وهومستند بنفسه واقتداره فيزدادُ بُعدا وأنانية وغرورا. فيقول: ﴿اِنَّمَٓا اُو۫تيتُهُ عَلٰى عِلْمٍ (القصص:78) وانكشف لي بصفاء نفسي وضياء قلبي.. فلا التباس بين أهل الاستدراج وأهل الولاية في الطبقة الوسطى.

وأما مظهر الفناء الأتمَّ من أهل الطبقة العليا المنكشف لهم بإذن الله الأشياءُ الغيبية، فيرونها بحواسهم التي هي لله فالفرق أظهرُ؛ إذ نورانيةُ باطنِهم المترشحةُ إلى الظاهر أرفع من أن تلتبس بظلماتِ من يرائي ويدعوإلى أنانيته.

﴿وَاِنْ مِنْ شَيْءٍ اِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه﴾ (الإسراء:44).

اعلم أن التسبيح والعبادة على وجوه غير محدودة في كل شيء، ولا يلزم شعورُ كل شيء بكل وجوه تسبيحاته وعباداته دائما. إذ لا يستلزم الحصولُ الحضورَ؛ مثَلُ ذلك كمثل أجير جاهل يعمل في سفينة لمالكها الذي استأجره ليجسَّ بإصبعه على بعض مسامير «الألكتريكية» في بعض الأوقات، ولا يعرف الأجير ما يترتبُ على عمله من الغايات الغالية. وإنما يعرف ما يعود إلى نفسه من الأجرة ولذةِ المكافأة. حتى قد يتوهمُ أنّ وضعَ هذا العمل ليس إلاّ لهذه اللذة.. كمَثل الحيوان الذي لا يعرف من غايات الازدواج إلّا لذّةَ قضاء الشهوة، ولا يضرّ جهلُه هذا -ولا يمنع- من حصول النسل الذي هوغايةٌ من الغايات المطلوبة لمالكه. كمثل النمل ينظّف وجهَ الأرض من جنائز الحُوينات، مع أنه لا يعرف إلّا تطمين حرصه.. أوكمثل العنكبوت الذي يزيّن وجهَ الفضاء، ورؤوس النباتات والأحجار بخيوط حريره المتلمّعة بالضياء للمسابقة مع الهوام في سير الهواء ولا يعرف إلّا نسج مصيدته، ومدَّ ما يطير به ليمرَّ عليه.. وكمثل الساعة تُعرِّفك عددَ ما انقضى من عمرك اليومي، وهي لا تعرف إلّا زوال ألم تضييق أمعائها.. وكمثل النحل صنع ما صنع بحلاوة الوحي المندمج في لذّته الخاصة.. وكمثل الوالدات النباتية والحيوانية والإنسانية إنما تعمل للذة الشفقة، ولا تخل جهالاتُها بالغايات بحصول تلك الغايات التي زيّنت بيتَ الكائنات. بل كأن تلك الشفقة نواةٌ ومِسطَر لتلك الغايات.

ويكـفي المـسبّحين العابديـن علمُهم بكـيفية عملهم فـقط. كما قال عز وجل: ﴿كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبيحَهُ﴾ (النور:41). ولا يلزمهم علمُهم بكون عَمَلهم تسبيحا مخصوصا هكذا، وشعورهم بصفة العبادة المعينة. ويكفيهم شعورُ سائر إخوانهم المتفكرين بما في أعمالهم من لطائف العبادات وغرائب التسبيحات. بل يكفي علمُ المعبود المطلق فقط. وإذ لا ابتلاء بالتكليف لا تلزمهم «النية» فلا يلزم شعورُهم بوصف عملهم. على أن تلك المصنوعات في الأصل كلماتُ تسبيحاتٍ أفادت معانيَها ثم صارت تلك الكلماتُ مسبّحاتٍ بألسنتها كذواتها. وفي تلك الكلمات مسبحاتٌ أخرى. وفي هذه أيضا مسبّحات صغار، وفيها أيضا مسبحات أصاغر وهكذا، إلى ما شاء السبّوح القدّوس جلّ جلالُه ولا إله إلّا هو.

اعلم أن ما أُرسل إليك وزيّنك من الرأس إلى القدم من أشتات النِعم والمحاسن واللطائف إنما تمرّ «بميزانٍ» من خلال حُجبٍ متباينة، وتتسَلَّلُ «بنظام» من بين لفائفَ متخالفةٍ، وتتوجه إليك «بالانتظام» من خلف طوائفَ متضادة.

اعلم أن في النفس أمرا لطيفا كدرهم من وَرِق رقيق، أظن أنه مرصاد الأبد؛ إذ ما يمسّه شيء إلّا ويعطيه حُكمَ الأبد ويموّهه بوَهم الأبدية، وإذا استعمله الهوى والهوس، صار آلةً تجلب أحجارَ الآخرة وأساساتِها إلى الدنيا، فيبنى قصرها عليها، فيأكل أثمارَ الآخرة بلا نضج في الدنيا الفانية.

اعلم أن النفسَ شيءٌ عجيب! وكنـزُ آلاتٍ لا تُعد، وموازين لاتحد، لدَرك جلواتِ كنوز الأسماء الحسنى إن تزكّت.. وكهفُ حيّاتٍ وعقارب وحشرات، إن دسَّت وطغت. فالأَولى-والله أعلم- بقاؤها لا فناؤها؛ فالبقاءُ مع التزكية -كما سلكت عليه الصحابةُ- أوفقُ بسر الحكمة من موتها الأتم كما سلك عليه معظم الأولياء.

نعم، إن في جرثوم النفس جوعا شديدا، واحتياجا عظيما، وذوقا عجيبا. وإذا تحوّل مجرى سجاياها، انقلب حرصُها المذموم اشتياقا لا يشبع، وصار غرورُها المشؤوم وسيلةَ النجاة عن جميع أنواع الشرك، وتحول حبُّها الشديد لنفسها وذاتها؛ حبا ذاتيا لربها وهكذا.. حتى تنقلب سيئاتُها حسناتٍ.

اعلم أنه كما أن قيمةَ الإنسان المؤمن قيمةُ ما فيه من الصنعة العالية، والصبغة الغالية ونقوش جلوات الأسماء، وقيمةَ الإنسان الكافر أوالغافل قيمةُ مادته الفانية الساقطة.. كذلك قيمةُ هذا العالم تزيد بلا نهاية -إن نُظِر إليه بالمعنى الحرفي وبحسابه سبحانه- كما علَّم القرآن. وتسقط قيمتُه إلى درجة المادة المتغيرة الجامدة -إن نُظِر إليه بالمعنى الاسمي وبحساب الأسباب- كما علَّمَتْه الحكمةُ الفلسفية.

فالعلم المستفاد من القرآن المتعلق بالكائنات؛ أعلى وأغلى بما لا يُحدّ من العلم المستفاد من فنون الفلسفة.

مثلا: يقول القرآن: ﴿وَجَعَلَ الشمس سِرَاجًا (نوح:16) فانظر كيف يفتح بهذا الحُكم لفهمك مشكاةً إلى سلسلة جلوات الأسماء. أي أيها الإنسان! إن هذه الشمس بعظمتها مسخَّرةٌ لكم، ونورٌ لبيتكم، ونار لإنضاج مطعوماتكم بأمرِ مَن يرزقكم، فلكُم مالكٌ رحيم، عظيم القدر بدرجةٍ ما هذه الشموس إلا مصابيح له أُسرجت في منـزل معدّ للمسافرين فيما بين منازله الباقية، وهكذا فقس.

وأما ما تقول الحكمة من أن «الشمس نارٌ عظيمة متحركة على نفسها تطايرت منها أرضُنا وسيارات هي منظوماتها، وارتبطت بالجاذبة جاريةً في مداراتها».. فلا تفيدك إلّا حيرةً في دهشة، وعظمة صماء، وحكمة عمياء.

اعلم أنه لا حقَّ لك في أن تطلب حقا من الحق سبحانه، بل حقٌّ عليك أن تشكره دائما؛ إذ له الملك والحمد.

يا الله، يا رحمن، يا رحيم، يا كريم! اجعل هذا الكتابَ نائبا عني في تكرير هذه الشهادة بعد موتي إلى يوم الدين:

اَللَّهُمَّ يا ربَّ محمد المختار، يا رب الجنة والنار، يا رب النبيين والأخيار، يا رب الصديقين والأبرار، يا رب الصغار والكبار، يا رب الحبوب والأثمار، يا رب الأنوار والأزهار، يا رب الأنهار والأشجار، يا رب الإعلان والإسرار، يا رب الليل والنهار! نُشهدك ونُشهد حملةَ عرشك، ونُشهد جميع ملائكتك، ونُشهد جميع مخلوقاتك، بشهاداتِ جميع أنبيائك وبشهادات جميع أوليائك، وبشهادات جميع آياتك التكوينية والكلامية، وبشهادات جميع مصنوعاتك، وبشهادات ذرات الكائنات ومركباتها، وبشهادات حبيبك عليه أفضل صلواتك، المتضمِّنة شهادتُه لجميع تلك الشهادات، وبشهادات قرآنك، بأنّا كُلَّنا نَشهد بأنك أنت الله الواجب الوجود، الواحد الأحد، الفرد الصمد، الحق المبين، الحي القيوم، العليم الحكيم، القدير المريد، السميع البصير، المتكلم، لك الأسماء الحسنى. ونَشهد أن لا إله إلّا أنت وحدك لا شريك لك، لك الملك، ولك الحمد، ونستغفرك ونتوب إليك.. وكذا نشهد بأن محمدا عبدك، ونبيك، وحبيبك، ورسولك، أرسلته رحمةً للعالمين.. فَصَلِّ وسلِّم عليه وعلى آله وأصحابه أبد الآبدين آمين آمين آمين..

في بيان جوهرة من كنوز آيةِ ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْاِنْسَ اِلَّا لِيَعْبُدُونِ (الذاريات:56).

اعلم يا أيها السعيد الناسي لنفسك ولوظيفة حياتك! الغافِلُ عن حكمة خِلقة الإنسان، الجاهلُ بما أودع الصانعُ الحكيمُ في هذهِ المصنوعات المزيَّنة! أن مَثَل بناء هذا العالم وإدخال العالم الإنساني فيه، كمثل سلطان له خزائن فيها أصناف الجواهر، وله كنوزٌ مخفية، وله مهارةٌ في صنع الغرائب، وله معرفةٌ بعجائبِ فنونٍ لا تعد وبغرائبِ علوم لا تحد. فأراد ذلك الملك أن يُظهر على رؤوس الأشهاد حشمةَ سلطنتِهِ وشعشعةَ ثروته وخوارقَ صنعتِه وغرائبَ معرفته، أي أن يشهَد كمالَه وجمالَه وجلالَه المعنوية بالوجهين؛ بنظره، ونظر غيره.

فبنى قصرا جسيما ذا منازل وسرادقات. فزيّنها بمرصّعاتِ جواهر كنوزه، ونَقَشَها بمزينات لطائف صنعته، ونظّمها بدقائق فنون حكمته، ووسَمها بمعجزات آثار علومه، وفرش فيها سُفرةَ لذيذاتِ نعمه ونعمته. وهكذا مما يَظهر بمثله الكمالاتُ الخفية. فدعى رعيته للسير والتنـزّه، وأضافهم بضيافة لا مثل لها، كأن كل لقمة منها أنموذجُ مئاتِ صنعةٍ لطيفة. ثم عيّن أستاذا لتعريف ما في ذلك القصر من رموزِ تلك النقوش وإشاراتِ تلك الصّنائع، ووجوه دلالات تلك المرصعات المنظومات والجواهر الموزونات على كمالات صاحبها، ولتعليم الناس آدابَ الدخول والمعاملات مع صانع القصر، فيقول لهم:

أيها الناس! إن مليكي يتعرف إليكم بإظهار ما في هذا، فاعرفوه.. ويتودَّدُ إليكم بهذه التزيينات، فتودَّدوا إليه بالاستحسانات.. ويتحبَّب إليكم بهذه الإحسانات، فأحبّوه.. ويرحم إليكم، فاشكروه.. ويتظاهر إليكم فاشتاقوا إليه. وهكذا مما يليق بمثله أن يقول للداخلين. فدخل الناس فافترقوا فرقتين: ففريق نظر إلى ما في القصر، فقالوا: لهذا شأن عظيم، فنظروا إلى المعلم الأستاذ فقالوا: السلام عليك! لابد لمثل هذا، من مِثلِكَ.. فَعَلِّمْنَا ممّا علَّمك سيدُك.. فنَطق فاستمَعوا فاستفادوا فعملوا بمرضيات الملِك.. ثم دعاهم الملك لقصر خاص لا يوصَف، فأكرمهم بما يليق بمثله لمثلهم في مثل ذلك القصر..

والفريق الآخر: ما التفتوا إلى شيء غير الأطعمة، فتعامَوا وتصامُّوا، فأكلوا أكلَ البهائم فتناموا، وشربوا من الإكسيرات التي لا تُشرب، فسكروا فتنهقوا، فشوشوا على الناظرين، فأخذهم جنودُه فطرحهم في سجن يليق بهم.

وأنت تعلم أن الملك لما بنى هذا القصر لهذه المقاصد، وحصولُ هذه المقاصد مربوطٌ بوجود هذا الأستاذ، وباستماع الناس له.. يحقّ أن يقال: لولا هذا الأستاذ لَما بنى الملكُ القصر، وإذا لم يستمع الناس لتعليمات الأستاذ المبلِّغ يخرب القصر ويبدَّل.

وإذا تفطنت لسر التمثيل فانظر إلى صورة الحقيقة.. أما القصر فهذا العالم الذي نُوّر سقفُه بمصابيح متبسمة، وزُيّن فرشُه بأزاهير متزينة. وأما الملك فهوسلطان الأزل والأبد الذي ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمٰوَاتُ السَّبْعُ وَالْاَرْضُ وَمَنْ فيهِنَّۜ وَاِنْ مِنْ شَيْءٍ اِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه (الإسراء:44).. ﴿اللّٰهُ الَّذي خَلَقَ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضَ في سِتَّةِ اَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوٰى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي الَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثيثًاۙ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِاَمْرِه (الأعراف:54). وأما المنازل، فالعوالم المزيَّنة كلٌّ بما يناسبه. وأما الصنائع الغريبة، فهي معجزاتُ قدرته. وأما الأطعمةُ، فهي خوارق ثمرات رحمته. وأما المطبخ والتنور، فالأرض وسطحها. وأما الكنوز المخفية وجواهرها، فالأسماء القدسية وجلواتها. وأما النقوش ورموزها، فمنظوماته المصنوعات المرموزات ودلالاتها على أسماء نقاشها. وأما الأستاذ المعلم ورفقاؤه وتلامذته، فسيدُنا محمد والأنبياء عليهم الصلاة والسلام والأولياء رضي الله عنهم.. وأما حواشي الملك في القصر؛ فالملائكة عليهم الصلاة والسلام.. وأما المسافرون المدعوون للسير والضيافة، فالإنسان مع حواشيه من الحيوانات. وأما الفريقان، فأهل الإيمان والقرآن الذي يفسّر لأهله معانيَ آيات كتاب الكائنات. والفريق الآخر؛ أهل الكفر والطغيان التابعون للنفس والشيطان صمّ بُكم عميٌ هم ﴿كَالْاَنْعَامِ بَلْ هُمْ اَضَلُّ سَبيلًا (الفرقان:44) لا يفهمون إلّا الحياة الدنيوية..

فأما السعداء الأبرار فاستمعوا للعبد الواصف لربه بـ«الجوشن الكبير» وللمبلّغ بدلالته للقرآن الكريم. وأنصَتوا للقرآن؛ فصاروا نظّارين لمحاسن سلطنة الربوبية؛ فكبّروا مسبّحين، ثم صاروا دلالين لبدايع جلوات الأسماء القدسية؛ فسبّحوا حامدين وصاروا فاهمين بالطبع بحواسهم لمدخرات خزائن الرحمة؛ فحمدوا شاكرين. ثم صاروا عالمين بجواهر كنوز الأسماء المتجلية بالوزن بموازينِ جهازاتهم؛ فقدسوا مادحين. ثم صاروا مطالعين لمكتوبات قلم القدرة؛ فاستحسنوا متفكّرين. ثم صاروا متنـزّهين برؤية لطائف الفطرة؛ فأحبّوا الفاطر مشتاقين. ثم قابلوا تَعَرُّفَ الصانع إليهم بمعجزاتِ صنعته بالمعرفة في الحيرة فقالوا: «سبحانك ما عرفناك حق معرفتك يا معروفُ، بمعجزات جميع مصنوعاتك..» ثم قابلوا تودّدَه إليهم بمزينات ثمرات الرحمة بالمحبة. ثم قابلوا تعطّفه وتعهّده لهم بلذائذ نعَمه بالمحمَدة والشكر، فقالوا: «سبحانك ما شكرناك حقَّ شكرك يا مشكورُ، بأَثْنِيَةِ جميع إحساناتك على رؤوس الأشهاد، وبإعلانات جميع نعمك ولذائذها في سُوق الكائنات، وبشهاداتِ نشائدِ منظوماتِ جميع ثمرات رحمتك ونعمتك لدى أنظار المخلوقات». ثم قابلوا إظهاره لكبريائه وكمالهِ وجمالهِ وجلالهِ في مظاهر الكائنات ومرايا الموجودات السيالة؛ بالسجود في المحبة في الحيرة في المحوية. ثم قابلوا إراءته وُسْعةَ رحمته وكثرةَ ثروته بالفقر والسؤال. ثم قابلوا تشهيره للطائف صنعته؛ بالتقدير والاستحسان والمشاهدة والشهادة والأشهاد. ثم قابلوا إعلانَه لسلطنة ربوبيته في أقطار الكائنات؛ بالتوحيد، بالإطاعة والعبودية بإعلان عجزهم في ضعفهم وفقرهم في فاقتهم. فأَدَّوا وظائف حياتهم في هذه الدار، حتى صاروا في أحسن تقويم، أعلى من كل الخلق خليفة أمينا ذا أمانة ويُمنٍ وإيمانٍ. ثم دعاهم ربُّهم إلى دار السلام للسعادة الأبدية فأكرمهم بما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر.

وأما الفريق الآخر الفجّار الأشرار، فكفروا فحقَّروا بالكفر جميعَ الموجودات بإسقاط قيمتها كما مرَّ سابقا. وردّوا جميع تجليات الأسماء فجنوا جناية غير متناهية فاستحقوا عقابا غير متناه.

أيها السعيد المسكين! أتحسب أن وظيفةَ حياتك حُسنُ محافظةِ النفس والتربية المدنية وخدمة البطن والهوسات؟.. أم تحسب أن غايةَ إدراج هذه الحواس والحسيات، والجوارح والجهازات، والأعضاء والآلات، واللطائف والمعنويات في ماكنة حياتك استعمالُها في هوسات النفس الدنية في هذه الحياة الفانية؟ كلا! بل ما حكمةُ إدراجها في فطرتك إلّا إحساسُك جميعَ أنواع نِعَمه تعالى، وإذاقةُ معظم أقسام تجليات أسمائه.

فما غاياتُها إلّا أن تزن بتلك الموازين مدخراتِ خزائنِ رحمته، وأن تفتح بتلك الجهازات مخفيات كنوز جلوات أسمائه جل جلاله؛ بل ما غاياتُ حياتك إلّا إظهارك وتشهيرك بين إخوانك المخلوقات ما في حياتك من غرائب جلوات أسمائه.. ثم إعلانُك بحالك وقالك عند باب ربوبيته عبوديتَك.. ثم تبرُّجُك وتزيُّنك بمرصّعاتِ جواهرِ جلواتِ أسمائه للعرض والظهور لنظر شهود الشاهد الأزلي.. ثم فهمُك لتحية ذوي الحياة بالتسبيحات لواهب الحياة، ومشاهدتُك لها، وشهادتُك بها، وإشهادك عليها.. ثم فهمُك بمقياسيةِ جزئياتِ صفاتك وشؤونك لصفات خالقك وشؤونه المطلقة المقدسة.. ثم فهمُك الكلمات الموجودات الناطقات بتوحيده وربوبيته.. ثم تفطّنُك بأمثال عجزك وفقرك لدرجات تجليات قدرته وغناه.

وما ماهيةُ حياتك إلّا خزينةٌ وخريطةٌ وأنموذج وفذلكة ومقياس وميزان وفهرستة لغرائبِ آثارِ جلوات أسماء خالق الموت والحياة.. وما صورةُ حياتك إلّا كلمةٌ مكتوبة مسموعة مفهّمة لأسمائه الحسنى. وما حقيقتُها إلّا مِرْآتِيَّتُِها لتجلي الأحدية. وما كمالها في سعادتها إلّا شعورُها بما تمثَّل فيها مع المحبة والشوق لما هي مرآةٌ له، وأما سائر ذوي الحياة فيشاركونك في بعض الغايات المذكورة لكن لا يساوونك، إذ أنت المرآةُ الجامعة كما رُوي: «ما يسعني أرض ولا سماء ويسعني قلب عبدي المؤمن».


 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

يا الله، يا رحمن، يا رحيم، يا فرد، يا حي، يا قيوم، يا حكم، يا عدل، يا قدوس

 بحق اسمك الأعظم، وبحق آيات فرقانك الأحكم، صلّ على سيدنا محمد رسولك الأكرم بعدد ذرات وجودنا وبعدد عاشرات دقائق عمرنا وحياتنا، وأنـزِلْ علينا وعلى -ناشر هذه المجموعة من طلاب النور- وعلى طلبة رسائل النور السكينةَ والتمكين والاطمئنان كما أنـزلتَ على أصحابِ وآل نبيّك المختار عليه الصلاة والسلام، وأنـزِل علينا وعلى طلبة رسائل النور السكينة والإيمان الخالص واليقين الكامل والنية الصادقة والمتانة الأتم في خدمة القرآن والإيمان..

وآمِن فَزَعَنا بدفع البِدعِيَّات الهائلات عن شعائر الإسلام، وفرّح قلوبنا بإعلان الشعائر الإسلامية في العالم عن قريب الزمان. وبنشر رسائل النور بكمال الرواج بين عالم الإسلام. وسلِّمنا وسلِّم ديننا وسلم طلبة رسالة النور من تجاوز الملحدين.. وارزقنا وارزق طلبة رسائل النور السلامة والعافية في الدين والدنيا والآخرة. واشف أمراضنا واجعل القرآن شفاء لنا ولهم من كل داء واجعلنا واجعلهم من الحامدين الشاكرين دائما

آمين والحمد لله رب العالمين.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه. أجمعين آمين..

* * *