[حول صلاة الجنازة]

إن المقصود من الآية الكريمة: ﴿وَلَا تُصَلِّ عَلٰٓى اَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ اَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلٰى قَبْرِه (التوبة:84) هم أولئك المنافقون المعروفون بالنفاق قطعا في ذلك الوقت. لذا لا يمكن عدم صلاة الجنازة بناء على الظن بالنفاق. إذ لمّا كان ينطق بـ«لا إله إلا الله» فهو إذن من أهل القبلة فيُصلّى عليه إن تاب عن فعله ولم ينطق بكفر بواح.

ولوجـود العلويين بكثرة في تلك القريـــة «على كوي» والتحاقِ قســم منهم بالرافضة. يلزم ألّا يدخل أحدُهم ضمن حقيقة المنافقين، لأن المنــافق لا إيمان لــه، ولا قلب لــه يخفق بالإيمان، ولا ضمير له يتحرك، ويعادي النبي ﷺ كما هــو الحال لــدى زنادقة الوقت الحاضر.

أما الغلاة من العلويين والشيعة، فلا يضمرون العداء للنبي ﷺ بل يكنّون حبا مفرطًا لآل البيت. فهم يُفْرطون مقابل تفريط المنافقين في حبهم. وعندما يتجاوزون حدود الشريعة لا يكونون منافقين بل فسّاقا من أهل البدع، فلا يدخلون ضمن زمرة الزنادقة ما لم يتعرضوا للخلفاء الراشدين الثلاثة: «أبي بكر وعمر وعثمان» الذين رضي بهم بل عاونهم سيدُنا علي رضي الله عنهم أجمعين. ويكفي أن يحترموهم كما كان سيدُنا علي يحبّهم، ويؤدوا الفرائض.

ثم إن أعظم أستاذ لطلاب رسائل النور بعد الرسول الأعظم ﷺ هو سيدُنا علي رضي الله عنه. لذا إن لم يستمع الشيعة والعلويون -الذين يدْعون إلى محبته- إلى رسائل النور أزيدَ من أهل السنة فإن دعوى محبتهم لآل البيت ليس في محلها.

ولقد سمعتُ -قبل سنتين- استنساخ الصبيان الأبرياء لرسائل النور في تلك القرية، بهمة جادة لإخوتنا الثلاثة هناك وبشوقهم العظيم. فأدخلتُ تلك القرية برمّتها ضمن دعواتي. فتلك الدعوات التي دعوتها بحق تلك القرية لن تذهب هباءً بفضل الله ثم بفضل مساعي إخواننا هناك. وسيتفق أهلُ السنة والعلويون هناك.

* * *

[ زواج الخواص]

يسأل أخونا صلاح الدين عن مسألة خاصةٍ به، وهي رغبتُه في الزواج والدخول في الحياة الدنيوية والاجتماعية. فما دام أنه من خواص طلاب النور فلا يمكنه الزواج إن كان فيه ما يضر العمل لرسائل النور، ولكن إذا علم أنه يستطيع أن يجعل صاحبتَه مُعينة له في العمل -كما هو لدى بعض إخوتنا الخواص- فله أن يتزوج. ذلك لأن حياة الطلاب الخواص تخصّ رسائل النور، وهي مقيّدة بما يراه الشخص المعنوي لطلاب النور. وإن كانت مقرونة بموافقة الوالدين فهو أفضل ولا يضر بإذن الله.

* * *

[موقع الكرامات في الرسائل]

باسمه سبحانه

﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ

إخوتي الأعزاء الصديقين!

لقد أُخطر على قلبي أن أُبيّن لكم أربع مسائل:

أولاها: جواب عن سؤال يرد بلسان الحال والمقال ومن حالات مختلفة ومظاهر متباينة. فيُقال: مادامت رسائل النور ذات كرامة، وتورث قارئيها رقيّا في انكشاف حقائق الإيمان أكثر مما تورثه الطرقُ الصوفية، بل إن قسما من طلابها الصادقين هم أولياء صالحون من جهة، فلماذا لا تُشاهَد فيهم مظاهرُ وأذواق روحية وكشفيات معنوية وكرامات مادية ملموسة كالأولياء، فضلا عن أنهم لا يهتمون بمثل هذه الأمور ولا يتعقبونها. فما الحكمة في هذا؟

الجواب:

أولا: سببُه سرُّ الإخلاص؛ إذ إن الأذواق والكرامات المؤقتة في الدنيا تصبح مقصودة بالذات لدى أولئك الذين لم يتمكنوا من قهر نفوسهم الأمارة بالسوء، وتغدو لديهم هذه الأذواق داعيةً للقيام بأعمالهم الأخروية. وهذا مما يفسد الإخلاص، لأن الأعمال الأخروية لا يُتحرى فيها مقاصد دنيوية ولا يُسأل فيها عن أذواق. بل لو طُلبتْ فيها تلك الأذواق لفسد الإخلاص.

ثانيا: إن الكرامات والكشفيات إنما هي لبث الثقة في نفوس السالكين في الطريقة من الناس العوام الذين يملكون إيمانا تقليديا ولم يبلُغوا مرتبة الإيمان التحقيقي، وهي أحيانا لتقوية الضعفاء ممن تُساوِرُهم الشكوكُ والشبهات. بينما الحججُ التي تسوقها رسائل النور فيما يخص حقائق الإيمان لا تَدَع مجالا -في أية جهة كانت- لدخول الشبهات والأوهام، كما لا تدع داعيا للكرامات والكشفيات لتطمين القلب والاقتناع. فالإيمان التحقيقي الذي تمنحه الرسائل هو أرفع بكثير من الكرامات والكشفيات والأذواق، لذا لا يَتحرى طلاب رسائل النور الحقيقيون أمثالَ هذه الكرامات.

ثالثا: إن أساسا من أسس رسائل النور هو معرفة الشخص بقصوره في قرارة نفسه، والاندفاعُ إلى خدمة الإيمان بتفانٍ ابتغاء مرضاة الله وحده دون الالتفات إلى الآخرين.

بينما الاختلاف الموجود فيما بين أهل الطريقة من أصحاب الكرامات والمتلذذين من الكشفيات ووجودُ شيء من الحسد والمنافسة فيما بينهم، ولاسيما في هذا العصر الذي عمّت فيه الأنانية والغرور -كل ذلك- ساق أهلَ الغفلة إلى إساءة الظن بأولئك الطيبين المباركين واتهامِهم بأنهم أنانيون.

ومن هنا نرى لماذا لا يسأل طلاب النور الكراماتِ والكشفياتِ لشخصهم ولماذا لا يلهثون وراء تلك الأمور، وكيف أن هذا الطَّور هو الألزم لهم والأوجب عليهم.

ثم إن في مسلك رسائل النور لا تُعطَى الأهميةُ للشخص؛ حيث يكتفي الجميع بما نالت رسائلُ النور -من حيث المشاركة المعنوية والفناء في الإخوان- من آلاف الكرامات العلمية ومن يسر في نشر الحقائق الإيمانية، وبما يجد أولئك الطلاب من بركة في معايشهم.. وأمثالها من الإكرامات الإلهية.. لذا لا يفتشون عن كمالات وكرامات أخرى شخصية.

رابعا: من المعلوم أن مئات من رياض الدنيا لا توازي شجرة من أشجار الجنة، وذلك لأن الأولى فانية والثانية خالدة.

وأن أحاسيس الإنسان الماديةَ هي أحاسيس مطموسة تُعجبها اللذة العاجلة، فتفضّل ثمرةً حاضرة على روضةٍ آجلة من رياض الجنة الباقية، لهذا لا يسأل طلاب النور الأذواقَ الروحانية والكشفيات المعنوية في الدنيا. فلا تَستغل النفسُ الأمارة هذه الحالَةَ الفطرية في الإنسان.

وشبيه بحالة طلاب النور هذه ما يُحكى: أن وطأة العيش قد اشتدت على رجل صالح من الأولياء وعلى زوجته التقية الورعة وكان لهما مقام عند الله. ولكن شدة ما ألمّ بهما من الضرورة أَلجأتِ الزوجةَ الصالحةَ أن تقول لزوجها:

– إن حاجتنا لشديدة!

وإذا بهما يريان لبنة من ذهب خالص أمامهما.

فقال الزوج لزوجته: هذه لبنة قد أُرسلت إلينا من قصرنا في الجنة.

فانبرت له زوجته الصالحة قائلة: مع أن الفاقة قد أنهكتنا ونعاني من شظف العيش ما ترى ولنا في الجنة كثير من مثل هذه اللبنة، ولكن أخشى أن نضيع لبنة الجنة في دنيا فانية. فأرجو يا زوجي العزيز أن تتضرع إلى المولى الكريم ليعيد اللبنةَ إلى موضعها في الجنة، فنحن في غنى عنها. وإذا بهما يريان -كشفاً- عودةَ اللبنة إلى موضعها.

هكذا تُروى الحادثة.

فهذان الرائدان من أهل الحقيقة، إنما يمثلان نموذجا جيدا وقدوة حسنة لطلاب النور في عدم سعيهم وراء الأذواق والكرامات في الدنيا.

* * *

[ما تقتضيه الأبوة والبنوة]

لقد سُررتُ غايةَ السرور بالرسائل الجميلة الخالصة القادمة من إخواننا في مدينة «إينبولي» وما جاور تلك المدينة التي أخذت عنوانَ «إسبارطة الصغيرة» في وقت ما، وعانت أكثر من أية مدينة أخرى مصيبةَ السجن في قضيتنا السابقة. إلّا أنني قَلِقٌ على عدم الانسجام الحاصل بين الوالد والولد انسجاما تاما للاختلاف بين مشربيهما، وهما بَطَلَانِ من أبطال النور، فالولد لابد له من كسبِ رضا الوالد حتى لو كان والدُه غير محق، وعلـى الوالد ألّا يحرم ولدَه من رأفته وإن كان عاقا به، وحتى لو كان البون بين الولد والوالد بعيدا، بل لو كانا عَدُوَّينِ، فلأجل رسائل النور والإيثار الموجود فيما بين طلاب النور، وعدمِ انتقاد بعضهم البعض الآخر والتجاوز عن تقصيراته، وأمثالها من دساتير رسائل النور تُلجئهم إلى المصالحة. فكيف بمثل هذا الوالد والولد الحاملَين للخصال الحميدة والسجايا الراقية وهما من المتقدمين في صفوف طلاب رسائل النور. فعلى أخويّ هذين ألّا يجعلا أمورا دنيوية جزئية عاطفية موضعَ مناقشة. وعليهم أن يتحلَّوا بما تقتضيه الأبوة والبنوة من الاحترام والرحمة فضلا عما يقتضيه التتلمذ على رسائل النور من الصفح وغضّ النظر عن الأخطاء، فعلى أخويّ الحبيبين عندي حبا جما أن يتركا نقد بعضهما البعض الآخر مراعاة لخاطري.

* * *

[ميزان القناعة والحرص]

إخواني الأوفياء الصادقين!

سؤال: إنك لا تريد أن ترتبط بعلاقة -خارج دائرة النور- مع الذين يُحسنون الظن كثيرا بشخصك بالذات ويمنحونك مقاما عظيما، رغم أنهم وثيقو الصلة بـرسائل النور وتتبادل معهم المحبة، بل تفضل المجالسة والمحاورة مع مَن لا يفرط في حسن الظن بشخصك، فتنبسط لهم وتنشرح وتبدي لهم من المحبة والإكرام أكثر من أولئك. فما السبب؟.

الجواب: لقد ذَكرنا في المكتوب الثاني من الكلمة الثالثة والثلاثين: أن الناس في زماننا هذا يبيعون إحسانهم إلى المحتاجين بثمن غالٍ، فمثلا؛ يقدّم لي رغيفا من الخبز مقابلَ دعاء مستجاب، ظنا منهم أنى رجل صالح. فإحسانٌ كهذا وبهذا الثمن الباهظ لا أُريده. وقد بيّنتُ هذا سببا من أسباب ردّ الهدايا. فالناس من غير طلاب النور الحقيقيين يظنونني ذا مقام عظيم، فيُبدون علاقة قوية نحوي، واستعدادا للخدمة، ولكن يطلبون عوضها نتائج نورانية في الدنيا -كما هو لدى الأولياء- فيحسنون إليّ إحسانا معنويا بخدماتهم وعلاقاتهم. ولما كنت عاجزا عن أن أكون مالكا لما يطلبونه من ثمن تجاه هذا النوع من الإحسانات المعنوية من أمثال هؤلاء، أظل خَجِلا منهم، وهم بدورهم عندما يرون أنى لستُ على شيء، يخِيبُ ظنُّهم بي، وربما يفتُرون عن الخدمة.

وحيث إن الحرص في الأمور الأخروية والاستزادةَ منها مقبول -من جهةٍ- إلّا أنه في مسلكنا، وفي خدمتنا، قد يكون لبعض العوارض سببا للشكوى واليأس بدل الشكر، إذ قد يقع الحريص في خيبة الظن من عمله، لعدم رؤيته نتائجه. بل ربما يدَع خدمة الإيمان. لذا فنحن مكلفون في مسلكنا بالقناعة، وعدم الحرص على نتائج الخدمة وثمراتها على الرغم مما نبديه من حرص شديد وطلب المزيد في أمور الخدمة ضمن الإخلاص، وذلك لأن القناعة في النتائج تورث دائما الشكر والثبات والصلابة.

فمثلا: إن ما نراه من حصيلة خدمتنا وجهودنا في ترسيخ الإيمان وتحقيقه في قلوب ألوف المؤمنين -حوالي ولاية إسبارطة- لَكافٍ لخدمتنا هذه، بحيث لو ظهر مَن هو بمرتبة عشرة أقطاب من الأولياء الصوفية، واستطاع سَوقَ ألفٍ من الناس إلى مراتب الولاية، فإن عمله هذا لا ينقص من أهمية عملنا وقيمتهِ ولا من ثمراته شيئا. لذا فإن طلاب رسائل النور الحقيقيين واثقون كلّ الثقة ومطمئنون كلّ الاطمئنان بمثل هذه النتائج وحصيلةِ الأعمال هذه، إذ إن القناعة القلبية لدى مريدي ذلك القطب العظيم يحققها ويَضمَنُها المقامُ الرفيع لأستاذهم ومرشدهم، ويضمنها أحكامه في المسائل، إلّا أن رسائل النور تنشئ لدى طلابها درجةً من القناعة أكثر بكثير مما عند مريدي ذلك القطب العظيم، بما فيها من حجج قاطعة تسري إلى الآخرين فتنفعهم أيضا، بينما تبقى قناعةُ أولئك المريدين خاصة بهم وحدهم. إذ إن قبول أقوال الأشخاص العظام بغير دليل لا يفيد اليقين والقطعية -في علم المنطق- بل ربما تكون قضية مقبولة يقتنع بها الإنسانُ بالظن الغالب. أما البرهان الحقيقي -كما هو في المنطق- فلا يَنظر إلى مكانة الشخص القائل وإنما إلى الدليل الذي لا يُجرَح.

فجميعُ حجج رسائل النور هي من هذا القسم، أي من «البرهان اليقيني»، لأن ما يراه أهلُ الولاية من الحقائق بالعمل وبالعبادة وبالسلوك وبالرياضة الروحية، وما يشاهدونه من حقائق الإيمان وراء الحجُب، فإن رسائل النور تشاهدها مثلهم أيضا، إذ شقّت طريقا إلى الحقيقة في موضع العبادة ضمن العلم، وفتحت سبيلا إلى حقيقة الحقائق في موضع السلوك والأوراد ضمن براهين منطقية وحجج علمية، وكشفت طريقا مباشرا إلى الولاية الكبرى في موضع علم التصوف والطريقة ضمن علم الكلام وعلم العقيدة وأصول الدين؛ بحيث انتصرت على الضلالات الفلسفية التي تغلّبت على تيار الحقيقة والطريقة في هذا العصر. والشاهد هو الواقع.

وكما أن حقيقة القرآن -التي هي في منتهى القوة وسدادِ المنطق- قد نجّت سائرَ الأديان من صولة الفلسفة الطبيعية وتغلّبها عليها، وأصبح القرآنُ نقطةَ استناد لتلك الأديان حتى حافظت -إلى حدٍّ ما- على أصولها التقليدية والخارجة عن العقل؛ فـرسائل النور كذلك -ولا مشاحة في الأمثال- وهي معجزةٌ من معجزات القرآن الكريم ونور مفاض منه في هذا الزمان، قد حافظت على الإيمان التقليدي لدى عوام المؤمنين من صولة تلك الضلالة العلمية المخيفة الناشئة من الفلسفة المادية، وأصبحت نقطةَ استناد لأهل الإيمان كافة، وفي حكم قلعة حصينة لا تُقهر للمؤمنين كافة القاصي منهم والداني على السواء، بحيث إنها تحفظ أيضا -في خضم هذه الضلالات الرهيبة التي لا نظير لها- إيمانَ عوام المؤمنين من أن تَرِدهم شبهاتٌ على إيمانهم وتُطفئ الشبهات الواردة على إسلاميتهم.

نعم، إن أيّ مؤمن كان في أية بقعة من أرجاء العالم، حتى في الهند والصين، ما إن تساوره شبهةٌ من جراء ظهور الضلالة الرهيبة في هذا العصر العجيب حتى يتساءل:

تُرى هل في الإسلام شيءٌ من باطل حتى آل أمرُه إلى هذا؟ إذا به يسمع ويدرك أنه قد ظهرت رسالةٌ تثبت إثباتا قاطعا جميعَ حقائق الإيمان، وتَقهر الفلسفة، وتُخرس الزندقة، وإذا بتلك الشبهة تزول نهائيا فينقذ إيمانه ويقوى.

* * *

[لِمَ هذا الحشد من البراهين؟]

…….

ثانيا:

يسأل أخونا علي الصغير ذو الروح العالية، وهو بطل الميامين، وبمنـزلة عبد الرحمن ولطفي والحافظ علي سؤالا ورد جوابُه في مئات من المواضع من رسائل النور.

والسؤال هو:

لِمَ هذا الحشد الهائل من البراهين والأدلة حول أركان الإيمان في رسائل النور؟ فإن إيمان المؤمن العامي هو كإيمان الولي العظيم.. هكذا سمعنا من علمائنا السابقين.

فالجواب: إن مباحث المراتب الإيمانية المذكورة في رسالة «الآية الكبرى».. وكذا ما قاله مجدد الألف الثاني الإمام الرباني وقضى به: «إن أهم نتيجة للطرق الصوفية كافة هي انكشاف الحقائق الإيمانية وانجلاؤها. وإن وضوح مسألة إيمانية واحدة وانكشافَها لهو أرجح من ألف من الكرامات». وكذا ما جاء في أواخر «الآية الكبرى» المستلهمة من الملاحق.. وكذا المسألة العاشرة من رسالة الثمرة التي تبين حكمة التكرار في القرآن الكريم وسببَ إكثاره من حشد البراهين حول أركان الإيمان ولاسيما التوحيد.. تلك الحكمة القرآنية جارية أيضا بتمامها في تفسيره الحقيقي: رسائل النور.. وهذا هو الجواب.

ثم إن أقسام الإيمان المتضمنة للإيمان التحقيقي والتقليدي والإجمالي والتفصيلي -وثبات هذا الإيمان أمام جميع الشبهات والهجمات الشـرسة التي يشنها الكفر- قد تولت رسائلُ النور إيضاحَها، فذلك الإيضاح لا يدَع لنا حاجة إلى مزيد للإجابة عن سؤال أخينا العزيز.

الجهة الثانية من المسألة:

إن الإيمان لا ينحصر في تصديقٍ إجمالي وتقليدي وحده، بل له انجلاءٌ ومراتب كثيرة جدا كالمراتب الموجودة بين البذرة النامية إلى الشجرة الباسقة، أو كالمراتب الموجودة بين انعكاس الضوء من المرآة الصغيرة في اليد إلى انعكاسه من سطح البحر، بل إلى انعكاسه من الشمس نفسها.

فإن للإيمان حقائق غزيرة جدا إذ ترتبط حقائقَ كثيرة لأنوار ألف اسم واسم من الأسماء الحسنى، ولسائر أركان الإيمان بحقائق الكون. حتى اتفق أهلُ الحقيقة على أن أجلّ العلوم قاطبة وقمةَ المعرفة وذروة الكمال الإنساني إنما هو في الإيمان والمعرفة القدسية السامية المفصَّلة والمبرهَنة النابعة من الإيمان التحقيقي.

نعم، إن الإيمان التقليدي معرّضٌ لهجمات الشبهات والأوهام؛ أما الإيمان التحقيقي فهو أوسع منه وأقوى وأمتن وله مراتب كثيرة جدا.

ومنها: مرتبة علم اليقين التي تقاوم الشبهات المهاجمة بقوةِ ما فيها من براهين. بينما الإيمان التقليدي لا يثبت أمامَ شبهة واحدة.

ومنها مرتبة عين اليقين التي تضم مراتب كثيرة جدا بل لها مظاهر بعدد الأسماء الإلهية حتى تَجعلُ الكون يتلو آيات الله كالقرآن الكريم.

ومرتبة أخرى منها هي مرتبة حق اليقين.. وهذه تضم مراتب كثيرة جدا؛ فصاحبُ هذا الإيمان لا تنال منه جيوشُ الشبهات إذا هاجمته.

ولقد أوضح علماءُ الكلام الطريقَ العقلي والمبرهن لتلك المعرفة الإيمانية، وذلك في ألوف من مجلدات مؤلفاتهم المستندة إلى العقل والمنطق.

أما أهل الحقيقة والتصوف فقد أوضحوا تلك المعرفة الإيمانية من جهة أخرى وبشكل آخر في مئات من كتبهم المستنِدة إلى الكشف والذوق.

أما المنهج القرآني المعجِز، ذلك المنهج الأقومُ فقد أوضح الحقائقَ الإيمانية والمعرفة الإلهية والمقدسة إيضاحا أرفع بكثير وأسمى بكثير وأقوى بكثير مما أوضحه أولئك العلماء والأولياء.

فرسائل النور إنما تفسر هذا المنهج القرآني الأقوم الجامع الرفيع. وبه تتصدى للتيارات الفاسدة المضلّة المدمرة والواردة على القرآن الكريم للإضرار -في سبيل عوالم العدم- بالإسلام وبالإنسانية منذ ألف سنة.

فلا ريب أنها -أي الرسائل- بحاجة ماسة إلى حشد براهين لا حد لها أمام أولئك الأعداء غير المحدودين، كي تتمكن من أن تكون وسيلة -بهذه البراهين المفاضة من القرآن- للحفاظ على إيمان المؤمنين.

فلقد ورد في الحديث الشريف: «فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير من أن يكون لك حمر النعم» وأن «تفكر ساعة خير من عبادة سنة». ولبلوغ هذا النوع من التفكر يُولي النقشبنديون أهميةً عظيمة للذكر الخفي.

سلامي على جميع إخوتي الأحبة فردا فردا، وندعو لهم جميعا بالخير.

الباقي هو الباقي

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

[منع الذهاب إلى المسجد]

إخوتي الأعزاء الأوفياء!

منذ شهور والمكائد تُكاد ضدي، والآن تبيّنتْ، ولكن بفضل العناية الإلهية مرّت هيّنة.

كنت أتردد إلى المسجد في الأوقات الخالية. وصنع الطلاب -بدون علمي- في المحفل غرفة خشبية صغيرة لحمايتي من البرد. وقد قررت ألّا أذهب إلى المسجد، بعد أن رفع ضابط الأمن المعروفُ تلك الغرفة الصغيرة، وأبلغوني رسمياً: عليك ألّا تذهب إلى المسجد. ولكنهم أثاروا ضجة بين الناس باستهوالهم الأمر، جاعلين من الحبة قبة.

إن الحادثة لا أهمية لها إطلاقا فلا تقلقوا أبدا. إنني أخال أنهم يهينونني -بمثل هذه الحجج التافهة- لأجل الحدّ من توجّه الناس -من كل جهة- نحوي بما يفوق حدّي بكثير.

إنهم ينظرون إلى حياتي السابقة، فيتوقعون أنني لن أتحمل إهاناتهم. علما أنني لو أُهنت يوميا بألف إهانة وإهانة -بشرط ألا تُخل بسلامة نشر رسائل النور- وشدّوا عليّ الخناق، لشكرتُ الله كثيرا على ذلك.

فيا إخوتي، كما لم أهتم بهذه المسألة فالطلاب هنا أيضا لم يهتزوا.

ولقد مرت الحادثة -التي كنا نتوقعها- بسلام والحمد لله.

تحياتنا إلى كل أخ من إخواننا مع دعواتنا لهم.

* * *

[تثبيط الإخوة العاملين]

إخواني الأوفياء الصادقين الأعزاء!

لقد أُخطر على قلبي إخطارا معنويا قويا أن أكرر عليكم بيان مسألة في غاية الأهمية، رغم أنى قد بّينتُها لكم مجملا سابقا، وهي الآتي:

إن أعداءنا المنافقين الذين يعملون من وراء ستار قد جعلوا -كما هو دأبهم- دوائر العدل والسياسة والإدارة في الدولة أداةً طيعة للإلحاد الظاهر، فشنّوا هجمات علينا، لكن بفضل الله باءت مؤامرتهم بالإخفاق، وعقمت دسائسهم.

لذا تركوا خططهم السابقة التي سبّبت فتوحاتٍ لرسائل النور وبدأوا بحبك مؤامرات أشد خبثا ونفاقا من السابق بحيث يجعل الشيطان في حيرة منها، وقد ظهرت أمارات منها هنا.

إن أهم أساس في تلك الخطط الرهيبة؛ تثبيطُ إخواننا الطلاب الخواص الثابتين، وإلقاءُ الفتور في نفوسهم لدفعهم -إن أمكن- إلى التخلي عن رسائل النور. فاختلقوا أكاذيبَ وحاكوا دسائس يحار منها الإنسان، مما يحتّم ثباتا وصلابة ووفاءً خالصا صادقا متينا كالحديد، كما هو لدى أبطال إسبارطة. وقد يلبسون لبوس الناصح الصديق فينبثّون في صفوفكم، أو يشيعون الأوهام والمخاوف إن كان التخويف مُجديا، فيستعظمون أتفه الأمور كالحبّة ويجعلونها كالقبة العظيمة ويوصون الضعفاء: لا تتقربوا من سعيد، فهو مراقَب ومحاط بجواسيس الحكومة، ليدفعوهم إلى التخلي عن رسائل النور، بل حتى يسلطون فتيات يافعات على الطلاب الشباب لإثارة هوساتهم النفسانية!. ويبينون نقائصَ وضعفَ شخصي بالذات للأركان من طلاب النور، بجنبِ أشخاص ذوي دِين مشهورين من أهل البدعة قائلين لهم: «ونحن أيضا مسلمون. فليس الدين محصورا بمسلك سعيد». ويستغفلون السذج من أهل الدين والعلماء ويجعلونهم أداة للزندقة ونشر الإرهاب والفوضى. سيَخيب ظنُّهم و تبور خططُهم بإذن الله. قولوا يا إخوتي لأمثال هؤلاء السفلة:

نحن طلاب رسائل النور، وسعيد واحد مثلنا. وإن منبع رسائل النور وكنـزها وأساسَها هو القرآن الكريم، وقد أثبتت قدرَها وظهورها حتى على ألدّ الأعداء مع ما بذلوا من تدقيق وملاحقة طوال عشرين سنة. وإن مؤلفها وخادمها «سعيد» حتى لو اتخذ جبهة مضادة لها -والعياذ بالله- فلا يتزعزع وفاؤنا برسائل النور ولا تنحلّ علاقتنا الوثيقة بها. وبهذا النمط من الكلام تصدون الباب عليهم.

وعليكم الانشغال برسائل النور كتابةً وقراءةً قدر المستطاع مع عدم الاكتراث بالإشاعات المضخمة، والأخذ بالحذر التام كما هو دأبكم.

سلامنا على إخوتنا فردا فردا

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

[لا نقاش مع العلماء]

إخوتي الأعزاء الأوفياء، ويا وارثيّ الميامين وكلائي الأمناء!

أولا: أبلّغكم يقينا أن عناية الرب سبحانه وتوفيقَه الصمداني مستمر بحقنا وبخدمة رسائل النور؛ فهناك تحت الأستار القبيحة ظاهرا نتائجُ في منتهى الجمال؛ فبدلا من ضرر واحد يلحق بنا يُنعَم علينا بمائة نفع ونفع. فلا ينبغي الاهتمام بالمضايقات العابرة والهزات الموقتة.

ثالثا: مع أنني أتضايق هنا كثيرا، إلّا أنني كلما فكرت في سعيكم المتواصل الذي لا فتور فيه، وتسلمت رسائلكم المسلية زالت تلك المضايقات، بل قد تتحول إلى أفراح ومسرات.

خامسا:.…..

إخوتي! عليكم بمنتهى الحيطة والحذر.. وإياكم إياكم أن تفتحوا باب النقاش مع العلماء. بل يجب التعامل معهم بالحسنى والمصالحة على قدر الإمكان، فلا تتعرضوا لغرورهم العلمي حتى لو كان أحدهم ميّالا إلى البدع ومستحدثات الأمور، لأن الزندقة الرهيبة تجاهنا، فيجب عدم دفع هؤلاء المبتدعين إلى صف الملحدين.

وإذا ما صادفتم علماءَ رسميين أُرسلوا إليكم خاصة، فلا تفتحوا باب النـزاع معهم، لأن اعتراضاتهم باسم العلم سيكون مستَنَدا بيد المنافقين.

أنتم تعلمون مدى الضرر الذي أحدثه الشيخ العالم في إسطنبول. فحاولوا قدر المستطاع أن تحوّلوه في صالح رسائل النور.

تحياتنا إلى إخواننا جميعهم فردا فردا.

* * *

[رحمة إلهية تحت المصائب]

ثانيا: إخوتي، إن معاونتكم لي عظيمة وظاهرة جدا، وذلك بجهتين:

أولاها: أن سعيكم المتواصل دون فتور في خدمة النور يُزيل جميع مصائبي وضوائقي، ويحوّلها إلى سرور وفرح.

ثانيتها: اعلموا يقينا أنه بدعواتكم يتحول ظلمهم المعذِّب إلى رحماتٍ ذات عناية ومصالح. ولم تبق لي شبهة في هذا قط، فمثلا: إن تخويفهم الناس مني وإلقاء الرعب في قلوب الموظفين لئلا يتقربوا مني، أنقذَني من كثير من الأخطاء والتصنّعات ومن حالات منافية للإخلاص ومن ضياع الوقت. فلقد أظهر القدرُ الإلهي بحقي العدالةَ الإلهية وعنايتَها ضمن ظلم البشر. وقياسا على هذا فما من مصيبة تنـزل بي إلّا وتحتها رحمةٌ إلهية. فإن انشغالهم بي فحسبُ يُنقذ مئاتٍ من رسائل النور ولو كان فيه ضرر واحد لي. ولذلك فيا إخوتي لا تقلقوا عليّ أبدا، حتى إنني كلما نويت الدعاء عليهم -لدى إهانتهم لي إهانة شديدة تجرح مشاعري جرحا أليما- فإن الموت الذي يُعدمهم، وتَعَرُّضَهم لعذاب القبر الذي هو سجن انفراديّ لهم، وما يَنتج من تلك الإهانة من المصالح لي والمنافع لخدمتنا.. كل ذلك يحول بيني وبين الدعاء عليهم فأتخلى عنه.

* * *

[عند سماع أخبار سيئة]

عندما يسمع ذلك الأخ أخبارا سيئة ليكن مثل والدي المرحوم «ميرزا» وليس مثل والدتي «نورية»؛ إذ عندما كانت تُنقل أخبارٌ سيئة إلى والدي ووالدتي، كأن يقول أحدُهم: إن ابنكم قد قُتل أو ضُرب أو سُجن، كان أبى يبتهج ويضحك كلما سمع مثل هذه الأخبار، ويقول: ما شاء الله… قد كبر إذن ابني حتى يُظهر بطولةً أو عملا عظيما بحيث يتكلم عنه الناس. أما والدتي فكانت تبكي بكاءً مرّا مقابل سرور والدي. ثم أظهر الزمان أن والدي كان محقا في كثير من الأحيان.

* * *