[تحليل سيرة ذاتية]

باسمه سبحانه

إخوتي الصديقين الأعزاء!

أولا: نبارك لكم يوم المولد النبوي الشريف، ونبارك توفيقكم في أعمالكم ونبشركم بانتشار رسائل النور انتشارا مؤثرا في الأوساط بما هو فوق المعتاد. ونهنئ جميع طلاب النور.

ثانيا: في هذه الليلة المباركة خطرَ على قلبي خاطرٌ قوي وهو:

أنه لمناسبة ما كتبه الطلاب الجامعيون في إسطنبول من خوارق عن حياة سعيد القديم وسعيد الجديد في كتاب «تاريخ حياة» تولّد لدى القراء رأيان ونشأت فكرتان هما:

الأول: لقد حصل حسن ظن مفرط لدى الأصدقاء -كما يحصل في الولاية- بما يفوق حدّي بكثير.

الثاني: حصل ظن وشبهة بما هو خارج طوقي بألف مرة لدى المعارضين وأهل الفلسفة، إذ ظنوا وجود دهاء خارق جدا، بل حتى تولّد لدى البعض منهم توهم وجود سحر قوي.

ولقد سُئلتُ في أماكن كثيرة أسئلة تدور حول هذا المعنى، وطلبوا مني جلية الأمر ماديا ومعنويا. وأنا بدوري اضطررت إلى بيان حقيقة ذات مقدمات كثيرة لورود ذلك الخاطر في هذه الليلة.

المقدمة الأولى: إن بذرة شجرة الصنوبر التي هي بحجم حبة الحنطة تكون منشأ لشجرة صنوبر ضخمة. فالقدرة الإلهية تخلق تلك الشجرة العجيبة من تلك البذرة، وقد لا توجد للبذرة إلّا حصة واحدة من مليون حصة من الخلق، حيث سطر فيها قلمُ القدر فهرسا معنويا لتلك الشجرة… فلو لم يسند الأمر إلى القدرة الإلهية للزم وجود مصانعَ تَسَعُ مدينةً كاملة كي تتكون تلك الشجرة العجيبة بأغصانها المتشعبة.

وهكذا فإن إحدى دلائل عظمة الله وقدرته سبحانه هو أنه يخلق من شيء صغير جدا كالذرة، أشياءَ عظيمة عظمة الجبال.

وهكذا بمثل هذا المثال أُعلنُ باقتناع تام وبخالص نيتي ولا أتكلف التواضعَ ونكرانَ الذات فأقول:

إن خدماتي وأحداث حياتي قد أصبحت في حكم بذرة، لكي تكون مبدأ لخدمة إيمانية جليلة، قد منَحت العنايةُ الإلهية منها في هذا الزمان شجرةً مثمرة برسائل النور النابعة من القرآن الكريم.

فأُقسم لكم لتطمئنوا فأقول:

إنني ما كنت أجد في نفسي قابلية ولا مزيّة ولا أهليّة فائقة لتلك الخوارق التي مرت في حياتي، لذا كنت أتقلب في حيرة. بل ما أجد في نفسي كفاءة لتدبير أمورها وارتباطها بعلاقات بالمجتمع فكيف لها بدهاء خارق وولاية خارقة؟

نعم، لقد ظهرت حالاتٌ جَلبت الأنظارَ إليّ، ولكنها كانت خارجة عن إرادتي واختياري، حتى بدت كأنها نوع من جلب الإعجاب، وما كانت إلّا من قبيل عدمِ تكذيبِ حسنِ الظن الذي كان يحمله الناس نحوي.

ولكن لما كنت أجهل الحكمة في عدم كوني في الحقيقة على ما يظنه الناس بي، ولا أفيد شيئا للدنيا، وها قد أصبحتُ موضع توجه الناس بما يفوقني بألف مرتبة ومرتبة، لذا كنت أتلقى هذا الأمر باعتباره خلافا للحقيقة كليا.

ولكن بفضل الله وكرمه، وألف حمد وشكر له، إذ قد أنعم عليّ فهمَ شيء من حكمة ذلك الأمر، في أواخر أيامي بعد قضاء ما يقرب من ثمانين سنة من العمر.

وسأشير إلى شيء منها. وها أنا أبين قسما من عديد نماذجها:

المثال الأول:

إنه حسب الطرق المتبعة في المدارس الدينية ينبغي دراسة العلوم الشرعية مدة خمس عشرة سنة -في الأقل- كي تحرز الحقائق الدينية والعلوم الإسلامية.

ففي ذلك الوقت لم يبدُ على سعيد ذكاء خارق أو قوة معنوية وحدها، بل ظهرت عليه أيضاً حالة عجيبة كانت خارجة عن نطاق استعداده وقابليـاته كلها، بحيث إنه بعد اطلاعه على مبادئ الصرف والنحو خلال سنة أو سنتين، ظهرت عليه الحالة العجيبة، فكأنه أكمل قراءة ما يقرب من خمسين كتابا خلال ثلاثة أشهر، وقد استوعبها وأُجيز عليها وتَسَلَّم الشهادة بإكمالها.

هذه الحالةُ أظهرتْ بعد ستين سنة بوضوح: أن تفسيرا للقرآن الكريم سيظهر ويناول القارئ في فترة قصيرة لا تتجاوز أربعة أشهر العلومَ الإيمانية، وأن ذلك الضعيف «سعيد» سيكون عاملا له وفي خدمته.

ومن جراء ذلك الوضع تخطُر على البال معانٍ كأنها إشارات غيبية بأنه سيأتي زمانٌ تضمحل فيه المدارس الدينية، لا يمكن نيل العلوم الإسلامية في خمس عشرة سنة بل حتى في سنة واحدة.

الأنموذج الثاني:

إن مناظرة «سعيد» في ذلك الزمن البعيد لعلماءَ أجلاءَ وهو بعدُ في فترة الصبا، وإجابته عن أسئلتهم الغامضة -من دون أن يسأل أحداً- إجابةً صائبة رغم كونـها في أعقد المسائل، هذه الحالة التي ظهرت، أعترف اعترافا قاطعا، وأعتقد جازماً أنها ليست ناشئة من حدة ذكائي، ولا من خارق استعدادي قط؛ فأنا الذي كنت صبياً صغيـراً، مبتلىً بأمور كثيرة، مبتدِئاً بعدُ في العلوم، سارحَ الفكر، ومثيراً للمناقشات، فما كان في طوقي قطعا الإجابةُ على أسئلةِ علماءَ أفذاذ، بل كنت أُغلب في مناقشات صغار العلماء وصغار طلاب العلم، لذا فأنا على اقتناع تام بأن إجاباتي الصائبة تلك، ليست ناشئة من استعدادي ولا من ذكائي.

فلقد كنت طوال السنوات السبعيـن الماضية في حيرة من هذا الأمر، ولكن الآن -بفضل الله وإحسانه- فهمت حكمة منها وهي: أنه ستُمنح شجرةٌ طيبة لعلوم المدارس الدينية التي هي بمثابة بذرة العلوم وسيكون لخادم تلك الشجرة حسّاد ومعارضون كثيرون.

وهكذا فإن قيام أصحاب المشارب والمسالك المختلفة بين المسلمين في هذا الزمان بانتقاد عمل خدام تلك الشجرة (شجرةِ النور) ولاسيما من علماء الدين سواء بسبب المنافسة أو بسبب اختلاف المشارب، فضلا عما تثير رسائل النور كثيراً من عِرق علماء الدين، كما كان دأب أهل السنة والمعتزلةِ سابقًا في دحض بعضهم بعضًا ونشرِ مؤلفاتٍ في تفنيد آراء الآخرين والظهور عليهم.. أقول: بينما كان الأمر لا بد أن يؤول إلى هذا أراد الله سبحانه أن يجري الأمر على خلاف تلك العادة المتبعة منذ القدم. فألْفُ شكر وشكر لله سبحانه. وأنا على اعتقاد جازم أن سبب عدم تأليفهم أيّ كتاب لنقد رسائل النور أو الاعتراض عليها إنما هو: إجابةُ سعيد الصغير إجابة صائبة على علماء عظام، في ذلك الوقت؛ إذ تلك الإجابات السديدة قد فتّت في عضد شجاعتهم وجُرْأتهم، حتى إنهم لم يتصدوا لرسائل النور ولم يعارضوها رغم مخالفتهم لها مشرباً، ورغم ما يحملون من روح المنافسة والغيرة العلميتين.

لذا اقتنعتُ اقتناعا تاماً أن هذه هي حكمة واحدة لعدم قيام العلماء بالاعتراضُ على الرسائل، إذ لو بدأ الاعتراضُ لكان أعداؤنا المتسترون والملحدون ومن يوالونـهم يتخذون ذلك الاعتراض ذريعة مهمة جداً لتهوين شأن رسائل النور وعلماء الدين معا. فالحمد لله حمداً لا حد له، لم يقاوِم رسائلَ النور حتى أولئك العلماءُ الرسميون الذين تعرضت لهم الرسائل كثيراً.

الأنموذج الثالث:

على الرغم من أن سعيداً القديم كان فقير الحال منذ أيام طفولته، كما أن والده كان فقير الحال كذلك، فإن عدم قبوله الصدقات والهدايا من الآخرين، بل عدمَ استطاعته قبولها إلا بمقابل، رغم حاجته الشديدة جدا، وعدمَ ذهاب «سعيد» قط في أي وقت من الأوقات لأخذ الأرزاق من الناس، وعدمَ قبوله الزكاة من أحد -عن علم- كما كانت العادة جارية في كردستان، حيث كانت أرزاق طلاب العلم تدفع من بيوت الأهلين وتسد مصاريفهم من أموال الزكاة… أقول -وإني على قناعة تامة الآن- حكمةُ هذا الأمر هي: عدمُ جعل رسائل النور -التي هي خدمة سامية خالصة للإيمان والآخرة- في آخر أيامي وسيلة لمغانم الدنيا، وعدم جعلها ذريعة لجرّ المنافع الشخصية.

فلأجل هذه الحكمة أُعطيتُ هذه الحالة، حالةُ النفور من تلك العادة المقبولة وتلك السجيةِ غير المضرة، والهروبِ منها، وعدم فتح يد المسألة من الناس. فرضيتُ بالعيش الكفاف وشدة الفقر والضنك. وذلك لئلا يَفسد الإخلاصُ الحقيقي الذي هو القوة الحقيقية لرسائل النور.

وأشعر كذلك أن في هذا الأمر إشارة فيها مغزى، بأن هذه الحاجة هي التي ستدفع أهل العلم في الأزمان الآتية إلى الانهماك بهموم العيش حتى يُغلبوا على أمرهم.

الأنموذج الرابع:

بينما كان سعيد الجديد يجهد في أن يجنّب نفسَه أيام شيخوخته عن السياسة وأمرِ الدنيا كليا، فإن أهل الدنيا خلافا لكل القوانين والأعراف والإنصاف والوجدان بل خلافا للإنسانية، أنزلوا به أقسى ضربات الظلم الشنيع طوال ثمان وعشرين سنة، فقاسى ذلك الضعيف، سعيد، أمرَّ العذاب، وتَحمَّل أشدَّ العنت منهم، مع أنه ما كان يتحمل أذى الذباب، وذلك بما وهب له سبحانه من الصبر العظيم والتحمل الذي لا مثيل له لأذى الإهانات الشنيعة. وعلى الرغم من مزاجه العصبي ورهافة حسه وعدم التخوف في فطرته، والجرأةَ التي يحملها من إيمانه بحقيقة أن الأجل واحد لا يتغير، فإن صبره وسكوته في حالة في غاية من المسكنة والخوف، بل منحَ الفرح والانشراح لروحه بعد معاناته تلك الأنواع من التعذيب والإهانات.. أقول: إن حكمة واحدة من هذا الأمر هي الآتية كما اقتنعت بها قناعة تامة:

عدمُ جعل رسائل النور -التي تفسّر حقائق القرآن الحكيم الإيمانية- وسيلةً لأي شيء كان -عدا مرضاة الله- إذ قد أشاع أهلُ السياسة شبهة استغلال «سعيد» الدينَ لأجل السياسة، فعُذّب سعيد وسجن… لئلا يكون الدينُ وسيلة للسياسة. ولكن القدر الإلهي لطمَ سعيدا لطماتِ رأفةٍ وشفقة من تحت ستار ذلك الحُكم الظالم لأهل السياسة، لئلا يَفسد الإخلاص الذي استلهمه من رسائل النور قائلا له:

«إياك أن تجعل رسائل النور -التي هي تفسير لحقائق الإيمان- وسيلة لجرّ منافعك الشخصية، بل حتى لكمالاتك المعنوية، واحذر أن تجعلها ذريعة للخلاص من البلايا والأذى والأضرار، وذلك لكي يبقى الإخلاص الحقيقي-الذي هو القوة العظمى لرسائل النور- مصونا من الخلل».

فأنا مقتنع الآن قناعة تامة أن تلك اللطمات كانت لطمات رأفة نزلت بيّ من القدر الإلهي، بل اطمأننت تماما أنه متى ما انصرفتُ لشؤون آخرتي وحدَها، وانشغلت بعباداتي الشخصية وحدَها، تاركا خدماتي لرسائل النور، في هذا الوقت بالذات، يتسلّط عليّ أهلُ الدنيا فيذيقوني العذاب والآلام.

أُحيل إيضاح هذا الأنموذج الرابع إلى الرسالة الأخيرة (الحقيقة هي التي تتكلم) التي تخص بيان السبب في إلقاء أهل السياسة سعيدا في السجون والمعتقلات منعا لاستغلال الدين في أمور السياسة، ومعرفة سعيد بعد ذلك حكمة الأمر بأنها لطمات قدر إلهي رؤوف، وصفحه عنهم بعد ذلك، وكذا معرفته حكمة الصبر الشديد والتحمل الشديد الذي وهبه الله له.

الأنموذج الخامس:

إن هذا المسكين سعيداً، برغم حاجته الشديدة إلى الكتابة وجودة الخط، وانشغاله بها منذ سبعين سنة، واضطراره إلى تصحيح مئتي صفحة في اليوم الواحد أحيانا، لا يملك من الخط ما يتعلمه طفل ذكي في العاشر من العمر في عشرة أيام. هذا الأمر محيّـِر حقاً، إذ لم يكن سعيد محروماً من القابليات كلياً، فضلا عن أن أشقاءه يجيدون الخط وحسن الكتابة.

فأنا مقتنع تمام الاقتناع بأن حكمة بقائي نصف أُمّي برداءة الخط وأنا في أشد الحاجة إليه هي: أنه سيأتي زمان لا يمكن للقدرات والقوى الشخصية والجزئية أن تقاوِم وتَصُدّ هجوم أعداء رهيبين، فيبحث «سعيد» بحثا حثيثا عن الذين يملكون خطاً جيداً ليشركهم في خدمته فيشكلون معاً آلاف الأقلام التي تحوّل تلك الخدمة الشخصية الجزئية إلى خدمة كلية عامة قوية، إذ يجتمعون حول تلك البذرة، بذرةِ النور، اجتماعَ الماء والهواء والنور، ويمدّون تلك الشجرة المعنوية بالعون. ففضلا عن هذه الحكمة، فإن إذابة أنانيته في حوض الجماعة المبارك كإذابة قالب الثلج نيلا للإخلاص الحقيقي، حكمةٌ أخرى تدفع لخدمة الإيمان.

الباقي هو الباقي

أخوكم

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

[لا ذنب في رسائل النور]

إخوتي الأعزاء الصادقين!

نهنئكم من صميم أرواحنا وأعماق قلوبنا بحلول العيد السعيد، وستدركون بإذن الله عيدا يعم العالم الإسلامي كله ذات يوم. إن هناك أمارات كثيرة تبين أن القرآن الحكيم الذي هو منبع جميع القوانين السامية للجماهير المتحدة الإسلامية، سيكون مهيمنا في المستقبل. وسيأتي ذلك اليوم بإذن الله، ذلك العيد الحق للمسـلمين جميعا، بل البشريـة قاطبة.

ثانيا: مما لا ريب فيه أن رسائل النور وطلابها تحت العناية الإلهية وحفظها، إذ رغم الظروف الدقيقة في هذه المرحلة، ورغم القوانين الاعتباطية، ورغم العناد الشديد، وطوال هذه المدة المديدة، لم يتمكنوا أن يلحقوا الضرر بطلاب النور إلّا بنسبةِ واحد في المائة.

فعلى الرغم من خططهم الرهيبة لإشغال ستمائة طالب من طلاب النور النشطين بالمحاكم المتتالية، لم يتمكنوا إلّا على ستة من الطلاب. حتى لم تجد خمس وعشرون محكمة من محاكم العدل شيئا ما في الألوف من رسائل النور وفى الألوف من طلاب النور -كما ذكره بطل النور- خلال تحقيقاتها المتوالية. بل الدليل القاطع على ذلك هو قول الكثير من دوائر العدل أنه: لا ذنب في رسائل النور ولا نجده فيها.

فضلا عن أنني قد تكلمت في كل من محكمة إسطنبول وأفيوُن وأمثالها بما يناقض قوانينهم -التي يمكن استعمالها لأغراض سيئة-، ولم يستطيعوا أن يدينوني.

علاوة على أن رسائل النور التي حطمت القوانين الجائرة للمدنية الأوروبية لم يجدوا فيها ذنبا قط، مما يبين بوضوح أن حقائق رسائل النور قد حملت دوائر العدل على الإنصاف، بظهورها وتغلبها على معارضيها. فالعناية الإلهية تضم رسائلَ النور تحت جناحها، وكيف لا وهى معجزة من معجزات القرآن الكريم. أما هجوم المعارضين والمخالفين عليها، فيكون بإذن الله وسيلة لسطوع رسائل النور وسببا لانتشارها.

* * *

[مع ضباط الأمن]

يقول أستاذنا:

لم يقابلني أحد من مسؤولي الحكومة خلال ثمان وعشرين سنة إلّا وضايقني، ماخلا ضباط الأمن (المباحث) فإنهم لم يضايقوني قطعا، فضلا عن أن بعضهم تصرَّف معي تصرف مدافع وحامٍ. والآن أوضح حكمة هذا التصرف منهم:

لقد تحقق أن رسائل النور وطلابها هم كأفرادِ أمن معنويين، يحاولون الحفاظ على الأمن والنظام في البلاد عن عقيدةٍ، وقد نصبوا حارسا في كل قلبٍ مؤمن بإرشاداتهم ونصائحهم، وشعر ضباط الأمن بهذا شعورا معنويا، فأظهروا لنا في كل وقت وجه الصداقةَ.
وسر هذا هو الآتي:

أن قانونا أســاسيا للقرآن الكريم هـو ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ اُخْرٰىۚ﴾ (فاطر:18) فيمنع القرآنُ بموجبه محاولةَ الإخلال بالنظام، وذلك لئلا يتضرر تسعون بالمائة من الناس في أثناء القضاء على عشرة من الجناة. وبناء على هذا السر الدقيق فإنه على الرغم من وجود قوىً معنوية رهيبة تحاول الإخلال بالأمن والنظام، وعلى الرغم من فعالياتهم ونشاطهم في البلاد كافة، بل إن نشاطهم هنا أكثر مما في فرنسا ومصر والمغرب وإيران، لم يستطيعوا الإخلال بالأمن. وما سبب ذلك إلّا ستمائة ألفٍ من نُسَخ رسائل النور وخمسمائة ألف طالبٍ من طلابها وقد أصبحوا كقوة معنوية ساندة للأمن ليصدوا تلك القوى الهدامة الرهيبة.

فضباط الأمن شعروا بهذا، لذا يبدون حالات تتسم بالرحمة والإنصاف والشفقة على رسائل النور خلافا للموظفين الرسميين منذ ثمان وعشرين سنة.

ويقول أستاذنا أيضا:

إنني أقول: إن على أفراد الأمن أن يكونوا أصحاب تقوى ودين فيؤدوا الفرائض ويجنّبوا أنفسهم الخطايا والذنوب، أكثر من العلماء بل من المتصوفة، وهذا ما تقتضيه مهمَّتهم وواجبُهم نظرا للحاجة الشديدة، وذلك ليؤدوا وظائفَهم في سبيل استتباب الأمن والنظام حق الأداء، تجاه الدمار الرهيب الذي يحدثه المخربون المعنويون.

طلاب النور

الذين في صحبته

* * *

الحقيقة هي التي تتكلم

لقد أثبتت رسائل النور أنه قد تنبثق عدالة من بين طيات الظلم، أي قد يتعرض أحدهم إلى الظلم وإلى الحيف فتصيبه نكبة، وقد يُحكم عليه بالحبس ويُرمى به في غياهب السجون.. لا شك أن مثل هذا الحكم ظلم واضح، ولكنه قد يكون سبباً لتجلي العدالة وظهورها، ذلك لأن القدر الإلهي قد يَستخدم الظالم لتوجيه العقوبة إلى شخص استحقها بسبب آخر، وهذا نوع من أنواع تجلي العدالة الإلهية.

وأنا الآن أفكر.. لِمَ أُساق من محكمة إلى محكمة، ومن ولاية إلى ولاية، ومن مدينة إلى أخرى طوال ثمانيا وعشرين عاماً؟ وما التهمة الموجهة إليّ من قِبَل من ارتضوا لأنفسهم معاملتي بكل هذا التعذيب الظالم؟ أليست هي تهمة استغلال الدين في سبيل السياسة؟ ولكن لِمَ لا يستطيعون إثبات ذلك؟.. ذلك لأنه لا يوجد أي شيء من هذا القبيل في الحقيقة وفي الواقع. فهذه محكمة تقضي الشهور والسنوات في محاولة الحصول على أي دليل يدينني فلا تستطيع، وإذا بمحكمة أخرى تسوقني للتحقيق وللمحاكمة تحت التهمة نفسها، وتقضي بدورها مدة في هذه المحاولة وفي الضغط عليّ، وتعرّضني لأنواع شتى من التعذيب، وعندما لا تحصل على أية نتيجة تتركني، وإذا بمحكمة ثالثة تمسك بخناقي هذه المرة.. وهكذا أنتقل من مصيبة إلى مصيبة، ومن نكبة إلى أخرى. لقد انقضى ثمان وعشرون سنة من عمري على هذا المنوال، وأخيراً أيقنوا عدم وجود أي نصيب من الصحة للتهم المسندة إليَّ؛

وإني أتساءَل: سواء أكان ذلك قصداً أو وهماً فإنني أعلم علم اليقين عدم وجود أية علاقة لي بهذه التهمة، كما أن جميع أهل الإنصاف يعرفون بأنني لست بالرجل الذي يستغل الدين لغاية سياسية، بل إن الذين وجّهوا إليّ هذه التهمة يعرفون ذلك في قرارة نفوسهم. إذن فما السبب في إصرارهم على اقتراف هذا الظلم في حقي؟ ولماذا بقيتُ معرّضاً على الدوام لهذا الظلم والتعذيب مع كوني بريئاً ودون أي ذنب؟ ولماذا لم أستطع التخلص من هذه المصائب؟ ألم تكن هذه الأحوال مخالفة للعدالة الإلهية؟

لقد بحثت عن أجوبة لهذه الأسئلة خلال ربع قرن من الزمن فلم أُوفق في ذلك. ولكني الآن عرفت السبب الحقيقي في قيامهم بظلمي وتعذيـبي. وأنا أقول وكلي أسف:

إن ذنبي هو اتخاذي خدماتي القرآنية وسيلة للترقي المعنوي والكمالات الروحية. والآن بدأتُ أفهم هذا وأحس به تماماً، وأنا أشكر الله تعالى آلاف المرات لأنه طوال سنوات طويلة وُضعت موانعُ معنوية وقوية جداً خارج إرادتي لكي لا أتخذ خدماتي الإيمانية وسيلة للترقيات المادية والمعنوية أو من أجل الخلاص من العذاب ومن جهنم أو حتى من أجل سعادتي الأبدية أو من أجل أية غاية أخرى.

لقد أذهلتني هذه الأحاسيس الداخلية العميقة والخواطر الإلهامية، فبينما نرى أن كل فرد له الحق في اكتساب المقامات التي يعشقها، وفي نيل السعادة الأخروية عن طريق الأعمال الصالحة، هذا زيــادة على أنه لا ينتج أي ضرر لأي أحد، ومع هذا فقد رأيت أنني أُمنـع -روحياً وقلبياً- من هذه الأحوال ومن سلوك هذا الطريق. وجُعل نصب عيني أن عليّ ألّا أهتــم -بجانب الفــوز بالرضى الإلهي- إلا بواجـب خـدمـة الإيمان. ذلك لأن الزمن الحالي يحتاج إلى إعطاء نوع من الدرس القرآني الذي لا يكون في خدمة أي غرض آخر للذين لم يتوصلوا بفطرة العبودية الموجودة في أنفسهم إلى الحقائق الإيمانية التي هي فوق كل شيء، وإلى الذين هم بحاجة إلى فهم هذه الحقائق وذلك بأسلوب مؤثر، بحيث يستطيع إنقاذ الإيمان في مثل دنيا الاضطراب هذه التي اختلطت فيها الأمور، ويستطيع إقناع كل أحد حتى المعاندين وبعث الطمأنينة في نفوسهم، وبذلك يستطيع قصم ظهر الكفر المطلق والضلال المتمرد والمعاند وبذلك يهب القناعة الكاملة للجميع.

ولا تحصل مثل هذه القناعة في الظروف الحالية إلّا عندما يكون الدين بعيداً عن كونه وسيلة لأية غاية شخصية أو دنيوية أو أخروية، مادية كانت أو معنوية. وإذا لم يتحقق هذا فإن أي شخص كان مهما بلغ من المراتب المعنوية يقف عاجزاً تجاه التيار الرهيب -المتولد من المنظمات والجمعيات السرية- ضد الدين؛ لأنه لا يستطيع إزالة كل الشكوك والشبهات. ذلك لأن النفس الأمارة للشخص المعاند الذي يرغب في الدخول إلى حلقة الإيمان ستقول له: «إن ذلك الشخص زين لنا هذا بدهائه وبمستواه الرفيع واستطاع بهذا إقناعنا».. يقول هذا ويبقى الشك يساوره.

فللّه الشكر ألوف ألوف المرات ففي طيّ تهمة القيام باستغلال الدين في السياسة قام القدر الإلهي -الذي هو العدل المحض- طوال ثمان وعشرين سنة بمنعي من جعل الدين -دون علمي ودون إرادة مني- آلة لأي غرض شخصي، وذلك باستخدام الأيدي الظالمة للبشر في توجيه الصفعات لي وفي تذكيري وتنبيهي.. هذه الصفعات التي كانت عدلاً محضاً وتحذرني قائلة: إياك إياك! أن تجعل الحقائق الإيمانية آلة لشخصك، وذلك لكي يعلم المحتاجون إلى الحقائق أن الحقائق وحدها هي التي تتكلم، ولكي لا تبقى هناك أوهام النفس ودسائس الشيطان، بل لتخرس وتصمت.

هذا هو سر تأثير رسائل النور في إشعال الحماس في القلوب وفي الأرواح كالأمواج في البحار الواسعة. وهذا هو سر تأثيرها في القلوب وفي الأرواح وليس شيئاً غيره. ومع أن هناك آلافاً من العلماء سجلوا الحقائق التي تتحدث عنها رسائل النور في مئات الآلاف من الكتب، والتي هي أكثر بلاغة من رسائل النور، لم تستطع إيقاف الكفر البواح. فإذ كانت رسائل النور قد وفّقت إلى حدّ ما في مقارعة الكفر البواح تحت هذه الظروف القاسية، فقد كان هذا هو سر هذا النجاح.. ففي هذا الموضوع لا وجود لـ«سعيد»، ولا وجود لقابلية سعيد وقدرته، فالحقيقة هي التي تتحدث عن نفسها.. نعم، الحقيقة الإيمانية هي التي تتحدث.

وما دامت رسائل النور تؤثر في القلوب العطشى إلى الإيمان وإلى نور الحقائق، إذن لا يُفدَى بـسعيدٍ واحد بل بألف «سعيد وسعيد». وليكن كل ما قاسيته في غضون ثمانٍ وعشرين سنة من الأذى والمصائب حلالاً زلالاً. أما الذين ظلموني وجرجروني من مدينة إلى أخرى، والذين أرادوا أن يوصموني بمختلف التهم والإهانات، وأفردوا لي أماكن في الزنزانات فقد عفوت عنهم ذلك وتنازلت عن حقوقي تجاههم.

وأقول للقدر العادل: إنني كنت مستحقاً لصفعاتك العادلة لأنني لو كنت قد سلكت مثل الآخرين طريقاً -هي بذاتها مشروعة ولا ضرر منها- فكرت فيها بشخصي، ولو لم أضح بمشاعري في الفيوضات المادية والمعنوية، لفقدت هذه القوة المعنوية الكبيرة في أثناء تأدية خدماتي من أجل الحفاظ على الإيمان. لقد ضحيت بكل شيء وتحملت كل أذى، وبذلك انتشرَت الحقائق الإيمانية في كل مكان، ونشأ مئات الآلاف -بل ربما الملايين- من طلاب مدرسة النور ونهلوا من معارفها. وهؤلاء هم الذين سيستمرون في هذه الطريق في خدمة الإيمان، ولن يحيدوا عن طريقتي في التضحية بكل شيء مادياً كان أو معنوياً، إذ سيكون سعيهم لله سبحانه وتعالى وحده دون غيره.

إن الكثيرين من طلابي قد ابتُلوا بشتى أنواع البلايا والمصائب، وتعرّضوا لصنوف العذاب والمتاعب، واجتازوا امتحانات عسيرة بفضل الله. إنني أطلب منهم أن يتجاوزوا -مثلي- عمن اقترف تلك المظالم وهضَم الحقوق، لأن أولئك قد ارتكبوا تلك الأمور عن جهل منهم، والذين آذونا وعذبونا، ساعدوا على نشر الحقائق الإيمانية دون أن يدركوا تجليات أسرار القدر الإلهي.. ووظيفتنا تجاه هؤلاء هي التمني لهم بالهداية.

أوصي طلابي ألّا يحمل أحد منهم شيئاً من روح الانتقام في قلبه ولو بمقدار ذرة، وأن يسعوا سعياً جاداً لنشر رسائل النور وليرتبطوا بها ارتباطا وثيقاً. إنني مريض جداً.. لا طاقة لي لا في الكتابة ولا في الحديث.. وقد يكون هذا آخر أقوالي.. فعلى طلاب رسائل النور لمدرسة الزهراء ألّا ينسوا وصيتي هذه.

* * *