[حقيقة تقطع دابر الاعتراضات]

إخوتي الأعزاء الأوفياء طلاب رسائل النور!

لقد اضطررت إلى بيان حقيقة تقطع دابر الاعتراضات التي تضر بالضعفاء من طلاب رسائل النور بمثل اعتراض الشيخ الذي لا يخطر على بال.

أكرر مرة أخرى ما قلته لأحدهم: إنه لمن الأسف والعجب والحيرة أن يضيّع أهلُ الحقيقة القوةَ الخارقة في الاتفاق، فيُغلَبون على أمرهم، بينما يتفق أهلُ النفاق والضلالة -رغم اختلاف مشاربهم- للحصول على قوة ذات أهمية في الاتفاق. ومع أنهم لا يتجاوزون عشرة بالمائة إلاّ أنهم يغلِبون التسعين بالمائة من أهل الحقيقة.

وإن أكثر ما يثير العجب ويزيد الحيرة هو أننا بينما كنا ننتظر العون الكبير والحث العظيم منهم -وهم المكلفون بهذه المعاونة إسلاميا ومسلكا وأداءً للواجب الديني- نجدهم لا يمدون يدَ المعاونة إلينا، بل بدأ الشيخ بالاعتراض بناء على فهم خطأ بما يورث الفتور لدى طلاب رسائل النور مستندا إلى أهمية موقعه الاجتماعي. فاعترض على إيضاحات تخص حقيقة.

إنني لا أعرف أية مسألة قد اعتُرض عليها ولأية آية كريمة تخص. ولعلها تخصّ مسألة من رسالة الإشارات القرآنية المسماة بـ«الشعاع الأول» الذي اتخذناه رسالة خاصة جدا وسرية.

فأخوكم هذا العاجز يبين لذلك الصديق الفاضل القديم ولأهل العلم ولكم كذلك ما يأتي: إن سعيدا الجديد -بفيض القرآن المبين- يذكر من البراهين المنطقية والحقيقية الكثيرة التي تخص الحقائق الإيمانية بحيث لا يلجئ علماءَ الإسلام إلى التسليم وحدَهم بل حتى أعتى فلاسفة أوروبا العنيدين أيضا.

إنه من شأن القرآن الكريم وإعجازه العظيم ومن مقتضى البلاغة المعجزة للسان الغيب، أن تَرِد فيه رموزٌ وإيماءات لجلب الأنظار إلى رسائل النور -التي هي معجزته المعنوية في هذا الزمان- بمثل إخبارات الإمام علي رضي الله عنه والشيخ الكيلاني (قدس سرّه) الواردة بِطَرزٍ إشاريّ ورمزيّ حول أهمية رسائل النور وقيمتها.

نعم، ففي سجن «أسكي شهر» وفي وقت رهيب حيث كنا أحوج ما نكون إلى سلوان قدسي خطر على القلب ما يأتي: إنك تبين شهوداً من كلام الأولياء السابقين على أحقية رسائل النور وقبولها بينما بمضمون الآية الكريمة: ﴿وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ اِلَّا في كِتَابٍ مُبينٍ﴾ (الأنعام:59). فإن صاحب الكلام في هذه المسألة هو القرآن الكريم. فهل يَقبل القرآن الكريم ويرضى بـرسائل النور؟ وكيف ينظر إليها؟

واجهتُ هذا السؤال العجيب، واستمددت من القرآن الكريم، وإذا بي أشعر في ظرفِ ساعةٍ أن رسائل النور فردٌ داخل ضمنِ كليّةِ المعنى الإشاري الذي يمثل طبقة واحدة من طبقات التفرعات للمعنى الصريح لثلاث وثلاثين آية كريمة، وعرفتُ قرينة قوية على دخولها في ذلك المعنى وتخصيصها، فشاهدتُ قسماً منها بشيء من الوضوح وقسماً آخر مجملاً. فلم تبق في قناعتي أيّة شبهة وشك ووهم ووسوسة. وأنا بدوري دوّنتُ قناعتي القاطعة تلك وأعطيتها إخوتى الخواص على شرط سرّيّتها بنية الحفاظ على إيمان أهل الإيمان برسائل النور. فنحن لا نقول في تلك الرسالة: إن المعنى الصريح للآية الكريمة هو هذا، حتى يقول العلماء: فيه نظر! ولم نقل فيها: إن كلية المعنى الإشاري هي هذه. بل نقول: إن تحت المعنى الصريح للآية الكريمة طبقاتٍ متعددة من المعاني، إحدى هذه الطبقات هي المعنى الإشاري والرمزي. فهذا المعنى الإشاري أيضاً هو كليّ له جزئيات في كل عصر. فـرسائل النور فردٌ في هذا العصر من أفرادِ كليةِ طبقة المعنى الإشاري ذاك. وقد جرى بين العلماء منذ القدم دستور حساب الجُمّل والجفر -حساب الأبجدية- لإيجاد القرائن والحجج، فهذا الطرز من الحساب لا يخدش الآية الكريمة ولا يجرح معناها الصريح، بل قد يكون وسيلة لبيان إعجاز القرآن وعظمة بلاغته. فلا اعتراض على هذه الإشارات الغيبية، إذ الذي لا يستطيع إنكار ما لا يعد ولا يحصى من استخراجات أهل الحقيقة من الإشارات القرآنية التي لا تحصى، لا ينبغي له أن ينكر هذا بل لا يمكنه ذلك.

أما استغراب ذلك المعترض واستبعاده ظهورَ مثل هذا السفر النفيس -رسائل النور- من رجل اعتيادي غير ذي بال، فإنه إذا ما فكّر بالدليل على عظمة القدرة الإلهية التي تخلق شجرةً ضخمة من بُذيرة الصنوبر. فلاشك أنه يضطر إلى قبول ظهور مثل هذا الأثر، ممن هو في العجز المطلق والفقر المطلق وفي ظرف الحاجة الشديدة مثل هذا الوقت دليلا على الرحمة الإلهية الواسعة.

إني أُطَمئنكم وأُطمئن المعترضين -بالشرف الرفيع لرسائل النور- أن هذه الإشارات وإخبارات ورموز الأولياء ذات الإيماءات قد ساقتني دائما إلى الشكر والحمد لله وإلى الاستغفار من ذنوبي. ولم يحصل أنْ أورثتْ ما يمكن أن يكون مدار فخر وغرور وأنانية للنفس الأمارة بالسوء في أي وقت كان. ولا في أية دقيقة كانت. وأثبتُّ ذلك بترشحات حياتي الماثلة أمامكم منذ عشرين سنة.

وفضلا عن هذه الحقيقة فإن الإنسان لا يخلو من القصور والنسيان والسهو، فلي ذنوبٌ كثيرة أجهلها. وربما قد تَدَخَّل فكري وأوجد أخطاءً في الرسائل.

ولكن هذا المعترض لا يبالي بتغير الحروف القرآنية المقدسة إلى حروف أخرى ناقصة، وقيامهم بوضع ترجمة بشرية ناقصة للقرآن الكريم ومحرّفة ومملوءة بالتأويلات الفاسدة لأهل الضلالة والتي خدشت معاني الآيات الصريحة للقرآن… لا يبالي بهذا ولكنه يركّز نظرَه على شخص ضعيف مظلوم بيّنَ نكتةً إعجازية ليقوّي بها إيمانَ إخوته، فيعترضُ عليه بما يورث الفتور لخدمة الإيمان. علما أن نقطة اعتراضه لا يمكن أن يَعترض عليها من كان يملك ذرة من الإنصاف.

وإنه لمن دواعي حيرتي وعجَبي أنّ ذلك المعترض الفاضل هو تلميذُ أستاذٍ من أساتذتي القديرين في السلسلة العلمية وهو «الشيخ فهيم». وهو أحد طلاب الإمام الرباني رضي الله عنه الذي أرتبطُ به أشد ارتباط، فكان عليه أن يسعى أكثر من غيره لمعاونتي بكل ما لديه من قوة، دون الالتفات إلى ذنوبي وحياتي الماضية المتداخلة المضطربة وإلى انفعالاتي، إلّا أن اعتراضه مع الأسف قد أورث -كما سمعنا- الفتورَ لدى بعض أصدقائنا الضعفاء، وسلّم بيد أهل الضلالة ما يشبه الحجة.

إننا ننتظر من ذلك الشيخ الفاضل تلافيَ سوء الفهم هذا والسعيَ لتعميره، ونأمل معاونته لنا بدعواته ونصائحه البليغة المؤثرة. علاوة على ذلك أُبين ما يأتي:

في هذا الوقت الذي يبدو في الظاهر انحسارُ وتقهقر تلك المشارب والمسالك الحقة القوية جدا -والتي ينضوي تحت لوائها الملايينُ من المؤمنين المستعدين لكل تضحية- أمام الهجوم العنيف لهذه الضلالة. تحمّلتْ رسالة النور جميع تلك الهجمات، وحملت على عاتقها الأعباءَ كافة فشقّت طريقَها سابقةً الجميعَ في طريق الإيمان. لذا، لا يمكن أن تُسنَد هذه الرسائلُ إلى رجل عاجز نصف أمّي قضى حياته بين المنفى والسجن وتحت رقابة سلطات الدولة، وقيامُها بتنفير الناس من حوله بالدعايات المغرضة. فمثل هذا الرجل لا يمكن أن يكون مالكا لها. ولا يمكن أن يفتخر بها أو يدّعيها، فهي ليست نابعةً من ذكائه ومهارته، بل هي معجزةٌ من معجزات القرآن الكريم لهذا الزمن وهبَتها الرحمةُ الإلهية. وكل ما في الأمر أن هذا الرجل وآلافا من أصدقائه قد مدّوا أيديهم إلى تلك الهدية الغالية النفيسة، فوقع الخيار عليه في بيانها.

والدليل على أن الرسائل ليست من بنات أفكاره أن هناك من الرسائل ما قد كُتبت في ست ساعات وأخرى في ساعتين، وبعضها في ساعة واحدة وأخرى في عشر دقائق.

فأنا أقسم أنه لو كان لي حدّة ذكاء سعيد القديم وقوة حافظته لَمَا تمكنتُ أن أكتب في عشر ساعات ما كُتب آنذاك في عشر دقائق ولا يمكنني أن أكتب في يومين ما كُتب في ساعة.

فالرسالة التي تبحث في ماهية «أنا» (الذات الإنسانية) والتي كُتبت في ست ساعات لا يمكن أن تُكتب لا من قِبَلي ولا من قبل الفلاسفة والعباقرة الباحثين، في ستة أيام. وهكذا.

فنحن إذن مع أننا مفلسون ليس لنا شيء. إلّا أننا أصبحنا خدّاما ودلالين في معرض أغلى المجوهرات.

نسأل المولى الكريم أن يوفقنا وجميع طلاب رسائل النور -بفضله وكرمه- في هذه الخدمة بإخلاص تام. آمين.

* * *

بيان موجز لإعجاز القرآن([1])

رأيت في الماضي فيما يرى النائم: أنني تحت جبل «آرارات». انفلق الجبل على حين غرة، وقذف صخورا بضخامة الجبال إلى أنحاء العالم، فهزّ العالم وتزلزل.

وفجأةً وقف بجنبي رجل، قال لي: بيِّن بإيجازٍ ما تعرفه مجملا من أنواع الإعجاز.. إعجازِ القرآن.

فكرتُ في تعبير الرؤيا، وأنا ما زلت فيها وقلت:

إن ما حدث هنا من انفلاق مثالٌ لما يحدث في البشرية من انقلاب، وسيكون هدى القرآن بلا ريب عاليا ومهيمنا في هذا الانقلاب. وسيأتي يوم يبين فيه إعجازه.

أجبتُ ذلك السائل قائلا: إن إعجاز القرآن يتجلى من سبعة منابع كلية، ويتركب من سبعة عناصر.

المنبع الأول: سلاسة لسانه من فصاحة اللفظ؛ إذ تنشأ بارقة بيانه من جزالة النظم، وبلاغة المعنى، وبداعة المفاهيم، وبراعة المضامين، وغرابة الأساليب. فيتولد نقش بياني عجيب، وصنعة لسان بديع، من امتزاج كل هذه في نوع إعجاز لا يملّ الإنسان من تكراره أبدا.

أما العنصر الثاني: فهو الإخبار السماوي عن الغيوب في الحقائق الغيبية الكونية والأسرار الغيبية للحقائق الإلهية. فمن أمور الغيب المنطوية في الماضي، ومن الأحوال المستترة الباقية في المستقبل تنشأ خزينة علم الغيوب. فهو لسان عالم الغيوب يتكلم مع عالم الشهادة في أركان «الإيمان» يبينها بالرموز، والهدف هو نوع الإنسان، وما هذا إلّا نوع من لمعة نورانية للإعجاز.

أما المنبع الثالث فهو: أنَّ للقرآن جامعية خارقة من خمس جهات: في لفظه، في معناه، في أحكامه، في علمه، في مقاصده.

لفظه: يتضمن احتمالات واسعة ووجوها كثيرة بحيث إن كل وجهٍ تستحسنه البلاغة، ويستصوبه علم اللغة العربية، ويليق بسر التشريع.

في معناه: لقد أحاط ذلك البيان المعجز بمشارب الأولياء وأذواق العارفين ومذاهب السالكين، وطرق المتكلمين، ومناهج الحكماء، بل قد تضمن كلَّها. ففي دلالاته شمولٌ وفي معناه سعة.

فما أوسع هذا الميدان إن أطللت من هذه النافذة!.

الاستيعاب في الأحكام: هذه الشريعة الغراء قد اُستنبطتْ منه، إذ قد تضمن طرازُ بيانه جميعَ دساتير سعادة الدارين، ودواعي الأمن والاطمئنان، وروابطِ الحياة الاجتماعية، ووسائل التربية، وحقائق الأحوال.

استغراق علمه: لقد ضم ضمن سُورِ سُوَرِه العلومَ الكونية والعلوم الإلهية، مراتبَ ودلالاتٍ ورموزا وإشارات.

في المقاصد والغايات: لقد راعى الرعايةَ التامة في الموازنة والاطراد والمطابقة لدساتير الفطرة، والاتحاد في المقاصد والغايات، فحافظ على الميزان.

وهكذا الجامعية الباهرة في إحاطة اللفظ وسعة المعنى واستيعاب الأحكام واستغراق العلم وموازنة الغايات.

أما العنصر الرابع: فإفاضته النورانيةَ حسب درجة فهمِ كلِّ عصر، ومستوى أدب كل طبقة من طبقاته وعلى وفق استعدادها ورتب قابليتها.

فبابُه مفتوح لكل عصر ولكل طبقة من طبقاته، حتى كأن ذلك الكلام الرحماني ينـزل في كل مكان في كل حين.

فكلما شاب الزمان شبّ القرآنُ وتوضحت رموزه، فذلك الخطيب الإلهي يمزق ستار الطبيعة وحجاب الأسباب فيفجّر نورَ التوحيد من كل آية، في كل وقت. رافعا راية الشهادة شهادة التوحيد على الغيب.

إن علو خطابه يلفت نظر الإنسان ويدعوه إلى التدبّر؛ إذ هو لسان الغيب يتكلم بالذات مع عالم الشهادة.

يُخلَص من هذا العنصر: أن شبابيته الخارقة شاملة محيطة، وأنسيته جعلته محبوب الإنس والجان، وذلك بالتنـزلات الإلهية إلى عقول البشر لتأنيس الأذهان، والمتنوعة بتنوع أساليب التنـزيل.

أما المنبع الخامس: فنُقولُه وأخبارُه في أسلوب بديع غزير المعاني، فينقل النقاط الأساس للأخبار الصادقة كالشاهد الحاضر لها. ينقل هكذا لينبّه بها البشر.

ومنقولاته هي الآتية: أخبار الأولين وأحوال الآخرين وأسرار الجنة والجحيم، حقائق عالم الغيب، وأسرار عالم الشهادة، والأسرار الإلهية والروابط الكونية. تلك الأخبار المشاهَدة شهود عيان حتى انه لا يردّها الواقع ولا يكذّبها المنطق بل لا يستطيع ردّها أبدا ولو لم يدركها.

فهو مَطمَح العالم في الكتب السماوية، إذ يَنقل الأخبار عنها مصدّقا بها في مظان الاتفاق، ويبحث فيها مصححا لها في مواضع الاختلاف.

ألا إنه لمعجزة هذا الزمان أن يصدر مثل هذه الأمور النقلية من «أميّ»!

أما العنصر السادس: فهو أنه مؤسس دين الإسلام ومتضمنه. ولن تجد مثل الإسلام إن تحريت الزمان والمكان، لا في الماضي ولا في المستقبل. إنه حبل الله المتين، يمسك الأرض لئلا تفلت، ويديرها دورانا سنويا ويوميا. فلقد وَضع وَقارَه وثقله على الأرض، وساسها وقادها وحال بينها وبين النفور والعصيان.

أما المنبع السابع: فإن الأنوار الستة المفاضة من هذه المنابع الستة يمتزج بعضها مع بعض، فيَصدر شعاعُ حُسنٍ فائق، ويتولد حدس ذهني، وهو الوسيلة النورانية.

والذي يصدر عن هذا: ذوق، يُدرَك به الإعجاز.

لساننا يعجز عن التعبير عنه، والفكر يقصر دونه.

فتلك النجوم السماوية تُشاهَد ولا تُستمسك.

طوال ثلاثة عشر قرنا من الزمان يحمل أعداءُ القرآن روح التحدي والمعارضة..

وتولدت في أوليائه وأحبائه.. روحُ التقليد والشوق إليه.

وهذا هو بذاته برهان للإعجاز، إذ كُتبت من جراء هاتين الرغبتين الشديدتين ملايينُ الكتب بالعربية، فلو قورنتْ تلك الملايينُ من الكتب مع القرآن الكريم، لقال كلُّ من يشاهد ويسمع، حتى أكثرُ الناس عامية، دونك الذكي الحكيم:

إنَّ هذه الكتب بشرية.. وهذا القرآن سماوي.

وسيحكم حتما:

إنَّ هذه الكتب كلها لا تشبه هذا القرآن ولا تبلغ شأوه قطعا.

لذا فإما أنه أدنى من الكل. وهذا معلوم البطلان وظاهر بالبداهة.

إذن فهو فوق الكل.

ولقد فتح أبوابه على مصراعيه للبشر ونشر مضامينه أمامهم طوال هذه المدة الطويلة. ودعا لنفسه الأرواح والأذهان.

ومع هذا لم يستطع البشرُ معارضتَه، ولا يمكنهم ذلك. فلقد انتهى زمن الامتحان.

إن القرآن لا يقاس بسائر الكتب ولا يشبهها قطعا.

إذ نـزل في عشرين سنة ونيف نجما نجما -لحكمة ربانية- لمواقع الحاجات نـزولا متفرقا متقطعا. ولأسبابِ نـزول مختلفة متباينة، وجوابا لأسئلة مكررة متفاوتة، وبيانا لحادثات أحكام متعددة متغايرة، وفي أزمانِ نـزولٍ مختلفة متفارقة، وفي حالاتِ تَلَقٍّ متنوعة متخالفة، ولأفهامِ مخاطبين متعددة متباعدة، ولغايات إرشاداتٍ متدرجة متفاوتة.

وعلى الرغم من هذه الأسس فقد أظهر كمال السلاسة والسلامة والتناسب والتساند في بيانه وجوابه وخطابه، ودونك علم البيان وعلم المعاني.

وفي القرآن خاصية لا توجد في أي كلام آخر: لأنك إذا سمعت كلاما من أحدٍ فإنك ترى صاحب الكلام خلفه أو فيه؛ فالأسلوب مرآة الإنسان.

أيها السائل المثالي!

لقد أردت الإيجاز، وها قد أشرتُ إليه.

وإن شئت التفصيل، فذلك فوق حدّي وطوقي. أتَقدِرُ الذبابة على مشاهدة السماوات؟

وقد بيّن كتاب «إشارات الإعجاز» واحدا من أربعين نوعا من ذلك الإعجاز، ولم تفِ مائةُ صفحة من تفسير لبيانِ نوع واحد.

بل أنا الذي أريد منك التفصيل، فقد تفضّل المولى عليك بفيضٍ من إلهامات روحية.

لا تبلغ يد الأدب الغربي ذي الأهواء والنـزوات والدهاء

شأن أدب القرآن الخالد ذي النور والهدى والشفاء.

إذ الحالة التي ترضى الأذواق الرفيعة للكاملين من الناس وتُطَمئنهم، لا تَسرّ أصحابَ الأهواء الصبيانية وذوي الطبائع السفيهة، ولا تسلّيهم. فبناءً على هذه الحكمة؛

فإن ذوقا سفيها سافلا، تَرعرَع في حمأة الشهوة والنفسانية، لا يستلذ بالذوق الروحي، ولا يعرفه أصلا.

فالأدب الحاضر؛ المترشح من أدبِ أوروبا، عاجز عن رؤيةِ ما في القرآن الكريم من لطائف عالية ومزايا سامية، من خلال نظرته الروائية، بل هو عاجز عن تذوقها، لذا لا يستطيع أن يجعل معياره محكّا له.

والأدب يجول في ثلاثة ميادين، دون أن يحيد عنها:

ميدان الحماسة والشهامة..

ميدان الحسن والعشق..

ميدان تصوير الحقيقة والواقع..

فالأدب الأجنبي:

في ميدان الحماسة؛

لا ينشد الحق، بل يلقّن شعور الافتتان بالقوة بتمجيده جَور الظالمين وطغيانهم.

وفي ميدان الحسن والعشق؛

لا يعرف العشقَ الحقيقي، بل يغرز ذوقا شهويا عارما في النفوس.

وفي ميدان تصوير الحقيقة والواقع؛

لا ينظر إلى الكائنات على أنها صنعة إلهية، ولا يراها صبغة رحمانية، بل يحصر همه في زاوية الطبيعة ويصور الحقيقة في ضوئها، ولا يقدر الفكاك منها.. لذا يكون تلقينه عشقَ الطبيعة، وتأليه المادة، حتى يمكِّن حبَّها في قرارة القلب، فلا ينجو المرء منه بسهولة.

ثم إن ذلك الأدب المشوب بالسفه، لا يغني شيئا عن اضطرابات الروح وقلقها الناشئة من الضلالة والواردة منه أيضا، ولربما يهدئها وينوّمها.

وفي حسبانه أنه قد وجد حلا، وكأن العلاج الوحيد هو رواياته. وهي:

في كتابٍ.. ذلك الحي الميت.

وفي سينما.. وهي أموات متحركة.

وفي مسرح.. الذي تُبعث فيه الأشباح وتُخرج سراعا من تلك المقبرة الواسعة المسماة بالماضي!

هذه هي أنواعُ رواياته.

وأنّى للميت أن يهب الحياة!..

وبلا خجل ولا حياء!.. وَضَعَ الأدب الأجنبي لسانا كاذبا في فم البشر.. وركّب عينا فاسقة في وجه الإنسان.. وألبس الدنيا فستان راقصة ساقطة.

فمن أين سيعرف هذا الأدبُ؛ الحُسنَ المجرد.

حتى لو أراد أن يُري القارئ الشمسَ؛ فإنه يذّكره بممثلة شقراء حسناء.

وهو في الظاهر يقول: «السفاهة عاقبتها وخيمة، لا تليق بالإنسان»..

ثم يبين نتائجها المضرة..

إلاّ أنه يصورها تصويرا مثيرا إلى حد يسيل منه اللعاب، ويفلت منه زمام العقل، إذ يضرم في الشهوات، ويهيج النـزوات. حتى لا يعود الشعور ينقاد لشيء.

أما أدب القرآن الكريم:

فإنه لا يحرك ساكن الهوى ولا يثيره، بل يمنح الإنسان الشعور بنشدان الحق وحبه، والافتتان بالحسن المجرد، وتذوّق عشق الجمال، والشوق إلى محبة الحقيقة.. ولا يخدع أبدا.

فهو لا ينظر إلى الكائنات من زاوية الطبيعة، بل يذكرها صنعةً إلهية، صبغة رحمانية، دون أن يحيّر العقول.

فيلقّن نور معرفة الصانع..

ويبين آياته في كل شيء..

والأدبان.. كلاهما يورثان حزنا مؤثرا. إلّا أنهما لا يتشابهان.

فما يورثه أدب الغرب هو حزن مهموم، ناشئ من فقدان الأحباب، وفقدان المالك. ولا يقدر على منح حزن رفيع سامٍ؛ إذ استلهام الشعور من طبيعة صماء، وقوة عمياء يملؤه بالآلام والهموم حتى يغدو العالَم مليئا بالأحزان، ويلقي الإنسان وسط أجانب وغرباء دون أن يكون له حامٍ ولا مالك! فيظل في مأتمه الدائم.. وهكذا تنطفئ أمامه الآمال. فهذا الشعور المليء بالأحزان والآلام يهيمن على كيان الإنسان، فيسوقه إلى الضلال وإلى الإلحاد وإلى إنكار الخالق.. حتى يصعب عليه العودة إلى الصواب، بل قد لا يعود أصلا.

أما أدب القرآن الكريم: فإنه يمنح حزنا ساميا علويا، ذلك هو حزن العاشق، لا حزن اليتيم.. هذا الحزن نابع من فراق الأحباب، لا من فقدانهم… ينظر إلى الكائنات؛ على أنها صنعة إلهية، رحيمة، بصيرة بدلا من طبيعة عمياء. بل لا يذكرها أصلا، وإنما يبين القدرة الإلهية الحكيمة، ذات العناية الشاملة، بدلا من قوة عمياء.

فلا تلبس الكائناتُ صورةَ مأتم موحش، بل تتحول -أمام ناظريه- إلى جماعة متحابّة، إذ في كل زاوية تجاوب. وفي كل جانب تحابب. وفي كل ناحية تآنس.. لا كدر ولا ضيق.

هذا هو شأن الحزن العاشقي.

وسط هذا المجلس يستلهم الإنسان شعورا ساميا، لا حزنا يضيق منه الصدر.

الأدبان.. كلاهما يعطيان شوقا وفرحا.

فالشوق الذي يعطيه ذلك الأدب الأجنبي؛ شوق يهيج النفس، ويبسط الهوس.. دون أن يمنح الروح شيئا من الفرح والسرور.

بينما الشوق الذي يهبه القرآن الكريم؛ شوق تهتز له جنبات الروح، فتعرج به إلى المعالي.

وبناءً على هذا السر: فقد نهت الشريعة الغراء عن اللهو وما يُلهي.. فحرّمت بعض آلات اللهو، وأباحت أخرى.

بمعنى: أن الآلة التي تؤثر تأثيرا حزينا حزنا قرآنيا وشوقا تنزيليا، لا تضر. بينما إن أثرت في الإنسان تأثيرا يتيميا وهيّجت شوقا نفسانيا شهويا. تحرم الآلة.

تتبدل حسب الأشخاص هذه الحالة..

والناس ليسوا سواء

* * *

[الكسب المعنوي الجماعي]

باسمه سبحانه

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

إخوتي الأعزاء الأوفياء!

إن الدليل القاطع على أن كل طالب صادق لرسائل النور سيكسب ذلك الكسب الخارق النابع من سرّ ليلة القدر، والتي يَكسب فيها المرء ثلاثا وثمانين سنة من عمر معنوي، ومن سر الإخلاص والتساند والاشتراك في الأعمال الأخروية الجارية بين طلاب رسائل النور، هو الاحتمال القوي أن لا يكسب ذلك الكسبَ الخارق واحدٌ أو اثنان أو عشرة أو عشرون، بل مئات ضمن دائرة النور التي تضم أربعين ألفا بل مائة ألف من المؤمنين الحقيقيين الخالصين. فبسرّ الإخلاص وبدستور الاشتراك في الأعمال الأخروية نتوجه نحن وأنتم كذلك إلى هذه الحقيقة -حقيقة ليلة القدر- فنفترض أنفسنا ضمن جميع الإخوة وكل منّا يتكلم باسم الجميع في هذا الشهر المبارك، فنقول بصيغة الجمع: أجرنا، ارحمنا، واغفر لنا، ووفقنا، واهدنا، واجعل ليلة القدر في هذا الشهر شهر رمضان خيرا في حقنا من ألف شهر. وننوي في كل دعاء ضمن «نا» (ضمير الجمع) جميعَ إخواننا. وعليكم معاونة أخيكم هذا الضعيف بالذات في وظيفته المرهقة بتلك النية الخاصة.

* * *


[1] ملاحظة المترجم:

 وضع الأستاذ النُّورْسِيّ ضمن ملحق قسطموني ثلاث قطع من رسالة «اللوامع» وهي: «كل الآلام في الضلالة»، و«بيان موجز لإعجاز القرآن»، و«برهانان عظيمان للتوحيد» وذلك حسب قاعدته المذكورة في خاتمة رسالةِ «قطرة من بحر = التوحيد» من المثنوي العربي النوري، حيث يقول:

 «لأني أرى القرآن منبع كل الفيوض، وما في آثاري من محاسن الحقائق ما هو إلّا من فيض القرآن، فلهذا لا يرضى قلبي أن يخلو أثر من آثاري من ذكر نُبَذٍ من مزايا إعجاز القرآن».

 ولما كانت رسالة «اللوامع» قد نُشرت ملحقة بمجموعة «الكلمات» نكتفي هنا بإدراج إحدى تلك القطع الثلاث وهي: «بيان موجز لإعجاز القرآن». ومن شاء فليراجع القطعتين الأخريين في «اللوامع».