[لِمَ ينظرون إليك كأنك سياسي؟]

جواب لسؤال طرحه طلاب النور الذين يلازمون «الأستاذ» ويعاونونه في شؤونه.

سؤال: نحن نقوم بمعاونتكم في شؤونكم منذ مدة طويلة، فلم نر منكم اهتماما بالدنيا وتوجها إلى الحياة الاجتماعية والسياسة. فشغلكم الشاغل دروس الإيمان والآخرة. ولقد أدركنا أنكم على هذا الوضع منذ ثماني عشرة سنة خلت. فلماذا إذن ساقوكم إلى المحكمة وأثاروا الناس في إسبارطة دون داعٍ. ولم يجدوا في مائةٍ من رفقائكم أية علاقة تمس الدنيا والسياسة إلّا حجة واهية تُخجلهم وتخجل محكمتهم إلى الأبد -بعد تحقيقات دامت أربعة أشهر- فحكموا على بضعة أشخاص بين المائة ببضعة أشهر. ثم إنكم لستّ سنوات وأكثر تحت مراقبة المخفر وأمام نظره فجميع أحوالكم ظاهرة دائما أمام المخفر من شبابيك غرفتكم. وإلى ما قبل شهرين أو ثلاث يترصدونكم سرا وعلنا وتحرّوا غرفتكم عدة مرات، لينفّروا عنكم الأصدقاء. فلماذا ينظرون إليكم نظرَ سياسي قدير مثير للقلاقل؟ فنحن حائرون من هذه الحالة فضلا عن تألمنا منها، ولم تتيسر زيارتكم بحرّية إلا منذ شهور فقط. حيث كنا سابقا نأتي خفية وبخوف. نرجو إيضاح هذه المسألة.

الجواب: وأنا في حيرة وعجب مثلكم بل أكثر منكم. فالجواب الواضح لسؤالكم هذا موجود في «اللمعة السابعة والعشرين» وهي لمعة الدفاع أمام المحكمة، وفي «المكتوب السادس عشر».

والآن أُبين باختصار أساسين اثنين:

الأساس الأول: إن من مقتضى وظيفة المسؤولين عن النظام والإدارة وشرطة الأمن، حفاظ مسلكنا والحث عليه، ناهيك عن الوقوع في الشكوك والريوب والأوهام، لأن الحجر الأساس لوظيفتهم الاحترام والرحمة ومعرفة الحلال والحرام. ويمكن أن يسود الأمن والنظام في الحياة الاجتماعية بدساتير الطاعة والانقياد. فرسائل النور تحقق هذه الأسس لدى نظرها إلى الحياة الاجتماعية، وقد ظهرت نتيجتُها فعلا. وحيث إن أهم مركزين لرسائل النور هما إسبارطة وقسطموني، فإن ضباط الأمن إذا ما دققوا بإنصاف سيرون معاونة رسائل النور الواضحة لهم، وذلك قياسا بسائر الولايات.

ثم إنه رغم كثرة طلاب رسائل النور، ورغم ما في أيديهم إلى هذا الحد من القوة والحق، لم يمسّوا الأمن والنظام بشيء، بل لم يخلّ ألف طالب منهم بالحياة الاجتماعية بقدر ما يخل به عشرة أشخاص آخرين. وإن هذا الأمر مشاهد لمن كان له قلب غير فاسد.

إن حكمة هذه المسألة هي أن الإيمان والشريعة والحياة ثلاث مسائل عظيمة في العالم الإسلامي والإنساني. وأعظم هذه الثلاثة هي الحقائق الإيمانية. ولأجل ألّا تكون هذه الحقائق الإيمانية القرآنية أداة لتيارات أخرى ولقوىً أخرى، وللحيلولة دون التهوين من شأن الحقائق القرآنية التي هي بقيمة الألماس إلى قيمة قطع زجاجية متكسرة، ولأجل الإيفاء بالخدمة المقدسة التي هي إنقاذ الإيمان إيفاءً تاما ينفر طلاب رسائل النور الخواص الصادقون نفورا شديدا من السياسة.

حتى إن أخاكم هذا -وأنتم تعلمون- ومنذ ثمانية عشر عاما لم أُراجع الحكومة ولو لمرة واحدة وذلك لئلا أمسّ السياسة والحياة الاجتماعية رغم حاجتي إليها. وهذه الشهور التسعة التي خلَت لم أسأل ولو لمرة واحدة عمّا يدور على الكرة الأرضية من اضطرابات وقلاقل ولم أهتم بها ولم أرغب في معرفتها ولم أحاول أن أدير البحث حولها. حتى إنني لم أعرف لحد الآن هل انتهت الحرب أم لا ومن هم المحاربون عدا الإنكليز والألمان؟ وأنتم أعلم بهذا.

وأنتم المرافقون لي تعلمون كذلك، أنني لم أستمع إلى الراديو الذي يُسمَع من غرفتي منذ ثلاث سنوات -عدا مرتين- ذلك الجهاز الذي حوّل الناس إلى ثرثارين وحائرين غافلين، ولم أسأل عنه. فالذين يتعرضون لمسلك هذا الرجل الذي لا علاقة له بهذه الأوضاع إلى هذه الدرجة ولا ينظر إليها قطعا، ومن ثم تساورهم الشكوك حوله ويترصدونه ويضايقونه، كم هم بعيدون عن الإنصاف! يصدّق ذلك حتى أبعدهم عن الإنصاف.

المسألة الثانية:

إخواني! تعلمون أننا نهرب -في مسلكنا- من الأنانية والغرور وحب الذات والتطلع إلى نيل المقامات المتسترة بالشهرة، نهرب منها هروبنا من السم القاتل، ونتجنب كثيرا من كل ما يشعر بتلك الحالات.

فعلى سبيل المثال: لقد شاهدتم هنا بأم أعينكم طوال سبع سنوات وأدركتم بتحقيقاتكم وتتبعاتكم منذ عشرين سنة؛ أنني لا أريد إحراز احترام ونيل مقام لشخصي. ولقد نهرتُكم عن ذلك بشدة، وأستاء منكم إن منحتموني منـزلةً تفوق حدّي. فلا أقبل إلّا صفة طالب لرسائل النور -التي هي معجزة معنوية للقرآن الحكيم في هذا الوقت- مرتبطٍ بها ارتباط تسليم لها وتصديق بها. والحمد لله والشكر له.

لذا فحتى البلهاءُ يدركون كم هو تافه ولا يعنى شيئا مساورةُ الشكوك والريوب أذهانَ أهل الحكومة والإدارة وأفراد الأمن، تجاه الذين اجتنبوا -إلى هذا الحد- الأنانيةَ والغرور والرياء المتستر تحت الصيت والشهرة وجعلوا هذا التجنب دستورا لحياتهم.

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

[انتصار رسائل النور]

إخوتي الأعزاء الأوفياء الثابتين!

إن انتصار المبتلين انتصارا معنويا ببراءتهم في المحكمة، لم يُدخل السرور والفرح في قلوبنا نحن وحدنا، بل أبهج أيضا جميعَ أهل الإيمان في البلاد، لأن هذه البراءة فتحت المجالَ لإطلاق نشر رسائل النور. فلقد اضطررنا إلى اتخاذ الحيطة والحذر لحد الآن، وذلك خشية المصادرة. فكنت أعاني من الصعوبات الجمّة في إخفاء الرسائل في غضون السنوات الثماني عشرة التي مرت ولاسيما في هذه السنوات الست هنا. وكنا نعاني جميعا من القلق والاضطراب على الرسائل.

فشكرا لله تعالى وحمدا وثناءً له بعدد حروف رسائل النور. فإن ظهورها المعنوي وتغلّبها في هذه المرة وهتكها لأستار الظلم والظلمات هيأ الأوساط لفتوحات واسعة وأجر عظيم بتعب قليل. فلقد أصبح هذان الشهران لفترة التوقف وسيلةً لانتشار رسائل النور بطراز آخر في أوسع محيط كما حدث في السجن.

نهنئكم يا إخوتي ولاسيما المبتَلين وبخاصة «الحافظ محمد» ونقول لهم: حمدا لله على السلامة. إن المحكمة التي زجت مائة من الأشخاص في الحبس ولمائة يوم لأجل رسالة واحدة وهي رسالة «الحجاب» لم تستطع أن تزج في السجن شخصا واحدا ليوم واحد ومعه مئات من الرسائل أمثالِ تلك الرسالة، وما ذلك إلّا من إخلاصكم الخارق وصلابتكم التي لا تتزعزع وترابطكم الوثيق.

فقد ثبت لنا هذا قطعا ولم تبق لدينا أي شبهة فيه. ليرضَ الله عنكم أبدا. آمين.

* * *

[الحلول بين طلاب النور]

إخوتي الأعزاء الأوفياء!

نهنئكم بحلول الشهور الثلاثة المباركة التي تُكسبكم أكثر من ثمانين سنة من العمر المعنوي ولاسيما ليلة الرغائب -ليلة الجمعة الأولى من رجب- فإن لبراءتكم من المحكمة وظهوركم عليهم معنىً قد أوقع الظالمين في حيرة.

ولقد غيّروا خطتهم هنا؛ إذ بدأوا باسم الصداقة بالحلول بين طلاب رسائل النور الخواص -تاركين الهجوم العدائي- ليحملوهم على التخلف عن خدمة رسائل النور، فيوجِدون لهم مشاغل الوظائف أو يرفعون من مرتّبهم ويحوّلونهم إلى وظائف أخرى أو أية مشغلة أخرى.

فهناك وقائع كثيرة أمثال هذه هنا، يبدو أن هذا التعرض أكثر ضررا من ناحية.

* * *

[الرسائل بالحروف اللاتينية]

لقد دخلت رسالة مؤثرة من رسائل النور إلى المدرسة الإعدادية هنا، إذ سمحنا -بإذن معنوي- أن تكون بالحروف اللاتينية وبالآلة الطابعة، والرسالة تتضمن: الموقف الأول من الكلمة الثانية والثلاثين، واسمَي «العدل والحكم» من اللمعة الثلاثين، ورسالة الطبيعة -إلى الخاتمة- والآية الكبرى من المقام الأول إلى المرتبة الثامنة عشرة -مما سوى مرتبتَي الوحي والإلهام-. واجعلوا كذلك من هذه القِطَع الأربع من الرسائل مجلدا واحدا وبالحروف الجديدة واقذفوها قنبلة عظيمة على رؤوس أهل الإلحاد.

ولما كنت في هذه السنة في شدة العجز والضعف والشيخوخة، أرجو من إخوتي الشباب أن يعينوني معنويا بدعواتهم في هذه الشهور الثلاثة المباركة.

تحياتي إلى الإخوة جميعا فردا فردا وندعو لسلامتهم في الدارين.

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

[التقوى والعمل الصالح]

إخوتي الأعزاء الأوفياء!

لقد فكرت -في هذه الأيام- في أسس التقوى والعمل الصالح، اللذَين هما أعظم أساسين في نظر القرآن الكريم بعد الإيمان.

فالتقوى هي ترك المحظور والاجتناب عن الذنوب والسيئات. والعمل الصالح هو فعل المأمور لكسب الخيرات.

ففي هذا الوقت الذي يتسم بالدمار -الأخلاقي والروحي- وبإثارة هوى النفس الأمارة، وبإطلاق الشهوات من عقالها.. تصبح التقوى أساساً عظيماً جداً بل ركيزة الأسس، وتكسب أفضلية عظيمة حيث إنها دفع للمفاسد وترك للكبائر، إذ إن «درء المفاسد أولى من جلب المنافع» قاعدة مطردة في كل وقت.

وحيث إن التيارات المدمرة أخذت تتفاقم في هذا الوقت، فقد أصبحت التقوى أعظمَ أساس وأكبر سد لصد هذا الدمار الرهيب. فالذي يؤدي الفرائض ولا يرتكب الكبائر، ينجو بإذن الله، إذ التوفيق إلى عمل خالص مع هذه الكبائر المحيطة أمر نادر جداً، وإن عملاً صالحاً ولو كان قليلاً يغدو في حكم الكثير ضمن هذه الشرائط الثقيلة والظروف العصيبة.

ثم إن هناك نوعاً من عمل صالح ضمن التقوى نفسها، لأن ترك الحرام واجب والقيام بالواجب ثوابه أكثر من كثير من السنن والنوافل، ففي مثل هذه الأزمان التي تهاجِم الذنوب والسيئات الإنسانَ من كل جانب يكون اجتنابُ أثمٍ واحد مع عمل قليل، بمثابة تركٍ لمئات من الآثام -التي تترتب على ذلك الإثم- وقيامٍ بمئات من الواجبات.

هذه النقطة جديرة بالاهتمام، ولا تحصل إلّا بالنية الخالصة وبالتقوى وقصد الفرار من الآثام والذنوب، ويغنم المرء بها ثواب أعمال صالحة نشأت من عبادة لم يَصرِف فيها جهداً.

إن أهم وظيفة تقع على عاتق طلاب النور خدامِ القرآن الكريم، في هذا الوقت هي اتخاذُ التقوى أساساً في الأعمال كلها، ثم التحركُ وفقها أمام تيار الدمار الرهيب المهاجم والآثام المحيطة بهم، إذ يواجه الإنسانُ ضمن أنماط الحياة الاجتماعية الحاضرة مئاتٍ من الخطايا في كل دقيقة، فالتقوى هي التي تجعل -دون ريب- الإنسانَ كأنه يقوم بمئات من الأعمال الصالحة، وذلك باجتنابه تلك المحرمات.

من المعلوم أن عشرين شخصاً في عشرين يوماً لا يستطيعون بناء عمارة واحدة؛ في حين يستطيع أن يهدمها شخص واحد في يوم واحد. لذا فالذي يقوم بالهدم والدمار ينبغي أن يقابَل بعشرين ممن يبنون ويعمِّرون تلك النواحي، بيد أننا نرى العكس. فالألوف من الهدامين لا يقابلهم إلا معمِّر واحد وهو رسائل النور. فمقاومة خدام القرآن الكريم وحدهم تلك التخريباتِ المريعةَ إنما هي عمل خارق جداً. فلو كانت هاتان القوتان المتقابلتان على مستوى واحد من القوة، لكنت ترى في التعمير والبناء -الروحي والأخلاقي- خوارقَ وفتوحات عظيمة جداً.

ولنضرب مثلاً واحداً فقط: إن أعظم ركيزة في الحياة الاجتماعية هي توقير الصغير للكبير ورحمة الكبير للصغير، إلا أننا نرى أن هذا الأساس قد تصدع كثيراً، حتى إننا نسمع أخباراً مؤلمة جداً، وحوادث مفجعة جداً تجاه الآباء والأمهات، تقع من جراء خراب هذا الأساس الراسخ.

ولكن بفضل الله فإن الرسائل القرآنية أينما حلت قاومت الدمار، وحالت دون تهدم هذا الأساس الاجتماعي المتين، بل حاولت تعميره.

فكما يعيث يأجوج ومأجوج في الأرض الفساد بخراب سد ذي القرنين، فإن فسـاداً أبشع من فساد يأجوج ومأجوج قد دبّ في العـالم وأحاطه بظلمات الإرهاب والفوضى وعمت الحياة والأخلاق مظالم شنيعة وإلحاد شنيع.. فظهر الفساد في البر والبحر، نتيجة تزلزل السد القرآني العظيم، وهو الشريعة المحمدية الغراء.

لذا فإن الجهاد المعنوي لطلاب النور ضد هذا التيار الجارف يُعدّ -بإذن الله- جهاداً عظيم الثواب، إذ فيه قبس من جهاد الصحابة الكرام رضوان الله عليهم الذين يثابون بعملٍ قليل ثواباً عظيماً.

فيا إخوتي الأعزاء! في مثل هذه الأوقات العصيبة، وأمام هذه الأحداث الجسام، فإن أعظم قوة لدينا -بعد قوة الإخلاص- هي قوة «الاشتراك في الأعمال الأخروية» إذ يَكتب كلٌ منكم في دفتر أعمال إخوته حسناتٍ كثيرة مثلما يُرسل بلسانه الإمدادَ والعون إلى قلعة التقوى وخنادقها. وإن أخاكم الفقير والعاجز هذا «السعيد» الذي اشتدت عليه غارات الهجوم من كل جهة، هو أحوج ما يكون إلى مساعدتكم في هذه الأشهر الثلاثة المباركة، وفي هذه الأيام المشهودة. ولا أستبعد هذا منكم قط، فأنتم أهل لهذا السعي، وأنتم الأبطال الأوفياء المشفقون على حال أخيكم، وأنا أطلب منكم هذا الإمداد المعنوي بكل جوارحي ومن صميم روحي.

وبدوري سأشرك الطلاب في دعواتي وحسناتي المعنوية، بل ربما أدعو لكم في اليوم أكثر من مائة مرة باسم طلاب النور، بشرط الالتزام بالإيمان والوفاء، وذلك دستور الاشتراك في الأعمال الأخروية.

* * *

[ترك فضول النفس]

إخوتي الأعزاء الأوفياء!

لمناسبة مجيء فرقة من الجيش إلى هذه الجهات أمس قال لي أمين: إن صلة روسيا قد انقطعت عن القفقاس. علما أنني لم أكن أعرف استمرار الروس في الحرب ولم أرغب في معرفته. فقطعتُ عليه الكلام. إلّا أن قلبي أظهر اهتماما بالموضوع.

وفي هذا اليوم عند ما كنت في الصلاة وفي الأذكار التي أعقبتْها، ورد إلى القلب معنىً؛ أن الصراع الدائر في الكرة الأرضية بين التيارات المتحاربة ستميل إحداها إلى الإسلام والقرآن ورسائل النور وإلى مسلكنا لا محالة. فينبغي النظر إليه من هذه الزاوية. وعلى الرغم من أن الأسباب الداعية إلى عدم النظر إليه -والتي كتبتها في رسالتين سابقتين- كافية للقلب والعقل، إلّا أنها لا تُشبع النفس المتلهفة للحوادث.

وخطر على القلب في الأذكار نفسها، أن سببه المهم هو تنبّهُ شعور الانحياز عند النظر إليه، حيث إن نظر المنحاز كليلٌ عن ذنوب من يميل إليه. فيرضى بظلمه بل قد يبتهج ويفرح ويرحّب به. والحال «كما أن الرضا بالكفر كفر كذلك الرضا بالظلم ظلم». فلاشك أن في هذا الصراع القائم على الكرة الأرضية مظالمَ ودمارا تبكي من هوله السماواتُ، إذ تَضيع وتفنى حقوقُ كثير من الأبرياء والمظلومين، لأن دستور المدنية الدنيّة الظالم هو: أنه يُضحَّى بالفرد لأجل الجماعة، ولا يُنظر إلى الحقوق الجزئية من أجل سلامة الأمة. وقد فتح هذا الدستورُ ميدانَ مظالمَ شنيعةٍ لم يُر مثلها حتى في القرون الأولى. بينما العدالة الحقيقية للقرآن المبين أنه لا يُفدى بحق الفرد لأجل الحفاظ على الجماعة، فالحق حق، لا ينظر إلى كثيره وقليله.

فهذا هو القانون السماوي والعدالة الحقة. لذا فالذين ينشغلون بحقائق القرآن كطلاب رسائل النور إن لم تكن هناك ضرورة فلا ينظرون إلى تلك الأمور لإشباع الفضول وحده، دون أن يجنوا فائدة ما. ولا يليق بهم الانشغال فكريا بمتابعة أعمال ذلك التيار، على أمل أن يخدم الإسلام والقرآن في النتيجة! حيث إن النتيجة لم تحصل، فلا داعي إلى تشجيع تخريباتهم الظالمة. وبهذا تبعت النفسُ العقلَ والقلبَ وتركتْ فضولَها… نعم، هكذا فهمتُ.

المسألة الثانية:

إن إحراز رسائل النور النصرَ في إسبارطة والغلبةَ فيها قد فاجأ الزنادقةَ وأذهلهم، لذا قام بعض هؤلاء الزنادقة المتمردين والمعاندين -ممن يحملون الروح الخبيثة وأفكارَ ذلك الشخص الذي ولّى ومات- سترا لهزيمتهم هذه بالهجوم على القرآن وعلى الرسول ﷺ من طرف خفي في مؤلّفٍ نشَرَه، واستعمل فيه هذا -المتسمى بالإسلام- كلمات ممجوجة غير لائقة -كالتي وردت في المناظرة مع الشيطان وحزبه- إذ جمع ما قاله أمثاله من اليهود والفلاسفة الملحدين والمتمردين في أوروبا وزنادقتها منذ سالف العصور من افتراءات على القرآن والرسول الكريم ﷺ.

ولأجل إسماع المسلمين الساذجين والذين لم يطّلعوا على رسائل النور مثلَ هذه الأمور وإراءتهم لها، فقد سلك هذا الزنديق بحذلقة وخبث مسلكا أخفى زندقته إخفاءً دقيقا بحيث سبق الشيطانَ في شيطنته. وتألمت كثيرا جدا من هذا، وقد وردت في رسالة أخينا صبري: أن الخُدَعَ والشباكات التي ينصبها الملحدون العنيدون -تجاه تيار رسائل النور- واهية جدا بل أوهن من بيت العنكبوت. فتلك الأستار الشيطانية التي يتسترون بها ضعيفة لا تقاوِم أبدا وستُهتَك أمام النور وتتمزق.. إن ما كتبه الزنديق العنيد المتمرد والروح الخبيثة للرجل الميت، هو لصالح القومية التركية في الظاهر، إلّا أنه في الحقيقة قد نشر كتابه هذا للتهوين من الشأن العظيم والمرتبة الرفيعة للقرآن الكريم والرسول الكريم ﷺ، ألا خابَ ظنُّه، فلا يمكنه أن يكون كبيت العنكبوت تجاه المعجزات القرآنية والمعجزات الأحمدية بل يذوب ويتلاشى. ولكن يا للأسف وألف أسف وأسف! إنه يضر ضررا بالغا بالذين لم يطلعوا على رسائل النور كما أن الذين اطلعوا عليها قد يدفعهم الفضول فيقولون: تُرى ماذا فيه؟ فيعكرون صفو قلوبهم. وفي الأقل يورث الشكوك والأوهام.

فعلى طلاب رسائل النور الأبطال أن يكونوا متيقظين تجاه هذه الأمور ويزيدوا من نشاطهم، إذ الانشغال بالأمور الفاسدة فسادٌ أيضا، لذا أختصر هذه المسألة.

فحذار من الاهتمام به وإثارة الفضول لدى الناس. وليُعْلم أنه مؤلَّف تافه سوى ما فيه من الأسماء المباركة ومعاني بعض الآيات الكريمة. وافهموا مدى تجاوز هذا الشخص حدّه من المثال الآتي:

مثال: إن نظر أبله إلى مجلس بعيد جدا يحضره علماء مدققون متخصصون، يدققون كتابا ويتلقون الدرس من أستاذ قدير. فإذا ما أصدر هذا الأبله حكمه منتقدا هذا المجلس وهؤلاء العلماء، فإن عمله هذا هذيان ليس إلّا.

اللّهم احفظ أهل الإيمان وطلاب رسائل النور من أمثال هؤلاء. آمين

سعيد النُّورْسِيّ

* * *

[عاونونا بأدعيتكم]

إخوتي الأعزاء الأوفياء!

إنه بعد تغلّب ثباتكم العظيم وإخلاصكم التام وبعد دفع تلك المصيبة، فقد غَيّر أهلُ الدنيا خططهم في المجابهة؛ إذ بدأوا -بمكايد الزنادقة- بتحشيد قواهم المادية والمعنوية في هذه المناطق تجاهنا خفية، فهم يتحركون بدقة متـناهيـة ويحاولون بشـيطنة خبيثة للإخلال بالتساند والترابط الوثيق الذي هو القوة الحقيقية لطلاب رسائل النور. ففي الوقت الذي أعادوا إليكم الرسائل يحيكون مؤامرات خفية بخبث. وعلى الرغم من أننا نُعدّ شعبة منكم فإنهم يحسـبوننا كأننـا الأصل والمركز، لذا يُجرون علينا دسائسـهم بشكل مكثف، ولكن الحافظ الحقيقي هو رب العالمين. وبإذنه تعالى لن يقدروا على إلحاق أي ضرر كان.. ولكن عاوِنونا يا إخوتي بأدعيتكم الخالصة في أيام الشهور المباركة ولياليها المباركة.

ولا شيء يُذكر هنا.. ولكن عليكم بالحذر قدر المستطاع…

* * *

[حوار مع فريق من الشباب]

جاءَني -ذات يوم- فريق من الشباب، يتدفقون نضارةً وذكاءً، طالبين تنبيهاتٍ قويةً وإرشاداتٍ قويمةً تقيهم من شرورٍ تتطاير من متطلبات الحياة ومن فتوّة الشباب ومن الأهواء المحيطة بهم.

فقلت لهم بمثل ما قلته لأولئك الذين طلبوا العون من رسائل النور:

اعلموا أن ما تتمتعون به من ربيع العمر ونضارة الحياة ذاهبٌ لا محالة، فإن لم تُلزموا أنفسكم بالبقاء ضمن الحدود الشرعية، فسيضيع ذلك الشباب ويذهب هباءً منثورا، ويَجرّ عليكم في الدنيا وفي القبر وفي الآخرة بلايا ومصائبَ وآلاما تفوق كثيرا ملذات الدنيا التي أذاقكم إياها.. ولكن لو صرفتم ربيع عمركم في عِفّة النفس وفي صَوْنِ الشرف وفي طاعة ربكم بتربيته على الإسلام، أَداءً لشكر الله تعالى على ما أَنْعَمَ عليكم من نعمة الفتوة والشباب، فسيبقى ويدوم ذلك العهدُ معنىً، وسيكون لكم وسيلة للفوز بشباب دائم خالد في الجنة الخالدة.

فالحياة، إن كانت خاليةً من الإيمان، أو فَقَدَ الإيمانُ تأثيرَه فيها لكثرة المعاصي، فإنها مع متاعها ولذتها الظاهرية القصيرة جدا تُذيق الآلامَ والأحزان والهموم أضعافَ أضعاف تلك المتع والملذات، ذلك لأن الإنسان -بما مُنح من عقل وفكر- ذو علاقة فطرية وثيقة بالماضي والمستقبل فضلا عما هو عليه من زمان حاضر، حتى إنه يتمكنُ من أن يذوق لذائذ تلك الأزمنة ويَشعر بآلامها، خلافا للحيوان الذي لا تعكر صَفْوَ لذتِه الحاضرةِ الأحزانُ الواردة من الماضي ولا المخاوفُ المتوقعة في المستقبل، حيث لم يُمنح الفكرَ.

ومن هنا فالإنسان الذي تَردَّى في الضلالة وأَطبقتْ عليه الغفلةُ تَفسد متعتُه الحاضرة بما يَردُه من أحزان من الماضي، وما يرِدُه من اضطرابٍ من القلق على المستقبل. فتتكدر حياتُه الحاضرة بالآلام والأوهام، سـيَّما الملذاتُ غير المشروعة، فهي في حكم العسل المسموم تماما.

أَي إنّ الإنسان هو أَدنى بمائة مرة من الحيوان من حيث التمتع بملذات الحياة. بل إن حياة أرباب الضلالة والغفلة، بل وجودهم وعالَمهم، ما هو إلّا يومُهم الحاضر، حيث إنّ الأَزمنة الماضية كلَّها وما فيها من الكائنات معدومة، ميتة، بسبب ضلالتهم، فترِدهم من هناك حوالكُ الظلمات..!

أما الأزمنة المقبلة فهي أيضا معدومة بالنسبة إليهم، وذلك لعدم إيمانهم بالغيب. فتملأُ الفراقاتُ الأَبدية -التي لا تنقطع- حياتَهم بظلمات قاتمة، ما داموا يملكون العقل جاحدين بالبعث والنشور.

ولكن إذا ما أصبح الإيمان حياةً للحياة، وشعّ فيها من نوره، استنارت الأزمنة الماضية واستضاءت الأزمنة المقبلة، وتجدان البقاءَ وتمدان روحَ المؤمن وقلبَه من زاوية الإيمان، بأَذواق معنوية سامية وأَنوار وجودية باقية، بمثل ما يمدّهما الزمن الحاضر.

هذه الحقيقة موضحة توضيحا وافيا في «الرجاء السابع» من رسالة «الشيوخ» فليُراجع.

هكذا الحياة.. فإن كنتم تريدون أَنْ تستمتعوا بالحياة وتلتذوا بها فأحيوا حياتَكم بالإيمان وزيِّنوها بأداء الفرائض، وحافِظوا عليها باجتناب المعاصي.

أما حقيقة الموت التي تُطلعنا على أهوالها الوفياتُ التي نشاهدها كل يوم في كل مكان، فسأبينها لكم في مثال، مثلما بينتُها لشبان آخرين من أمثالكم:

تصوروا ههنا -مثلا- أعوادا نُصبت أمامكم للمشنقة، وبجانبها دائرةٌ توزع جوائزَ سخيةً كبرى للمحظوظين.. ونحن الأشخاص العشرة هنا سنُدعى إلى هناك طوعا أو كرها. ولكن لأَنَّ زمان الاستدعاء مخفي عنّا، فنحنُ في كل دقيقة بانتظار مَن يقول لكلٍ منا: تعالَ.. تَسلَّمْ قرار إعدامك، واصعد المشنقة!. أو يقول: تعالَ خذ بطاقة تربحك ملايين الليراتِ الذهبيةِ.!

وبينا نحن واقفون منتظرون، إذا بشخصين حضرا لدى الباب. أحدهما امرأة جميلة لعوب شبه عارية تحمل في يدها قطعة من الحلوى، تقدّمها إلينا تبدو أنها شهية، ولكنها مسمومة في حقيقتها.

أما الآخر فهو رجل وقور كيّس -ليس خِبا ولا غِرّا- دخل على إثْرِ تلك المرأة وقال: لقد أتيتكم بِطلْسمٍ عجيب، وجئتكم بدرس بليغ، إذا قرأتم الدرس ولم تأكلوا من تلك الحلوى، تنجون من المشنقة، وتتســلَّمون -بهذا الطلســم- بطاقةَ تلك الجائــزةِ الثمينة.. فها أنتم أُولاء تــرون بأُم أَعينكم أَن مَن يأكل تلك الحلوى، يتلوّى من آلام البطن حتى يصعد المشنقة.

أما الفائزون ببطاقة الجائزة، فمع أنهم محجوبون عنّا، ويَبدون أنهم يصعدون منصّة المشنقة إلّا أَنَّ أكثر من ملايين الشهود يخبرون بأَنهم لم يُشنَقوا، وإنما اتخذوا أَعواد المشنقة سُلّما للاجتياز بسهولة ويسر إلى دائرة الجوائز.

فهيا انظروا من النوافذ، لتروا كيف أَنَّ كبار المسؤولين المُشرِفين على توزيع تلك الجوائز ينادون بأَعلى صوتهم قائلين:

«إنّ أَصحاب ذلك الطِّلْسم العجيب قد فازوا ببطاقة الجوائز.. اعلموا هذا يقينا كما رأيتم بعين اليقين أُولئك الذاهبين إلى المشنقة، فلا يساوِرنَّكم الشكُّ في هذا، فهو واضح وضوح الشمس في رابعة النهار».

وهكذا على غرار هذا المثال:

فإنَّ مُتع الشباب وملذاته المحظورةَ شرعا كالعسل المسموم.. وَغَدَا الموتُ لدى الذي فقَدَ بطاقةَ الإيمان التي تُربحه السعادةَ الأَبدية كأَنَّه مشنقة، فينتظر جَلّادُ الأَجل الذي يُمكن أَنْ يحضر كلَّ لحظة -لخفاء وقته عنا- ليقطع الأعناق دون تمييز بين شاب وشيخ.. فيُرديه إلى حفرة القبر الذي هو باب لظلماتٍ أَبدية كما هو في ظاهره..

ولكن إذا ما أَعرض الشاب عن تلك الملذات المحظورة الشبيهة بالعسل المسموم وضرب عنها صفحا، وبادر إلى الحصول على ذلك الطلسم القرآني وهو الإيمان وأَداءُ الفرائض، فإنَّ مائةً وأربعةً وعشرينَ ألفا من الأنبياء عليهم السلام، وما لا يُعدُّ ولا يُحصى من الأولياء الصالحين والعلماء العاملين يخبرون ويبشّرون بالاتفاق مظهرين آثارَ ما يخبرون عنه بأَنَّ المؤمن سيفوز ببطاقة تُكسبه كنوزَ السعادة الأَبدية.

حاصل الكلام: إن الشباب سيذهب حتما وسيزول لا محالة؛ فإن كان قد قضى في سبيل الملذات ونشوة الطيش والغرور؛ فسيورث آلاف البلايا والآلام والمصائب الموجعة سواء في الدنيا أو الآخرة.

وإن كنتم ترومون أن تفهموا بأن أمثال هؤلاء الشباب سيؤول حالُهم في غالب الأمر إلى المستشفيات، بسبب تصرفاتهم الطائشة وإسرافاتهم وتعرضهم لأمراض نفسية.. أو إلى السجون وأماكن الإهانة والتحقير، بسبب نـزواتهم وغرورهم.. أو إلى الملاهي والخمّارات بسبب ضِيْقِ صدورهم من الآلام والاضطرابات المعنوية والنفسية التي تنتابهم.. نعم، إنْ شئتم أنْ تتيقنوا من هذه النتائج فاسأَلوا المستشفياتِ والسجونَ والمقابرَ.. فستسمعون بلا شك من لسان حال المستشفيات الأَنّات والآهات والحسرات المنبعثة من أمراض نَجَمَتْ من نـزوات الشباب وإسرافهم في أمرهم.. وستسمعون أيضا من السجون صيحات الأسى وأصوات الندم وزفرات الحسرات يطلقها أولئك الشبان الأَشقياء الذين انساقوا وراءَ طيشهم، وغرورهم فتلقّوا صفعة التأديب لخروجهم على الأَوامر الشرعية، وستعلمون أيضا أَنَّ أكثرَ ما يُعذَّب المرءُ في قبره -ذلك العالم البرزخي الذي لا تهدأ أبوابُه عن الانفتاح والانغلاق لكثرة الداخلين فيه- ما هو إلّا بما كسبت يداه من تصرفات سيئة في سِنِيِّ شبابه، كما هو ثابت بمشاهدات أهلِ كشفِ القبورِ، وشهادةِ جميع أهل الحقيقة والعلم وتصديقهم.

واسألوا -إنْ شئتم- الشيوخَ والمرضى الذين يمثلون غالبية البشرية، فستسمعون أنَّ أكثريتهم المطلقة يقولون:

«وا أَسَفَى على ما فات! لقد ضيّعنا ربيعَ شبابنا في أمور تافهة، بل في أمور ضارة! فإياكم إياكم أَنْ تُعيدوا سيرتَنا، وحَذارِ حَذارِ أن تفعلوا مثلَنا!».

ذلك لأَنَّ الذي يُقاسي سنواتٍ من الغمِّ والهمِّ في الدنيا، والعذابَ في البرزخ، ونارَ سَقَرَ في الآخرة، لأجل تمتع لا يدوم خمسَ أو عَشْرَ سنوات من عمر الشباب بملذات محظورة.. غيرُ جدير بالإشفاق، مع أَنَّه في أَشدّ الحالات استدرارا للشفقة والرثاء؛ لأَنَّ الذي يرضى بالضرر وينساق إليه طوعا، لا يستحق الإشفاق عليه ولا النَظرَ إلى حاله بعين الرحمة، وِفْقَ القاعدة الحكيمة: «الراضي بالضرر لا يُنظر له».

حفظنا الله وإياكم من فتنة هذا الزمان المغرية ونجّانا من شرورها.. آمِينَ

* * *