فيا مَن غشى بصرَه بالطبيعة! وختم قلبَه بالطبع! إنْ تصورتَ الطبيعةَ الموهومة -التي لوتحققت لكانت كالمطبعة- طابعةً صانعةً لَزمك أن ترى للطبيعة في كلّ جزءٍ من التراب مطبعات مكمَّلات تزيد على جميع مطابع المدنيين.

اعلم أيها الحيوان! لا تفتخر هكذا على النبات؛ إذ تفنُّن الصنعةِ في أختك أتمُّ منها فيك. ألَا ترى أن أجناسَ الحيوانات متقاربةٌ أومتماثلة في لحومهم مع أن لحومَ أجناسِ الثمراتِ حتى أنواعها بل حتى أصنافها متفاوتةٌ متخالفة؟ فهذا أمارةٌ على أن قلمَ القُدرة تأنّقَ فيها. وكذا إنَّ بركةَ النسلِ في الحيوانِ والبشرِ إذا كانت سبعا ففي النباتِ والشجر سبعون، وسبعُ مائة، وسبعة آلاف. إلّا السمك فإنه -لأجل ضعف الحسيات الحيوانية فيه- ملحَقٌ بالنباتات. تشير هذه الحالة إلى أنه للإطعام كالحَبّ.. فهذا علامةُ الخيرية والأهمية فيه.

وكذا إن أُختك النبات والشجرَ مخدومةٌ متوكِّلةٌ، يجيء إليها رزقُها ورزقُ أولادِها الكثيرة. حتى كأنَّ جرثومةَ كلِّ شجرٍ متصلةٌ بخزينة الرحمة، لها منها منفذٌ إليها. فتقسمُ الرحمةُ عليها ما يوافقُ حاجاتِها المتخالفةَ فتعطي لأولاد التين لبنا خالصا، ولِبَنَات الرمّان شرابا طهورا، ولأبناء الزيتون دهنا مباركا.. وللجوز زيتا منوّرا.. وهكذا فهذا آية «الحُرمة».

فيا أيها الحيوان المتكبر إنّ سبب ترجيحِ مرجوحِك بمراتِبَ، عليك بثلاث مراتبَ هوأنانيتُك ومرضُك واختيارُكْ فأسْلِمْ تسْلَمْ.

﴿وَخُلِقَ الْاِنْسَانُ ضَعيفًا﴾ (النساء:28)

اعلم أيها الإنسان! لا تتكبّر على الحيوان، إن سببَ رفعتِك على سائر الحيوانات إنما هوضعفُك وعجزك، كما أنَّ الصبيَّ يحكم على والديه وإخوانه بقدرة عَجزه وقوة ضَعفه.. هل ترى في الحيوانات أعجزَ منك في تحصيل لوازمات الحياة، بل ما يحصل لك بالتجارب والتدرّس في عشرين سنةً -مما يلزم لحفظ حياتك- يحصل للحيوان في عشرين يوما، وبعضا في عشرين ساعة، وبعضا في عشرين دقيقة، بل فردُه برأسه يساوي في حفظ الحياة الحيوانية جماعةً متعاونةً منكم. كما أن فردا منكم يساوي أنواعا منهم، من جهة كمال الإنسانية المنحصرة في الإسلامية والعبودية.

يا هذا ويا أنا! إمّا تصير أدنى من أدنى الحيوانات وأذلَّ وأعجَزَ. وإمّا تصير أعزَّ وأكملَ من أنواعها. فاختَر ما شئت.. فإذ هذا هكذا فاعرف عجزَك وضعفك. واعلم بأن قدرتَك وقوتَك في الدعاء والبكاء لدى مالكك.

وأما ما تفتخرُ به من المصنوعات الإنسانية فمن أثَرِ إلهامه وخَلْقه وإكرامه، ليجمعَ بك أشتاتَ الأنواع المتخالفة، لإظهار حُسنٍ غريب، وإيجادِ كتابةٍ عجيبةٍ، وتشهير مصنوعاته المختلفة مجتمعةً، وإذاقة مراتبِ نِعَمه الحاصلة من تمزيج بسائط النعم بهندسةِ هوسات الإنسان.

اعلم يا مَن يتوسوس من اختلافات الروايات في أمثالِ مسألة المهدي، وقرب الساعة والملاحم الاستقبالية! أتريدُ إيمانا ضروريا في كل مسألة؟ حتى في المسائل الفرعية التي ليست من ضروريات الاعتقاد؟! بل يكفي فيها القبول التسليمي، وعدم الردّ، لا الإذعان اليقيني القصدي حتى تحتاج إلى طلب البرهان القطعي.

ألاَ تعلم أن متشابهات القرآن كما تحتاج إلى التأويل كذلك مشكلات الأخبار تحتاج إلى التعبير والتفسير؟ فإذا صادفَك روايةٌ مخالفةٌ للواقع -في نظرك الظاهري- فمع احتمالِ أن تكون من الإسرائيليات، وأن تكون من أقوال الرّواة، وأن تكون من مستنبَطات الناقلين، وأن تكون من كشفيات الأولياء المُحدّثين المحتاجةِ للتعبير، وأن تكون من المسموعات المتعارَفة بين الناس، يذكرها النبي عليه الصلاة والسلام لا للتبليغ السماوي بل للمصاحبة العُرفية للتنبيه.. يلزم الناظرَ أن لا يَقْصر النظرَ على الظاهر، بل يؤوّلَ بتأويل تمثيلي كنائي مسوقٍ لمقصدٍ إرشادي.. أويفسّرَ بتعبير كتعبير النائم في نومه ما رآه اليقظانُ في يقظته.. فكما تُعبّر أيّها اليقظان ما رآه النائم، كذلك فعبِّر أيُهّا النائم -إن استطعت- في غفلة هذه الحياة ما رآه اليقظانُ الذي لا ينام قلبُه الذي هومظهرُ ﴿مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغٰى﴾ (النجم:17).

ثم إن الحكمة في إبهام أجَل الشخص وموتهِ.. «لينتظرَه دائما فيستعدَّ لآخرته» هي الحكمة في إبهام الساعة، التي هي موتُ الدنيا لينتظرَها أبناءُ الدنيا.

ومن هذا السر؛ انتظَرَها أهلُ كلِّ عصرٍ من عصرِ السعادة إلى الآن، كما هي الحكمة الدافعة للغفلة العامة، وهذا الانتظار من هذه الحكمة، لا من إرشاد النبوة في التعيين والحكم بالانتظار للوقوع، بل بالانتظار الذي يقتضيه الإبهام لدفع الغفلة. ولقد سها مَن لم يميّز الحكمةَ من العلّة.

وأما المهديُّ، فلِتقوية القوة المعنوية وردّ اليأس عند استيلاء الضلالة، ولتشجيع ذوي الهمم المجدّدين في الانسلاك في سلك نوراني إمامُه ورأسُه المهدي رضي الله تعالى عنه. فهذه الحكمة تقتضي الإبهامَ ليُمكن الانتظارُ في كلّ زمان.

اعلم أيها المسلم في الظاهر والاسمِ! مَثَلُك في تقليد الكفار في السفاهة ومعارضة الأحكام الإسلامية، كمثل فردٍ من عشيرة يرى رجلا عدوّا من عشيرة أخرى يَذمُّ عشيرةَ الأول ويزيّف رئيسَها ويحقّر عاداتها، مستندا إلى عشيرته متمدِّحا بمفاخرها. فيظنّ ذلك المسكين أَنْ لَوذمّ هوأيضا عشيرةَ نفسِه وحقّر عاداتها صار كذلك الرجل العدو! ولا يعرف ذلك أنَّهُ بهذا الردِ والارتداد، إما مجنونٌ جريء أورذيل دنيء يكسر ظهرَهُ فيصير يتيما طريدا.

ألا ترى أن الشخص الأوروبائي ينكر محمّدا عليه الصلاة والسلام ولكن يتسلى «بالخرستيانية» المموّهة وبمدنيتهم المخصوصة الممزوجة بعاداتهم الملّية، فيمكن أن يبقى في روحه بعضُ الأخلاق الحسنة الدنيوية، وبعض الهمم العالية لأجل هذه الحياة الدنيوية. فلا يرى بسبب هذا التسلي ظلماتِ روحِه ولا يُتْمَ قلبِه.

وأما أنت أيّها المرتد! إن أنكرت محمدا عليه الصلاة والسلام وآثاره لا يمكن لك قبولُ واحدٍ من الأنبياء. بل ولا قبولُ ربّك، بل ولا قبولُ شيء من الكمالات الحقيقية. فانظر إلى دهشة التخريبات في روحك، وأبصرْ شدة الظلمات في وجدانك، ووحشة اليُتم واليأس في قلبك، وعن قريب يترشح قبحُ باطنِك إلى ظاهرك فيصير حُسنُكم وجميلتُكم المرتدّة أقبحَ من أقبح كافر. فالمرتدُّ محرومٌ من الحياتين دون الكافر، إذ الكافرُ لهُ حقُّ حياةٍ إن لم يُحارِبْ.

اعلم يا من يضيق صدرُه ولا يسع فكرُه عظمةَ بعضِ المسائل من الحقائق القرآنية كأمثالِ ﴿خَلَقَ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضَ في سِتَّةِ اَيَّامٍ (يونس:3) و﴿وَمَٓا اَمْرُ السَّاعَةِ اِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ ﴾ (النحل:77) و﴿مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ اِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ (لقمان:28) و﴿ثُمَّ نُفِخَ فيهِ اُخْرٰى فَاِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (الزمر:68) و﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّمَٓاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ (الأنبياء:104) وأمثالها…

إن كتابَ الكونِ المشهود بآياته الشؤونية تفسّر تلك الآيات القرآنية، وتقرِّبُها إلى فهمك بإراءة كثيرٍ من نظائرها المشهودة لعينك، في تلافيف اختلاف الليل والنهار، وفي معاطفِ تحولِ الفصول والأعصار.

فإن شئت الشهودَ فافتح كنـزَ آيةِ ﴿فَانْظُرْ اِلٰٓى اٰثَارِ رَحْمَتِ اللّٰهِ كَيْفَ يُحْيِ الْاَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَاۜ اِنَّ ذٰلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتٰى (الروم:50) لترى بعينك ما لا يُعد من المسائل العظيمة نظائرَ ما استبعدتَ!

مثلا: تشاهِد في الحشر الربيعي إحياءَ آلافِ عوالمَ من أنواع النباتات والحيوانات التي ماتت في القيامة الخريفية، وإيجادَ كلٍّ منها بنظامات مخصوصة وموازينَ معينة في أيام معدودة. مع أن لكلِّ واحدٍ من أكثر تلك العوالم وسعةً بحيث يُزيّن أكثر وجه الأرض كبرقعٍ منمنم.. وهكذا مما لا يحد ولا يحصى من الشّواهد المشهودة الصادقة.

فمما لا يحدّ من تلك العوالم انظُر إلى عالم الشجر.. ومما لا يعد من أنواعها إلى نوع شجر التفاح.. ومما لا يحصى من أفرادها إلى هذه الشجرة! لترى ثلاث حشرٍ ونشرٍ متعاقبة متداخلة.. بنشر أوراقها المهتزّة المنتظَمة.. وحشرِ أزهارها المزينة المنظومة.. وإحياءِ أثمارها اللذيذة الموزونة.. فمن يفعلُ هذه الأفاعيلَ في سطح الأرض ويكتب بتقليب صحيفةِ الشتاء أُلوفَ صحائفَ كصفحة الأرض في الوسعة، هوالذي يُخبر عن نفسه بأنّه ﴿خَلَقَ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضَ في سِتَّةِ اَيَّامٍ إلى آخر ما مرّ.

اعلم أن لكل أحدٍ علاقاتٍ بالمحبة والشفقة مع أقاربه، ثم مع أفراد عشيرته، ثم مع أفراد ملّته، ثم مع أفراد نوعه، ثم مع أبناء جنسه، ثم مع أجزاء الكائنات، بحيث يمكن أن يتألمَ بمصائبهم ويتلذذَ بسعاداتهم وإن لم يشعر. لاسيما مع مَن أحبّه لكماله من جماهير الأنبياء والأولياء والأتقياء. وكم من أحدٍ لاسيما إذا كانت «أُمّا» تفدي نفسَها وتزيل راحتَها لعلاقةٍ واحدة، ولمحبوب واحدٍ مما لا يُحد من أَوِدَّائها.. فالغافل الحاكمُ على نفسه وعلى أودّائه حالةَ الغفلةِ باليُتم وعدم التعهد مُبتلىً بحملِ آلامٍ لا تعد منهم، مع آلام نفسه وإن لم تشعر نفسُه السكرانةُ بعذابِ قلبه وروحه! فلوظفر هذا الغافلُ بجنةٍ -مثلا- صار مِثل الـذُبيبةِ المتلمعة في الليل لها لمعةُ نورٍ لكن استولت الظلماتُ الموحشة على جميع مناظرها ومحبوباتها ومأنوساتها، مع أن نورها الذاتي قد يضرّها باراءتها لرقيبها. وأما إذا طرد الغفلةَ وردّ المُلك إلى مالكه الحقيقي ينفتح لقلبه منفذٌ إلى أشعّات شمسٍ سرمد، خطُّ استوائها الأزلُ والأبد، ورأى أن كلَّ هذه المحبّات المنتشرةِ على هذه المحبوبات الكثيرة كانت لهذا الواحد الذي يكفي عن الكلِّ ويُنسيك الكلَّ، ولا يكفي عنه الكلُّ، بل ولا عن تجلٍّ من تجليات حبّه. فلودخل هذا المؤمن الموقن جهنّما -مثلا- أمكنَ له بإذن الله الظفرُ بجنّة روحانية بالتلذذ بالعلم بأن كل أودّائه مصونون من الفراق الأبدي، ومنعَّمون بالسعادة السرمدية.

فيا أيها السعيدُ الغافل؛ اترك نفسَك ووهمَ مالكيتك؛ تظفر بسلامة جميع محبوباتك وسعاداتهم؛ بتسليمهم لمالكهم الكريم الرحيم.

اعلم أن كل شيء بخلقِه سبحانه، إلّا أن الشرور والقبائحَ والقصور والمساوي إنّما تترتّب على لوازمات ماهيّات الممكنات وقابلياتها، فيُجيب الخالقُ الجواد المطلق بالإيجاد، كلَّ ما تسألُه الممكناتُ بألسنةِ استعداداتها.. فالحُسن راجعٌ إليه بالوجهين: أي بالخلق والاقتضاء. وأما القبحُ والقصور، فبالخلق راجعٌ إليه، دون المقاضاة والسؤال. فله الحمدُ دائما؛ إذ السؤال في الحُسن والخيرُ كالجواب منه ومن أسمائه. وله التسبيح دائما؛ إذ سؤالُ الشر والقبح من الممكنات، والجواب المتضمن لمحاسن كثيرة مترتبةٌ على وجود القبح منه سبحانه ﴿مَٓا اَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّٰهِۘ وَمَٓا اَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ (النساء:79).

اعلم أن أنواع المصنوعات في العالم لاسيّما أنواع النباتات والحيوانات في سطح الأرض كاللفائف المبسوطة المفروشة على وجه الأرض بعضٌ على بعضٍ، وكالأقمصة المنمنمة المتراكبة المتداخلة، لبستْها الأرضُ أوالعالمُ. لكن بعضها أرقّ، وبعضها أقصر، وبعضها منفصل الأنساج، وبعضها يتمزّق خريفا ويتجدّد ربيعا، وفيها كلها نسجٌ موزون بانسجام منظوم.

فتعانقُ الأنواع وتعاونُها بشوقٍ، وترافُق الأفراد وتجاورُها بحسنِ معاشرةٍ تشهد: بأن الكلَّ نسجُ نسّاجٍ واحدٍ وخُدّام سيّد واحدٍ. ونسجُ كلِّ واحدٍ منها بنسجٍ مخصوصٍ بلا مزجٍ، وبإسداءٍ ممتازٍ بلا درجٍ، وإلحامٍ معيّن بلا التحام، في تلافيف تلك اللّفائف المشتبكة المختلطة بلا تشوش ولا خلطٍ ولا غلطٍ يشهد كعين اليقين: بأنها صنعةُ مَن لا نهايةَ لقدرته وحكمته.

وإن ما يشاهَد من ترتّب أمثال التزيين القصدي على جميع المتخالفات يشهد: بأن مَن زيّن قصرَ العالم بمزيّنات ألوان الأنواع؛ هوالذي خلق لوازماته وأساساته وأجزاءه. لَعَمرُك إن التزيينَ في الصنعة من أهمّ المقاصد المهمّة المعرِّفة للصانع، ومن أشفِّ مرايا التودد والتعرُّف، ومن ألطف عنوانات التحبّب.

فإن شئت فانظر مما لا يتناهى من الأمثلة إلى هذه الواحدة وهي: الزّهرةُ الصّفراءُ الشمسية المتبرقعةُ ليلا والمتبرّجة نهارا، الشابةُ من أول الربيع إلى آخر الخريف. صيّرها صانعُها مسكنا لطيفا نظيفا لبعض الحوينات اللطيفة تجول مسبّحاتٍ -جماعةٌ منها في واحدةٍ منها- كأنّها حديقةٌ لها أوقصر أوقرية.

فسبحان مَن ظهر في كل شيء لُطفُه.. ويعرِّف الخلائقَ قدرتَه، ويتعرّف متودّدا إلى عباده بتزيينات مصنوعاته، جلّ جلالُه ولا إله إلّا هو.

[9] ﴿قَوْلُهُ الْحَقُّۜ وَلَهُ الْمُلْكُ﴾ (الأنعام:73).. ﴿لَا يُسْـَٔلُ عَمَّا يَفْعَلُ﴾ (الأنبياء:23).

اعلم أنه لا يُسأل عما يفعلُ. فلا حقّ لشيء ولا لعلمٍ ولحكمةٍ أن يَسأل عنه؛ إذ يتصرف في مُلكه كيف يشاء وهوعليم حكيم، يعلم ما لا نعلم. فعدمُ علمِنا بحكمةِ شيء لا يدلّ على عدمها؛ إذ شهود الحكمة في الأكثر المطلق شاهدٌ على وجود حكمة مستورة عنا هنا أيضا.

مثلا: نتألّم من موت ذوي الحياة، ولا نرى حُسنا في قِصَر عُمر بعض الحيوانات اللطيفة، ولا نفهم وجه الرحمة في انقراض بعض المصنوعات الحيويّة الطالبة للحياة في أمثال الشتاء.. والحال أن هذا التألمَ والاعتراضَ المعنويَّ إنّما ينشأ من جهلنا بحقيقة الحال، إذ ما من ذي حياة إلّا وهوكَنَفرٍ موظفٍ وعبدٍ مأمورٍ بإيفاء وظائفِ تكاليفِ الحياة، الكاتبة تلك الوظائف تسبيحاتٍ وتحميداتٍ بحساب خالق الموت والحياة وباسمه. وحقوقُ الحياة وغاياتها عائدة إليه سبحانه، يكفي لشهوده آنٌ، بل تكفي النيّةُ الحالية بالقوة، كما في نيّة النواتات والبذور. فما الموتُ إلّا ترخيصٌ وتحرير وإذنٌ وترويجٌ ودعوةُ حضور، كما قال: ﴿ثُمَّ اِلٰى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (الأنعام:38) على أن من كمال رحمته أن لا يُبقِي ذوي الحياة في أرذل العمر، وأن لا يديمهم في شدائد العمر في الشرائط المزعجة، كترخيصِ عشاق الأزاهير وسفرائها، والمتلذذين بالخضراوات وأُمرائها من الوظيفة التي صارت كُلفةً بعد ما كانت لذةً، فاستعملَهم صانعُهم، واستخدمَهم سيّدُهم، في مدة شوقهم مع موافقة شرائط الحياة وسهولةِ حملِ تكاليفِ الحياة. فإذ تعبّس في وجوههم شرائطُ الحياة بأمثال الشيب والشتاء واستيلاءِ سلطنتِها بتحولات الشؤون وانطفاء شوقهم، أمدَّهُم رحمةُ الرحمن بالإذن والترخيص. إلى أن يُرسل أمثالَهم فينسجون على منوالهم فيسبّحون مولاهم.. يبتدئون في أعمالهم من حيث انتهت أعمالُ أسلافهم.

فيا أيّها الغافل المتفرعنُ الزاعم أنّك مالكٌ نفسَك وحياتَك، والمتوهمُ أن سعادتك في بقاء حياتك بالراحة! أخطأتَ وخَلَطتَ وغلِطتَ وعصيتَ وَقِسْتَ الحيوانَ الممنون المأمور والمتمثلَ المسرور على نفسك الناسيةِ لمالكها، فتراءت لكَ وَلْوَلَةُ جلوات الرحمة العامة في الشؤون «وا ويلاه» نعيات المأتم العمومي، فلا تتألم لهم حتى يكون «التألم» شفقةً ممدوحة، بل «تألم» لنفسك المفروضة في موقعهم، الفانيةِ بطريق القياس فيهم.

وأما تسليط بعض الحيوانات على بعضٍ؛ فلحمل الضّعفاء على الحزم والتيقظ والجوالية والخفّة واستعمال جهازاتها اللطيفة وإخراج استعداداتها من القوة إلى الفعل وغير ذلك.. فوازِن بين الأهلية والوحشية كَيْ ترى هذه الحكمة ظاهرةً باهرةً.

اعلم أن سرّ تَخالُف أحكام الأولياء في مشهوداتهم مع الاتفاق في الأصول.. وأن سرّ إجمال الأنبياء السالفين وإبهام الأولياء العارفين في غير التوحيد من سائر أركان الإيمان -إذ قد أجمل قسمٌ من أولئك في الجملة في تفاصيل الحشر وغيره وأبهم بعض من هؤلاء في ما سوى معرفةِ الله، مع أن القرآن والمنـزَل عليه القرآنُ فصّلا كلًّا من المقاصد الإيمانية بما لا مزيدَ عليه تفصيلا قصديا واضحا- وأن حكمتها؛ هوتوسّط البرازخ.. وتفاوت القابليّات.. وتنوّع ألوان جلوات الأسماء في المظاهر الكلية والجزئية والظلية والأصلية.

[10] مثلا –﴿وَلِلّٰهِ الْمَثَلُ الْاَعْلٰى– أن الشمسَ لها تجلٍّ كلّي بإذن خالقها على الأزاهير، ثم تجلٍّ أخصّ على نوعٍ نوعٍ منها، ثم تجلٍّ جزئيّ على زهرةٍ زهرةٍ، على قول مَن يقول: إن ألوانَها من استحالات ضياء الشمس.. وكذا لها تنويرٌ وإفاضة كلّية بإذن مُبدِعها على السيّارات والقمر، مع أن القمر يفيض ذلك النور الظلّيّ المُستفاد منها على البحار وحَباباتها وقطراتها وعلى التراب وشفافاته وعلى الهواء وذراته.. وكذا لها انعكاسٌ صافٍ كلّي بأمر فاطرها في مرايا جوالهواء ووجوه البحار. ثم لها انعكاساتٌ جزئية وتماثيلُ صغيرةٌ في الظاهر على حبابات وجهِ البحر، وقطرات الماء، ورشحات الهواء، وزُجَيجات الثلج.

فللشمس إلى كلّ زهرة، وقطرة، ورشحة في الوجوه الثلاثة طريقان:

أحدهما: بالأصالة وبلا برزخ، بلا حجاب.. الممثِّل لمنهاج فيض النبوة.

والثاني: تتوسّط فيها البرازخ، وتُصبَغ الجلوات بقابليات المرايا والمظاهر، وهذا ممثلٌ لمسلك الولاية.

فللزهرة، والقطرة، والرشحة أن تقول في الأول: أنَا مرآة شمس العالم، وفي الثاني: إنما تقول: أنَا مرآةُ شمسي أوشمسِ نوعي. مع أن شمسَ نفسها أونوعها أوجنسها لا تسع -وهي في مضيقات البرازخ- كلَّ لوازمات الشمس المطلقة من ربط السيارات بها وتسخين الأرض وتنويرها وتحريك حياة النباتات وغيرها، بل إنما تسندها إلى المقيد المشهود لها، من جهة أن المقيَّدَ عينُ المطلق، لكن هذا الحُكم له، عقليٌّ لا شهودي. بل قد يصادم شهودَه.

يا رفيقي فلنفرض أنفسنا إياها؛ فَصِرْ أنت يا ذا النفس الكثيفة الترابية «زهرة» تضمّن لونُها ضياءً محلّلَا متضمنا للتمثال الممتزج للشمس. وليكن هذا الفيلسوف المنغمس في الأسباب «قطرة» تأخذ من القمر ظلَّ ضوء الشمس. أنا قائلا: «لا مؤثر في الكون إلا الله»، شَبْنمة فقيرة خالية من كل لَون، صيرتْ مثالَ عين الشمس إنسانَ عينيها.

ثم إن جاذبة محبة مَن بإحسانه تَنوَّرْنا وتَزيَّنَّا، حَرّكَتْنا لطلبِ قربه وقصدِ شهوده. فسلكتِ «أيتها الزهرة» إلى أن وصلت إلى المرتبة الكلية لجنس الزهرة (المرآةُ الكثيفة التي تحلل فيها ألوانُ ضياء تمثال الشمس). فلا تخلصُ من التفرق والتشتت بين خصوصيات ألوان المقيدات، ولا تسلمُ من الفراق بتستر عين الشمس بحُجب البرازخ والصور، إلّا أن ترفع رأسَك من الولوغ في محبَّة ذاتك، وتُصعِد نظَرك من الافتتان والتلذذ والتفاخر بمحاسن نفسك إلى عين الشمس في وجه السماء. وتُوجّهَ بباطن وجهك المتوجّه إلى التراب بجلب الرزق المرسَل المسرِع إليك -وإن لم تتوجه إليه ولم تعلم به- إلى هذه الشمس.. إذ أنت مرآتُها كما أنها قطرةٌ متلمّعة من بحر السماء صارت مرآةً للَمعةٍ من أنوار قدرة «النور الحق» سبحانه.. ومع ذلك لا تراها كما هي في نفسها بل متلونةً بلون صفاتك ومرصادك ومقيدةً بقيود قابلياتك.

وذهبتَ أيها «القطرة» إلى أن ترقيتَ إلى القمر بسلّمِ فلسفتك، فرأيت القمَر كثيفا مظلما لا ضياءَ في جرمه بل ولا حياة. فصار سعيُك وعملُك هباءً منثورا. فلا تخلُصُ من ظلمات اليأس ووحشة اليُتم ودهشة الاضطراب بين ازعاجات الغِيلان المتشاكسين إلّا بترك ليل الطبيعة، والتوجّه إلى شمس الحقيقة، واليقين بأن الأنوارَ الليلية ظلال للأضواء الشمسية؛ ومع ذلك لا يصفولك شهود الشمس وصفاؤها، وإنما تتجلى لك خلف مألوفاتك ومعلوماتك بصبغٍ مِن لون قابلياتك.

فاذهبي أنت أيتها «الرشحة» [11] الفقيرةُ الضعيفة بالتبخر راكبةً على البخار إلى الهواء، ثم انقلبي نارا، ثم تحوّلي نورا، ثم اركبي على شعاع من أشعات جلوات الضياء.. فأين ما كنتِ من تلك المراتب لكِ منفذ صافٍ إلى العين، تراها بالعين اليقين -وإن لم يكن بالعين- وترى لزوم لوازماتها لها، ولا يأخذ على يدك في إثبات آثار سلطنتها الذاتية ضيقُ البرازخ، ولا قيدُ القابليات، ولا صِغَر المرايا.

إذ تفطنت أنّ ما يُشاهَد في المظاهر جلواتُها لا هي هي أي ذاتُها في ذاتها. فالواصلون من هذه الطرق الثلاثة متفاوتون في تفاصيل المزايا والشهود وإن اتفقوا على الحق والتصديق.

اعلم أيها الإنسان أنك واحدٌ قياسيٌّ بخمسة وجوه:

إذ أنت فهرستةٌ جامعةٌ لغرائب آثار جلوات الأسماء الحسنى.

ومقياسٌ بجزئيات صفاتك وربوبيتك الموهومة لمعرفة صفاته المحيطة وفهمها بتصوّر حدودٍ موهومة.

وميزانٌ لدرجات نفي الشِركة في الآفاق، بحيث إذا أذعنتَ بأنك كلك ملكه، آمنتَ بأن لا شريك له في العالم. وإذا أعطيتَ ثلثَك له وثلثَك للأسباب وثلثك لنفسك حصل هذا التقسم في جميع الكائنات. وإذا ملّكتَ أنانيتَك درهما من مُلكه لزِمك أن تصدّق مالكيةَ كل فردٍ وكل سببٍ لدرهمٍ فتُقسِّمَ مالَ الله على ما سواه.

وكذا خريطةٌ للعلوم الكونية والمعارف الآفاقية، فإذا انفتحت «أنت» لك انكشف لك الكون، وإذا أُنسيتَ نفسَك انغلق عليك المعارف الآفاقية، وانقلبت إلى جهالات مركبات وسفسطيات ما لا يَعنيات.

وكذا خزينةُ مفاتيح لمطلسَمات الكنوز المخفية في الأسماء الإلهية؛ فإذا رأيت فيك عجزا بلا نهاية؛ شَاهدتَ لخالقك قدرةً بلا غاية.. وإذا شاهدتَ فيك فقرا بلا غاية، رأيت لرازقك غناءً بلا نهاية.. وهكذا كأن جلواتِ أسمائه حروف نورية مكتوبة في ظلمات حالاتك. فبدرجة ظهور شدة الظلمة تظهر نورانيةُ الكتابة.

فأنت في الوجه الأول حاملٌ، وقابلٌ، ومَظهرٌ، ليس لك منك شيء، بل أنت قصيدةٌ منظومة للسان كن فيكون.

وأما في الوجه الخامس فأنت عاملٌ، وفاعلٌ، ومَعكِسٌ -برابطة الضدية- وسائل بألسنة الاستعدادات والاحتياجات والأفعال والأقوال، لك منك كل السيئات والقصورات والظلمات والفاقات، ولفاطرك منك كلُّ الحسنات والكمالات والنورانيات والفيوضات. وكذا إن الأول يُظهر الأصلَ، والخامس يُظهر مراتبَ الاسم المتجلّي. كما أن الحُسنَ بلا ملاحظة القبح واحد، وبه تتفاضل مراتب الحُسن ودرجاته.