[رسالة إلى رئيس الوزراء]

إخوتي!

لقد أُخطرت على قلبي حقيقةٌ في غاية الأهمية، أبيّنها لكم، وأضعها بين أيديكم، فإن ارتأيتم إبلاغها إلى رئيس الوزراء (عدنان مندرس) والنواب المتدينين فافعلوا.

مقدمة:

إنني لما كنت قد تركت الساحة السياسية الواسعة منذ أربعين سنة وقضيت أكثر أيام حياتي منـزويا عن الناس، ولم انهمك في الحياة الاجتماعية والسياسية لم أستطع رؤية الخطر الداهم في الوقت الحاضر. ولكن في هذه الأيام شعرتُ أن الوسط مهيأ لنـزول ذلك الخطر الجسيم والمصيبة الكبرى بالأمة الإسلامية وبهذه البلاد والحكومة الإسلامية.

فأبيّن ثلاث نقاط -خطرت على قلبي معنويا- لأولئك السياسيين الساعين لصالح الأمة الإسلامية وللاحتكام بالإسلام ولضمان سلامة البلاد، ويحاولون الحفاظ على المجتمع الإنساني.

النقطة الأولى:

طرق سمعي منذ سنتين -رغم أني لا أستمع إلى الجرائد- الاتهام بالرجعية. فتأملت في الأمر بعقلية سعيد القديم وشاهدت: أن أعداء الإسلام المتسترين الذين يجعلون السياسة أداةً للإلحاد، ويجدّون لإرجاع البشرية إلى قانون الجاهلية الرهيبة متقنعين بقناع الدفاع عن الوطن والأمة. هؤلاء يتهمون اتهاما جائرا غادرا أهلَ الإسلام والغيارى على الدين بالرجعية، علما أن دافع الإسلام والغيرة على الدين يدفعهم إلى جعل السياسة أداة طيّعة للدين دون أن يجعلوا الإسلام أداة للسياسة. وإنما يقومون بهذا العمل ليُمدّوا هذه الحكومة بالقوة المعنوية للإسلام وتصبح قوية راسخة بقوّة أربعمائة مليون من إخوانهم الحقيقيين الظهيرين لهم، لكي ينجوَ أهلُ السياسة الحاضرة من التسوّل لدى أبواب ظَلَمة أوروبا.

فهذا الاتهام المجحف يَصِم هؤلاء الغيارى بـ«الرجعية» ويُظهرهم بأنهم يضرون البلاد والعباد. ألَا إن هذا بهتان عظيم واتهام غادر لا حدود له.

هذا وإن هناك نوعين من الرجعية، كلٌّ منهما يستند إلى قانون أساس:

الأول: الرجعية الحقيقية، وهي رجعية سياسية اجتماعية، أصبح قانونها الأساس محورا لكثير من المظالم والسيئات.

الثاني: هو أساس الرقي الحقيقي والعدالة الحقة، ولكن أُطلق عليه -ظلما- الرجعية.

النقطة الثانية:

إن الذين يشنّون هجومَهم على الدين يريدون أن يرجعوا بالبشرية إلى عهود البداوة والجهل بقانون أساس ودستور جارٍ لديهم متسترين باسم المدنية، والذي يفني سعادةَ البشرية وراحتَها و عدالتها وسلامتها. فهم يريدون أن ينفذوا هذا القانون في بلادنا المنكوبة، فيزرعون بذور الشقاق والاختلاف وبلبلة الأفكار بالتحزب وصولا إلى مآرب شخصية وإشباعا للحرص والعناد.

ذلك القانون هو: أنه يؤخذُ بجريرة شخص واحد جميعُ أفراد طائفته وجماعته وعشيرته، فكلهم مسؤولون ومُدانون. فالذنب الواحد يكون بحكم هذا القانون ألوفَ ألوف الذنوب والخطايا. مما يجعل الأخوة والمحبة والمواطنة التي هي ركائز الاتفاق والاتحاد هباءً منثورا.

نعم، إن القوى المعارضة والمعاندة عندما يجابه بعضُها بعضا تُستهلك وتَضعف حتى تصبح بلا قوة. فلا تَقدر بعد ذلك على العمل للأمة والبلاد وفق العدالة حيث إنها ضَعُفت وانهارت نتيجة المجابهة. لذا تضطر إلى دفع نوع من الرشاوى والأتاوات لجلب الملحدين إلى صفها. فتتشبث بذلك القانون الوحشي الجائر تجاه القانون العادل الحق والدستور السماوي المقدس وهو الآية الكريمة ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ اُخْرٰىۚ﴾ (الأنعام:164) الذي يحقق المحبة والأخوة الصادقة وينقذ الأمة الإسلامية وهذه البلادَ من المخاطر. فلا يكون أحد شريكا في جناية ارتكبها آخر ولو كان أخاه وعشيرته وطائفته وحزبه، إلّا إذا مال إلى تلك الجناية، فيكون مسؤولا عنها في الآخرة وليس في الدنيا.

فما لم يؤخذ هذا الدستور قانونا أساسا فإن المجتمع البشري سيتردى برجعية وحشية إلى أسفل سافلين مثل الدمار الفظيع الذي ولدّته الحربان العالميتان.

ألا ما أشقى أولئك الذين يُطلقون على هذا القانون -قانون القرآن العظيم- اسم الرجعية، ويرضون بقانون وحشي جاهلي وينفّذونه في سياساتهم ويجعلونه ركيزتهم في الإدارة، والذي يُضحَّى فيه بالفرد لأجل الجماعة، ولا تُؤخَذُ حقوقُ الأفراد بنظر الاعتبار لأجل سلامة الوطن، ولا يكترث للمظالم الجزئية لأجل سلامة سياسة الدولة، ويُدمَّر مدينةٌ كاملة وما فيها من مئات الألوف من الأبرياء بجريرة جانٍ واحد. ويجوِّز -هذا القانون- إعدامَ ألف شخص بجناية شخص واحد، ويفرض الضيق والعنت على أُلوف الأبرياء لجرح أصابَ شخصا واحدا.

وحسب هذه الحجة لا يُعبأ بإعدام مائتي شخص بالرصاص مثلما أُفني ثلاثون مليونا من الأشخاص في الحرب العالمية الأولى للسياسة الخاطئة التي ارتكبها ثلاثةُ آلاف شخص. وقس على هذا المنوال أُلوف الأمثلة.

إن لطلاب القرآن وخدّامه إزاء هذه المظالم الفظيعة لهذه الرجعية الوحشية مئات من قوانين القرآن الأساسية من أمثال ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ اُخْرٰىۚ﴾ (الأنعام:164) التي تحقق العدالة الحقة والاتحاد والأخوة. فإطلاق الرجعية على أهل الإيمان الذين يحققون العدل والأخوة، واتهامُهم بذلك يشبه تفضيلَ ظلمِ «يزيد» الملعون على عدالة «عمر بن الخطاب رضي الله عنه» وكترجيح محاكم التفتيش على عدالة القرآن الكريم العظيمة.

لذا ينبغي لأهل السياسة الذين يسعَون للحفاظ على سلامة هذه البلاد ولحكومتها الإسلامية أن يأخذوا هذه الحقيقة بنظر الاعتبار. وبخلافه فإن التيارات المعارِضة للحكومة وإصرارَها على المعارضة تنهك القوى، فلا تكفي تلك القوةُ الضعيفة لضمان مصالح البلاد وإرساء النظام، ولا تحافظ على كيانها ولو بالاستبداد.

وما هذا إلّا فسحُ المجال لبذر بذور الثورة الفرنسية في هذه البلاد. و هذا مما يستحق القلق عليه.

مادامت تُعطي رشاوى من التنازلات المعنوية لأجل إقرار السياسة الأجنبية مقابل ما يقدمونه من مساعدات تافهة موقتة، بسبب ما نعانيه من الضعف الناشئ من الاختلاف، حتى غدت اللامبالاة تهيمن على أخوّة أربعمائة مليون من المسلمين وعدم الاكتراث بمسلك مليار من الأسلاف العظام، بل رأوا أنفسهم مضطرين إلى دفع مَبالغ ضخمة كمرتّبات للموظفين لأجل عدم الإضرار بإدارة الدولة ونظام البلاد من دون مراعاة لما يعانيه الناس من فقر مدقع.

إن ما يعطيه أربابُ السياسة الحاليون في هذه البلاد من رشاوى إلى الغرب وإلى الأجانب ومن تنازلات سياسية و معنوية، عليهم أن يعطوا عشرة أمثالها بل ينبغي لهم أن يدفعوها لأجل إقرار أخوة أربعمائة مليون من المسلمين والتي ستتشكل على صورة جمهوريات إسلامية متحدة. وذلك لأجل سلامة هذه البلاد والحفاظ على كيان هذه الأمة، وسوف يكون ذلك هدية ضرورية وأتاوة لا ضرر فيها.

فتلك الرشوة الواجبة، الجائزة النافعة جدا بل الضرورية المقبولة هي اتخاذ الدساتير المقدسة منهجا للعمل، تلك الدساتير التي هي أساس التعاون الإسلامي وهي هدايا سماوية من القرآن الكريم توثِق الرابطة بين المسلمين بل هي قانونهم المقدس الأساس وهي: ﴿اِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ اِخْوَةٌ (الحجرات:10)، ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّٰهِ جَميعًا (آل عمران:103)، ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا (الأنفال:46).

ملاحظة: يرد في هذا الموضع من النص التركي «إفادة المرام ومقدمة سورة الفاتحة» من كتاب إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز» تراجع في موضعها. – المترجم.

* * *

[لِمَ تركتَ السياسة بعد الاندفاع فيها؟]

باسمه سبحانه

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أبدا دائما..

إخوتي الأعزاء الأوفياء الصادقين!

أولا: بملء روحي ووجداني أهنئ أعيادكم المعنوية والمادية، السابقة منها واللاحقة وأُبارك لياليكم المباركة الطيبة، وأسأل رحمة المولى القدير وأتضرع إليه تعالى أن يتقبل منكم طاعاتكم ودعواتكم المخلصة.

ثانيا: لقد اضطررت إلى أن أجيب عن سؤالَيهم المهمَّين إجابة خاصة حيث يَرِدان من جهات كثيرة:

سؤالهم الأول: لقد كنتَ سابقا وفي بداية عهد الحرية منهمكا جدا في السياسة ومندفعا إليها بحرارة؛ وها قد مرت أربعون سنة وقد تركت السياسة كليا، فلماذا؟

الجواب: إن القانون الأساس للسياسة البشرية هو: أنه يضحَّى بالأفراد من أجل سلامة الأمة، ويُفدى بالأشخاص حفاظا على الجماعة، ويَرخص كل شيء في سبيل حماية الوطن.

فجميعُ الجرائم البشعة التي ارتُكبت في البشرية إلى الآن إنما ارتكبت بالاستعمال السيء لهذه القاعدة ولهذا القانون الأساس، فلقد تيقنتُ من هذا يقينا قاطعا. فهذا القانون البشري الأساس ليس له حدٌّ معين ولا ضوابط مخصصة، لذا فـقـد مهّـد السبيل للتـلاعب باستعماله بكثرة.

إن الحربَين العالميتين قد نشبتا من سوء استعمال هذا القانون البَشري الأساس، فأبادت نهائيا ما توصلت إليه البشرية من رقي منذ ألف سنة، كما سمح هذا القانون بأخذ تسعين بريئا بجريرة عشرة من الجناة، وأفتى بإبادتهم، كما سمح بتدمير قصَبة كاملة لجريمة مجرم واحد، لأغراض شخصية مستترة تحت اسم المصلحة العامة.

ولما كانت «رسائل النور» قد وضّحت هذه الحقيقة في كثير من أجزائها وفي «الدفاعات» أحيل القارئ الكريم إليها.

وهكذا، ولقد وجدت عوضا عن هذا القانون البشري الأساس الغادر، القانونَ الأساس للقرآن العظيم النازل من العرش الأعظم، وذلك في الآيتين الآتيتين: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ اُخْرٰىۚ﴾ (الأنعام:164)، ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ اَوْ فَسَادٍ فِي الْاَرْضِ فَكَاَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَميعًاۜ وَمَنْ اَحْيَاهَا فَكَاَنَّمَٓا اَحْيَا النَّاسَ جَميعًا (المائدة:32)؛ فهاتان الآيتان تعلّمان القاعدة الجليلة الآتية: «لا يؤاخَذ أحدٌ بجريرة شخص آخر. ثم إن البريء لا يُضحّى به -حتى من أجل جميع الناس- دون رضاه، ولكن لو ضحّى بنفسه بإرادته وبرضاه فتلك مرتبة الشهادة». هذه القاعدة الجليلة هي التي ترسي العدالة الحقة في البشرية. أُحيلُ تفاصيلها إلى رسائل النور.

سؤالهم الثاني: لقد كنتَ -فيما مضى- في أثناء تجوالك بين العشائر البدوية في شرقي الأناضول تدعوهم إلى التحضر وتحثهم بلهفة وشوق على التمدن والرقي في مجالات حياتهم، فلماذا انسللت -منذ نحو أربعين سنة- من المدنية الحاضرة ووصفتها بأنها دنيّة وليست مدنية وجانبتَ الحياة الاجتماعية وسحبتَ نفسك إلى العزلة والانزواء؟..

الجواب: إن المدنية الحاضرة الغربية، لسلوكها طريقا مناقضا لأسس دساتير السماء، وقيامِها بمناهضتها، فقد طفحَ كيلُ سيئاتها على حسناتها وثقلت كفةُ أضرارها على فوائدها؛ فلقد اضطرب أمنُ الناس واطمئنانهم، وأُقلقوا وأَسِنت سعادتُهم الحقيقية، فاختل ما هو مطلوب من المدنية ومقصود منها. حيث قد حلّت بسببها نوازع الإسراف والسفاهة محل بوادر الاقتصاد والقناعة، واستُمرئتْ ميولُ الكسل والدعة وهُجرت مراعى السعي والعمل. ولقد أَلبستْ -هذه المدنية- البشريةَ المضطربة لباس الفقر المدقع وكسَتها أثواب الكسل والتقاعس الرهيب.

واستنادا إلى ما قامت به رسائل النور من إيضاح الدستور الذي يخاطب به القرآن الكريم في ندائه العُلوي: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُواۚ﴾ (الأعراف:31)، وكذلك في قوله تعالى: ﴿وَاَنْ لَيْسَ لِلْاِنْسَانِ اِلَّا مَا سَعٰى﴾ (النجم:39)

فقد أشارت تلك الرسائل-مستضيئة بنور الآيتين المذكورتين- إلى أن سعادة حياة البشرية منوطة بالاقتصاد وعدم الإسراف، وعلى إثارة الهمم للسعي والعمل والكدّ.. وأنه بهذين الشرطين يتم التآلف والوئام بين طبقتي البشرية؛ الخواص والعوام. لذا سأتحدث عن مسألتين لطيفتين، نكتتين قصيرتين وهما الآتيتان:

أولاهما: كان البشر في عهد البداوة تعوزهم ثلاثة أو أربعة أشياء، وكان اثنان من كل عشرة أشخاص يعجزان عن تدارك تلك الأشــياء الثلاثة أو الأربعة. بينما في الوقت الحاضر تحت سطوة المدنية الغربية المستبدة، المتميزةِ بإثارة سوء الاستعمال، والدفع إلى الإسراف، وتهييج الشهوات، وإدخال الحاجات والمطالب غير الضرورية في حكم المطالب والحاجات الضرورية؛ فقد أصبح الإنسان العصري من حيث حبّ التقليد والإدمان مفتقرا إلى عشرين حاجة بدلا من أربع منها ضروريةٍ. وقد لا يستطيع إلّا شخصان من كل عشرين شخصا أن يلبّوا تلك الحاجات العشرين من مصدرٍ حلال بشكل مباح. ويبقى الآخرون الثمانية عشر محتاجين وفقراء. فهذه المدنية الحاضرة إذن تجعل الإنسان فقيرا جدا ومعوزا دائما، ولقد ساقت البشريةَ -من جهة تلك الحاجة- إلى مزيد من الكسب الحرام، وإلى ارتكاب أنواع من الظلم والغبن، وشجعت طبقةَ العوام المساكين على الصراع والتخاصم المستمر مع الخواص، وذلك بهجرها القانون الأساس الذي سنّه القرآن الكريم القاضي بوجوب الزكاة وتحريم الربا والذي يُحقق بواسطتهما توقير العامة للخاصة، ويوفّر بهما شــفقة الخاصة على العامة. فبهجرها ذلك القانون الأساس أرغمت البرجوازيين على ظلم الفقراء وهضم حقوقهم، وأجبرت الفقراءَ على العصيان والتمرد في معاملتهم معهم. فدمّرت سعادة البشرية وراحتها وأمنَها واطمئنانها وجعلتها أثرا بعد عين.

النكتة الثانية: إن ما أنجزته هذه المدنية الحاضرة من خوارق -في ساحة العلم- نِعَمٌ رِبانية تستدعي شكرا خالصا من الإنسان على ما أُنعم عليه، وتقتضي منه كذلك استخداما ملائما لها لفائدة البشرية ومنفعتهم. بيد أننا نرى الآن خلاف ذلك؛ إذ تقود تلك الخوارقُ قسما من الناس -الذين لهم أهمية بالغة في الحياة- وتوردهم موارد الكسل والسفاهة… إذ إنها تذكّي نار الأهواء النفسانية، وتثير كوامن النـزعات الشهوانية، فتُقعِد الإنسان عن الكدّ والسعي وتثنيه عن الشوق إلى العمل، وتسوقه -بعدم القناعة وعدم الاقتصاد- إلى السفاهة والإسراف والظلم وارتكاب المحرمات.

نُورد مثالا على ذلك، مثلما ذكر في رسالة «مفتاح عالَم النور»:

الراديو نعمةٌ إلهية عظيمة على البشرية، فبينما تقتضي شكرا معنويا منّا عليها وذلك باستخدامها لمصلحة البشرية كافة، نرى أربعة أخماس استعمالاتها تُصرَف في إثارة الأهواء النفسانية، وإلى أمور تافهة لا تعني الإنسان في شيء، فتجتث جذورَ شوق الإنسان إلى السعي وتُوقعه في الكسل والإخلاد إلى الراحة والاستمتاع بالاستماع إليها، حتى يدع الإنسانُ وظيفة حياته الحقيقية. وفي الوقت الذي يلزم توجيه قسم من الوسائط والوسائل الخارقة النافعة وصرفُها في تيسير مصالح البشرية الحقيقية واستخدامها في سبيل السعي والعمل لأجل خير البشرية وتوفير حاجاتها الحقيقية وتذليل مشاقها، فقد رأيتُ بنفسي، أنها لا تُصرف إلّا إلى واحد أو اثنين من عشرة في تلبية تلك الحاجات الضرورية وتُساق الثمانية الباقية من العشرة إلى اللهو والاسترسال في إثارة الهوى والاسترخاء والدعة والكسل وقضاء الوقت.

وهناك ألوف الأمثلة على هذين المثالين الجزئيين.

وحاصل الكلام: أن المدنية الغربية الحاضرة لا تلقي السمعَ كليا إلى الأديان السماوية؛ لذا أوقعت البشريةَ في فقرٍ مدقع، وضاعفت من حاجاتها ومتطلباتها، وهي تتمادى في تهييج نار الإسراف والحرص والطمع عندها بعد أن قوّضت أساس الاقتصاد والقناعة، وفتحت أمامها سُبل الظلم وارتكاب المحّرمات. زد على ذلك فقد ألقت -بذلك- الإنسانَ المحتاج المسكين في أحضان الكسل والتعطيل المدمّر، بعد أن شجعته على وسائل السفاهة. وهكذا بددت الشوقَ لديه إلى السعي والعمل، فأضاع الإنسان عمرَه الثمين سدىً باتباعه هوى المدنية الحاضرة وبسيره وراء سفاهتها ولَهوها.

زد على ذلك فقد ولّدت المدنية في ذلك الإنسان المعوز العاطل أمراضا وأسقاما وعللا، إذ أصبحت وسيلةً، إلى انتشار مئات من الأوبئة والأمراض في أرجاء المعمورة. بثتها في الأوساط بسوء الاستعمال والإسراف.

ففضلا عن هذه العلل الثلاثة التي ولّدتها المدنية وهي الحاجة الماسة والميل إلى السفاهة، وكثرة الأمراض المذكّرة بالموت، فإنه بتفشي الإلحاد وتوغله فيها استيقظت البشرية من غفوتها، وإذا بالمدنية تهددّها باستمرار، بإظهار الموت تجاهها إعداما أبديا، فجرّعتها نوعا من عذاب جهنم في الدنيا.

فإزاء هذه المصيبة الرهيبة النازلة بساحة البشرية يداوي القرآن الكريم تلك الجروح الثلاثة البليغة بصحوةِ تلاميذه الذين يربون على أربعمائة مليون تلميذ وبما يضمه من قوانين مقدسة سماوية مثلما عالج علاجا شافيا أدواء البشرية قبل ألف وثلاثمائة سنة، فإنه مستعد لتضميد تلك الجراحات الغائرة بقوانينه الأساسية السامية.. فضلا عن أنه الكفيل بتحقيق سعادة دنيوية وأخروية للبشرية ما لم تقم على رأسها قيامة مفاجئة.. زد على ذلك فإنه يبين لها أن الموت ما هو إلاّ تسريح من الوظيفة وتذكرةُ ترخيصٍ للدخول إلى عالم النور بدلا من كونه إعداما أبديا.. وأن كفة حسنات الحضارة النابعة منه ستتغلب حتما على سيئات المدنية الحاضرة، بل يجعل المدنية سائرة في ركاب تلك القوانين السماوية، تخدمها وتعينها بدلا مما يحدث إلى الآن من تنازل قسم من الدين لقسم من المدنية. ومن دفع أحكام الدين رشوة في سبيل المدنية. كل ذلك يُفهم من إشارات القرآن المعجز البيان ومن رموزه، فترجو البشرية الصاحية الحاضرة ذلك العلاج القدسي من رحمته تعالى وتتضرع إليه وتطلبه.

الباقي هو الباقي

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

18/1/ 1958

[اتخاذ البيت مدرسة نورية]

باسمه سبحانه

﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أبدا دائما…

إخوتي الأعزاء الأوفياء، ويا طلاب النور لمدرسة الزهراء المعنوية!

عندما قدمت إلى إسبارطة طرق سمعي أنه ستفتح مدرسة الوعظ والخطابة والإمامة فيها. فخطر على القلب: فتحُ مدرسة نورية في الأماكن المجاورة من تلك المدرسة، وذلك لجعلها نوعا من مدرسة نورية، إذ إن معظم الذين سيسجلون فيها هم من طلاب النور.

وقد فُهم من مجيء الرجال والنساء زرافاتٍ ووحدانا إلى إسبارطة بعد يومين من مجيئي إليها، وبعد إشاعة الخبر وكأنني سأُلقي درسا عاما للناس، أنه لو فتحت مدرسة نورية شبه رسمية عامة فستكون مكتظة ومزدحمة لتوافد الناس إليها كما توافدوا لمشاهدتنا عند ذهابنا إلى محكمة أفيوُن. ولاحتمال حدوث أمثال هذه التجمعات التي لا معنى لها تركتُ تلك الخاطرة. ولكن خطرت هذه الحقيقة على القلب:

ليحوّل كلُّ شخص بيتَه إلى مدرسة نورية يتدارسون فيها مع أطفاله وأهل بيته، وإن لم يكن له أحد وكان وحيدا فليتخذ مع بضع أفراد من جيرانه أحدَ المساكن مدرسة نورية يتدارسون فيه رسائل النور أو يستمعون لها أو يستنسخونها، وذلك في الأوقات التي يتفرغون فيها عن أعمالهم ومشاغلهم، إذ الانشغال بهذه الرسائل ولو لعشر دقائق يثيب صاحبَه ثواب طالب علم حقيقي، فضلا عن كسبه ثواب خمسة أنوار من العبادات المذكورة في رسالة الإخلاص، علاوة على تحول عاداته ومعاملاته الاعتيادية لمتطلبات معيشته عبادة يُثاب عليها، كما هي الحال لدى طالب العلم. هكذا ورد إلى القلب وأنا بدوري أبيّنه لإخوتي.

الباقي هو الباقي

أخوكم المريض

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

[الدروس تنوب عني]

باسمه سبحانه

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أبدا دائما

إخوتي الأعزاء الأوفياء!

أولا: أقدم مائة ألف شكر وشكر إلى الرب الجليل الذي حقق بكم، أنتم أركان مدرسة الزهراء، الحقيقةَ المعنوية لمدرسة الزهراء، التي كانت هدفَ خيالي وغايةَ حياتي طوال خمس وخمسين سنة.

ثانيا: لقد حُرمتُ من المحاورة مع إخوتي طلابِ النور والمجالسةِ معهم من جراء المرض ولأسباب أخرى. لذا فإنني أُوكل -عوضا عني- الدروسَ التي لقَّنَتها رسائلُ النور سعيدا الجديد في مدرسة القرآن، والدروسَ التي تعلّمها سعيدُ القديم من الحياة الاجتماعية -كالخطبة الشامية وذيولها- فأوكل الكلامَ والمحاورات في تلك الدروس لتُنوبَ عن أخيكم هذا الضعيف المشتاق إليكم في محاوراته.

ثالثا: أقدم تعازي إلى البطل «طاهري» الطالب الخاص الخالص لرسائل النور والناشر لها والذي اتخذ بيتَه مدرسةً نورية صغيرة، وذلك لوفاة والده الذي وهَبه لدائرة النور. وأعزي أقاربَه وذويه وإسبارطة ودائرة رسائل النور سائلا المولى القدير أن يُنـزل الرحمات إلى روحه بعدد حروف رسائل النور…

الباقي هو الباقي

أخوكم المريض

سعيد النُّورْسِيّ

* * *