[اعتراض ولي عظيم]

باسمه سبحانه

إخوتي الأعزاء!

حصلتُ على مؤلَّف مطبوع لسعيد القديم «المناظرات» ونظرت إليه بلهفة وإنعام نظر. فوردتْ إلى القلب هذه الفقرة الآتية:

أولاً: إن هذا المؤلَّف الذي طبع في مطبعة «أبو الضياء» سنة 1329 (1913م) هو الدرس الذي ألقاه سعيد القديم بين عشائر الأَرتُوش ولاسيما عشائر «كَوْدَان ومَامْخُورَان»، لأجل إفهام الشورى الشرعية للعشائر فهماً صائباً وحَملِهم على قبولها، وذلك في السنة الثالثة من عهد الحرية، ولكن لم أحصل على هذا المؤلّف مع الأسف رغم بحثي عنه منذ ثلاثين سنة، إلّا أن أحدهم حصل على نسخة منه فأرسلها إليّ.

طالعت الكتاب بإمعان وبعقل سعيد القديم وبسانحات سعيد الجديد، فأدركت أن سـعيداً القديم شعر بحسّ عجيب مسبَق -قبل الوقوع- الوقائعَ المادية والمعنوية التي تَحدُث الآن، فقد شعر بها قبل حوالي أربعين سنة؛ إذ إنه شـاهد ما وراء ستار العشائر الكردية، الخونةَ الذين جعلوا هذا الزمان قناعاً لهم وهم الملحدون الجاهلون الحقيقيون والرجعيون الذين يحاولون تحت ستار الوطنية إرجاع هذه الأمة إلى عاداتها السابقة قبل عهد الإسلام. فتكلم سعيد القديم معهم بشدة وحاورهم بعنف.

ثانياً: قرأت الصفحات التي يبدو فيها أن بين المستمعين لدرسي ذاك وليّا عظيما -دون علمي به- فقد اعترض اعتراضاً شديداً في ذلك المقام إذ قال: «أنت تغالي وتُفرط، إذ تُظهر الخيال عينَ الحقيقة وتُهيننا بظنك أننا جهلاء، فنحن في عصر آخر الزمان والفساد يستشري وسينقلب من سيء إلى أسوأ».

وكان الجواب في الكتاب: لماذا تكون الدنيا ميدان تقدمٍ وترقٍ للجميع، وتكون لنا وحدنا ميدان تأخر وتدنٍ. فهل الأمر هكذا؟ فها أنذا آليتُ على نفسي ألّا أخاطبكم، فأدير إليكم ظهري وأتوجه بالخطاب إلى القادمين في المستقبل:

أيا من اختفى خلف عصر شاهق لما بعد ثلاثمائة سنة، يستمع إلى كلمات النـور بصمت وسكون، ويلمحنا بنظر خفي غيبيّ.. أيا من تتسمّون بـ«سعيد وحمزة، وعمر وعثمان وطاهر ويوسف وأحمد وأمثالهم!» إنني أتوجه بالخطاب إليكم:

ارفعوا هاماتكم وقولوا: «لقد صدقت» وليكن هذا التصديق ديْناً في أعناقكم. إن معاصريّ هؤلاء وإن كانوا لا يعيرون سمعاً لأقوالي، لندعهم وشأنهم، إنني أتكلم معكم عبـر أمواج الأثير الممتدة من الوديان السحيقة للماضي -المسمّى بالتاريخ- إلى ذرى مستقبلكم الرفيع. ما حيلتي، لقد استعجلت وشاءت الأقدار أن آتي إلى خضم الحياة في شتائها.. أما أنتم فطوبى لكم، ستأتون إليها في ربيع زاهر كالجنة، إن ما يزرع الآن ويستنبت من بذور النور ستتفتح أزاهيرَ يانعة في أرضكم.. نحن ننتظر منكم لقاء خدماتنا.. أنكم إذا جئتم لتَعبروا إلى سفوح الماضي، عوجوا إلى قبورنا، واغرسوا بعض هدايا ذلك الربيع على قمة القلعة. (أي كما ذكر في الرجاء الثالث عشر من رسالة «الشيوخ» أنه بوفاة مدرسة «خُورْخور» التي هي تحت قلعة «وَانْ» الصلدة والتي هي مدرسة ابتدائية لمدرسة الزهراء، وغلقِ المدارس الشرعية في الأناضول كافة الدال على وفاتها، توفيت جميع المدارس، وكأن قلعة «وان» صارت شاهداً لقبرها العظيم. فيا أيها المُقبلون بعد ثلاثمائة سنة، ازرعوا على قمة هذه القلعة زهرة مدرسة نورية). أي ابنوا جسمَ مدرسة الزهراء التي تعيش روحاً ضمن هيئة واسعة، ولم تُبعث جسما. علما أن سعيدا القديم قد قضى معظم حياته في سبيل تحقيق تلك المدرسة. وقد سجّل حقائق مهمة في مؤلَّفه ذاك سواء في تأسيسها أو في فوائدها.

وإنه لفأل حسن بعد انكسارِ حدّةِ الاستبداد الرهيب «سنة 1950» الذي دام خمساً وعشرين سنة، والذي أنهى حياة المدارس الشرعية، قرارُ وزير المعارف «توفيق إيلري» على إنشاء مدرسة الزهراء في «وان» باسم جامعة الشرق، واستصوب رئيسُ الجمهورية «جلال بايار» -من حيث لم يحتسب- قرار الوزير وجعله ضمن قائمة المسائل المهمة. وهذا ما كان يتمناه سعيد قبل أربعين سنة، وسيتحقق بإذن الله.

نبيّن هنا ثلاث حقائق لإيضاح جواب سعيد القديم الذي قاله قبل خمس وأربعين سنة.

الحقيقة الأولى:

لقد شعر سعيد القديم بحس مسبَق بحادثتين عجيبتين. ولكن كان يقتضي التعبيرَ كما في الرؤى الصادقة. إذ لو نظر أحدُهم إلى شيء أبيض من خلال ستار أحمر فإنه يراه أحمر، فسعيد القديم كذلك نظر إلى تلك الحقيقة من خلال ستار السياسة الإسلامية فأبدلت صورةُ الحقيقة شكلَها شيئا ما. وقد عرف ذلك الوليُّ الصالح الحاضر في المجلس خطأَ سعيد القديم فاعترض عليه من تلك الجهة.

وتلك الحقيقة قسمان:

القسم الأول: سيظهر نورٌ ساطع عظيم في المملكة العثمانية، حتى كان سعيد يبشر به طلابه قبل عهد الحرية ولمرات عديدة مسرّيا عنهم، وأن ذلك النور سيحقق السعادة لهذا الوطن رغم التخريبات والفساد المشاهَد. وهكذا أظهرت رسائلُ النور -بعد أربعين سنة- تلك الحقيقة حتى للعيون المطموسة.

فلقد عبّر سعيد القديم عما استشعره من منافعِ ذلك النور الجليلة الواسعة وبنوعيتها الراقية، فكأن ذلك النور سيظهر في المملكة العثمانية كلها مشاهدا إياه من خلال السياسة من دون أن يأخذ بنظر الاعتبار كمية النور القليلة وسعته الضيقة.

فكان سعيد القديم محقا إلى حدٍ ما كما أن ذلك الولي محقٌّ ومصيب في اعتراضه برؤيته الدائرة الضيقة واسعة.

لأن دائرة رسائل النور الضيقة واسعةٌ جدا من حيث إنقاذها الإيمان. حيث إنها تنقذ الحياة الأبدية. فمليون من طلابها في حكم المليار. أي إن محاولة إسعاد ألفٍ من الأشخاص في الآخرة أفضل بكثير من إسعاد مليار من الأشخاص في حياتهم الدنيوية والمدنية، وأوسع منها معنى، فذلك الذي شاهده سعيد القديم بذلك الحس المسبَق الشبيه بالرؤيا الصادقة.
أي إن ذلك النور الضيق سيحيط بالمملكة العثمانية كلها.

ولعل الله سيجعل تلك الدائرة الواسعة منوَّرة بنمو ما تزرعه رسائلُ النور من بذور نورانية. وعندها تتبين صحةُ تعبيره الخطأِ.

الحقيقة الثانية:

كان سعيد القديم يخبر طلابه -في مؤلفاته القديمة وفي إفادة المرام لإشارات الإعجاز- ويقول لهم مكرراً: ستحدث زلزلة اجتماعية بشرية عظيمة، زلزلة مادية ومعنوية، وسيغبطونني على اعتكافي وانزوائي وبقائي عزباً.

حتى إنه في السنة الأولى من عهد الحرية سأل الشيخُ بخيت -مفتى الديار المصرية- سعيدا القديم: ما تقول في حق هذه الحرية العثمانية والمدنية الأوربائية؟ فأجابه سعيد:

«إن الدولة العثمانية حاملة بدولة أوروبائية وستلد يوما ما، وإن أوروبا حاملة بالإسلامية وستلد يوما ما».

فقال له الشيخ الجليل: وأنا أصدّق ما يقوله. ثم قال لمن حوله من العلماء: لا أناقش هذا ولا أتمكن أن أغلبه.

فلقد شاهدنا الولادةَ الأولى، أنها سبقت أوروبا في بُعدها عن الدين بربع قرن.

أما الولادة الثانية: فستظهر بعد حوالي ثلاثين سنة بإذن الله. ستظهر في الشرق والغرب دولة إسلامية.

الحقيقة الثالثة:

كان سعيد القديم -والجديد- يخبر بحس مسبق وبإصرار بالغ وبتكرار عن حادثة عظيمة معنوية ومادية وظهور زلزال اجتماعي بشري رهيب مدمّر في الدولة العثمانية. والحال أنه رأى بذلك الحس ما في الدائرة الواسعة جدا في دائرة ضيقة. ورغم أن الزمان صدّقه بالحرب العالمية الثانية تصديقا تاما، فهو يعبّر عن رؤيته تلك الدائرة الواسعة في المملكة العثمانية بالآتي:

رغم أن الدمار الذي ولّدته الحرب العالمية الثانية واسع جدا فإنه ضيق بالنسبة للدمار الذي حصل في الدولة العثمانية، حيث إنه متوجه إلى الحياة الدنيوية والمدنية الزائفة. بينما الذي حصل في الدولة العثمانية دمارٌ للحياة الباقية والسعادة الدائمة. فهذا الدمار زلزلة إسلامية أفظع وأرهب من حيث المعنى من تلك الحرب. وبهذا يصحِّح ما سها عنه سعيدٌ القديم ويعبّر  عن رؤياه الصادقة ويُظهر للعيون حسَّه المسبق. ويردّ في الوقت نفسه اعتراض ذلك الولي الفاضل الذي يبدو حقا، بإثباته أن الحس المسبق لسعيد القديم أحقّ منه.

* * *

[التضحية الصديقية]

نشرت كلٌّ من صحيفة بويوك جهاد (الجهاد الأكبر) و«سبيل الرشاد» ما أعلنتُه، وهو: أنني لا أجعل خدمة الإيمان والدين ورسائل النور أداةً للسياسة الدنيوية، ولاسيما للوصول إلى كمالات معنوية ومقامات رفيعة، كذلك لا أجعلها وسيلة لبلوغ ما يهش له الناس من سعادة أبدية ونجاة من النار، بل هي خالصة لوجه الله ولابتغاء مرضاته وحده وتنفيذا لأمره سبحانه. وما ألجأني إلى هذا الأمر إلّا الإخلاص الحقيقي الذي هو القوة الحقيقية للنور، علّني أحظى بذرّةٍ من التضحية السامية التي كان الصدّيق الأكبر رضي الله عنه يتحلى بها، حيث قال: «أسأله تعالى أن يكبر جسمي ليملأ جهنم حتى لا يبقى موضع لمؤمن، أُعذب عوضا عنهم». فأنا أرضى كذلك بدخول النار لأُنقذ بضع أشخاص منها بالإيمان.

ومن المعلوم أن العبادة لا تؤدّى طمعا في الجنة ولا خوفا من النار، بل للأمر الرباني وابتغاء مرضاته سبحانه.

* * *

[حول تحضير الأرواح]

باسمه سبحانه

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أبدا دائما.

إخوتي الأعزاء الأوفياء!

لقد تحقق بأمارات كثيرة وحوادث عديدة أن أعداء طلاب النور يدبّرون خططا شتى ليحملوا بعض طلابِ رسائل النور الخواص على التخلي عن خدمة النور أو التراخي والتخاذل عن العمل، وذلك بكشف ما لديهم من عِرق ضعيف.

نبين أدناه أنموذجين اثنين ليكونا موضع عبرة وعظة:

الأنموذج الأول:

هو لفت نظر عدد من طلاب رسائل النور الخواص المرتبطين ارتباطا قويا بخدمة النور، وصرفُ تفكيرهم إلى جهةٍ غير الخدمة، بإشغالهم بمشارب روحانية ذات أذواق، مما يفتتّ صلابتهم ويوهن ارتباطهم الوثيق، أو بإشغالهم بتلقي الأخبار عن الأموات، المسمى بتحضير الأرواح، وهو مخابرة مع الجن، أو بإشغالهم بالتنبؤ عن أخبار مستقبلية كما كان لدى الكهان السابقين، فكأنهم يتصلون مع أولياء عظام أو حتى مع الأنبياء عليهم السلام، ويُجرون معهم ما يشبه المحاورة.. وأمثال هذه الأمور.

ولما كانت هذه المسألة (تحضير الأرواح والتنبؤ بالغيب) آتيةً من الأجانب ونابعةً من الفلسفة فقد تؤدى إلى أضرار جسيمة بالمؤمنين، حيث يمكن استعمالها استعمالا سيئا، إذ لو كان فيها صدقٌ واحد ففيها عشرةُ أكاذيب. ولا محكَّ ولا مقياسَ لتمييز الصدق عن الكذب. وبهذه الوسيلة يُلحق الجن -الذين يُعينون الأرواح الخبيثة- الضررَ بقلب المنشغل بها وبالإسلام أيضا؛ ذلك لأنها إخبارات تنافي حقائقَ الإسلام وتعارض عقائدَه العامة مع أنها تزاوَل باسم أمور روحية معنوية، حيث يوحون بأنهم أرواحٌ طيبة مع أنهم أرواح خبيثة، بل إنهم يسعون للإخلال بالأسس الإسلامية، أو يتفوهون بكلمات مقلّدين أسماء أولياءٍ عظام، وبهذا يستطيعون تغيير الحقيقة والتمويه على السذج الذين يكونون ضحية خداعاتهم..

فلو قالت جلوة الشمس التي تُشاهَد في قطعة زجاج صغيرة -متكلمة باسمها- إن ضيائي يستولي على الدنيا وحرارتي تحمي كل شيء، وأنا أكبر بمليون مرة من الكرة الأرضية. كم يكون كلامُها خلافا للحقيقة!

فالنبي الذي في مقامه الحقيقي الرفيع كالشمس الساطعة، لا يمكن أن تتكلم جلوتُه باسمه، لدى تحضير الأرواح أو التنبؤ بالمستقبل. ولو تكلمتْ باسم النبي لكان كلامُها مخالفا كليا بمئات الأضعاف. فلا يمكن قياسُ ظهورِ جلوة جزئية لدى تحضير الأرواح أو التنبؤِ بالمستقبل أصلا وقطعا بالماهية السامية الرفيعة لصاحب الوحي الذي هو كالشمس المعنوية، لذا لا يمكن جلبُ تلك الحقيقة العظمى قطعا، بل إن جلبها سوءُ أدب وإهانةٌ وعدمُ احترام ليس إلّا، وإنما يمكن الرقي بالسير والسلوك للتقرب من ذلك المقام الرفيع والحظوة بالمحاورة والمجالسة مع تلك الشمس الحقيقة كما حدث لجلال الدين السيوطى وأولياء آخرين. مع العلم أن هذا الرقي هو مجالسة ومحاورة مع ولايته ﷺ -كما أثبتته رسائل النور- ولا يكون هذا إلّا حسب قابلياتهم ووفق استعداداتهم الذاتية. ولكن حقيقة النبوة لكونها أرفع وأسمى وأعلى بكثير من الولاية، فإن المحاورة التي تُنال بالرقي الروحي أو بوساطة تحضير الأرواح والتلقي منها، لا تبلغ حقيقةَ المحاورة والتلقي من النبي تلقيا حقيقيا بأي جهة كانت، ولا يكون محورا للأحكام الشرعية قطعا.

إن تحضير الأرواح المتأتي من الإيغال في دقائق الفلسفة، وليس من الدين، حركةٌ تخالف الحقيقة وتنافي الأدبَ اللائق والاحترام الواجب. لأن جلب أرواح مَن هم في أعلى عليين وفى المقامات السامية المقدسة إلى مائدة تحضير الأرواح، موضع الأكاذيب واللعب واللهو، في أسفل سافلين إنما هو إهانة عظيمة وعدم توقير محضٌ وسوء أدب. بل الحقيقة عينُها والأدب المحض والاحترام اللائق هو أن يحصل ما حصل للأفذاذ من أمثال جلال الدين السيوطي وجلال الدين الرومي والإمام الرباني بالسمو الروحاني -بالسير والسلوك- إلى مرتبة القربية لأولئك الأشخاص السامين والاستفاضة منهم.

إن الشيطان والأرواح الخبيثة لا تتمثل في الرؤى الصادقة، بينما في تحضير الأرواح يمكن أن تتكلم الأرواح الخبيثة باسم نبي من الأنبياء مقلِدةً له خلافا للأحكام الشرعية والسنة النبوية الشريفة. فإن كان هذا التكلم مخالفا للأحكام الشرعية والسنة النبوية فهو دليل قاطع على أن المتكلم ليس هو من الأرواح الطيبة وليس حنيفا مسلما ومؤمنا، بل هو من الأرواح الخبيثة، يقلّد على هذه الصورة.

ثانيا:

إن طلاب النور ليسوا بحاجة إلى مزيد من الإرشادات في مثل هذه الأمور حاليا، إذ رسائل النور قد بَيّنت حقيقة كل شيء، ولم تعد هناك حاجة إلى إيضاحات أخرى. فحسبُهم رسائل النور. وعلى الذين هم خارج طلاب رسائل النور ألّا يعيروا سمعا إلى مثل هذه التلقينات المخالفة للأحكام الشرعية والسنة النبوية، سواء عن طريق تحضير الأرواح أو عن غيرها. وهذا هو الألزم لهم. وبخلافه يحدث خطأ جسيم.

تنبيه:

إن هذا النقد الشديد الوارد في هذه الرسالة حول المحاورة مع الأرواح منصبٌّ على تلك الحركة النابعة من الفلسفة والعلم والتي تسمى تحضير الأرواح والتنويم المغناطيسي والتنبؤ بالمستقبل، والتي اتخذت شكل الأمور الروحية والمعنوية. بمعنى أن هذا النقد القوي ليس موجها إلى التصوف وأهل الطريقة والنابع من الإسلام، وفيه ما يشبه المخابرة مع الأرواح، التي أُسيءَ استعمالها -إلى حد ما- بدخول مَن ليس أهلا فيها، ومع هذا ربما يكون لتلك المخابرة ضرر من جهة البعض إلّا أنها ليست خادعة ولا يُقصد منها الإضرار بالإسلام. فضلا عن هذا إن هذا المشرب الآتي من الأجانب هو مناف للطريقة الصوفية ويخالف الإسلام أيضا كما أنه يحاول هدم مسلك التصوف، ويهوّن من شأنه حتى يجعله أمرا اعتياديا.

ألاَ فليحذر أولئك المتصوفة الذين لم يحظَوا بعدُ -لضعفهم- باتباع السنة النبوية اتباعا كاملا، فلا يحاولوا التشبه بأولئك.

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

حقيقة تخص حياتنا الاجتماعية أُخطرت على القلب

توجد على أرض الوطن أربعة أحزاب: الأول: حزب الشعب الجمهوري، والآخر: الحزب الديمقراطي، والآخر حزب الأمة، وآخر حزب الاتحاد الإسلامي.

إن حزب الاتحاد الإسلامي يستطيع أن يأخذ بناصية الحكم متى ما كان ستون إلى سبعين بالمائة منه تامّ التدين لئلا يحاول جعلَ الدين أداة للسياسة. بل ربما يُسخّر السياسة في سبيل الدين. ولكن يلزم ألّا يتولى هذا الحزبُ الحكمَ حاليا، لأنه سيضطر إلى استغلال الدين في إمرة السياسة لمجابهة جرائم السياسة الحالية وشرورها. حيث إن التربية الإسلامية قد أصابها الوهَن والخلل منذ زمن بعيد.

أما حزب الشعب الجمهوري: فإن جميع الجرائم التي اقترفها طوال ثمان وعشرين سنة، وجرائم غيره، علاوة على سيئات الاتحاد والترقي والماسونيين منهم، قد حُمّلت على هذا الحزب. فعلى الرغم من جميع هذه السيئات فإنه في حكم الغالب على الديمقراطيين من جهة، ذلك لأنه يرشي بعض الموظفين -تحت ستار القانون- رشوة عجيبة ولذيذة حقا، لأن الأنانية تتقوى بنقصان العبادة، فيزداد الداعون إلى فرعونية النفس. ففي مثل هذا الزمان الذي طغت فرعونيةُ النفس، أصبحت الوظيفة الحكومية تورث النفسَ روحَ التسلط والسيادة والفرعونية. علما أنها مجرد قيام بخدمة الآخرين، وقد شعرتُ من طريقة التعامل التي يعاملونني بها، أن هذا الحزب يعطي مرتبة الحاكمية ذات المشاعر اللذيذة العجيبة إلى نفوس قسم من الموظفين، رشوة لهم، فيغلب -في جهة- الديمقراطيين. على الرغم من جميع الجنايات المريعة ومن وجود نشريات الصحف التي لا تنتمي إليه. بينما الوظيفة هي خدمة الآخرين ليس إلّا، حسب الدستور الوارد في الحديث الشريف «سيد القوم خادمهم» إذ القوة إن لم تكن في القانون فإنها تسري إلى الأشخاص، فالاستبداد يكون اعتباطيا بمعنى الكلمة. فلا مناص من أن تستند الديمقراطيةُ وحرية الوجدان إلى هذا الدستور الإسلامي.

أما حزب الأمة: فإن كان المقصود بالأمة، فكرة الأمة الإسلامية التي هي الأساس في الوحدة الإسلامية -والقومية التركية ممتزجة بها- فهي موجودة في معنى الحزب الديمقراطي، وسيضطر هذا الحزب إلى الالتحاق بالديمقراطيين المتدينين.

بيد أن العنصرية التي نعدّها داء السيَلان الغربي، قد سرت فينا سريان الوباء من الغرب ولقّحته أوروبا فينا كي تستطيع أن تمزق العالم الإسلامي. هذا الداء الوبيل يورث حالةً روحية جاذبة، حتى إن كل أمة تحمل رغبة وشوقا بشكل كلي أو جزئي نحوها على الرغم من أضرارها الوخيمة ومهالكها المدمرة.

فلو أحرز هذا الحزب -بسبب استحواذ المدنية الغربية وضعف التربية الإسلامية- نصرا فإن العناصر غير التركية التي تمثل سبعين بالمائة من الأمة ستضطر إلى اتخاذ جبهة مضادة للأتراك الحقيقيين -الذين لا يتجاوزون الثلاثين بالمائة- معارضة لسيادة الإسلام.

حيث إن من أسس القوانين الإسلامية ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ اُخْرٰىۚ﴾ (الأنعام:164) أي لا يؤاخَذ الشخصُ بجريرة غيره، بينما في العنصرية يجد الشخصُ نفسَه محقا في قتل شقيق الجاني، بل أقاربه، بل حتى أفراد عشيرته. فمثلما لا يُحقق هذا عدالةً، بل يفتح سبيلا إلى ارتكاب مظالمَ شنيعة، علما أن الدستور الإسلامي يقرر أنه لا يُضحّى ببريء واحد لأجل مائة جانٍ. فهذه مسألة مهمة من مسائل البلاد، وخطرة تجاه السيادة الإسلامية.

فمادامت هذه هي الحقيقة، فيا أيها الديمقراطيون المتدينون والذين يحترمون القيَم الدينية! أنتم مضطرون إلى جعل الحقائق الإسلامية ركيزةً لكم فهي أقوى من ناحية جاذبيتها المعنوية والمادية تجاه جاذبيةِ ركائزِ هذين الحزبين وإغرائها. وبخلافه فإن الجرائم التي ارتُكبت بحقّ هذه الأمة منذ القدم تُحمَّل عليكم وإن لم تكونوا قد اقترفتموها، مثلما تُحمَّل على الحزب السابق. وعند ذاك يستغل الحزبُ الشعب الجمهوري العنصريةَ، فيغلبونكم. وهذا احتمال قوىّ، كما شعرتُ به. لذا فإنني قلق باسم الإسلام من هذا الوضع.([1])

* * *

[مواجهة الأستاذ]

باسمه سبحانه

يقول أستاذنا:

إلى جميع إخوتي الأعزاء الراغبين في مقابلتي وزيارتي أبيّن لهم الآتي:

إنني لا أطيق مقابلة الناس ما لم تكن هناك ضرورة، إذ التسمم الحالي، والضعف الذي اعترى جسمي، وكذا الشيخوخة والمرض.. كل ذلك جعلني عاجزاً عن التحدث كثيراً. ولأجل هذا أبلّغكم يقيناً أن كل كتاب من رسائل النور إنما هو «سعيد». فما من رسالة تطالعونها إلّا وتستفيدون فوائد أفضل من مواجهتي بعشرة أضعاف، بل تواجهونني مواجهة حقيقية. فلقد قررت أن أذكر في دعواتي وقراءاتي صباح كل يوم أولئك الراغبين في لقائي لوجه الله بديلاً عن عدم استطاعتهم اللقاء، وسأستمر على هذا القرار.

ومنذ شهرين لا يستطيع أستاذنا الكلام حتى مع من يعاونه في أموره، حيث ترتفع حرارته متى ما بدأ بالتكلم. وقد قال بناء على إخطار قلبيّ: إن حكمة هذا هي أن رسائل النور لا تدع حاجة إليّ. فلا داعي للكلام. فضلاً عن أنني قد لا أتكلم إلّا مع عشرين أو ثلاثين من أحبتي فلربما مُنعت من الكلام لئلا يجرح شعور أُلوف الأحبة الآخرين. فليعذرني الإخوة عن اللقاءات الخاصة.

* * *

[أهمية مدرسة الزهراء]

قبل أربع سنوات حينما وكّلني أستاذنا -بسبب مرضه- بمتابعة شؤون رسائل النور في المحاكم بأنقرة، قدّمنا إلى النواب الأفاضل الرسالةَ المرفقة أدناه، ونقدمها الآن لكم ولحضرات النواب الأفاضل مجدداً. والداعي لهذا هو استمرار المسألة نفسها ولاسيما المحاولات الجارية في الشهور الأخيرة لإنشاء الجامعة الجديدة في الولايات الشرقية.

إن الانتشار الواسع لرسائل النور في السنين الثلاثين الماضية، سواء في الداخل أو في الخارج وتأثيرها الجيد في الناس، والسعي المتواصل لإنشاء دار الفنون (الجامعة) في الولايات الشرقية قبل خمس وخمسين سنة، مسألتان مهمتان متعاقبتان متممتان إحداهما للأخرى، وهما موضع اهتمام العالم الإسلامي.

فهذه الأمة ولاسيما أهل الولايات الشرقية وأربعمائة مليون من الأمة الإسلامية وعالم النصرانية المحتاج إلى السلام العالمي تهتم بهاتين النتيجتين العظيمتين والحادثتين الجليلتين؛ حيث إنهما مصدران واسعان لإعلان الإسلام ونشر حقائق القرآن.

ولقد بذل أستاذنا المحترم منذ خمس وخمسين سنة جهوده وبهمة فائقة متوسلاً بوسائل شتى لإنشاء جامعة إسلامية باسم مدرسة الزهراء في شرقي الأناضول على غرار الجامع الأزهر، ودعا للحاجة الماسة إليها. مثلما ورد في تهنئته لرئيس الجمهورية ورئيس الوزراء بهذا الخصوص حيث قال:

إن جامعة الشرق ستحرز مقاماً مرموقاً بين المسلمين بفضل ما تتمتع به من موقع مركزيٍّ في العالم الإسلامي. إذ ستبعث وتتجسم فيها الخدمات الدينية الجليلة السامية السابقة والخصال المعنوية الخالدة لألوف العلماء والعارفين والشهداء والمحققين من أجدادنا الراقدين في تلك الولايات، فيؤدون وظائفهم الإيمانية في أوسع ميدان.

أما الدرس الأساس الجدير بأن يكون منهجاً وبرنامجاً لجامعة الشرق فهو رسائل النور التي تفسّر الحقائق الإيمانية للقرآن الكريم، والتي تقيم البراهين العقلية والدلائل المنطقية الإيمانية لإثبات مسائل القرآن العظيم. فقمين بهذه الرسائل أن تكون موضع دراسة في الجامعات والمدارس الحديثة.

إن رسائل النور ظهرت بوساطة طالب من طلاب أساتذة الشرق ومدارسها الدينية المنتشرة في أرجائه كافة والتي فجّرت الينابيع المعنوية الباعثة على الحياة.

فنحن نرجو ونتمنى من الرحمة الإلهية بكل أرواحنا وكياننا أن يتسنم أولئك الأساتذة الأفاضل وظائفهم السابقة مجدداً، فيوسعوا من دائرة أعمالهم الفكرية وخدماتهم القرآنية بالثمار اليانعة المنورة الحالية لجهودهم، فتتهيأ الظروف الحياتية الزمانية والمكانية والسلام العام لتحقيق أمانينا هذه.

نعم، إن رسائل النور التي هي ثمرة واحدة ونتيجة عظيمة كلية لنشاط العلم والمعرفة في الشرق جديرة بأن تلقى اهتمام العاملين للإسلام وهذه الأمة والعالم الإسلامي.

هذا وإن الإقبال على رسائل النور وطلبها في كل من أمريكا وأوروبا وانتشارها هناك تبين أهمية دعوانا هذه.

مصطفى صونغور

* * *


[1] لقد ظهرت نتيجة سن القوانين الاعتباطية وتطبيقها السيء في عهد الحزب السابق، مسألة التيجانية (*)، فضلاً عن تحريضهم وإثارتهم الناس. فلكي لا تقع مغبّة هذه المسألة على الديمقراطيين المتدينين، وللحيلولة دون سقوطهم في نظر العالم الإسلامي أرى أن السبيل الوحيد هي: أنه مثلما أحرز الديمقراطيون عشرة أضعاف قوتهم بإعادة الأذان الشرعي، فإن تحويل «أياصوفيا» إلى وضعه العبادي السابق سيؤثر تأثيراً حسناً جداً في العالم الإسلامي، ويُكسب لأهل هذه البلاد اهتمام العالم الإسلامي وودّهم.. وكذا على الديمقراطيين المتدينين الإعلان رسمياً عن حرية نشر رسائل النور التي لم تجد المحاكمُ فيها طوال عشرين سنة شيئاً ضاراً للبلاد، وقضت خُمس محاكم ببراءتها. وبهذا تضمدون هذا الجرح فتكسبون اهتمام العالم الإسلامي فضلاً عن عدم تحميلكم جرائم ظالمة لغيركم.

     في غضون يوم أو يومين نظرت إلى الأمور السياسية رغم أني تركتها منذ خمس وثلاثين سنة، وذلك لأجل الديمقراطيين المتدينين ولاسيما الأفاضل من أمثال عدنان مندرس.

سعيد النُّورْسِيّ

       نحن طلاب النور شهود على هذه الحقيقة ومصدّقون لها.

جيلان، خليل، عثمان، حمزة، وغيرهم.

———-

(*) وهي أن منتسبي الطريقة التيجانية قد قاموا بحملة كسر هياكل مصطفى كمال في شتى أنحاء تركيا (1950- 1952) وحوكموا من جرائها، وعلى إثرها سُنّ قانون «صيانة مصطفى كمال وانقلاباته». ونفي زعيمهم محمد كمال بلاو أوغلو بعد انتهاء محكوميته إلى جزيرة «بوزجا» للإقامة الإجبارية حتى وفاته سنة 1977.