نكتة توحيدية في لفظ «هو»

باسمه سبحانه

﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أبدا دائما…

إخوتي الأعزاء الأوفياء!

لقد شاهدتُ -مشاهدةً آنية- خلال سياحة فكرية خيالية، لدى مطالعة صحيفة الهواء من حيث جهته المادية فقط، نكتةً توحيدية ظريفة تولدت من لفظ «هو» الموجود في «لا إله إلّا هو» وفي ﴿قُلْ هُوَ اللّٰهُ اَحَدٌۚ﴾ ورأيت فيها أن سبيلَ الإيمان سهلٌ ويسير إلى حد الوجوب بينما سبيلُ الشرك والضلالة فيه من المحالات والمعضلات إلى حد الامتناع.

سأبين بإشارة في منتهى الاختصار تلك النكتةَ الظريفة الواسعة الطويلة.

نعم، إن حفنة من تراب، يمكن أن تكون موضعَ استنبات مئات من النباتات المزهرة إنْ وُضعتْ فيها متعاقبةً. فإن أُحيل هذا الأمر إلى الطبيعة والأسباب يلزم؛ إما أن تكون في تلك الحفنة من التراب مئاتٌ من المصانع المصغرة المعنوية، بل بعدد الأزهار.. أو أن كلَّ ذرة من ذرات تلك الحفنة من التراب تعلم بناءَ تلك الأزهار المتنوعة وتركيبها بخصائصها المتنوعة وأجهزتها الحيوية، أي لها علمٌ محيط وقدرة مطلقة بما يشبه علم الإله وقدرته!!.

وكذلك الهواء الذي هو عرشٌ من عروش الأمر والإرادة الإلهية؛ فلكلِّ جزء منه، من نسيم وريح، بل حتى للهواء الموجود في جزء من نَفَس الإنسان الضَّئيل عندما ينطق بكلمة «هو» وظائفُ لا تعد ولا تحصى.

فلو أُسندت هذه الوظائف إلى الطبيعة والمصادفة والأسباب؛ فإما أنه أي الهواء يحمل بمقياس مصغر مـراكزَ بثٍ واستقبال لجميع ما فـي العالم من أصـوات ومكالمات في التلغراف والتلفون والراديو مع ما لا يحد من أنواع الأصوات للكلام والمحادثات، وأن يكون له القدرة على القيام بتلك الوظائف جميعِها في وقت واحد.. أو أن ذلك الجزءَ من الهواء الموجود في كلمة «هو»، وكلَّ جزء من أجزائه وكل ذرة من ذراته، لها شخصياتٌ معنوية، وقابليات بعدد كل مَن يتكلم بالتلفونات وجميع مَن يبث من البرقيات المتنوعة وجميع مَن يذيع كلاما من الراديوات، وأن تَعلَم لغاتِهم ولهجاتهم جميعا، وتُعَلِّمَه في الوقت نفسه الذراتِ الأخرى، وتنشرَه وتبثه. حيث إن قسما من ذلك الوضع مشهود أمامنا، وأن أجزاء الهواء كلها تحمل تلك القابلية.. إذن فليس هناك محال واحد في طريق الكفر من الماديين الطبيعيين بل محالات واضحة جلية ومعضلات وإشكالات بعدد ذرات الهواء.

ولكن إن أُسند الأمر إلى الصانع الجليل، فإن الهواء يصبح بجميع ذراته جنديا مستعدا لتلقي الأوامر. فعندئذٍ تقوم ذراتُه بأداء وظائفها الكلية المتنوعة والتي لا تحد، بإذن خالقها وبقوته وبانتسابها واستنادها إليه سبحانه، وبتجلي قدرة صانعها تجليا آنيا -بسرعة البرق- وبسهولةِ قيام ذرة واحدة بوظيفة من وظائفها وبيُسرِ تلفظِ كلمة «هو» وتموج الهواء فيها. أي يكون الهواءُ صحيفةً واسعة للكتابات المنسقة البديعة التي لا تحصر لقلم القدرة الإلهية، وتكون ذراتُه بدايات ذلك القلم، وتصبح وظائف الذرات كذلك نقاط قلم القَدَر، لذا يكون الأمر سهلا كسهولة حركة ذرة واحدة.

رأيت هذه الحقيقة بوضوح تام وبتفصيل كامل وبعين اليقين عندما كنت أُشاهد عالم الهواء وأُطالع صحيفته في سياحتي الفكرية وتأملي في «لا إله إلّا هو» و ﴿قُلْ هُوَ اللّٰهُ اَحَدٌۚ﴾ وعلمت بعلم اليقين أن في الهواء الموجود في لفظ «هو» برهانا ساطعا للوحدانية مثلما أن في معناه وفي إشارته تجليا للأحدية في غاية النورانية وحجة توحيدية في غاية القوة، حيث فيها قرينةُ الإشارة المطلقة المبهمة لضمير «هو» أي إلى مَن يعود؟ فعرفت عندئذٍ لماذا يكرر القرآنُ الكريم وأهلُ الذكر هذه الكلمة عند مقام التوحيد.

نعم، لو أراد شخص أن يضع نقطة معينة -مثلا- على ورقة بيضاء في مكان معين، فإن الأمر سهل، ولكن لو طُلب منه وضع نقاط عدة في مواضع عدة في آن واحد فالأمر يستشكل عليه ويختلط. كذلك يرزح كائن صغير تحت ثقل قيامه بعدة وظائف في وقت واحد. لذا فالمفروض أن يختلط النظام ويتبعثر عند خروج كلمات كثيرة في وقت واحد من الفم ودخولها الأذن معا..

ولكني شاهدتُ بعين اليقين، وبدلالة لفظ «هو» -هذا الذي أصبح مفتاحا وبمثابة بوصلة- أن نقاطا مختلفة تعد بالألوف، وحروفا وكلماتٍ توضع -أو يمكن أن توضع- على كل جزء من أجزاء الهواء الذي أَسيح فيه فكرا، بل يمكن أن توضع كلها على عاتق ذرة واحدة من دون أن يَحدث اختلاط أو تشابك أو ينفسخ النظام، علما أن تلك الذرة تقوم بوظائف أخرى كثيرة جدا في الوقت نفسه، فلا يلتبس عليها شيء، وتحمل أثقالا هائلة جدا من دون أن تبدي ضعفا أو تكاسلا؛ فلا نراها قاصرةً عن أداء وظائفها المتنوعة واحتفاظها بالنظام؛ إذ تَرِد إلى تلك الذرات ألوفُ الألوف من الكلمات المختلفة في أنماط مختلفة وأصوات مختلفة، وتخرج منها أيضا في غاية النظام مثلما دخلت، دون اختلاط أو امتزاج ودون أن يُفسد إحداها الأخرى. فكأن تلك الذرات تملك آذانا صاغية صغيرة على قدّها، وألسنةً دقيقة تناسبها فتَدخل تلك الكلماتُ تلك الآذانَ وتخرج من ألسنتها الصغيرة تلك.. فمع كل هذه الأمور العجيبة فإن كل ذرة -وكل جـزء من الهواء- تتـجــول بحـريـة تامـة ذاكرةً خالقَها بلسان الحال وفي نشوة الجذب والوجد قائلة: «لا إله إلّا هو» و ﴿قُلْ هُوَ اللّٰهُ اَحَدٌۚ﴾ بلسان الحقيقة المذكورة آنفا وشهادتها.

وحينما تَحدث العواصفُ القوية وتدّوي أهازيجُ الرعد، ويتلمع الفضاءُ بسنا البرق، يتحول الهواء إلى أمواج ضخمة متلاطمة.. بيد أن الذرات لا تفقد نظامها ولا تتعثر في أداء وظائفها، فلا يمنعها شغلٌ عن شغل.. هكذا شاهدت هذه الحقيقة بعين اليقين.

إذن، فإما أن تكون كلُّ ذرة -وكل جزء من الهواء- صاحبةَ علم مطلق وحكمة مطلقة وإرادة مطلقة وقوة مطلقة وقدرة مطلقة وهيمنة كاملة على جميع الذرات.. كي تتمكن من القيام بأداء هذه الوظائف المتنوعة على وجهها.. وما هذه إلّا محالات ومحالات بعدد الذرات وباطل بطلانا مطلقا. بل حتى لا يذكره أي شيطان كان..

لذا فإن البداهة تقتضي، بل هو بحق اليقين وعين اليقين وعلم اليقين: أن صحيفة الهواء هذه إنما هي صحيفة متبدلة يكتب الخالقُ فيها بعلمه المطلق ما يشاء بقلم قُدرته وقَدَره الذي يحركه بحكمته المطلقة، وهي بمثابة لوحةِ محوٍ وإثبات في عالم التغيّر والتّبدل للشؤون المسطّرة في اللوح المحفوظ.

فكما أن الهواء يدل على تجلي الوحدانية بهذه الأمور العجيبة المذكورة آنفا، وذلك لدى أداء وظيفة واحدة من وظائفها وهي نقل الأصوات، ويبين في الوقت نفسه بيانا واضحا محالات الضلالة التي لا تحصر، كذلك فهو يقوم بوظائف في غاية الأهمية وفي غاية النظام ومن دون اختلاط أو تشابك أو التباس، كنقل المواد اللطيفة مثل الكهرباء والجاذبية والدافعة والضوء.. وفي الوقت نفسه يدخل إلى مداخل النباتات والحيوانات بالتنفس مؤديا هناك مهماتهِ الحياتية بإتقان، وفي الوقت عينه يقوم بنقل حبوب اللقاح -أي وظيفة تلقيح النباتات- وهكذا أمثال هذه الوظائف الأساسية لإدامة الحياة؛ مما يُثبت يقينا أن الهواء عرشٌ عظيم يأتمر بالأمر الإلهي وإرادته الجليلة. ويُثبت أيضا بعين اليقين أن لا احتمالَ قطعا لتدخل المصادفة العشواء والأسباب السائبة التائهة والموادِّ العاجزة الجامدة الجاهلة في الكتابة البديعة لهذه الصحيفة الهوائية وفي أداء وظائفها الدقيقة. فاقتنعْتُ بهذا قناعة تامة بعين اليقين، وعرفتُ أن كـل ذرة وكل جزء من الـهواء تقول بلســان حالها: «لا إله إلّا هو» و ﴿قُلْ هُوَ اللّٰهُ اَحَدٌۚ﴾ .

ومثلما شاهدت هذه الأمور العجيبة في الجهة المادية من الهواء بهذا المفتاح، أعني مفتاح «هو»، فعنصر الهواء برمته أصبح أيضا كلفظ «هو» مفتاحا لعالم المثال وعالم المعنى؛ إذ قد علمتُ أن عالم المثال كآلة تصوير عظيمة جدا تلتقط صورا لا تعد ولا تحصى للحوادث الجارية في الدنيا، تلتقطها في آن واحد بلا اختلاط ولا التباس حتى غدا هذا العالم يَضم مشاهد عظيمة وواسعة أُخروية تَسَع ألوف ألوف الدُنى، تعرض أوضاع حالات فانية لموجودات فانية وتظهر ثمار حياتها العابرة في مشاهد ولوحات خالدة تُعرض أمام أصحاب الجنة والسعادة الأبدية في معارض سرمدية مذكِّرةً إياهم بحوادث الدنيا وذكرياتهم الجميلة الماضية فيها.

فالحجة القاطعة على وجود اللوح المحفوظ وعالم المثال ونموذجِها المصغر هو ما في رأس الإنسان من قوةٍ حافظة وما يملك من قوةِ خيال، فمع أنهما لا تشغلان حجم حبة من خردل إلّا أنهما تقومان بوظائفهما على أتم وجه بلا اختلاط ولا التباس وفي انتظام كامل وإتقان تام، حتى كأنهما يحتفظان بمكتبة ضخمة جدا من المعلومات والوثائق. مما يُثبت لنا أن تينك القوتين نموذجان للّوح المحفوظ وعالم المثال.

وهكذا لقد عُلم بعلم اليقين القاطع أن الهواء والماء ولا سيما سائل النُطف، واللذان يفوقان الترابَ في الدلالة على الله -الذي أوردناه في مستهل البحث- صحيفتان واسعتان يكتب فيهما قلمُ القدَر والحكمةِ كتابة حكيمة بليغة، ويجريان فيهما الإرادة وقلم القدر والقدرة. وأن مداخلة المصادفة العشواء والقوة العمياء والطبيعة الصماء والأسباب التائهة الجامدة في تلك الكتابة الحكيمة محال في مائة محال وغير ممكن قطعا.

ألف ألف تحية وسلام إلى الجميع.

* * *

[من معاني «التشهّد»]

باسمه سبحانه

﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أبدا دائما

إخوتي الأعزاء الصادقين الأبرار!

لقد ارتأينا أن نبين لكم خلاصة الدرس الذي ألقيناه على أركان مدرسة الزهراء، بناء على رغبتهم.

وموضوعه هو: أن الرسول الأكرم فخر الكائنات وثمرة خلق العالم ﷺ قد قال ليلة المعراج في الحضرة الإلهية باسم جميع الكون بدل السلام:

«التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله» قالها، باسم البشرية جمعاء، بل باسم جميع ذوي الحياة، بل باسم عموم المخلوقات.. وأن الأمة الإسلامية تردد هذا الكلام المبارك يوميا مرات ومرات في صلواتهم لما فيه من معنى كلي.. وينال كل مؤمن -مهما كانت مرتبته في الإيمان- حظه من هذا الكلام.

ولقد ذكرنا -فيما سبق- ما في عنصر الهواء من خوارق القدرة الإلهية لدى بياننا أن الراديو نعمة إلهية، وذلك في حاشية بحث (نكتة توحيدية في لفظ «هو»)..

فلأجل كل هذا خطر على القلب: أن العبادة التي يؤديها المؤمن في هذه الدنيا القصيرة، وفي عمر قصير، والتي يثاب عليها بملك باق واسع أوسع من الدنيا في السعادة الأبدية، إنما هي عبادة كلية، ولكأن دنياه الخاصة بكاملها تؤدي معه العبادة أيضا، حيث يثاب بقدر دنياه الخاصة.. هكذا تفهم من إشارات القرآن، كما هو مذكور في رسالة «الحجة الزهراء» في المقام الثاني لدى بحث العلم الإلهي.

فعندما كنت أقرأ في التشهد «التحيات..» خطرت معانيها الكلية على روحي فتحولت فجأة -في خيالي- عناصرُ دنياي الخاصة من تراب وماء وهواء و نور، إلى أربعة ألسن كلية ذاكرة. كل منها يذكر بأحواله: «التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله» بملايين بل ببلايين بل بما لا يعد ولا يحصى من المرات.

هكذا رأيته في خيالي:

أحد هذه العناصر هو «التراب».. هذا التراب أصبح لسانا ذاكرا، وكلُّ ذي حياة غدا كلمة ذات حياة ناطقة بـ«التحيات.. لله».

وذلك: أن حفنة من تراب يمكن أن تكون موضع استنبات معظم النباتات.. فإما أن فيها من المصانع المعنوية -بمقياسٍ مصغر جداً- ما تتمكن من توليد تلك النباتات، وبعدد يفوق عدد المصانع التي نصبها الإنسان في العالم.. وهذا محال في محال، أو أن ذلك الاستنبات يحصل بقدرةِ قدير مطلق، وبعلمه المحيط وإرادته الشاملة.

فعنصر التراب إذن ينال بهذا دلالة على الله بجميع ذراته وأجزائه؛ لذا يردد: «التحيات لله». أي يقول: «إن الحياة الموهوبة لجميع الأحياء من الأزل إلى الأبد خاصة لذات الله المقدسة سبحانه وتعالى».

وكذا العنصر الآخر لدنياي الخاصة -كما هو لدنيا الآخرين- وهو «الماء». رأيته قد أصبح كذلك لسانا كليا يلهج بأحواله و بجميع ذراته الكلمة المباركة: «المباركات» وينشرها في أرجاء الكائنات كلها بملايين بل ببلايين بل بما لا يعد ولا يحصى من المرات. ولاسيما خدمته في إنماء الأحياء وإعاشتها، حيث الوظائف التي تقوم بها قطرات الماء ولاسيما في إنماء النطف والنوى والبذور وتنبيهها لأداء وظيفتها الفطرية.. وقيام تلك المخلوقات الصغيرة الجميلة البديعة، وتلك الصغار المباركة بأوضاعها اللطيفة بوظائف عظيمة وفي منتهى الإتقان والانتظام حتى يستنطق جميع ذوي الشعور فيقولوا من إعجابهم: «بارك الله.. ما شاء الله» ويرددها بما لا يعد ولا يحصى من المرات..

فأداء تلك الوظائف على ذلك الوجه المتقن يتطلب حتما أن يكون لكل ذرة من ذرات الماء من العلم ما لألفِ ألفِ أفلاطون! ومن الحكمة والإرادة ما لألفِ ألف لقمان الحكيم!. وهذا محال في محال بعدد ذرات الماء!..

فإذن لا تتم تلك الأمور المتقنة إلّا بقدرةِ قديرٍ ذي جلال وبإرادته، وبرحمة رحمن رحيم وبحكمته.

فتلك الأحياء الصغيرة المباركة التي أَظهرت تلك المعجزات التي لا تعد ولا تحصى تردد إذن بألسنة أحوالها جميعا وبعددها الكلمة الكلية: «المباركات.. لله».

ومن هنا فقد قال ثمرة خلق العالم رسولنا الأكرم ﷺ في ليلة المعراج متكلما باسم جميع المخلوقات:

«المباركات.. لله»، وقدم في الحضور الإلهي جميع «المباركات» التي لا يحصرها العد، أي «إن جميع هذه الحالات اللطيفة والأوضاع البديعة، والإتقان والإبداع، التي تدفع كل ناظر إلى أن يقول من إعجابه: «بارك الله.. ما شاء الله».. جميعها خاصة لقدرة الله الجليلة وحدها».

وكذا عنصر «الهواء» وهو الثالث في دنيا كل أحد.. فإن كل ذرة من ذرات قبضة صغيرة منه، حتى لو كانت بمقدار كلمةِ «هو» تحمل في طيات وظائفِها -كمركز للاستلام والنقل- جميعَ الأدعية وجميع الصلوات وجميع التضرعات وجميع العبادات والتي تعبر عنها جميعا بـ: «الصلوات». فيصبح الهواء لسانا كليا ذاكرا بأحواله بعدد ذراته التي لا تعد ولا تحصى جميعَ تلك الكلمات وتقدمها إلى خالقها العظيم. لذا فقد قال الرسول الكريم ﷺ: «الصلوات لله» باسم جميع تلك الذرات معبرا عن ذلك المعنى الكلي، وقدّمها إلى الحق سبحانه وتعالى. أي: «إن جميع الأدعية والتضرعات التي يتضرع بها المضطرون والشكر والحمد على النعم، والعبادات والصلوات كلها خاصة لخالق كل شيء، لله وحده».

لأنه كما ذكر في البحث المذكور آنفا: إما أن ذراتِ قبضةِ هواء -بقدر كلمة «هو»– تتقن اللغات جميعها، وتَرى مواضع من يتكلمون بها، وتسمع كل ما هو قريب أو بعيد، وتجيد لفظةَ كل لهجة ومخارج كل حرف، مع وظائف أخرى كثيرة، من دون اختلاط ولا تشوش. بمعنى أنها تكون مالكة لقدرة مطلقة وإرادة مطلقة!. وهذا محال في محال بعدد ذرات الهواء!

أو أن كل ذرة من تلك الذرات تدل على الصانع الحكيم يقينا و تشهد على جميع صفاته الجليلة بلا ريب، بل كأنها تسع -بمقياس مصغر- جميعَ شهادات العالم على الصانع الجليل. أي إن الصلوات التي قُدمت بعدد الذرات، والتي تعبر عنها بـ «الصلوات لله» قد قدمها الرسول الكريم ﷺ ليلة المعراج بهذا المعنى الكلي إلى الله سبحانه وتعالى.

وكذا عندما تقال الكلمة الطيبة: «الطيبات» تصبح النار والنور، أي عنصر النور المادي والمعنوي -بحرارة أو بدونها- لسانا كليا ذاكرا يردد: «الطيبات لله» يرددها بما لا يحد من ألسنة أحواله.

أي: «إن جميع الكلمات الطيبة، والمعاني الزكية، وبدائع الحسن والجمال، وتجليات الأسماء الحسنى الأزلية المتلمعة على خد الكائنات وجميع سنا الجمال الزاهي المُشاهَد على المخلوقات والكائنات بإيمان المؤمنين وفي طليعتهم الأنبياء عليهم السلام والأولياء الصالحون والأصفياء العاملون.. وجميع الأقوال الطيبة الجميلة النابعة من إيمان المؤمنين وتحميداتهم وتشكراتهم وتهليلاتهم وتسبيحاتهم وتكبيراتهم المتعالية صاعدة إلى العرش الأعظم بدلالة الآية الكريمة: ﴿اِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ (فاطر:10).. فجميع هذه الكلمات الطيبات المتوجهة إلى
العرش الأعظم، مع جميع أشكال الجمال والحسن والطيب التي لا تحد والناشئة من أحد أجمل الوجوه الثلاثة للدنيا، وهي وجهها المرآة المتوجهة إلى الأسماء الحسنى، مع ما لا يحد من الحسنات والخيرات والثمرات المعنوية المزروعة في الوجه الثاني للدنيا وهي مزرعة الآخرة.. كل هذه «الطيبات» خاصة بكاملها لله وحده.. القدير المطلق، سلطان الأزل والأبد.

فهذا المعنى الكلي، وبلسان العبودية الكلية للنار والنور قدّمه سيد الكون رسولنا الأكرم ﷺ بهذه الكلمة الطيبة: «الطيبات.. لله» باسم جميع المخلوقات، إلى المعبود ذي الجلال سبحانه، إذ يحمل النور المادي والمعنوي من الشهادات والدلالات -الجزئية والكلية- على الله سبحانه ما لا يحصره العد.

نعم، إن النور والنار -كما هو الحال في التراب والهواء والماء- يدلان بالبداهة دلالة قاطعة وبالضرورة وبتلك النماذج على أن الأسباب كلها ليست الّا حجبا، والتأثير والإيجاد كله إنما هو من القدير ذي الجلال.

حيث إن النور -كالحياة والوجود تماما- ينال الوجود بصدوره مباشرة من القدرة الإلهية، فلا تتوسط الأسباب الظاهرية حجابا دونه في أية جهة كانت. ومن هنا فإنه يدل على الأحدية ضمن الواحدية، أي: يشير بوظيفة جزئية صغيرة جدا إلى دليل واسع كلي للأحدية – كما أثبت ذلك في (نكتة في لفظ «هو» مع هوامشها باختصار)-.

وسنذكر هنا مثالين اثنين فقط من بين ملايين الملايين من الأمثلة:

المثال الأول:

هو ما يظهر على صورة علم في جزء من ومضة نور معنوي، في دماغ إنسان يملك قوة حافظة لا تتجاوز حجم ظفر، هذا الشخص أدرج في دماغه كلمات تسعيـن كتابا، ويتم قراءة هذا الجزء فقط من حافظته في ثلاثة أشهر بمعدل ثلاث ساعات يومياً، ويمكنه أن يراجع ويخرج من تلك الحافظة ما يشاء ومتى يشاء مما شاهده وسمعه وما تراءى أمامه من صور ومعان وكلمات أعجب بها أو تحير منها أو رغب فيها.. مع جميع الصور والأصوات طوال عمره الذي ناهز الثمانين.. كل ذلك مجموعة في صحيفة تلك الحافظة. لذا يرى أن تلك الحافظة كأنها مكتبة ضخمة نسقت فيها المحفوظات منتظمة مرصوفة.

فهذه الحافظة التي لا تشغل حجم حبة من خردل تكتب فيها و تحفظ تلك الأحوال كلها، فلها إذن سعة كسعة البحر، ونور كلي، وضياء معنوي محيط بالشيء كضياء الشمس المحيط، وصحائف كبيرة واسعة سعة سطح الأرض.. وما هذا إلّا محال في محال، بل محال بمئات الألوف من المحالات.

فلا بد إذن ولا شك أن هذه الحافظة الصغيرة جدا قد وضعها العليم المطلق العلم في دماغ الإنسان بعلمه وحكمته وقدرته، وخَلَقها أنموذجا مصغرا ليشير ويشهد على اللوح المحفوظ الذي هو صحيفة قدره وقدرته.

المثال الثاني: الجزئي والأنموذج المصغر جدا: هو الكهرباء. فبعد أن خبر أحدهم المصباح الكهربائي ودقق فيه النظر، رأى أن الذرات والمواد الموجودة في مئات المفاتيح الكهربائية وأسلاكها ومراكزها، جامدة لا تملك شعورا، ولا حركة ذاتية. ومع هذا تمحو ظلمات كانت تشغل عشرات الكيلومترات، بعد أقل من تماس بسيط، ويملأ مكانها نوراً في أقل من نصف ثانيه! فذهاب هذه الظلمات المشــاهدة فجأة ومجيء نور مشاهَد بقدرها بدلا منها لاشك أنـه ليس خيالا، فأما أن التماس الحاصل في تلك الذرات الجامدة الفاقدة للشعور يحمل قوة لا حد لها ونورا لا منتهى له بحيث تتمكن تلك الذرات من أن تمد يدها إلى مئات الكيلومترات، فتزيلَ منها الظلام وتملأَه بالنـور.. وهذا محال لا يمكن أن يقنع به حتى السوفسطائي ولو حاولت معه الشــياطين جميعا والملحدون والماديـون قاطبة..([1]) أو حصل ذلك بقدرة القدير المطلق، علام الغيوب، وبحكمة العليم النافذ حكمه في الكون كله، فتستفيض الأنوار من اسمه «النور» فهو «نور النور، وخالق النور، ومدبر النور».

وعلى غرار هذين المثالين هناك ما لا يحد من الأمثلة والنماذج.

وهكذا فكما تُقدِّم الكائناتُ جميعَ ما فيها من أنوار، وحسن وجمال، وطيبات، وكلمات طيبة، وخيرات وكمالات إلى الذات الجليلة بلسان حال عنصر النور بـ: «الطيبات لله» فإن نتيجة خلق الكائنات وسببَ خلق الكون ﷺ قد قال أيضا بذلك المعنى الكلي في ليلة المعراج: «الطيبات لله» باسم جميع موجودات الكون التي بعث إليه.

فالرسول الأعظم ﷺ -بعدد ذرات الأنام- بعد أن قال هذه الكلمات الجميلة الأربع بدلا من السلام في ليلة المعراج، قابله الرب الجليل سبحانه وتعالى -كما هو موضح في رسائل النور- بقوله: «السلام عليك أيها النبي» دليلا على رضاه وقبوله منه ما قدم من تحيات، وإشارة منه سبحانه إلى أمته – بأمر معنوي – أن يقولوا مثله؛ «السلام عليك أيها النبي»… وعند ذلك قال الرسول ﷺ مباشرة: «السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين» جاعلا من ذلك السلام الإلهي المقدس سلاما عاما شاملا لنفسه ولامته ولأمثاله من الأنبياء -عليهم السلام- ولجميع المخلوقات، حيث هو المبعوث إليهم جميعا.

فما تقوله أمته ﷺ في كل صلاة: «السلام عليك أيها النبي» ما هو الا امتثال لما في ذلك السلام الإلهي المقدس من أمر. وهو في الوقت نفسه بيعة مع الرسول ﷺ، و تجديد يومي لبيعته، أي الرضى به رسولا والطاعة والانقياد لما جاء به، وهو في الوقت نفسه تهنئة و تحية لرسالته.. وشكرانٌ يقدمه العالم الإسلامي أجمع يوميا لما بشّرهم به من سعادة أبدية.

نعم، إن كل إنسان يتألم من زوال وجوده، كما يتألم من خراب بيته، ويتألم أشد الألم بدمار بلده، بل يتجرع قلبه آلاما وغصصا بفراق أحبائه ووفاتهم، بل يتحرق وجدانه وروحه حتى كأنه في جهنم معنوية كلما تفكر بزوال دنياه الخاصة -وهي بكبر الدنيا- ودمارها نهائيا في الختام. لذا فكل إنسان راشدٍ -أي ما لم يكن فاقد القلب والروح والعقل- يدرك بلا شك أن ما أتى به الرسول الكريم ﷺ من بشرى عظيمة سارة، مما رآه رؤيةَ عينٍ وبصرٍ في ليلة المعراج من سعادة أبدية، ومن تنعم أهل الإيمان في جنة خالدة، ومن عدم فناء أحباء الإنسان الذين يرتبط بهم بعلاقة، ومن لقائهم الحتمي بعضهم بعضا بعد زوالهم.. أقول: سيدرك هذا الإنسان مدى ما تحمله تلك البشرى السارة والهدية البهيجة من فرح وانشراح، ويدرك أيضا سبب استقبال عالم الإسلام تلك الهدية الغالية بقولهم: «السلام عليك أيها النبي» كما يقوله كل موجود معنىً وبلسان هذه الحقيقة، إذ تتحول صحائف الكائنات إلى كتابات صمدانية بتلك الهدية المعنوية، وتتظاهر القيمة الحقيقية للمخلوقات وكمالاتها برسالته. وما «السلام عليكم» الذي تتبادله الأمة الإسلامية كسنة نبوية وشعيرة للإسلام إلّا شعاع من تلك الحقيقة العظمى.

الباقي هو الباقي

سعيد النُّورْسِيّ

* * *


[1] إنه لأجل الخداع والتمويه ليس إلّا يضعون اسماً على بعض الحقائق العظيمة الجليلة، وكأن تلك الحقيقة قد عُلمت وفهمت، فيجعلونها أمراً عاديا مألوفا.

 فمثلا: إن قولهم: «هذا ما يسمى بقوة الكهرباء» يُبدون به إظهار تلك الحقيقة العظيمة والدقيقة أمرا عادياً مألوفاً، علما أنه قد لا تكفي صفحات لبيان حكم تلك المعجزة البديعة للقدرة الإلهية. لذا فبمجرد وضع اسم وإطلاق عنوان على تلك الحقيقة تُستر حِكَمها الكلية وتختفي ماهيتها وعظمتها، وتغدو من الأمور العادية. وقد يقيمون مكان تلك الحقيقة العظيمة أحد مظاهرها البسيطة، وعندها يسندون ذلك الأثر البديع إلى قوة عمياء ومصادفة عشواء، وطبيعة موهومة، فيتردون في هاويةِ جهلٍ أجهلَ من أبي جهل.

  إن القوانين سنن الله الجارية في الكون والتي هي عناوين لنواميس الإرادة الإلهية، قد أَطلق البشرُ على إحدى تلك القوانين اسم «الكهرباء»، وذلك لعجزه عن إدراك ماهيتها، فجعل بهذا الإطلاق ما في التنوير من معجزة قدرة خارقة أمرا عاديا بسيطا وكأنه شيء معلوم لدى الجميع.

 وهكذا يجعلون أمثال هذه المعجزات البديعة للقدرة الإلهية أموراً عادية مألوفة بمجرد إطلاق اسم عليها كقوة الكهرباء.(المؤلف)