التقرير الذي رفعه خبراء أنقرة بالإجماع

لقد فُتحت وقُرئت من قِبَلنا محتوياتُ خمسةِ صناديقَ مملوءةٍ بالكتب. وحيث إن من صلاحيتنا تدقيقَ كل ما في الصناديق، فقد وجدناه كالآتي:

كتبٌ مطبوعة مؤلّفة من قبل سعيد النورسى، وأجزاء غير مطبوعة من رسائل النور، ومكاتيب علمية ودينية لبعض من طلابه، متعلقة به، ومكاتيب أخرى اعتيادية جرت بين الطلاب أنفسهم أو بينهم وبين سعيد النُّورْسِيّ مع مجموعة من الكليشات.

ولأجل بيان ماهية هذه كلها لا بد من تقسيمها إلى قسمين:

1- الرسائل التي كُتبت لتفسير آية كريمة أو إيضاح حديث شريف، وهي تشكّل تسعين بالمائة من المحتويات. هذه الرسائل وضّحت فيها العقائد التي تخص الدين والإيمان بالله والرسول والقرآن والآخرة، فوُضِّحت بجلاء مع إيراد الأمثلة ونظرات علمية دقيقة مقرونة بنصائح أخلاقية موجهة إلى الشيوخ والشباب مع إدراج حوادث ذات عبرة جرت في الحياة مع ذكر أمور نافعة للأهلين ومفيدة لأرباب العمل. والمؤلِّف في هذه الرسائل كلها لم يغادر الإخلاص ولم يفارق التجرد والعلم ولم يخالف قطعا أُسسَ الدين. ومن الواضح البيّن أن هذه الرسائل لا تحتوي على ما يخلّ بنظام البلاد، ولا تستغل الدين بتشكيل الجمعيات.

أما الرسائل الاعتيادية التي جرت بين الطلاب وبين سعيد النُّورْسِيّ فهي أيضا من هذا القبيل:

  1. يقول سعيد النُّورْسِيّ بأن ما ناله من شهرة أو ذيوع صيت يومَ كان في إسطنبول ما هو إلا نوم عميق وكابوس مؤقت وغفلة عابرة، وأنه قد تدخل بعقله في السياسة لدى مكوثه في إسطنبول لسنتين. يصوّر هذا الأمر بموت الدنيا، ويميّز -بهذه المناسبة- بين شخصيتين له: سعيد القديم وسعيد الجديد. وهما شخصيتان متباينتان. ويذكر أن التنـزل إلى أمور السياسة خطأ.
  2. في قسم المناجاة لأهم كتب سعيد النُّورْسِيّ وهو «الحجة البالغة» ورد ما يأتي:

إن هذه الدنيا فانية وإن أعظم دعوى فيها هي الفوز بالعالم الباقي، فإن لم تكن عقيدةُ المرء صحيحة يخسر الدعوى. نعم، إن الدعوى الحقة هي هذه. ومن الضياع والعبث الاهتمامُ بما هو خارجَ هذه الدعوى. فالذي ينشغل بالأمور السياسية يتخلف عن الإيفاء بوظائف مهمة، ويَفقد سلامة قلبه من جراء تلهفه للصراعات السياسية.

  1. وذكر في اللمعة السادسة والعشرين: أن مهمته الحقيقية في هذه الدنيا الهرمة هي نشر الأسرار القرآنية. ويقول: إنني مرتبط بهذه البلاد من حيث الحمية الإسلامية. وإلّا فلا دار لي ولا أولاد لي.
  2. وذكر في اللمعة الحادية والعشرين، الدستور الأول من بين النصائح التي قدّمها لإخوانه: ابتغاء رضوان الله في عملكم، فلا تُطلب فيــه منــافــع مادية. ويقول أيضا: إنني لســت صوفيا ومسلكنا ليس طريقة صوفية. وإن حب الجاه وجلب الأنظار إلى النفس مرض روحي، ويُطلق عليه الشرك الخفي، ويقول: لو كان مسلكنا مشيخة لكان المقام واحدا، والمرشحون كثيرين.

إن مسلكنا: الأخوّة، فلا يكون الأخ لأخيه في مرتبة الأب ولا يتقلد صفة المرشد.

* * *

[محاورة مع نفسي]

أُحيلُ هذه المحاورة مع نفسي إلى رأيكم لإسماعها المسؤولين في أنقرة بعد إجراء التصحيحات اللازمة فيها.

إذا كان الحاكم والمدّعي واحدا، فإلى من تُرفع الشكوى؟ لقد حرتُ طويلا في هذه المشكلة..

أجل إن حالتي اليوم، وأنا طليق مراقَب أكثرُ شدة عليّ من الأيام التي كنت مسجونا فيها، وإن يوما واحدا من هذه الحياة يضايقني أكثر من شهر كامل في سجني المنفرد ذاك. لقد مُنعتُ من كل شيء رغم ضعفي وتقدمي في السن وفي هذا الشتاء القارس. فلا أقابِل غير صبي وشخص مريض. على أنني منذ عشرين سنة أعاني مأساة حبس منفرد.

إن تزييدهم المضايقات والمراقبة عليّ وعزلي عن الناس أكثرَ من هذا الحد سيمس غيرة الله سبحانه وتعالى وتكون العاقبة وخيمة..

إنني أقول: إن أهم وظيفة لهذه الحكومة -بمسؤولِي الأمنِ ومأموري العدل فيها- والتي تعاملني معاملة وجدانية إنسانية هي حمايتي حماية تامة. لأن الحكومة وثلاث محاكم عدلية برّأتْ ساحتنا وأفرجت عنا بعد إجراءِ تدقيقات دامت طوال تسعة أشهر على ما كتبتُه خلال عشرين سنة من مؤلفات ومكاتيب. ولكن المنظمة السرية التي تعمل بخفاء في خدمة الأجنبي ألقت في رُوع قسمٍ من الموظفين الشبهاتِ -بجعلها الحبة قبّة- طمعا في إفساد براءتنا. وغايتُهم في ذلك هي أن ينفَدَ صبري فأقولَ: «كفى كفى!!» على أن سبب غضبهم عليّ في الوقت الحاضر هو سكوتي، وعدم تدخلي بأمور الدنيا. وكأنهم يريدون أن أتدخل حتى تتحقق لهم بُغيتهم.

أبيّن لكم بعض مكايدهم التي يستعملونها في بث الشكوك والشبهات في قلوب قسم من الموظفين الحكوميين؛ إذ يقولون: إن لسعيد نفوذا في الأوساط العامة، وإن مؤلفاته كثيرة ولها تأثير بالغ في الناس، فمن يتقرب منه يصادقه، لذا يلزم كسر هذا النفوذ بتجريده من كل شيء وإهانته وعدم الاهتمام به وتجنيب الناس منه وإخافة محبيه. وهكذا أصبحت الحكومة في حيرة من أمرها فتُشدد عليّ الخناقَ وتُضاعف المضايقاتِ. وأنا أقول:

أيها الأخوة المحبون لهذه الأمة والبلاد

أجل، إن هناك نفوذا وتأثيرا كما يقوله المنافقون، ولكن ليس لي، وإنما لرسائل النور. فرسائل النور لا تنطفئ وكلما تعرّض لها شيءٌ قويَت! ولم تُستعمل إلّا لصالح الأمة والبلاد ولا يمكن غير ذلك. إن قيام محكمتين عدليتين طوال عشر سنوات بتدقيقاتِ ما كتبتُه خلال عشرين سنة تدقيقا شديدا لم يسفر عن حجة حقيقية لإدانتنا.. وهذه حجةٌ لا تُجرح وشاهدُ صدق لدعوانا.

نعم، إن المؤلفات ذات تأثير بالغ، ولكن لمصلحة الأمة والبلاد. وذلك بإرشادها إلى الإيمان التحقيقي لمائة ألف من الناس من دون أن تمسّ أحدا بسوء. فتأثيرها إذن هو في العمل لسعادتهم الدنيوية وحياتهم الأبدية.

إن مئات المساجين المحكومين في سجن «دنيزلي» -بعضُهم عوقبوا بعقوبات شديدة- قد أصبحوا متدينين ذوي أخلاق فاضلة بعد قراءتهم رسالة «الثمرة» وحدها، حتى الذين قَتلوا ثلاثة أشخاص تحاشَوا عن قتل بقة الفراش بعد قراءتهم لتلك الرسالة. مما دفع هذا الوضع مديرَ السجن على الإقرار بأن السجن أصبح في حُكم مدرسة تربوية.. كل هذا حجة قوية لا تُجرح لصدق مدّعانا.

نعم، إن تجريدي من جميع حقوقي الإنسانية بعد هذا كله إنما هو ظلم مضاعف وعذاب مضاعف وغدر وخيانة لهذه الأمة في الوقت نفسه. ذلك لأن الدليل القاطع على أن هذه الأمة المتدينة -التي لم يجد أحد أيَّ ضرر مني رغم بقائي ما يقرب من أربعين سنة بين ظهرانيهم- بحاجة إلى قوة معنوية وتسَلٍّ عظيم، هو أن الأمة لا تلتفت إلى الدعايات المُغرضة المشاعة ضدي، فتتوجه في كل مكان إلى رسائل النور وتشتاق إليها.. بل أعترف أنهم يبدون من التوقير والاحترام لي يفوق ما أستحقه بمائة ضعف، فأنا لست أهلا له.

لقد سمعت أن المسؤولين عهدوا إلى حكومة هذه المنطقة أمر إعاشتي الدنيوية، وإنني إذ أشكر هؤلاء أعلن لهم:

أن حريتي في أداء واجبي هي أهم من كل شيء. فهي أول ركن من دستور حياتي. وإن سلب حريتي بحبائل الأوهام الكاذبة وتقييدها بقيود الاستبداد والطغيان يجعلني أملّ الحياة مللا شديدا حتى أفضّل القبرَ على هذه الحالة فضلا عن السجن والحبس. إلّا أن الذي يشدّ أزري ويدفعني إلى التحمل والصبر هو الثواب الذي يُجزل بحسب المشقة في سبيل خدمة الإيمان. إن على هؤلاء الذين لا يريدون ظلمي أن يردّوا عليّ حريتي ولا يمسّوها بسوء. إنني أتمكن أن أعيش من دون طعام ولكني لن أعيش من دون حرية.

نعم، إن الذي عاش على مبلغ لم يزد على مائتي ليرة تركية طوال تسع عشرة سنة مع الأخذ بمنتهى الاقتصاد والقيام برياضة روحية شديدة حفاظا على حريته وعزته العلمية من دون أن يعرض نفسه إلى ذلّ الصدقة والمسألة والتوسل بالزكاة والمرتّبات والهدايا.. لا ريب أنه اليوم أحوج ما يكون إلى الحرية ضمن العدالة منه إلى الإعاشة..

إن ما يعوّضُ عن عشرة من الناس يُحال بيني وبينهم، أن هناك عشرات الألوف بل مئات الألوف من المسلمين يعكُفون على دراسة رسائل النور دون أن يكترثوا بالموانع والعراقيل أيا كانت. إن كل نسخة من ألوف نسخ رسائل النور التي انتشرت في أرجاء البلاد وفي العالم الإسلامي، تقوم مقامي في الكلام والبيان، بل أفضل مني، لما فيها من حقائق رصينة وفوائد جمة. فبسكوتي لن تسكت تلك الرسائل ولن تُسكتها أيةُ قوة..

* * *

محاورة مع وزير العدل والحكام الذين لهم علاقة برسائل النور

أيها السادة!

لِمَ تنشغلون بنا وبرسائل النور دون داع أو سبب. إني أبلّغكم قطعاً ما يلي:

إنني ورسائلَ النور لا نبارزكم، بل ولا نفكر فيكم، بل نعدّ ذلك خارج وظيفتنا، لأن رسائل النور وطلابها الحقيقيين يؤدون خدمة جليلة للجيل المقبل الذي سيأتي بعد خمسين سنة ويسعون لإنقاذهم من ورطة جسيمة، ويجدّون في إنقاذ هذه البلاد والأمة من خطر عظيم، فمن ينشغلْ بنا الآن فسيكون رميماً في القبر في ذلك الوقت. بل لو افترض أن عملنا -الذي هو لتحقيق السعادة والسلامة- مبارزة معكم فلا ينبغي أن يمسّ الذين سيكونون تراباً في القبر.

إن إظهار أعضاء الاتحاد والترقي شيئاً من عدم المبالاة في الحياة الاجتماعية وفي الدين وفى السجايا القومية أدّى إلى ظهور الأوضاع الحالية بعد ثلاثين سنة تقريباً من حيث الدين والأخلاق والعفة والشرف. فالأوضاع الحاضرة ستنعكس على الجيل الآتي لهذه الأمة -البطلة المتدينة الغيورة على شرفها- بعد خمسين سنة. ولا يخفى عليكم ما ستؤول إليه السجايا الدينية والأخلاقية الاجتماعية.

سيلطخ قسم من الجيل الآتي ذلك الماضي المجيد لهذه الأمة المضحّية منذ ألف سنة، بلطخات رهيبة قد تقضي عليه بعد خمسين سنة.

لذا فإنّ إنقاذ قسم من هذا الجيل من ذلك التردي المريع بتزويده بالحقائق التي تحتويها رسائل النور تُعَدُّ أفضل خدمة لهذه الأمة ولهذا الوطن. فنحن لا نخاطب إنسانَ هذا الزمان بل نفكر بإنسان ذلك الزمان.

نعم، أيها السادة! على الرغم من أن رسائل النور لا تسدد نظرها إلّا إلى الآخرة ولا تهدف غيرها وليست لها غاية سوى رضا الله وحده وإنقاذ الإيمان، ومسعى طلابها ليس إلّا إنقاذ أنفسهم ومواطنيهم من الإعدام الأبدي والسجن الانفرادي الأبدي، فإنها في الوقت نفسه تقدم خدمة جليلة أيضاً تعود فائدتها للدنيا وإنقاذ هذه الأمة والبلاد من براثن الفوضى وإنقاذ ضعفاء الجيل المقبل من مخالب الضلالة المطلقة، لأن المسلم لا يشبه غيره، فالذي يحل ربقته من الدين ليس أمامه إلّا الضلالة المطلقة فيصبح فوضوياً إرهابياً، ولا يمكن دفعه إلى الولاء للإدارة والنظام.

نعم، في الوقت الذي نجد خمسين بالمائة ممن تربّوا بالتربية القديمة لا يكترثون بالأعراف الشعبية والإسلامية، فإنه بعد خمسين سنة يسوق تسعون بالمائة منهم هذا الوطن والأمة -بنفوسهم الأمارة بالسوء- إلى فوضى ضاربة أطنابها. فلا شك أن التفكر في هذا البلاء العظيم ومحاولة التحري عن أسباب لدفعه، هو الذي دفعني قبل عشرين سنة إلى ترك السياسة كلياً وعدم الانشغال مع أناسي هذا الزمان، مثلما دفع رسائلَ النور وطلابَها إلى قطع علاقتهم مع صراعات هذا الزمان. فلا مبارزة معهم ولا انشغال بهم.

ومادامت هذه هي الحقيقة، فإن الواجب الأول لجهاز العدالة ليس اتهامي واتهامَ طلاب النور، بل القيام بحماية رسائل النور وطلابها، لكونهم يحافظون على أعظم حق من حقوق الأمة والبلاد، فإن الأعداء الحقيقيين لهذه الأمة والبلاد يهاجمون رسائل النور ويدفعون أجهزة العدالة -بعد خداعها- لارتكاب أفظع المظالم وأبشع الجنايات.

سأَعرض أنموذجين صغيرين جدا:

الأول: رسالة لرفيقي في السجن تتضمن الاستفسار عن الأحوال، وبرفقتها عشرة «بنكنوت» ثمن رسالة عربية لي لتُعطى إلى من دَفَع مصاريف الطبع في إسبارطة. ضايقتني الدوائر العدلية والحكومة من جراء هذه الرسالة، وأجرت تحرّيا في مسكنِ مَن أصبح وسيلةً للطبع. أقول: إنّ جَعْلَ هذه الرسالة التي لا أهمية لها -حتى بقدر جناح بعوضة- والمراسلة التي لم تتم إلّا في غضون ستة أشهر… كأنها مسألة عظيمة، لا تليق بلا شك بكرامة العدلية وشرفها.

الأنموذج الثاني: إن ترويع الناس من شخصي الضيف، الضعيف، الغريب، الشيخ، الذي برّأته المحاكمُ، بل حتى ترويع من يعينه في أموره الشخصية بإطلاق دعايات مغرضة، بصورة رسمية، ومن ثم إقحامي في وضع مؤلم، لا يليق بالغيرة القومية لحكومة هذه الولاية.

نعم، إن إطلاق الدعايات المغرضة وإلقاء الرعب في قلوب الناس، وجعل ضرر موهوم لا يساوي شيئا كأنه ضرر جسيم، والاستفسار الدائم: مع من يلتقي؟. من يأتيه؟… وأمثالها… لاشك أن حكمة الحكومة وحاكميتها لا ينبغي أن تتنازلا إلى هذه الحالة العجيبة… وعلى كل حال هناك مواد كثيرة تورث الحيرة لدى المطلعين عليها، كهذين الأنموذجين.

أيها السادة!

إنّ دفع الضلالة والفساد سهل ويسير إن كانت آتية من الجهل، بينما إزالتها عسير جدا إن كانت آتية من العلم.

ففي هذا الزمان تأتي الضلالة من العلم، لذا لا يمكن إزالتها وإنقاذُ من تردّى فيها من الجيل المقبل إلّا بأن يكون لديهم مؤلف كامل كرسائل النور. والدليل على أن رسائل النور لها هذه القيمة هو:

أنه لم يعارض رسائلَ النور -منذ عشرين سنة- أحدٌ من معارضيّ الأشداء الكثيرين ولا أحد من الفلاسفة المتعنتين ولم يستطيعوا -ولا يستطيعون- جرحها.. وكذا عدم عثور ثلاث دوائر عدلية والخبراء في مركز الحكومة على مادة تديننا بعد التحري في مائة كتاب طوال تسعة أشهر… وكذا إيراثها القناعة التامة لألوف المدققين من طلابها.

نعم، إن عدم عثور محكمتين ومركزِ الحكومة وضباطِ أمن لبضع ولايات ومحكمةِ دنيزلي على أية مادة توجب العقاب وتلحق الضرر بالأمة والوطن في جميع الرسائل الخاصة والعامة منذ عشر سنوات يثبت أن لرسائل النور حقوقا عظيمة وكلية شاملة في هذا الوطن..

وحيث إن واجب دوائر العدل هو الحفاظ على الحقوق ومنعُ المتعدين من التجاوز، فإن إهمال هذه الحقوق المهمة ومصادرةَ الرسائل كأنها أوراق اعتيادية، والإجحاف بحق الأمة والمحتاجين إلى إنقاذ الإيمان، مع وجوب الأخذ بنظر الاعتبار حقَّ شخص اعتيادي باهتمام…

ورغم ثبوت خدمة رسائل النور لسعادة مائة ألف من الناس طوال عشرين سنة.. فإننا نذكّركم أن هذا عمل لا ينسجم مع ماهية العدلية وحقيقة العدالة بأي شكل من الأشكال.

إننا نخشى أن يكون التعرض لرسائل النور وعدمُ التعرض لمؤلفات كثيرة لزنادقة كالدكتور «دوزي»، وسيلةً لنـزول الغضب الإلهي.

نسأل الله أن يرزقكم الإنصافَ والرحمة ويلهمنا الصبر والتحمل. آمين.

سعيد النُّورْسِيّ

في الحبس الانفرادي بصورة غير رسمية

* * *

[وشاورهم في الأمر]

باسمه سبحانه

اتباعا للأمر الإلهي: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْاَمْرِۚ﴾ (آل عمران:159) أجد نفسي بحاجة إلى التشاور مع إخوتي.

إخوتي الأعزاء الأوفياء!

إنني الآن أمام أمر واقع، حيث أمرَت السلطاتُ بتخصيصِ مبلغ قدره اثنان ونصف «بنكنوت» لمعيشتي اليومية، علاوةً على منـزل مؤثث حسبما أُريده، علما أن دستور حياتي الذي نفّذتُه طوال ما يقرب من ستين سنة يقتضي رفضَ هذا. فما قبلتُ مرتّبا إلّا لمدةِ سنتين تقريبا عندما كنت عضوا في «دار الحكمة الإسلامية» وهذا أيضا صرفتُه لطبع كتبي وتوزيعِها مجانا على الناس، فرددت بضاعتَهم إليهم.

ولكن لو قَبلتُ الآن ذلك المبلغ مضطرا فسوف أقبله لئلا يصيبكم ورسائلَ النور الضررُ وبشرط أن أُعيده في المستقبل إلى الناس. ولا أصرف منه إلا القليل الذي تستوجبه الضرورةُ القاطعة.

وقد طرق سمعي أنني إذا رفضتُ الأمر، فسوف يستاء إذن أولئك الذين يسعون لصالحنا ولاسيما لإعاشتي. بينما المعارضون يقولون: إن معيشة هذا الشخص إذن تَردُ من مكان آخر. فما أجهَلُهَم ببركة الاقتصاد العظيمة! إنهم لم يشاهدوا أن رغيفا بخمسة قروش يكفيني ليومين.

ولكن إذا ما قبلت بالأمر فستستاء سبعون سنة من العمر، فضلا عن استياء الإمام علي رضي الله عنه الذي أخبر عن علماء السوء في زماننا هذا، الذين يجترحون السيئات ويتلوثون بالبدع إشباعا للرغبات وطمعا للمرتّبات.

وهناك جهة أخرى، وهي أن الإخلاص الحقيقي الصافي الذي تتمتع به رسائلُ النور سيتّهمني بعدم الإخلاص. ولأجل هذا فأنا في حيرة من هذا الأمر.

وقد سمعت أيضا أنني لو رفضت الأمر فسيزيدون مضايقاتهم عليّ، وربما يعرقلون نشر الرسائل وإطلاق حريتها كليا، بل علمت أن مضايقاتهم عليّ إنما هي لحملي على قبول الإعاشة.

فما دام الأمر هكذا وأن «الضرورات تبيح المحظورات» فنسأله سبحانه وتعالى ألّا يصيبنا الضرر إذا ما صار الأمر في حد الضرورة.

ومع هذا رفضتُ الأمر، فأحيل الموضوع إلى مشاورتكم.

إخوتي الأعزاء!

لا تقلقوا عليّ لأنى أشـــاهد في كل أمر عســير أثـــرَ الرحمة الإلهية ولمعةَ عنايته تعالى. فلا تتضايقوا فإن ســعيَكم وهمّتكم ومعاونتكم لي تـزيــل كلَّ ضيق وتنشر الســرور والانشراح دوما.

* * *

[إننا تحت العناية الربانية]

إخوتي!

لا تقلقوا أبدا، فقد اقتنعتُ قناعة تامة بأننا تحت العناية الإلهية، ونُستخدَم بإرادة غيبية خارجة عن اختيارنا واقتدارنا، وفي عمل جليل في منتهى الأهمية، فنحن كثيرا ما ننال سر الآية الكريمة: ﴿وَعَسٰٓى اَنْ تَكْرَهُوا شَيْـًٔا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْۚ﴾ (البقرة:216) نعم، إن في عملنا تعبا قليلا إلّا أن الثواب جزيل.

* * *

[اقضوا ما أنتم قاضون]

عندما كنت أصحح الثمار الفردوسية واليوسفية للأبطال الميامين، جلبتْ انتباهي تلك الرسالة (الثمرة) حيث بدت لي أهميتها. فصرخت: لو تضاعفت متاعب السجن كلها مائة ضعف فقد أدّت هذه الرسالة أضعافها من الوظائف، إذ تستقرئ نفسها في شتى الأوساط العامة، وتسوق إلى الإيمان حتى المتعنتين.

أيها الشقاة، يا من تضيّقون عليّ الخناق! اعملوا ما شئتم واقضوا ما أنتم قاضون، فلا أهمية لعملكم، كل المصائب التي تنـزل بنا هينة تافهة، بل إنها عناية إلهية محضة ورحمة بعينها… قلت هذا ووجدت السلوان الكامل.

سلامنا إلى جميع طلاب النور، داعين لهم بالسلامة.

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

[إننا نقيم سدا قرآنيا]

…..

الشكر لله شكرا لا منتهى له، فقد أحسن إليّ حالةً روحية بحيث أضحّى بألوفٍ من كرامتي وشرفي في سبيل راحة الضعفاء ودفعا للبلاء النازل بهم.

فقررت أن أتحمّل جميعَ إهاناتهم وحقاراتهم وكل ما تنطوي عليه صدورُهم من نيات فاسدة. وإني مستعدٌ لتلقّي كل ذلك في سبيل استتباب الأمن والنظام في ربوع البلاد، ولا سيما لراحة الأطفال الأبرياء والشيوخ الموقرين والمرضى الضعفاء والفقراء، وسعادتهم الدنيوية والأخروية…

إننا نسعى بما أُوتينا من قوة لإقامة سدٍّ قرآني شبيه بسد ذي القرنين أمام الفوضى والإرهاب، فالذين يتعرضون لنا إنما يهيؤون الأوساط ويمهّدون السبيل للفوضى والشيوعية.

نعم، لو كنتُ على دأبي السابق في أن أردّ كل إهانة وتحقير حفاظا على عزة العلم.. ولو لم تكن وظيفتي الحقيقية منحصرة في أمور الآخرة وحدها وموجهة لإنقاذ المسلمين من الإعدام الأبدي للموت.. ولو كان سعيي هو لأجل الحصول على حطام الدنيا واللهاث وراء شؤون السياسة السلبية، كما هو الشغل الشاغل للمعترضين عليّ.. لكان هؤلاء المنافقون الذين يعملون في سبيل الفوضوية والإرهاب سببا في حدوث عشرات الحوادث من أمثال «منَمَن» وحادثة «الشيخ سعيد».

ولكن شخصا مثلي واقف على عتبة القبر، لا علاقة له مع شيء من الدنيا، بل قد تجافى عنها، وفرّ من توجه الناس وإقبالهم عليه، ولم تبق لديه رغبةٌ في كسب الشهرة والعجب وأمثالهما من الرياء، فلله الحمد والمنة بما لا يتناهى من الحمد والشكر.

ففي هذه الحالة لم تبق لإهانتهم غير القانونية لشخصي أية أهمية، أُحيل ذلك إلى العلي والقدير. فأتفكر في الذين عذبوني بناء على شكوك وظنون، وأتألم لحالهم تألما حقيقيا فأقول: يا رب أنقذ إيمان هؤلاء برسائل النور، وحوّل موتهم بسر القرآن من الإعدام الأبدي إلى تذكرةِ تسريح من الحياة. وأنا بدوري أُسامحهم وأصفح عنهم وأتنازل لهم عن حقي.

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

[لِمَ لَم يُستجب الدعاء؟]

جواب عن سؤال سألنيه باسم الكثيرين أحدُ طلاب النور الصغار الذي يعاونني في أموري الشخصية.

سؤال: أستاذي المحترم!

لِمَ لم يُستجب الدعاء والصلاة المقامة للاستسقاء، حيث تجمّعت السحُب عدة مرات ثم تفرقت دون إنزال المطر؟

الجواب: إن انحباس المطر هو وقت هذا النوع من الدعاء والصلاة، وليس علّتَه

وحكمتَه. فكما تُصلَّى صلاةُ الكسوف والخسوف عند الكسوف والخسوف، وكما تصلَّى صلاة المغرب عند غروب الشمس، كذلك انحباس المطر والجفاف هو وقت صلاة الاستسقاء ودعاؤه.

من المعلوم أن سبب العبادة والدعاء هو الأمر الإلهي، ونتيجتَها رضاه تعالى، وفوائدَها أخروية. فلو قُصدت من الصلاة والعبادة مقاصدُ دنيوية، وأُديت لأجلها فحسب فلا تُقبل تلك الصلاة والعبادة. إذ كما لا تُؤدى صلاةُ المغرب لأجل غروب الشمس ولا صلاة الخسوف لأجل انكشاف القمر، كذلك أداء صلاة الاستسقاء لأجل إنزال المطر خطأ، إذ إنزالُه من أمر الله، وواجبنا نحن تجاهه سبحانه العبوديةُ والدعاء من دون التدخل بما هو موكولٌ أمرُه إليه تعالى.

ولكن على الرغم من أن النتيجة الظاهرة لصلاة الاستسقاء هي نزولُ المطر، فإن نتيجتها الحقيقية والأصلية والنافعة وثمراتها الجميلة الطيبة هي إدراك الجميع أن الذي يربّيه ويغذّيه ليس والديه ولا محله ولا دكانه، بل مَن يرسل السحاب الثقال بالماء الثَّجَّاج، فهو الذي يرسل إليه الرزق. وحتى الطفلُ الصغير يدرك هذا المعنى الواسع بعقله الصغير، لما هو معتاد عليه من التوسل والرجاء كلما جاع. فالمعنى الذي ينطوي عليه الاستسقاء هو أن الذي يدبّر أمر الدنيا الهائلة كدارٍ صغيرة ويغذيني والأطفالَ جميعا وأهلَ الدار، ويبعث إليهم رزقهم إنما هو سبحانه. فلا نفع من غيره إن لم يَرزُق هو سبحانه. فما علينا إلّا أن نتوسل إليه وحده.. وبهذا يقوى إيمان المرء.

ولهذه المناسبة ستُبيَّن ست نقاط باختصار:

النقطة الأولى: إن ثمن النعمة الإلهية ورحمتَها هو الشكر، ولكننا لم نؤد الشكر حقه. وكما لم نؤد ثمن الرحمة بالشكر جلبْنا الغضبَ الإلهي بظلمنا وعصياننا. وقد جعلت البشريةُ نفسَها مستحقة للعقاب بما تقترف من ظلم ودمار وكفر وعصيان، وعوقبتْ من جراء ذلك بشتى أنواع العقاب الصارم، فلا جرم أن يكون لنا حظ من ذلك العقاب.

النقطة الثانية: ورد في حديث شريف ما معناه أنه حتى الأسماك في جوف البحر تشتكي إلى الله من الظالمين والعاصين فينقطع المطر، وتقل أرزاقنا بسبب ظلمهم.

نعم، إن المظالم والذنوب التي تُرتكب في هذا الزمان لا تدع مجالا لطلب الرحمة من الله. وحتى الحيوانات الأبرياء تتأذى من جرائها.

النقطة الثالثة: تقول الآية الكريمة: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصيبَنَّ الَّذينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَٓاصَّةًۚ (الأنفال:25) إذ لو نجا الأبرياءُ من مهالك المصيبة العامة نجاةً خارقة، لفسدت حكمةُ الدين الذي هو امتحان واختبار. وعند ذلك يصدّق الفاسدون -كأبي جهل- تصديق أبى بكر الصديق رضي الله عنه. ولأجل هذا يقاسي الأبرياءُ أيضا البلايا في المصيبة العامة.

النقطة الرابعة: إنه لِكثرة اختلاط الحرام في الأموال والأرزاق بسبب تفشي الحيل والغش والرشوة.. يُسلب الناسُ حقَّ الترحّم عليهم، بسبب الظلم أو عدم الشكر أو خلط الحرام بأموالهم.

النقطة الخامسة: إن رسائل النور في الأناضول وسيلةٌ مهمة لدفع البلايا، إذ كما تَدفع الصدقةُ البلاءَ، فإن نشر رسائل النور وقراءتها صدقةٌ كلية ووسيلةٌ لدفع بلايا سماوية وأرضية. وقد تبين ذلك بأمارات كثيرة ووقائع كثيرة، بل تحقق ذلك بإشارات من القرآن الكريم.

النقطة السادسة: إن انقطاع المطر مصيبةٌ وبلاء، وجزاءُ عمل، فينبغي مقابلة هذا بالالتجاء إلى الله تعالى والدعاء مع العبودية الخالصة في حالةٍ من بكاء وانكسار قلب، وحزنٍ وتضرّع كامل، وندامة جادة، وتوبة نصوح، واستغفار من كل الذنوب، وأن يجري ذلك كله ضمن دائرة السنة النبوية ومن دون تدخّل البدع، وعلى الصورة التي تعيّنه الشريعة.

فأمثال هذه المصائب العامة -لكونها آتية من ذنوب معظم الناس- تندفع بقيام القسم الأعظم منهم بالتوبة والندامة والاستغفار.

* * *